-في الجامعات وفي الحكومة وفي كل المجالات الحيوية.. نساؤنا موجودات بقوة
-نسب النجاح العالية للبنات في الباكالوريا تحمل جزءا من الإجابة حول فاعلية المرأة في المجتمع
- المؤثرات لا تمثلن إلا أنفسهن وهن ظاهرة موجودة في كل المجتمعات ولا تختزل صورة المرأة في البلاد
تونس- الصباح
جرت مقارنة هذه الأيام في تونس بين شابتين أثارتا اهتمام وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة وشدت كل منهما الانتباه بطريقة مختلفة. الأولى هي شابة متفوّقة في الدراسة وهي أصيلة الجنوب ونجحت في امتحان الباكالوريا بامتياز (بمعدل 20.1). وقد تم تصيّد تصريح إعلامي لها بعد إعلان نتائج الدورة الرئيسية للباكالوريا منذ أيام أخطأت فيه في استعمال كلمة فرنسية (تعني معدل التلميذ) لتنهال عليها عبارات القدح والتشكيك في وسائل التواصل الاجتماعي. وقد استغل البعض ما قالته في نفس التصريح حول الالتزام بالعبادات ومساعدتها لها في إعداد امتحان الباكالوريا، موضحة أنها منحتها السكينة المطلوبة ليتوجه لها البعض باتهامات بالانتماء الأيديولوجي.
وفي المقابل تجند الكثيرون سواء بشكل تلقائي أو لهدف مخصوص من أجل الدفاع عن التلميذة المتفوقة وتحركوا في إطار ما يشبه الهجوم المعاكس للرد على المشككين، ولكن أيضا للرد على كل من انتقد هندام التلميذة، معتبرا أن الحجاب دليل انتماء أيديولوجي.
أما الثانية فهي امرأة شابة من معجبات الفنان اللبناني راغب علامة وقد صعدت على ركح المسرح الأثري بقرطاج إثر تلقيها دعوة منه، وهو الذي أحيا ليلتها حفل افتتاح المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون (الدورة 24 من 26 إلى 29 جوان بمدينة الثقافة بتونس ومسرح قرطاج الأثري). وقد أثارت المرأة الشابة التي تم تداول صورها بشكل مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي وتم التركيز على هندامها الضيق (بنطلون الدجين بالخصوص) جدلا قويا بأسلوب رقصها وتغنجها أمام الفنان، على الركح، ووصف المشهد بالمبتذل، وعبر البعض عن قرفه من تفاصيل المشهد تماما مثلما ندد بالفنان اللبناني الذي كرر خلال السهرة دعواته إلى بعض متفرجات أخريات ليلتحقن به على الركح.
مواقف عفوية وأخرى لا
لكن إن كانت بعض المواقف عفوية وقد تكون بنية الإفادة، إلا أن هناك مواقف ليست كذلك، وهي أبعد من أن تكون عفوية، بل يؤكد التجييش الذي حصل على مواقع التواصل الاجتماعي، وجود إرادة في الانحراف بالنقاش من مجرد الخوض حول أحداث متفرقة إلى ما هو أوسع واشمل، ونقصد حقوق المرأة وحرية المرأة ودورها في المجتمع. فلكأن أصحاب هذه المواقف يترصدون أي حركة كي يعودوا بنا قسرا إلى مسائل محسومة منذ عقود وليدفعوا نحو إعادة النظر في مكاسب المرأة في تونس.
ورغم أنه لا علاقة بين تلميذة الباكالوريا وضيفة الفنان راغب علامة، على مسرح قرطاج، إلا أن كثيرين سارعوا بالمقارنة بينهما كل وفق مرجعيته الخاصة. وقد تعرضت البنتان للنقد وحظيت كلاهما بالمساندة أيضا. لكن الملفت للانتباه من خلال ذلك هو بروز خطابان نعتبر أنهما لا يخلوان من خطورة.
تبرير كل شيء نكاية في الآخر
فالخطاب الأول هو خطاب تبريري لا يعترف بخطوط حمراء ويعتبر صعود شابة على ركح مسرح يغص بالآلاف وتنقله العديد من التلفزيونات العربية وربما الأجنبية، لتقوم بـ"défoulement" (نوعا من التنفيس) حسب تدوينة نسبت أليها في احد مواقع التواصل الاجتماعي، مسألة عادية، ولو كان كل ذلك التغنج في حفل من المفروض ستخصص مداخيله إلى أهل غزة بفلسطين الذين يشن عليهم الكيان الصهيوني منذ أشهر حرب إبادة(منذ 7 أكتوبر). ولنا أن نذكر بان الدورة الجديدة للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون بتونس التي ينظمها اتحاد الإذاعات العربية بالشراكة مع الإذاعة والتلفزة الوطنية والتعاون مع وزارة الشؤون الثقافية حملت شعار "نصرة فلسطين".
ويقوم فكر أصحاب هذا الخطاب على رفض كل نقد يوجه للفتاة المذكورة أو غيرها من المعجبات اللواتي رقصن مع راغب علامة على المسرح، وهم يرفضونه برمته معتبرين أن فيه مساسا من حرية المرأة ويعكس من وجهة نظرهم ما يعانيه البعض من النساء والرجال من عقد تجاه جسد المرأة.
