هناك مهن كثيرة ستختفي وستندثر بمفعول ما حصل ويحصل في العالم من تطور مذهل للذكاء الاصطناعي
نوفل سلامة
في سياق الحديث عن مشروع إصلاح التعليم الذي أخد الكثير من الوقت وطال إنجازه و كثر حوله اللغط وتوسعت دائرة الاختلاف حول أهدافه ومراميه ودوافعه وعناصره ورافعاته ونقاش مضطرب حول مكوناته ومقارباته وخياراته وخاصة الإجابة على السؤال المفصلي المتعلق بمعرفة أي إصلاح تربوي نريد يكون مواكبا لتحديات العصر ومعبرا عن هواجس المستقبل وتكون مخرجاته إنتاج جيل من المتعلمين مرتبطين بوطنهم وفي خدمته تحتاجهم البلاد في نهضتها وتقدمها ومستقبلها ، قدم الدكتور " مراد بهلول " الأستاذ الجامعي والمختص في علوم التربية ومناهج التعليم والخبير لدى اليونسكو، تصورا حاول من خلاله الإجابة على السؤال المطروح في علاقة بما يشهده العالم من سرعة كبيرة في تطوير التعليم وما يحصل من تحولات مستقبلية للعمل بمنظومة الكفايات واعتبر أنه لا يمكن اليوم الحديث عن إصلاح تربوي جاد ومثمر ويعطي نتائج إيجابية لسنوات طويلة إلا إذا كان هذا الإصلاح خيارا وطنيا جامعا تتفق عليه المجموعة الوطنية ورؤية إستراتيجية نابعة من خصوصياتنا وحاجياتنا الداخلية من دون إهمال لكل التجارب المقارنة في إصلاح التعليم.
المسألة الثانية التي تطرق إليها واعتبرها من ركائز الإصلاح تتعلق بالاتفاق حول المنهجية التي سوف نتبعها والطريق الذي سوف نسلكه في عملية الإصلاح وهي محطة حسب رأيه مهمة تحاول أن تجيب على سؤال كيف نواجه أو كيف نوجّه التفكير في هذا الإصلاح؟ أي كيف سنفكر في عملية الإصلاح ؟ هل سنفكر في مدخلاته ومخرجاته بعقلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين أم وفق ذهنية أخرى تقطع مع نمط ونوعية التفكير الحالية؟ فإذا نظرنا اليوم في العالم من حولننا فإننا سوف نجد أن التفكير في مختلف الإصلاحات التربوية تتم وفق مبادئ ومفاهيم خمسة :
أولا: اعتماد مقاربة " التعليم التحويلي " والمقصود به أن دور المدرسة اليوم لم يعد يقتصر على تقديم جملة من المعارف الكلاسيكية التي يتلقاها التلميذ أثناء الدرس ويتولى إعادتها يوم الامتحان وإنما دورها هو تقديم معارف تمكّن الفرد من التحرّر وتجعله يتغير باستمرار في ديناميكية وبصورة متواصلة وهذا يقتضي صياغة مقاربات ومناهج ومحتويات وأشكال تقييم وتكوين مدرسين وفق هذه الرؤية .
ثانيا : إن التعليم الذي ورثناه عن حقبة القرن 19 كان يحصل بين جدران القسم وبين دفة الكتاب والسؤال المطروح حول مشروع الإصلاح إن كنا سنبقى على هذا النموذج أم أن المصلحة تقتضي تغييره والانتقال نحو تصور جديد خاصة وأن واقع التعليم اليوم في العالم يحصل داخل وخارج المدرسة وخارج الزمن الرسمي الذي أصبح يوفر إمكانيات وفرصا تعليمية أخرى وهذا الطارئ الجديد هو الذي يفسر ذهاب الأولياء إلى مصادر أخرى للتعليم يرونها أكثر فائدة والسؤال الذي تطرحه هذه التحولات هو هل ستحافظ المدرسة التونسية على مكانتها التاريخية وموقعها كأداة وحيدة للتعليم أم ينبغي أن تنفتح على أشكال أخرى؟ وهذا يحملنا إلى تبني نظرة أخرى للإصلاح تقوم على مقاربة ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية مستقبلية بالأساس.
ثالثا : إن التعلّمات المدرسية اليوم لم تعد موادا مفككة ولا مجزأة وإنما أصبحت ضمن مقاربة مجالية تتنافذ فيها المواد وتتعانق بحيث يمكن فيها أن تكون الفنون الجميلة مثلا مدخلا لقضايا رياضية بصرية ثقافية أنثروبولوجية اجتماعية وهذا يتطلب أن ننتبه إلى هذا الجديد ونحن نصوغ البرامج و المحاور .
