إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي/ إفريقيا مستقبل أكثر ظلمة تحت شمس حضارية أكثر إشعاعا

"إذا رأيت الشجرة نفسها مرتين في الغابة فإعلم إنك تائه" هذا المثل الذي لا أعلم أصله يجول ببالي كلما أردت أن أجمع فتات الأحجية التي تنثرها الأحداث الدولية عبر القارات الخمسة في هذا العالم المتصاغر, و خاصة إذا ما كان الحدث متعلقا بالقارة الإفريقية, وتقابل هذه الحكمة مقولة أخرى تقول "إن التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة" وإن كان المقصود بالمهزلة هنا تلك الكوميديا السوداء التي تتجلى مع عدم فهم الكثيرين للدروس التي قدمتها صفحات التاريخ مقابل ثمن مشط لمن سبقونا وبالمجان لنا على إعتبار ان هذه الصفحات لا تكلف إلا قراءتها وفهمها.

  • صيرورة الجهل بالتاريخ و المخيلة المستعارة:

عبر فترة تاريخية مهمة سجلت إفريقيا وأبنائها حضورهم في صفحات العبر باذلين مقابل ذلك أرواحا ودماءا وثروات لا تحصى، واليوم تتراءى لنا إفريقيا و هي تقف أمام نفس الشجرة للمرة الثانية في غابة صراع النفوذ الدولي غير أنها لم تنتبه إلى أن هذه الشجرة قد مرت بها سابقا, و عدم الإنتباه لذلك يعود إلى طول عهدها بالشجرة التي زادت فرعوها و أطنبت عروقها بأرض السياسات الدولية المتداخلة والمتشعبة, و بهذا التغير الذي طرء على الشجرة الاستعمارية عجزت إفريقيا ان تدرك حالة التيه, وجهلها ذلك لا يعني إلا حقيقة واحدة وهي إعادة أخطاء أرتكبت سابقا و في هذا مهزلة تقع عند تكرار التاريخ الإفريقي لنفسه.

يرتبط بالمهزلة مشهد سريالي في مخيلتي: >> إمرأة سوداء البشرة, إسمها إفريقيا, على وجهها كل علامات البراءة المشوبة حمقا, تقف أمام شجرة تتلون بجميع ألوان رايات الدول بإستثناء أعلام الدول الإفريقية, و حيث لا ترى المرأة من الشجرة إلا ظلا وافرا يعميها عن غابة كثيفة تحيط بها, فلا تختار المرأة إلا هذه الوافرة لتستظل تحت أفرعها, و فجأة بعد جلوس المرأة تحتها, تلتف الأغصان لتبتلعها, وعلى العكس كانت حركات إفريقيا التحررية التي تريد النجاة بها تزيد من تحقق استحواذ الشجرة عليها >> , و إني لأقرّ مندهشا بأن صورتي هذه صورت بألوان و خطوط فلسفات المستعمر.

  • نوع الفعل السياسي: الدينامكية العالمية و الجمود الإفريقي:

لا يمكن الدخول إلى صلب الموضوع إلا بعد سرد هذه السريالية التي لا تتجزأ عن الواقع الذي يناقشه المقال, فهي لا تنفصل عن ما نرى من تغييرات سياسية في عديد من الدول الإفريقية رغم تفرق الأحداث التي تجتمع تحت ظل واحد.

تتّحد هذه التغييرات من حيث الشكل فتتخذ من الإنقلاب العسكري سبيلا للحدث السياسي وهو أمر غير حديث على إفريقيا التي شهدت أكثر من 200 إنقلاب عسكري في أكثر من 90% ببلدانها وصولا إلى أحدث أربع إنقلابات عسكرية شملت كل من النيجر وغينيا وبوركينا فاسو ومالي، وأكثر ما يميز الإنقلابات الأخيرة عن سوابقها الدافع الدولي الذي يقف وراء حدوثها, فهي و إن إشتركت مع باقي إنقلابات إفريقيا على المستوى المتعلق بالإستحواذ على السلطة والنزعة السلطوية كظاهرة سياسية أصيلة في ذهن أغلب الجيوش الإفريقية, غير أنها تختلف عن ما جاء من قبلها على مستوى كل من الدافع و السياق الدوليين الذي جاءت في خضمه هذه الإنقلابات و يمنحها ذلك كينونة مستقلة و خاصية تمييزها عن ما سبقها.

  • زمكان السياسة الدولية:

في سياق تحليل إستراتيجية التعاون الأمني والعسكري من خلال مذكرة بحث صيغت بمرحلة الماجستير في تخصص الدبلوماسية و العلاقات الدولية بعنوان "رسم إستراتيجيا التعاون الأمني والعسكري التونسي" و سعيا للإجابة عن الإشكالية التي تتعلق بسبل صياغة مثل هذه الإستراتيجيات, كان من الضروري فهم الدوافع التي تستدعي تحرك دول من الصنف الأول وهي "الدول القوية و الغير قانعة" إلى التعاون في هذا المجال  مع دول من الصنف الثالث وهي الدول "الضعيفة والقانعة"، وعند هذه النقطة تبرز عوامل عدة من ضمنها العوامل المادية  التي تنقسم إلى ماهو مستقر متعلق أساسا بالقيمة الجغرافية للدول, و ماهو متغير متعلق بالديمغرافيا السكانية و الإقتصاد.

أقرت الفيزياء بأن الزمان يمثل بعدا رابعا في حين أن باقي الأبعاد تبقى متعلقة بالمكان مع الأخذ بعين الإعتبار بنسبية كل هذه الأبعاد الأربعة, و بإسقاط ذلك كتشبيه على صعيد مسرح الأحداث الدولية نجد أن الجغرافيا تمثل أبعاد المكان بوصفها عاملا مستقرا نسبيا من حيث الأهمية, في حين أن العامل الإقتصادي يمثل بعد الزمان بوصفه عاملا متغيرا متطورا بطبعه, و عليه فان وصف "زمكان السياسة الدولية" عبر تحليل العامل الإقتصادي بوصفه عنصر الزمان يقتضي نظرة شمولية تعيقها المسائل الإحصائية التي يمتاز بها الإقتصاد وهو ما يستدعي مناقشة فلسفة الإقتصاد السياسي التي تحكم التوجهات الدولية القائمة بصورة أساسية, و من صلب التفكير في فلسفة الإقتصاد السياسي إثبثق مفهوم لم يكن له تعريف إصطلاحي واضح في أي من المراجع التي إطلعت عليها إلا ما عدى صفة أطلقها "براين غاردنر" على التوابل لأهميتها في التجارة في القرنين الثامن و التاسع عشر وهو مفهوم "معيار الثروة", و قد بدأ يتضح تأصيل هذا المفهوم كمصطلح قائم بذاته عبر تحليل متكرر للأحداث الدولية التي تبلورت في فلسفة الاقتصاد السياسي التي أطلقت شرارة الصراع على الموانئ في القرن الإفريقي والإمارات العربية المتحدة وباكستان والصين في أواخر العشرية الأولى و بداية العشرية الثانية من هذه الألفية, لتزيد معالم معيار الثروة إتضاحا مع بداية ما يعرف بالربيع العربي وخاصة من خلال الخلفيات التي سعّرت الصراع في سوريا مرورا بعدة أحداث أخرى حتى بداية الأعمال العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم ومن ثم أوكرانيا كلها وصولا إلى الإنقلابات الإفريقية الأخيرة التي من خلالها يتجلى مشهد وقوف هذه المرأة أمام الشجرة الملونة بأعلام القوة لتعيد إبتلاعها للمرة الثانية.