جوهر الموضوع
أما الخطاب الثاني فهو ذاك الذي استغل تصريح فتاة الباكالوريا حول العبادات وركز أصحابه على موجة النقد الذي تعرضت لها بسببه على مواقع التواصل الاجتماعي لينهالوا على بنات تونس بالسب والشتم وليقدحوا في العائلات التي فشلت في تربية بناتها على الأخلاق، مشددين على أن التلميذة تذكر الأخريات بحقيقة انسلاخهن عن ثوابت دينهن وعن أصول الثقافة العربية والإسلامية لنصل إلى جوهر الموضوع وهو النيل من منظومة حقوق المرأة في تونس.
وفعلا يستغل أصحاب هذا الخطاب كل فرصة ليشيروا لنا بان منظومة حقوق المرأة في تونس هي أصل الخراب وأنها قادت إلى الانحلال الذي نعيشه اليوم وفق وصفهم، رافضين بذلك كل الجهود التي بذلت على امتداد عقود من اجل جعل المرأة في تونس عنصرا فاعلا في المجتمع، ورافضين بطبيعة الحال حقوق المرأة التي نالتها منذ استقلال البلاد وخاصة منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية التي تنظم حياة المرأة والأسرة في المجتمع (صدرت في 13 أوت 1956).
ورغم المظاهر، فإن الخطابين متطرفان وكلاهما يحاول اختزال المرأة في صورة قد لا تعبر عنها بالضرورة أو هي على الأقل لا تعبر عن قطاع واسع من النساء في المجتمع.
الاستغلال
فالخطاب الذي لا يتردد في استغلال تصريح لفتاة شابة اثر تلقيها مباشرة لخبر نجاحها بمعدل يفوق العشرين في الباكالوريا، ويمكن أنها لم تستوعب جيدا الأمر في البداية ومازالت تحت تأثير الفرحة، ويحوله عن سياقه هو خطاب خطير. وما قالته حول العبادات لا يمنح لأي كان الحق في أن يترجمه وفق مرجعيته الخاصة دينية كانت أو غير ذلك، أو يجعله يعبر عن انتماء أيديولوجي أو سياسي، ولباسها للحجاب ومثلما لا يبرر تعرضها للشتم وللوصم، فإنه لا يجعلها في مرتبة أفضل أخلاقيا. ويبقى لباس الحجاب حرية شخصية وهي حرية مكفولة في بلادنا. وقد تجاوزنا على ما نعتقد تلك المرحلة التي يقع فيها وصم الناس والتنمر عليهم لمظهرهم العام لان قيم المواطنة هي التي تجمع الناس وليس نمط لباسهم. ويبقى القانون بطبيعة الحال هو الفيصل بين الجميع لأننا وللتذكير نعيش في مجتمع منظم وله ضوابطه وقوانينه.
مقابل ذلك، لا نعتقد أن الخطاب الذي يرفض النقد للسلوك الشاذ أو الممارسات غير المنطقية أو الخالية من الذوق باسم التحرر من الاعتبارات "الأخلاقوية" يمكن أن ينتصر للحرية. بل على العكس، فهو خطاب مستفز متأدلج ينظّر لفكرة التملص الكامل من كل ما هو أخلاقي رغم أن كل البلدان تضع معايير أخلاقية وتلتزم بشيء اسمه الذوق. أنه خطاب يدعو إلى بناء مجتمع منحل بالكامل حتى أننا وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها من نادى باحترام آلام الفلسطينيين في حفل افتتاح المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون الذي انتظم تحت شعار "نصرة فلسطين"، هو عدو الحرية والمرأة في تونس.
كل شيء مباح من وجهة نظر أصحاب هذا الخطاب بما في ذلك تحويل أجواء النزل السياحية والحفلات الخاصة إلى المسارح الكبرى بالبلاد التي هي من المفروض فضاءات لتقديم الإنتاج الفني والثقافي الذي يكرس صورة تونس المبدعة.
اختزال المرأة في صورة جاهزة
والأخطر من ذلك هو محاولة اختزال المرأة في صورة ضيقة وجاهزة ومحاولة حصرها في أفكار مسبقة. فهي إما متحررة من كل الضوابط أو هي تقتات على الماضي وتلتفت إلى التاريخ أكثر من ارتباطها بالعصر وفي ذلك تضليل كبير لان المرأة في تونس أكبر من ذلك بكثير.
فالمرأة في تونس هي المرأة الكادحة – بالآلاف وأكثر- التي تصنع قدرها وقدر أبنائها بأظافرها. المرأة في تونس هي الموظفة والجامعية والباحثة والحاضرة بقوة في المجالس العلمية في المعاهد والكليات وهي في الحكومة وفي المناصب العليا في الدولة. المرأة في تونس هي الكاتبة والمبدعة وهي المربية والطبيبة والمهندسة وقائدة الطائرة والموجودة في البعثات العسكرية لفرض السلام في عدد من بؤر التوتر وهي الفلاحة والمنتجة وامرأة الأعمال. ونساء تونس لا يمكن اختزالهن في صورة ما يسمى اليوم "بالمؤثرات" على مواقع التواصل الاجتماعي. هؤلاء موجود منهن في كل بلدان العالم وهن لا يمثلن إلا أنفسهن. ولمن يسأل عن وضع المرأة في تونس وعن دورها في المجتمع وخاصة عن فاعليتها وعن مستقبلها، نقول لهم يكفي الاطلاع على نسب النجاح هذا العام في امتحان الباكالوريا حتى يدرك الإجابة. فنسبة البنات الناجحات في الدورة الرئيسية لامتحان الباكالوريا بساطة 67،8 من مجموع الناجحين. وإذا ما أراد أن يجتهد أكثر قليلا، يمكنه أن يطلع عن تاريخ المرأة التونسية منذ التاريخ إلى أيام الناس هذه.
حياة السايب