رابعا : إن التعلمات المدرسية التي نعمل على اعتمادها في الإصلاح الجديد ينبغي أن تنفتح على مفهوم " التربية على" أي أن يطرح التعليم القضايا الجوهرية حول كيف نربي الطفل على مناهضة العنف والتعصب وأنماط التفكر البدائي والتنمية المستديمة والتفكير العقلاني. ما نلاحظه أن هذه القضايا موجودة في البرامج الدراسية بشكل ضمني في بعض المحتويات وغير بارزة بشكل واضح والمطلوب هو كيف يمكن تحويلها من مجرد معارف مبثوثة ومهمشة في بعض المواد لنجعل منها مواد أساسية وتأصيلها ضمن وحدات تعلمية أفقية تكون مدخلا لإنتاج وعي جديد وإحداث تغيرات على مستوى التمثلات الذهنية لدى الطفل وعلى مستوى المواقف والمنظومة السلوكية وهذا التحليل يقودنا من جديد ويعيدنا إلى فكرة " التعليم التحويلي ".
خامسا : وأخيرا فإن هذه التعّلمات المدرسية المطلوبة من المفروض أن تنفتح على ما يسمى بالمهارات الحياتية التي تقود إلى سؤال المهن المستقبلية. والمقصود بالمهارات الحياتية أن يكون الهدف الأساسي للتعليم في المدرسة هو إكساب الطفل القدرة على الصمود والمقصود بذلك هو كيف يمكن لنا اليوم أن نحول تجربة مدرسية فاشلة إلى تجربة ناجحة وأن تكون لنا القدرة على قراءة المستقبل واستباقه والقدرة على التغير الذاتي وفق ديناميكية التطورات المستقبلية للمهن .
اليوم هناك مهن كثيرة ستختفي وستندثر بمفعول ما حصل ويحصل في العالم من تطور مذهل للذكاء الاصطناعي ومن الاعتماد على التقنيات الحديثة وهذا يعني أن مختلف الشهائد العلمية يجب أن تساير التطورات فبعد خمس أو ست سنوات من اليوم سوف نكون على هامش العلم والمعرفة إذا لم يساير تعليمنا كل هذه التحولات التي يشهدها العالم وأثرت في مجال العلم والمعرفة وهذا يفرض على القائمين على الإصلاح الانتباه إلى ضرورة ملازمة ديناميكية التطور التي تدفعنا إلى القيام بقراءة نقدية إلى ما نحن عليه واستباق المستقبل حتى لا يداهمنا لذلك يجب أن يكون التفكير في الإصلاح وفق هذه الرؤية الفطنة المنتبهة إلى ما يجري في العالم من حولنا وكل التطورات والتحولات السريعة .
وهذا يجرنا إلى سؤال المنوال التربوي الذي نبحث عنه ونريده لتعليمنا ؟ وصياغة هذا المنوال تتم وفق تحديين أساسيين التحدي الأول هو أن يكون الإصلاح تونسيا مرتبطا بالوطن وتتجسد فيه الذاتية المجتمعية والثاني خارجي في علاقة بفكرة الانفتاح عن التجارب العالمية والخيارات الإستراتيجية العالمية فنحن لسنا منفصلين عن العالم ولا خارجه وهذا المنهج المتبع الذي يمزج بين المعطى المحلي والمعطى الخارجي يصل حتى إلى الخيارات اللغوية المستقبلية المرتبطة بالقوة التشغيلية المستقبلية والتي يمكن أن تساهم في التموقع الاستراتيجي لتونس في أفق عالمي جديد.
يعتبر الدكتور مراد بهلول أن المنوال التربوي الذي تبنته الدولة التونسية وقامت عليه كل الإصلاحات بداية من مرحلة الاستقلال وحتى آخر إصلاح في سنة 2002 هو " منوال تكنوقراطي " في علاقة بالتقسيم الاجتماعي للعمل غايته توفير للمتعلمين جملة من المكتسبات والمؤهلات والاقتدارات تمكنهم في المستقبل من الانصهار وولوج سوق الشغل بكل سهولة ويسر وتمكنهم من الحصول على عمل ووظيفة وهذا الخيار الوطني الذي تراضت عليه المجموعة الوطنية جاء في سياق تاريخي والدولة الوطنية بصدد البناء وكان في حينه نافعا ومفيدا وقد أدى أغراضه غير أنه اليوم لم يعد من الممكن أن نواصل على نهجه والسؤال هل ما تم تطبيقه هو النموذج الأكثر انسجاما وملاءمة لكل التغييرات الحاصلة في مجال التربية والتعليم وفي علاقة بالتحولات الكبرى التي حصلت في العالم ؟ الجواب بالطبع لا. فاليوم هناك نماذج أخرى يطلق عليها النماذج الاجتماعية الديمقراطية ونعني بها أن التعليم هو حق اجتماعي وعلى الدولة أن تبذل مجهودا في تحرير هذا الفعل من العطلاء .