إن الحديث عن ما تشهده دول الإنقلاب الأربعة ومن ورائها "دول محيط الصحراء الكبرى" خاصة, ليس منقطعا عما يحدث في باقي العالم بإعتبار أن كل ذلك يقع بصفة متصلة على أبعاد مكانية واحدة حتى و إن كان هذا بتفاوت نسبي إفترضه توزع النفوذ الدولي و شكله، و لإستكمال أداوات تحليلنا للواقع الدولي والإقليمي سوف نضيف مصطلح "موجة كونتدراتيف" الذي وضعه المفكر الإقتصادي الشيوعي "نيكولاي كوندراتييف", وقد وجد هذا المصطلح قبولا واسعا حتى في الفكر الإقتصادي الرأس مالي نظرا لنجاعته في توصيف الواقع الإقتصادي الدولي, و هذه الموجة عبارة عن دورة زمنية يمر بها الإقتصاد في العالم كله بمراحل محددة  تتكرر في كل فترة تمتد من 40 الى 60 سنة.

  • متلازمة "ثنائية الخيار" في الفكر السياسي الإفريقي:

 سبب مثلث الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وموضوع الصراع بينهم إيحاءا للكثيرين بأن محور الصراع قائم على مجرد الإطاحة بالقطب الواحد الأمريكي و نسفه وترسيخ حالة قطبية جديدة أو العكس عن طريق محاولة كل طرف من أطراف هذا الصراع إثبات صدارته لزعامة ماراثونية للعالم مقابل نفي صدارة الطرف الأخر, وهذا أشبه بأراء الشغوفين بكرة القدم حول أفضلية نادي ما  على أخر أو العكس, و هذا النسق التحليلي يحكم تفكير العقل السياسي لحكام و مواطني دول محيط الصحراء الكبرى و إفريقيا عموما بإستثناء الجزائر و جنوب إفريقيا في بعض الملفات و ذلك حسب الواقع المشاهد للعيان، ومن ضمن من يرزحون تحت وطأت التفكير المنحصر في "ثنائية الخيار" أولائك الذين إندفعوا نحو القيام بالإنقلابات في كل من النيجر ومالي وغينيا وبوركينا فاسو، ومن يدري ربما أخرون في قادم الأيام.

يقف وراء هذا الرأي إستشراف النتيجة التي سيصل اليها هؤلاء في نهاية المطاف عند بداية "الدورة الإقتصادية الكونية" القادمة )موجة كوندراتييف( في مطلع ثلاثينيات هذا القرن المعاصر, فبما أن "موجة كندراتييف" المعاصرة حسب تقدير الإقتصاديين قد بدأت في سنة 1971 وعلى أساس أن هذه الموجة تشهد ثلاثة مراحل وهي مرحلة التوسع ثم الركود فالكساد، وفي مجملها تمتد مدة هذه الموجة الى 60 سنة كحد أقصى لها لتنتهي بذلك في مطلع ثلاثينيات, و يعاصر السياسيين الأفارقة اليوم مرحلة الكساد في ظل هذه الدورة الإقتصادية الكونية الحالية و التي تشهد حدوث عملية تطهير للنظام المالي القائم والتمهيد لنحو جديد من النظم المالية التي تستجيب إلى "معيار ثروة" جديد المتزامن مع "موجة كوندراتييف" القادمة، و هنا تكمن خطورة الإنحصار في "ثنائية الخيار" لدى الساسة الأفارقة, حيث لا تبقى أمامهم سوى السناريوهات المؤدية إلى إختيار هذه القوة أو تلك عبر منظومة مصالح و فلسفات إقتصاد سياسي تتمثل في توفير المظلة الدولية للدول الضعيفة و التي شارفت على إنتهاء صلاحيتها كفلسفة تحكم الفعل السياسي صلب المجتمع الدولي نظرا إلى قرب تبدل "معيار الثروة", و مما يناسب عملية التغير في "معيار الثروة" من المعيار الحالي إلى المعيار الجديد على وجه الخصوص و أكثر مما سبقها من عمليات التغيير مسح النظام المالي المعاصر وإقامة نظام مستحدث و قائم على أساس موضوع المعيار الأحدث, مما يخرج الصراع الدولي القائم من صراع الصدارة إلى صراع القدرة على الإدارة و هو الأمر الذي لا يقبل نمط "ثنائية الخيار" في التفكير السياسي.

  • شذوذ في تغيُر معيار الثروة:

لمعرفة معنى التناسب بين النظام المالي القادم مع "معيار الثروة" الأحدث لابد من معرفة معناه إصطلاحا وماهيته بالنسبة الى الدورة الإقتصادية القادمة.

يتمثل معيار الثروة عموما في ذلك "الشيء الذي يمثل محور العملية الإقتصادية الدولية والذي يتميز بدوره بنوع من الندرة التي تسمح بتداوله بقيمة عالية توازي ندرته من جهة أولى وبالتركيز عليه في العملية التجارية من جهه ثانية" وعبر التاريخ تغيرت معايير الثروة من التوابل إلى الذهب إلى النفط والغاز و التكنولوجيا, ورغم تعدد هذه المعايير عبر التاريخ إلا أنها كانت تمتاز بخاصية موحدة من حيث جنسها, إذ أن كل هذه المعايير مثلت في موضوعها سلعة يتم تداولها في لفترة من الزمن, و ترتكز إحدى أو بعض كبرى الدول القوية طيلة ردح من الزمن على تداولها كمصدر لقوتها الإقتصادية والتجارية, وقد كانت الدول تفرض على إنتاج هذه السلعة و التعامل فيها نوعا من السياسة الاحتكارية من أجل أن تكون قادرة على الإستئثار بالأثار المالية الإيجابية عليها دون غيرها، و أمام كل تجدد ل"معيار الثروة" يشهد العالم تغيرات على مستوى النظم المالية وذلك للإستجابة لما يفرضه موضوع "معيار الثروة" الأكثر حداثة, فأنتجت التوابل بوصفها "معيار للثروة" في فترة معينة قوة بالنسبة للدول المتحكمة في تداوله بداية من الأمويين و العباسيين و حتى جزء من فترة العثمانيين مقابل تبعية أوروبية, و مع تغيير "معيار الثروة" ظهر نظام التجارة الثلاثية كنظام مالي يستجيب ل"معيار ثروة" اكثر حداثة.

ينتج عن تطور النظم المالية إحدى خيارين أمام الدول, أما الأول فهو الاستجابة للمنظومة المالية الجديدة والتأقلم معها من أجل القدرة على التعامل مع معيار الثروة الحديث كما فعل البيزنطيين على يدي جوستنيان بالنسبة لصناعة الحرير سنة 522 ميلادي, و أما الخيار الثاني فهو عدم الإستجابة لذلك وبالتالي عدم التأقلم مع النظم الاقتصادية الحديثة وعليه عدم القدرة على التعامل مع "معيار الثروة" الحديث والعجز عن الوصول الى النجاعة المطلوبة لإكتساب منافعه كما حدث مع العثمانيين إبان فترة الإكتشافات الجغرافية الكبرى خلال القرنين الخامس عشر و السادس عشر.

بدخول القرن العشرين أصبح العالم يشهد وفرة إنتاجية كبيرة وهذه الوفرة لم تقتصر على الكم فقط بل حتى على مستوى النوع، و بالوصول إلى اليوم نجد أن الوفرة النوعية للإنتاج تشمل الطاقة والتكنولوجيا والموارد الفلاحية والمواد الاستهلاكية عموما, و تتناقض هذه الوفرة مع ميزة الندرة التي يتطلبها الشيء ليرتقي الى مستوى أن يكون "معيارا للثروة" حيث يمنع ذلك ممارسة ناجعة لآليات السياسة الاحتكارية الموجهة من قبل الدول الأقوى على المنتوج وهذا الإنفلات بات يتفاقم بدخول دول أكثر قدرة على الإنتاج إلى مثلث الصراع و هنا نقصد الصين مع دخول دول من الفئة الثالثة إلى لعبة إدارة "معيار الثروة" بما لا يترك لدول الصدارة سبيلا للسيطرة عليه، وهنا نجد انفسنا امام حتمية تلقائية تدفع الدول الأكثر القوة و التي تريد أن تحافظ على إحتكارها لمصدر القوة و معايير الثروة للإعتماد على معيار لا يرتكز على السلعة المتعددة التي يصعب التحكم فيها, وبذلك يصعد "معيار ثروة" ذو جنس جديد الى السطح فيتكشف لنا, وهو من حيث الظاهر متمثل في طرق نقل السلع.

بمجرد حديثنا عن طرق نقل السلع ك"معيار للثروة" نجد أنفسنا أمام مسألتين, الأولى هي الخطأ في تشبيه طرق نقل السلع بين المستقبل و الماضي, و لرفع هذا الإلتباس يجب تحديد دور هذه الطرق في كل فترة تاريخية, فسابقا كانت طرق نقل السلع مجرد وسائل لإدارة "معيار الثروة" مثل طريق الحرير, في حين ان هذه الطرق في المستقبل ستمثل في حد ذاتها "معيارا للثروة" و ليست وسيلة للإدارة, أما المسألة الثانية فهي أننا نجد انفسنا أمام حتمية تعامل "معيار الثروة" مع ما تفرضه أثار الجيوسياسيات القائمة اليوم على سبل رسم هذه الطرق، فمثلا تفرض جيوسياسيات منطقة الشرق الأوسط إشكاليات مختلفة وأكثر تعقيدا مما تفرضه جيوسياسيات "دول محيط الصحراء الكبرى" فتداخل الصراع العربي الإسرائيلي وتجاذبات النفوذ الحادة في الهلال الخصيب قد يرفع مستوى إستحالة نجاح رسم هذه الطرق و هو ماحدث بالفعل في سوريا مخلفا وراءه  دمارا كبيرا و تعقيدات أكبر, في حين أن ما تفرضه فرنسا من حقوق تاريخية في محيط دول الصحراء الكبرى هو أكبر التعقيدات أمام رسم طريق مرور السلع في هذه المنطقه لتبقى كل التعقيدات الأخرى مجرد إشكاليات تشطب من الجدول بمجرد حسم الدول الأكثر نفوذا من الصنف الأول التسويات المتعلقة باقتسام حصص "معيار الثروة" بهذه المنطقة, وهنا يعيدنا الحديث إلى نقطة البداية في هذا المقال وهو تأثيرات اقتسام النفوذ بين القوى الكبرى بهذه المنطقة عبر التجاذب بينها لإكتساب كل منها القدر الأكبر من السيطرة على طرق نقل السلع وإدارتها حسب ما تمليه إستراتيجية كل منها ودور ذلك كله في الأحداث التي تشهدها إفريقيا مؤخرا.

قد يعتقد الكثيرين أن "دول محيط الصحراء الكبرى" وخاصة دول ما يسمى جنوب الصحراء هي دول على هامش القوة الإقتصادية اليوم وهذا صحيح في الوقت الراهن فقط, إلا أنها لن تكون كذلك بمجرد دخول "الدورة الإقتصادية الكونية الجديدة" وتحديد النظم الإقتصادية المصاحبة لها و بدأ الإعتماد على "معيار الثروة" الحديث.

  • حمّى تجاذب النفوذ في إفريقيا تنخر عظام "دول المحيط الصحراوي":

إن كان الحديث عن دور "دول محيط الصحراء الكبرى" في "معيار الثروة" مسألة يطول الخوض فيها للوقوف على كامل تفاصيلها بشكل لا يتسع له هذا المقال بل يستدعي الإنفراد بمقال أخر ان لم نقل أكثر, إلا أن الإستدلال على أهمية دور هذه الدول أسهل بكثير, فتهافت قوات "فاغنر" عليها ودعم روسيا للأنظمة الجديدة إستجابة لمفهوم النظام العالمي الجديد وفق رؤية موسكو و حسب ما تدّعيه خطاباتها الرسمية, وذلك انسجاما مع حالة من التأقلم المسبقة مع أوضاع دولية سوف تطرأ في قادم السنوات و تهيئا للنظم المالية الجديدة, و كل ذلك على حساب سحب بساط النفوذ من تحت أقدام الحقوق التاريخية الفرنسية وفق ما تدّعيه فرنسا أمام موقف باهت للولايات المتحدة الأمريكية, و هذا الأخير ينبهنا إلى تغيير يصل بنا إلى حد القول بقبول البيت الأبيض والعقل السياسي الإستراتيجي الأمريكي بهذا الواقع في إطار سياسة اقتسام إحتكارية بينه وبين صاحب العداوة العقلانية معه في "الكرملن"، ويسهل تقبل ذلك مع عدم قدرة أو إرادة أو إستعداد فرنسا للتأقلم مع النظم المالية الإقتصادية القادمة في المستقبل وذلك يتوضح مع ما تعيشه فرنسا من إشكاليات إقتصادية وإجتماعية تدفع بأبنائها إلى هجرة عقول و يد عاملة ذات الخبرة العالية نحو دول أكثر حظوظ بالنسبة لهم في مقابل توجه واشنطن لعملية إستبدال إستراتيجي لباريس ببرلين كقوة تحقق لها التوازن الأوروبي إقليميا أمام روسيا, وليست صفقة الغواصات الأسترالية إلا أقرب الأمثلة لحالة الإستبدال الأمريكي لباريس على أكثر من ملف و واجهة.

يفسح كل هذا الطريق أمام وجود ثنائي أمريكي روسي في هذه المنطقة و هذا الوجود يلغي على الأغلب باقي الإشكاليات التي تفرضها الجيوسياسيات القديمة و يوحي لنا بتجهيز المنطقة لعملية قسمة حصص بين دولتين قادرتين على إدارة "معيار الثروة" الحديث وهما الطرفان اللذان تعوَّدَا الصراع وإكتسبا من تاريخية صراعيهما أبجديات للإتفاق والتضاد دون الإنجرار للمواجهة المباشرة، ولا يسع تشبيه هذا الصراع في إفريقيا إلا بالصراع الفرنسي البريطاني في هذه القارة الإفريقية قبل أكثر من قرن وهي الفترة التي وقفت فيها إفريقيا أمام تلك الشجرة لأول مرة في المشهد السريالي الذي إرتسم في مخيلتي، لتعود اليوم وتكرر وقوفها للمرة الثانية دون أن تدرك أنها تائهة, فبالنسبة لها ما زال تعريف المستعمر ينحصر حول تلك الدولة التي تأتي من وراء البحار لتفرض تبعية على الجغرافيا الإفريقية إداريا وسياسيا وعليه تقوم بإستنزاف ثروة الأفارقة، في حين أن الوضعية الراهنة لا تقتضي كل ذلك بل تكتفي دول ما وراء البحر بالإستحواذ على حق إدارة "معيار الثروة" المتمثل في طرق السلع بهذه المنطقة.

أمام ما تدعيه فرنسا بما يسمى حقوق تاريخية إكتسبتها في فترتها الإستعمارية وجد محبي التحرر في "دول محيط الصحراء الكبرى" ومنهم دول الإنقلابات الأربعة أنفسهم أمام خيار الثاني الذي أنتجه نمط "ثنائية الخيار" و هو البحث عن غطاء دولي توفره إحدى الدول الكبرى لحماية تحركاتهم السياسية فقاموا بوضع الثقل الروسي في كفتهم ظنا منهم أن موسكو حليفتهم للتحرر أمام الكفة التي تحمل الثقل و النفوذ الفرنسي الذي يعني لهم احد بقايا الاستعمار التي لم يتسنى لهم التخلص منها عند الإستقلال السياسي، وهذا أشبه بحركة المرأة التي ذكرناها في المشهد السريالي التي حاولت التخلص من أفرع وأغصان الشجرة التي أرادت عصرها إلا أن كل حركة قامت بها زادتها قيود وكبلتها أكثر فأكثر.

  • أنبياء التحرر: السُعَارٌ وراء تحصيل الحاصل و التخاذل عن المنشود الواجب:

لا شك في أن معيار الثروة الحديث سوف يجلب إلى "دول المحيط الصحراوي" الكثير من الإستفادة فهو يفترض لقيامه إنشاء بنية تحتية أساسية تساند نجاعة التعامل معه و إدارته, وهو أمر مفيد للدول التي تعاني من نقص في هذا المستوى, وبالإضافة إلى ذلك سوف تستفيد هذه الدول من الأثار الجانبية الإيجابية لتطور البنية التحتية مع ما يصاحبه من إستفادة تحققها مرور السلع وتبادلها عبر هذه المنطقه، ويوفر كل ذلك تطور حضاري ماديا كبيرا ل"دول المحيط الصحراوي" مقارنه بواقعها الذي عاشته وتعيشه اليوم, غير أن هذا لن يخرجها من دائرة الفكرة التي تقول بأن هذه الدول تمتلك ثروة لا تديرها لتبقى إفريقيا خاضعة لمقولة أنتجت فيها سابقا وهي "بشر يصنعون القيمة ويبقون بلا قيمة", ويحدث هذا في وقت لا تمتلك فيه إفريقيا الثروة فقط بل إنها تمتلك معيارها, وعليه ووفق هذه الصورة تبقى إفريقيا خارج لعبة السياسة الدولية على إعتبار أنها فاعل صلبه دون أن يكون لها اي افعال فهي شبيهة بذلك الذي يحجّر عليه القانون لسفهه أو جنونه أو لأي سبب أخر فيصبح غير قادر على التصرف فيما يمتلك ويعين عليه ولي  يتصرف في ممتلكاته على اعتبار انه يعامل معاملة القاصر، فإن كان الجهل والفقر سابقا أحد ذرائع إفريقيا إذا ما سؤلت عن سبب عدم إنتفاضها في وجه هذه الحالة إبان الفترة الاستعمارية فما هي ذريعتها اليوم غير الحماقة والصبيانية السياسية و الإستراتيجية التي ترافق تفكير صناع قرارها إن جاز تسميتهم بصناع للقرار أصلا، والمزعج في الأمر إعتقاد هؤلاء ومن هم تحت حكمهم أن ما يتوجهون إليه اليوم هو عداء للتاريخ الإستعماري و تحررا و إستعادة لسيادتهم و إستقلالية لقرارهم تحت غطاء المخلّص "بوتين" غير أنهم لم يفعلو شيئا إلا أن إستبدلو حقوقا تاريخيا بحقوق مستقبلية.

  • ملائكة "الغُبْن الفاحش" تتنزل على أنبياء السياسة في إفريقيا:

يعرّف الغبن في القانون التونسي و في التشريع الإسلامي بأنه "زيادة في الثمن المعتاد بالنسبة للمشتري ونقص عنه بالنسبة للبائع" و الغبن الفاحش يبطل ما تم من العقود و الإتفاقات بين الناس أما في السياسة و خاصة الدولية منها يقول "بنجامين فرانكلين": "هؤلئك الذين يستبدلون الحرية بالأمن لا يستحقون أيا منها".

قولا واحد لم تجد إفريقيا في حالتها التي خضعت فيها للحقوق التاريخية الفرنسية الحرية أو الأمن, و قولا واحدا لن تجد اليوم حرية لها لتستبدل بها الأمن والسيادة, كما لا نجد شيئا قدمته دول الإنقلاب الأربعة و الدول التي ستليها مقابل ما تعتقده أمنها وسيادتها سوى قيمه سوف تمتلكها في المستقبل عند دخول "الدورة الإقتصادية الكونية" الحديثة و"معيار الثروة" الذي يصاحبها والذي يرتبط بجغرافية "دول محيط الصحراء الكبرى" وعليه لن نجد إلا تفسيرا واحدا بعبارة أخرى لما قامت به الدول الأربعة غير أنها إستبدلت الجغرافيا بالسيادة الموهومة فإن لم تكن هناك جغرافيا فعلى أي إقليم تمارس هذه السيادة؟ و هذا هو الغبن الفاحش بعينه.

  • خارج صندوق "ثنائية الخيار":

حتى لا يذهب القارئ الذي تحكمه قاعدة التفكير المنحصر في أحد الخيارين إلى أنني أدافع عن تلك الحقوق التاريخية الفرنسية كما سمتها هي بذلك أو في المقابل أعادي النفوذ الروسي الذي يسعى إلى نفي تلك الحقوق سأوضح مسألة هامة بهذا الصدد، ففهمي للنظام العالمي الجديد الذي أصبح حتمية لا مناص منها يفتح الطريق إلى أرباح أكثر مما قد تتحصل عليه إفريقيا وفق هذا الوضع القائم و ذلك دون التعارض مع قواعد اللعبة السياسية الدولية التي تقتضي إحترام أحجام الدول الكبرى ودورها في رسم السياسة الدولية مع تواجد هامش فعل و حركة أكبر للدول الأخرى في المجال الإقتصادي والتجاري, أما بهذه الحالة التي تجري بها مقدمة الأمور في "دول المحيط الصحراوي" فإن هذه الأخيرة تتخلى بكل طواعية في نهايات الأمور على الكثير من الأرباح وعلى جزء هام من هامش الفعل على الصعيد الدولي لصالح أحد القوى الدولية إزاء مقابل و ثمن وهمي و المتمثل في غطاء سياسي تدرك الدول الكبرى عدم الإحتياج له وعدم وجوده أو جدواه بعد دخول "الدورة الإقتصادية الكونية" الجديدة وبدأ العمل ب"معيار الثروة" الحديث.

بهذا ستجد إفريقيا نفسها تدير بعضا من شأنها بمنطق سياسي قديم ومنته الصلاحية في فترة تم فيها إستحداث قواعد جديدة للفهم والعمل السياسي فتدخل نفسها بنفسها في ظلمة أكبر في الوقت الذي إتسعت فيه الرقعة الحضارية المادية في العالم.

  • المخيلة البور لا تنتج أفكارا:

أخيرا قد يفسر جزئيا تخلف الفهم والفعل السياسي و الإستراتيجي على الصعيد الدولي لدى إفريقيا إحتباسها في عقدة العرق والإضطهاد مع الإعتقاد الراسخ ب"الصيرورة الزنجية" و"حتمية الحرمان من الترقي الإجتماعي" الذي إرتبط بالمواطنين السود كعرق في قارة أخرى بعيدة عن إفريقيا، فإفريقيا لم تمتلك و لم تنتج شيئا من فهمها أو خطابها أو تفكيرها أو حتى إسمها الذي منحها إياه الرومان ولم ينجح حتى العرب المسلمون في تغييره إلا في ما عدى إضافة تاء التأنيث عليه في اللغة العربية، فكلما بقيت افريقيا مرتهنة الى أساس هذا التفكير الذي ولد في عقول الأوروبيين و إستقر في عقول الأفارقة فإنها لن تنجح في تغيير شيء من واقعها إلا اللمم منه, فهي أساسا ليست سوداء بالمطلق وليس السمراء فحتى هذا اللون المرتبط بها في مخيلة الجميع كلما دار الحديث عنها ليس مطلقا, بل هي كغيرها من القارات تحتوي تنوع إثني وعرقي لكننا لم نسمع عن أمريكا الحمراء او أسيا الصفراء او حتى أوروبا البيضاء في الوقت الذي بلغت فيه الأفكار العرقيه ذروتها, بل أن كل قارة من هذه القارات خرجت من الإحتباس في دائرة النقاش العرقي و بقيت "الكيبولان" )اول إسم أطلق على القارة الإفريقية من قبل القارطاجيين و معناه "أم البشرية"( وحدها مرتهنة فيه مع ما صاحبه من أثار التبعية حتى مع  ما أعتبر أعتى حركات التحرر الإفريقي, وبالتالي فإن هذه المرأة الحمقاء الواقفة أمام الشجرة إزاء وجوبية تقتضي إلغاء الصورة النمطية عن نفسها في ذهنها قبل أذهان غيرها أولا مع وجوب عملها على أن تتحول في هذا المشهد السريالي إلى جزء من الغابة وليس شخصا يجوبها في حالة من التيه والشتات, و عندها فقط سوف يتسنى لها التخلص من الظلمة التي ترافقها في أقصى توسعات الحضارة المادية.

بقلم الباحث في العلوم الإستراتيجية و العلاقات الدولية:

    ياسر بنمحمد

رأي/  إفريقيا مستقبل أكثر ظلمة تحت شمس حضارية أكثر إشعاعا

"إذا رأيت الشجرة نفسها مرتين في الغابة فإعلم إنك تائه" هذا المثل الذي لا أعلم أصله يجول ببالي كلما أردت أن أجمع فتات الأحجية التي تنثرها الأحداث الدولية عبر القارات الخمسة في هذا العالم المتصاغر, و خاصة إذا ما كان الحدث متعلقا بالقارة الإفريقية, وتقابل هذه الحكمة مقولة أخرى تقول "إن التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة" وإن كان المقصود بالمهزلة هنا تلك الكوميديا السوداء التي تتجلى مع عدم فهم الكثيرين للدروس التي قدمتها صفحات التاريخ مقابل ثمن مشط لمن سبقونا وبالمجان لنا على إعتبار ان هذه الصفحات لا تكلف إلا قراءتها وفهمها.

  • صيرورة الجهل بالتاريخ و المخيلة المستعارة:

عبر فترة تاريخية مهمة سجلت إفريقيا وأبنائها حضورهم في صفحات العبر باذلين مقابل ذلك أرواحا ودماءا وثروات لا تحصى، واليوم تتراءى لنا إفريقيا و هي تقف أمام نفس الشجرة للمرة الثانية في غابة صراع النفوذ الدولي غير أنها لم تنتبه إلى أن هذه الشجرة قد مرت بها سابقا, و عدم الإنتباه لذلك يعود إلى طول عهدها بالشجرة التي زادت فرعوها و أطنبت عروقها بأرض السياسات الدولية المتداخلة والمتشعبة, و بهذا التغير الذي طرء على الشجرة الاستعمارية عجزت إفريقيا ان تدرك حالة التيه, وجهلها ذلك لا يعني إلا حقيقة واحدة وهي إعادة أخطاء أرتكبت سابقا و في هذا مهزلة تقع عند تكرار التاريخ الإفريقي لنفسه.

يرتبط بالمهزلة مشهد سريالي في مخيلتي: >> إمرأة سوداء البشرة, إسمها إفريقيا, على وجهها كل علامات البراءة المشوبة حمقا, تقف أمام شجرة تتلون بجميع ألوان رايات الدول بإستثناء أعلام الدول الإفريقية, و حيث لا ترى المرأة من الشجرة إلا ظلا وافرا يعميها عن غابة كثيفة تحيط بها, فلا تختار المرأة إلا هذه الوافرة لتستظل تحت أفرعها, و فجأة بعد جلوس المرأة تحتها, تلتف الأغصان لتبتلعها, وعلى العكس كانت حركات إفريقيا التحررية التي تريد النجاة بها تزيد من تحقق استحواذ الشجرة عليها >> , و إني لأقرّ مندهشا بأن صورتي هذه صورت بألوان و خطوط فلسفات المستعمر.

  • نوع الفعل السياسي: الدينامكية العالمية و الجمود الإفريقي:

لا يمكن الدخول إلى صلب الموضوع إلا بعد سرد هذه السريالية التي لا تتجزأ عن الواقع الذي يناقشه المقال, فهي لا تنفصل عن ما نرى من تغييرات سياسية في عديد من الدول الإفريقية رغم تفرق الأحداث التي تجتمع تحت ظل واحد.

تتّحد هذه التغييرات من حيث الشكل فتتخذ من الإنقلاب العسكري سبيلا للحدث السياسي وهو أمر غير حديث على إفريقيا التي شهدت أكثر من 200 إنقلاب عسكري في أكثر من 90% ببلدانها وصولا إلى أحدث أربع إنقلابات عسكرية شملت كل من النيجر وغينيا وبوركينا فاسو ومالي، وأكثر ما يميز الإنقلابات الأخيرة عن سوابقها الدافع الدولي الذي يقف وراء حدوثها, فهي و إن إشتركت مع باقي إنقلابات إفريقيا على المستوى المتعلق بالإستحواذ على السلطة والنزعة السلطوية كظاهرة سياسية أصيلة في ذهن أغلب الجيوش الإفريقية, غير أنها تختلف عن ما جاء من قبلها على مستوى كل من الدافع و السياق الدوليين الذي جاءت في خضمه هذه الإنقلابات و يمنحها ذلك كينونة مستقلة و خاصية تمييزها عن ما سبقها.

  • زمكان السياسة الدولية:

في سياق تحليل إستراتيجية التعاون الأمني والعسكري من خلال مذكرة بحث صيغت بمرحلة الماجستير في تخصص الدبلوماسية و العلاقات الدولية بعنوان "رسم إستراتيجيا التعاون الأمني والعسكري التونسي" و سعيا للإجابة عن الإشكالية التي تتعلق بسبل صياغة مثل هذه الإستراتيجيات, كان من الضروري فهم الدوافع التي تستدعي تحرك دول من الصنف الأول وهي "الدول القوية و الغير قانعة" إلى التعاون في هذا المجال  مع دول من الصنف الثالث وهي الدول "الضعيفة والقانعة"، وعند هذه النقطة تبرز عوامل عدة من ضمنها العوامل المادية  التي تنقسم إلى ماهو مستقر متعلق أساسا بالقيمة الجغرافية للدول, و ماهو متغير متعلق بالديمغرافيا السكانية و الإقتصاد.

أقرت الفيزياء بأن الزمان يمثل بعدا رابعا في حين أن باقي الأبعاد تبقى متعلقة بالمكان مع الأخذ بعين الإعتبار بنسبية كل هذه الأبعاد الأربعة, و بإسقاط ذلك كتشبيه على صعيد مسرح الأحداث الدولية نجد أن الجغرافيا تمثل أبعاد المكان بوصفها عاملا مستقرا نسبيا من حيث الأهمية, في حين أن العامل الإقتصادي يمثل بعد الزمان بوصفه عاملا متغيرا متطورا بطبعه, و عليه فان وصف "زمكان السياسة الدولية" عبر تحليل العامل الإقتصادي بوصفه عنصر الزمان يقتضي نظرة شمولية تعيقها المسائل الإحصائية التي يمتاز بها الإقتصاد وهو ما يستدعي مناقشة فلسفة الإقتصاد السياسي التي تحكم التوجهات الدولية القائمة بصورة أساسية, و من صلب التفكير في فلسفة الإقتصاد السياسي إثبثق مفهوم لم يكن له تعريف إصطلاحي واضح في أي من المراجع التي إطلعت عليها إلا ما عدى صفة أطلقها "براين غاردنر" على التوابل لأهميتها في التجارة في القرنين الثامن و التاسع عشر وهو مفهوم "معيار الثروة", و قد بدأ يتضح تأصيل هذا المفهوم كمصطلح قائم بذاته عبر تحليل متكرر للأحداث الدولية التي تبلورت في فلسفة الاقتصاد السياسي التي أطلقت شرارة الصراع على الموانئ في القرن الإفريقي والإمارات العربية المتحدة وباكستان والصين في أواخر العشرية الأولى و بداية العشرية الثانية من هذه الألفية, لتزيد معالم معيار الثروة إتضاحا مع بداية ما يعرف بالربيع العربي وخاصة من خلال الخلفيات التي سعّرت الصراع في سوريا مرورا بعدة أحداث أخرى حتى بداية الأعمال العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم ومن ثم أوكرانيا كلها وصولا إلى الإنقلابات الإفريقية الأخيرة التي من خلالها يتجلى مشهد وقوف هذه المرأة أمام الشجرة الملونة بأعلام القوة لتعيد إبتلاعها للمرة الثانية.

إن الحديث عن ما تشهده دول الإنقلاب الأربعة ومن ورائها "دول محيط الصحراء الكبرى" خاصة, ليس منقطعا عما يحدث في باقي العالم بإعتبار أن كل ذلك يقع بصفة متصلة على أبعاد مكانية واحدة حتى و إن كان هذا بتفاوت نسبي إفترضه توزع النفوذ الدولي و شكله، و لإستكمال أداوات تحليلنا للواقع الدولي والإقليمي سوف نضيف مصطلح "موجة كونتدراتيف" الذي وضعه المفكر الإقتصادي الشيوعي "نيكولاي كوندراتييف", وقد وجد هذا المصطلح قبولا واسعا حتى في الفكر الإقتصادي الرأس مالي نظرا لنجاعته في توصيف الواقع الإقتصادي الدولي, و هذه الموجة عبارة عن دورة زمنية يمر بها الإقتصاد في العالم كله بمراحل محددة  تتكرر في كل فترة تمتد من 40 الى 60 سنة.

  • متلازمة "ثنائية الخيار" في الفكر السياسي الإفريقي:

 سبب مثلث الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وموضوع الصراع بينهم إيحاءا للكثيرين بأن محور الصراع قائم على مجرد الإطاحة بالقطب الواحد الأمريكي و نسفه وترسيخ حالة قطبية جديدة أو العكس عن طريق محاولة كل طرف من أطراف هذا الصراع إثبات صدارته لزعامة ماراثونية للعالم مقابل نفي صدارة الطرف الأخر, وهذا أشبه بأراء الشغوفين بكرة القدم حول أفضلية نادي ما  على أخر أو العكس, و هذا النسق التحليلي يحكم تفكير العقل السياسي لحكام و مواطني دول محيط الصحراء الكبرى و إفريقيا عموما بإستثناء الجزائر و جنوب إفريقيا في بعض الملفات و ذلك حسب الواقع المشاهد للعيان، ومن ضمن من يرزحون تحت وطأت التفكير المنحصر في "ثنائية الخيار" أولائك الذين إندفعوا نحو القيام بالإنقلابات في كل من النيجر ومالي وغينيا وبوركينا فاسو، ومن يدري ربما أخرون في قادم الأيام.

يقف وراء هذا الرأي إستشراف النتيجة التي سيصل اليها هؤلاء في نهاية المطاف عند بداية "الدورة الإقتصادية الكونية" القادمة )موجة كوندراتييف( في مطلع ثلاثينيات هذا القرن المعاصر, فبما أن "موجة كندراتييف" المعاصرة حسب تقدير الإقتصاديين قد بدأت في سنة 1971 وعلى أساس أن هذه الموجة تشهد ثلاثة مراحل وهي مرحلة التوسع ثم الركود فالكساد، وفي مجملها تمتد مدة هذه الموجة الى 60 سنة كحد أقصى لها لتنتهي بذلك في مطلع ثلاثينيات, و يعاصر السياسيين الأفارقة اليوم مرحلة الكساد في ظل هذه الدورة الإقتصادية الكونية الحالية و التي تشهد حدوث عملية تطهير للنظام المالي القائم والتمهيد لنحو جديد من النظم المالية التي تستجيب إلى "معيار ثروة" جديد المتزامن مع "موجة كوندراتييف" القادمة، و هنا تكمن خطورة الإنحصار في "ثنائية الخيار" لدى الساسة الأفارقة, حيث لا تبقى أمامهم سوى السناريوهات المؤدية إلى إختيار هذه القوة أو تلك عبر منظومة مصالح و فلسفات إقتصاد سياسي تتمثل في توفير المظلة الدولية للدول الضعيفة و التي شارفت على إنتهاء صلاحيتها كفلسفة تحكم الفعل السياسي صلب المجتمع الدولي نظرا إلى قرب تبدل "معيار الثروة", و مما يناسب عملية التغير في "معيار الثروة" من المعيار الحالي إلى المعيار الجديد على وجه الخصوص و أكثر مما سبقها من عمليات التغيير مسح النظام المالي المعاصر وإقامة نظام مستحدث و قائم على أساس موضوع المعيار الأحدث, مما يخرج الصراع الدولي القائم من صراع الصدارة إلى صراع القدرة على الإدارة و هو الأمر الذي لا يقبل نمط "ثنائية الخيار" في التفكير السياسي.

  • شذوذ في تغيُر معيار الثروة:

لمعرفة معنى التناسب بين النظام المالي القادم مع "معيار الثروة" الأحدث لابد من معرفة معناه إصطلاحا وماهيته بالنسبة الى الدورة الإقتصادية القادمة.

يتمثل معيار الثروة عموما في ذلك "الشيء الذي يمثل محور العملية الإقتصادية الدولية والذي يتميز بدوره بنوع من الندرة التي تسمح بتداوله بقيمة عالية توازي ندرته من جهة أولى وبالتركيز عليه في العملية التجارية من جهه ثانية" وعبر التاريخ تغيرت معايير الثروة من التوابل إلى الذهب إلى النفط والغاز و التكنولوجيا, ورغم تعدد هذه المعايير عبر التاريخ إلا أنها كانت تمتاز بخاصية موحدة من حيث جنسها, إذ أن كل هذه المعايير مثلت في موضوعها سلعة يتم تداولها في لفترة من الزمن, و ترتكز إحدى أو بعض كبرى الدول القوية طيلة ردح من الزمن على تداولها كمصدر لقوتها الإقتصادية والتجارية, وقد كانت الدول تفرض على إنتاج هذه السلعة و التعامل فيها نوعا من السياسة الاحتكارية من أجل أن تكون قادرة على الإستئثار بالأثار المالية الإيجابية عليها دون غيرها، و أمام كل تجدد ل"معيار الثروة" يشهد العالم تغيرات على مستوى النظم المالية وذلك للإستجابة لما يفرضه موضوع "معيار الثروة" الأكثر حداثة, فأنتجت التوابل بوصفها "معيار للثروة" في فترة معينة قوة بالنسبة للدول المتحكمة في تداوله بداية من الأمويين و العباسيين و حتى جزء من فترة العثمانيين مقابل تبعية أوروبية, و مع تغيير "معيار الثروة" ظهر نظام التجارة الثلاثية كنظام مالي يستجيب ل"معيار ثروة" اكثر حداثة.

ينتج عن تطور النظم المالية إحدى خيارين أمام الدول, أما الأول فهو الاستجابة للمنظومة المالية الجديدة والتأقلم معها من أجل القدرة على التعامل مع معيار الثروة الحديث كما فعل البيزنطيين على يدي جوستنيان بالنسبة لصناعة الحرير سنة 522 ميلادي, و أما الخيار الثاني فهو عدم الإستجابة لذلك وبالتالي عدم التأقلم مع النظم الاقتصادية الحديثة وعليه عدم القدرة على التعامل مع "معيار الثروة" الحديث والعجز عن الوصول الى النجاعة المطلوبة لإكتساب منافعه كما حدث مع العثمانيين إبان فترة الإكتشافات الجغرافية الكبرى خلال القرنين الخامس عشر و السادس عشر.

بدخول القرن العشرين أصبح العالم يشهد وفرة إنتاجية كبيرة وهذه الوفرة لم تقتصر على الكم فقط بل حتى على مستوى النوع، و بالوصول إلى اليوم نجد أن الوفرة النوعية للإنتاج تشمل الطاقة والتكنولوجيا والموارد الفلاحية والمواد الاستهلاكية عموما, و تتناقض هذه الوفرة مع ميزة الندرة التي يتطلبها الشيء ليرتقي الى مستوى أن يكون "معيارا للثروة" حيث يمنع ذلك ممارسة ناجعة لآليات السياسة الاحتكارية الموجهة من قبل الدول الأقوى على المنتوج وهذا الإنفلات بات يتفاقم بدخول دول أكثر قدرة على الإنتاج إلى مثلث الصراع و هنا نقصد الصين مع دخول دول من الفئة الثالثة إلى لعبة إدارة "معيار الثروة" بما لا يترك لدول الصدارة سبيلا للسيطرة عليه، وهنا نجد انفسنا امام حتمية تلقائية تدفع الدول الأكثر القوة و التي تريد أن تحافظ على إحتكارها لمصدر القوة و معايير الثروة للإعتماد على معيار لا يرتكز على السلعة المتعددة التي يصعب التحكم فيها, وبذلك يصعد "معيار ثروة" ذو جنس جديد الى السطح فيتكشف لنا, وهو من حيث الظاهر متمثل في طرق نقل السلع.

بمجرد حديثنا عن طرق نقل السلع ك"معيار للثروة" نجد أنفسنا أمام مسألتين, الأولى هي الخطأ في تشبيه طرق نقل السلع بين المستقبل و الماضي, و لرفع هذا الإلتباس يجب تحديد دور هذه الطرق في كل فترة تاريخية, فسابقا كانت طرق نقل السلع مجرد وسائل لإدارة "معيار الثروة" مثل طريق الحرير, في حين ان هذه الطرق في المستقبل ستمثل في حد ذاتها "معيارا للثروة" و ليست وسيلة للإدارة, أما المسألة الثانية فهي أننا نجد انفسنا أمام حتمية تعامل "معيار الثروة" مع ما تفرضه أثار الجيوسياسيات القائمة اليوم على سبل رسم هذه الطرق، فمثلا تفرض جيوسياسيات منطقة الشرق الأوسط إشكاليات مختلفة وأكثر تعقيدا مما تفرضه جيوسياسيات "دول محيط الصحراء الكبرى" فتداخل الصراع العربي الإسرائيلي وتجاذبات النفوذ الحادة في الهلال الخصيب قد يرفع مستوى إستحالة نجاح رسم هذه الطرق و هو ماحدث بالفعل في سوريا مخلفا وراءه  دمارا كبيرا و تعقيدات أكبر, في حين أن ما تفرضه فرنسا من حقوق تاريخية في محيط دول الصحراء الكبرى هو أكبر التعقيدات أمام رسم طريق مرور السلع في هذه المنطقه لتبقى كل التعقيدات الأخرى مجرد إشكاليات تشطب من الجدول بمجرد حسم الدول الأكثر نفوذا من الصنف الأول التسويات المتعلقة باقتسام حصص "معيار الثروة" بهذه المنطقة, وهنا يعيدنا الحديث إلى نقطة البداية في هذا المقال وهو تأثيرات اقتسام النفوذ بين القوى الكبرى بهذه المنطقة عبر التجاذب بينها لإكتساب كل منها القدر الأكبر من السيطرة على طرق نقل السلع وإدارتها حسب ما تمليه إستراتيجية كل منها ودور ذلك كله في الأحداث التي تشهدها إفريقيا مؤخرا.

قد يعتقد الكثيرين أن "دول محيط الصحراء الكبرى" وخاصة دول ما يسمى جنوب الصحراء هي دول على هامش القوة الإقتصادية اليوم وهذا صحيح في الوقت الراهن فقط, إلا أنها لن تكون كذلك بمجرد دخول "الدورة الإقتصادية الكونية الجديدة" وتحديد النظم الإقتصادية المصاحبة لها و بدأ الإعتماد على "معيار الثروة" الحديث.

  • حمّى تجاذب النفوذ في إفريقيا تنخر عظام "دول المحيط الصحراوي":

إن كان الحديث عن دور "دول محيط الصحراء الكبرى" في "معيار الثروة" مسألة يطول الخوض فيها للوقوف على كامل تفاصيلها بشكل لا يتسع له هذا المقال بل يستدعي الإنفراد بمقال أخر ان لم نقل أكثر, إلا أن الإستدلال على أهمية دور هذه الدول أسهل بكثير, فتهافت قوات "فاغنر" عليها ودعم روسيا للأنظمة الجديدة إستجابة لمفهوم النظام العالمي الجديد وفق رؤية موسكو و حسب ما تدّعيه خطاباتها الرسمية, وذلك انسجاما مع حالة من التأقلم المسبقة مع أوضاع دولية سوف تطرأ في قادم السنوات و تهيئا للنظم المالية الجديدة, و كل ذلك على حساب سحب بساط النفوذ من تحت أقدام الحقوق التاريخية الفرنسية وفق ما تدّعيه فرنسا أمام موقف باهت للولايات المتحدة الأمريكية, و هذا الأخير ينبهنا إلى تغيير يصل بنا إلى حد القول بقبول البيت الأبيض والعقل السياسي الإستراتيجي الأمريكي بهذا الواقع في إطار سياسة اقتسام إحتكارية بينه وبين صاحب العداوة العقلانية معه في "الكرملن"، ويسهل تقبل ذلك مع عدم قدرة أو إرادة أو إستعداد فرنسا للتأقلم مع النظم المالية الإقتصادية القادمة في المستقبل وذلك يتوضح مع ما تعيشه فرنسا من إشكاليات إقتصادية وإجتماعية تدفع بأبنائها إلى هجرة عقول و يد عاملة ذات الخبرة العالية نحو دول أكثر حظوظ بالنسبة لهم في مقابل توجه واشنطن لعملية إستبدال إستراتيجي لباريس ببرلين كقوة تحقق لها التوازن الأوروبي إقليميا أمام روسيا, وليست صفقة الغواصات الأسترالية إلا أقرب الأمثلة لحالة الإستبدال الأمريكي لباريس على أكثر من ملف و واجهة.

يفسح كل هذا الطريق أمام وجود ثنائي أمريكي روسي في هذه المنطقة و هذا الوجود يلغي على الأغلب باقي الإشكاليات التي تفرضها الجيوسياسيات القديمة و يوحي لنا بتجهيز المنطقة لعملية قسمة حصص بين دولتين قادرتين على إدارة "معيار الثروة" الحديث وهما الطرفان اللذان تعوَّدَا الصراع وإكتسبا من تاريخية صراعيهما أبجديات للإتفاق والتضاد دون الإنجرار للمواجهة المباشرة، ولا يسع تشبيه هذا الصراع في إفريقيا إلا بالصراع الفرنسي البريطاني في هذه القارة الإفريقية قبل أكثر من قرن وهي الفترة التي وقفت فيها إفريقيا أمام تلك الشجرة لأول مرة في المشهد السريالي الذي إرتسم في مخيلتي، لتعود اليوم وتكرر وقوفها للمرة الثانية دون أن تدرك أنها تائهة, فبالنسبة لها ما زال تعريف المستعمر ينحصر حول تلك الدولة التي تأتي من وراء البحار لتفرض تبعية على الجغرافيا الإفريقية إداريا وسياسيا وعليه تقوم بإستنزاف ثروة الأفارقة، في حين أن الوضعية الراهنة لا تقتضي كل ذلك بل تكتفي دول ما وراء البحر بالإستحواذ على حق إدارة "معيار الثروة" المتمثل في طرق السلع بهذه المنطقة.

أمام ما تدعيه فرنسا بما يسمى حقوق تاريخية إكتسبتها في فترتها الإستعمارية وجد محبي التحرر في "دول محيط الصحراء الكبرى" ومنهم دول الإنقلابات الأربعة أنفسهم أمام خيار الثاني الذي أنتجه نمط "ثنائية الخيار" و هو البحث عن غطاء دولي توفره إحدى الدول الكبرى لحماية تحركاتهم السياسية فقاموا بوضع الثقل الروسي في كفتهم ظنا منهم أن موسكو حليفتهم للتحرر أمام الكفة التي تحمل الثقل و النفوذ الفرنسي الذي يعني لهم احد بقايا الاستعمار التي لم يتسنى لهم التخلص منها عند الإستقلال السياسي، وهذا أشبه بحركة المرأة التي ذكرناها في المشهد السريالي التي حاولت التخلص من أفرع وأغصان الشجرة التي أرادت عصرها إلا أن كل حركة قامت بها زادتها قيود وكبلتها أكثر فأكثر.

  • أنبياء التحرر: السُعَارٌ وراء تحصيل الحاصل و التخاذل عن المنشود الواجب:

لا شك في أن معيار الثروة الحديث سوف يجلب إلى "دول المحيط الصحراوي" الكثير من الإستفادة فهو يفترض لقيامه إنشاء بنية تحتية أساسية تساند نجاعة التعامل معه و إدارته, وهو أمر مفيد للدول التي تعاني من نقص في هذا المستوى, وبالإضافة إلى ذلك سوف تستفيد هذه الدول من الأثار الجانبية الإيجابية لتطور البنية التحتية مع ما يصاحبه من إستفادة تحققها مرور السلع وتبادلها عبر هذه المنطقه، ويوفر كل ذلك تطور حضاري ماديا كبيرا ل"دول المحيط الصحراوي" مقارنه بواقعها الذي عاشته وتعيشه اليوم, غير أن هذا لن يخرجها من دائرة الفكرة التي تقول بأن هذه الدول تمتلك ثروة لا تديرها لتبقى إفريقيا خاضعة لمقولة أنتجت فيها سابقا وهي "بشر يصنعون القيمة ويبقون بلا قيمة", ويحدث هذا في وقت لا تمتلك فيه إفريقيا الثروة فقط بل إنها تمتلك معيارها, وعليه ووفق هذه الصورة تبقى إفريقيا خارج لعبة السياسة الدولية على إعتبار أنها فاعل صلبه دون أن يكون لها اي افعال فهي شبيهة بذلك الذي يحجّر عليه القانون لسفهه أو جنونه أو لأي سبب أخر فيصبح غير قادر على التصرف فيما يمتلك ويعين عليه ولي  يتصرف في ممتلكاته على اعتبار انه يعامل معاملة القاصر، فإن كان الجهل والفقر سابقا أحد ذرائع إفريقيا إذا ما سؤلت عن سبب عدم إنتفاضها في وجه هذه الحالة إبان الفترة الاستعمارية فما هي ذريعتها اليوم غير الحماقة والصبيانية السياسية و الإستراتيجية التي ترافق تفكير صناع قرارها إن جاز تسميتهم بصناع للقرار أصلا، والمزعج في الأمر إعتقاد هؤلاء ومن هم تحت حكمهم أن ما يتوجهون إليه اليوم هو عداء للتاريخ الإستعماري و تحررا و إستعادة لسيادتهم و إستقلالية لقرارهم تحت غطاء المخلّص "بوتين" غير أنهم لم يفعلو شيئا إلا أن إستبدلو حقوقا تاريخيا بحقوق مستقبلية.

  • ملائكة "الغُبْن الفاحش" تتنزل على أنبياء السياسة في إفريقيا:

يعرّف الغبن في القانون التونسي و في التشريع الإسلامي بأنه "زيادة في الثمن المعتاد بالنسبة للمشتري ونقص عنه بالنسبة للبائع" و الغبن الفاحش يبطل ما تم من العقود و الإتفاقات بين الناس أما في السياسة و خاصة الدولية منها يقول "بنجامين فرانكلين": "هؤلئك الذين يستبدلون الحرية بالأمن لا يستحقون أيا منها".

قولا واحد لم تجد إفريقيا في حالتها التي خضعت فيها للحقوق التاريخية الفرنسية الحرية أو الأمن, و قولا واحدا لن تجد اليوم حرية لها لتستبدل بها الأمن والسيادة, كما لا نجد شيئا قدمته دول الإنقلاب الأربعة و الدول التي ستليها مقابل ما تعتقده أمنها وسيادتها سوى قيمه سوف تمتلكها في المستقبل عند دخول "الدورة الإقتصادية الكونية" الحديثة و"معيار الثروة" الذي يصاحبها والذي يرتبط بجغرافية "دول محيط الصحراء الكبرى" وعليه لن نجد إلا تفسيرا واحدا بعبارة أخرى لما قامت به الدول الأربعة غير أنها إستبدلت الجغرافيا بالسيادة الموهومة فإن لم تكن هناك جغرافيا فعلى أي إقليم تمارس هذه السيادة؟ و هذا هو الغبن الفاحش بعينه.

  • خارج صندوق "ثنائية الخيار":

حتى لا يذهب القارئ الذي تحكمه قاعدة التفكير المنحصر في أحد الخيارين إلى أنني أدافع عن تلك الحقوق التاريخية الفرنسية كما سمتها هي بذلك أو في المقابل أعادي النفوذ الروسي الذي يسعى إلى نفي تلك الحقوق سأوضح مسألة هامة بهذا الصدد، ففهمي للنظام العالمي الجديد الذي أصبح حتمية لا مناص منها يفتح الطريق إلى أرباح أكثر مما قد تتحصل عليه إفريقيا وفق هذا الوضع القائم و ذلك دون التعارض مع قواعد اللعبة السياسية الدولية التي تقتضي إحترام أحجام الدول الكبرى ودورها في رسم السياسة الدولية مع تواجد هامش فعل و حركة أكبر للدول الأخرى في المجال الإقتصادي والتجاري, أما بهذه الحالة التي تجري بها مقدمة الأمور في "دول المحيط الصحراوي" فإن هذه الأخيرة تتخلى بكل طواعية في نهايات الأمور على الكثير من الأرباح وعلى جزء هام من هامش الفعل على الصعيد الدولي لصالح أحد القوى الدولية إزاء مقابل و ثمن وهمي و المتمثل في غطاء سياسي تدرك الدول الكبرى عدم الإحتياج له وعدم وجوده أو جدواه بعد دخول "الدورة الإقتصادية الكونية" الجديدة وبدأ العمل ب"معيار الثروة" الحديث.

بهذا ستجد إفريقيا نفسها تدير بعضا من شأنها بمنطق سياسي قديم ومنته الصلاحية في فترة تم فيها إستحداث قواعد جديدة للفهم والعمل السياسي فتدخل نفسها بنفسها في ظلمة أكبر في الوقت الذي إتسعت فيه الرقعة الحضارية المادية في العالم.

  • المخيلة البور لا تنتج أفكارا:

أخيرا قد يفسر جزئيا تخلف الفهم والفعل السياسي و الإستراتيجي على الصعيد الدولي لدى إفريقيا إحتباسها في عقدة العرق والإضطهاد مع الإعتقاد الراسخ ب"الصيرورة الزنجية" و"حتمية الحرمان من الترقي الإجتماعي" الذي إرتبط بالمواطنين السود كعرق في قارة أخرى بعيدة عن إفريقيا، فإفريقيا لم تمتلك و لم تنتج شيئا من فهمها أو خطابها أو تفكيرها أو حتى إسمها الذي منحها إياه الرومان ولم ينجح حتى العرب المسلمون في تغييره إلا في ما عدى إضافة تاء التأنيث عليه في اللغة العربية، فكلما بقيت افريقيا مرتهنة الى أساس هذا التفكير الذي ولد في عقول الأوروبيين و إستقر في عقول الأفارقة فإنها لن تنجح في تغيير شيء من واقعها إلا اللمم منه, فهي أساسا ليست سوداء بالمطلق وليس السمراء فحتى هذا اللون المرتبط بها في مخيلة الجميع كلما دار الحديث عنها ليس مطلقا, بل هي كغيرها من القارات تحتوي تنوع إثني وعرقي لكننا لم نسمع عن أمريكا الحمراء او أسيا الصفراء او حتى أوروبا البيضاء في الوقت الذي بلغت فيه الأفكار العرقيه ذروتها, بل أن كل قارة من هذه القارات خرجت من الإحتباس في دائرة النقاش العرقي و بقيت "الكيبولان" )اول إسم أطلق على القارة الإفريقية من قبل القارطاجيين و معناه "أم البشرية"( وحدها مرتهنة فيه مع ما صاحبه من أثار التبعية حتى مع  ما أعتبر أعتى حركات التحرر الإفريقي, وبالتالي فإن هذه المرأة الحمقاء الواقفة أمام الشجرة إزاء وجوبية تقتضي إلغاء الصورة النمطية عن نفسها في ذهنها قبل أذهان غيرها أولا مع وجوب عملها على أن تتحول في هذا المشهد السريالي إلى جزء من الغابة وليس شخصا يجوبها في حالة من التيه والشتات, و عندها فقط سوف يتسنى لها التخلص من الظلمة التي ترافقها في أقصى توسعات الحضارة المادية.

بقلم الباحث في العلوم الإستراتيجية و العلاقات الدولية:

    ياسر بنمحمد