أي منوال تربوي نريد ؟ إذا أخذنا المنوال الأول التكنوقراطي فسوف نحافظ على نفس الرؤية القديمة للتعليم وسوف نبقي على فكرة المناظرات الوطنية والامتحانات التقليدية الكتابية والتقييم التحصيلي أما إذا توجهنا نحو مقاربات اجتماعية ديمقراطية وربطنا التعليم بالحقوق الاجتماعية فسوف يأخذ التعليم صيغة أخرى لا تقوم على فكرة التقييم التحصيلي فقط وإنما على فكرة أن التعليم هو تقييم تكويني .
في لقائه بوزير التعليم العالي كان الرئيس قيس سعيد على حق حينما أذن بمراجعة بعض الشعب العلمية التي لا تفتح أفاقا للطلبة في تونس وتمنح شهائد عليا لا تفتح أفاقا إلا في الخارج أو إبقاء أصحابها في حالة عطالة عن العمل وهو موقف يقرأ بالعودة إلى تقرير البنك الدولي لسنة 2020 الذي أكد على أن مستقبل الاقتصاد العالمي بين سنة 2030 و 2050 سوف يبنى على أساس المهارات الذهنية العليا والسؤال المطروح اليوم هل أن المنظومة التربوية والتعليمية في تونس تشكلت حسب المواصفات العالمية المستقبلية .
العالم اليوم يتجه شيئا فشيئا نحو التحول التقني الرقمي والتحول الايكولوجي والتحول الطاقي وبالتالي من غير المسموح اليوم ونحن على أبواب إصلاح تربوي شامل أن نفصل المدرسة والمنظومة التكوينية التربوية عن هذه النقلات الثلاث وخاصة فيما يتعلق بالتحول الأول الرقمي التقني . العالم متجه نحو الذكاء الاصطناعي كقوة انتاج وكقوة اقتصادية وهذا ليس موقفا معياريا أيديولوجيا وإنما هو موقف تفرضه هذه التحولات الحقيقة وعلينا أن نسايرها وقد تعرض إليها مؤتمر دافوس في النقطة الرابعة من تقريره التي أكدت على أن الذكاء هو اليوم قوة الاقتصاد بالأساس ولما نطرح هذه الفكرة في علاقة بقراءة نقدية للمنظومة التربوية التكوينية نجد أن الوظائف الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا فهي إما في المجالات التي تتطلب ذكاء خارقا أو في المهن اليومية وهذا يعني أن الكثير من المهن ستختفي أو سوف تندمج في مهن أخرى وهذا يدعونا إلى القيام بقراءة متأنية ورصينة لتعليمنا من أجل الدخول في المستقبل وفي عالم الغد والتكهن بالكفاءات والمهن المستقبلية وهذا يحيلنا الى سؤال أساسي وهو أنه إذا كانت المهن في العالم تتطور نحو هذه الأفاق فإن الأساس المعرفي ومسألة الكفاءة يجب أن تتغير وكمثال على ذلك أن المدرسة الابتدائية اليوم قد تأسست على ثلاث مقومات " القراءة و الكتابة والحساب " ومنها تفرعت كل المعارف والعلوم الأخرى وهذا الأساس يعود إلى خيارات القرن 19 فهل سنواصل في تعليم الكتابة الورقية وتعليم كيف نرسم تفاحة ونلوّن بقرة أم نتجه شيئا فشيئا نحو الكتابة الرقمية . المدرسة اليوم في إطار مقاربة الكفايات تعلم الكتابة الخطية التي لا تستعمل إلا داخل حصة القسم في حين أن المجتمع يشتغل وفق الكتابة الرقمية وهذا ما يفسر تراجع قدرات الخط عند الطفل وصعوبة الكتابة عند البعض وطرح هذه المسألة ليس افتعالا منا وإنما هي مواكبة للحالة التاريخية التي تحيط بنا فهل سنواصل بنفس هذه الأساليب التعلمية ؟
نحن اليوم أمام مشروع إصلاحي طموح وأمامنا فرصة تاريخية غير أن مشروعا وطنيا بهذا الحجم وبهذه الرهانات المطروحة عليه كرافعة لكل إصلاح يحتاجه المجتمع وكمدخل ضروري ترتبط به الكثير من مجالات الحياة الأخرى يحتاج إلى تمويل كبير وميزانية ضخمة لإنجاحه. والسؤال اليوم هل أن المالية العمومية يتوفر لها من الإمكانيات المادية ما يجعلها تقوم بهذا الإصلاح أم ينبغي أن تنفتح على خيارات أخرى وهذه مسألة إستراتيجية يجب أن يتم البحث فيها ضمن خيارات المشروع الوطني الجامع بعيدا عن كل الحسابات الأيديولوجية وكل التدخلات الخارجية والتأثيرات الدولية التي تبدأ بمسألة التمويل والإعانة على الإصلاح؟
هناك مهن كثيرة ستختفي وستندثر بمفعول ما حصل ويحصل في العالم من تطور مذهل للذكاء الاصطناعي
نوفل سلامة
في سياق الحديث عن مشروع إصلاح التعليم الذي أخد الكثير من الوقت وطال إنجازه و كثر حوله اللغط وتوسعت دائرة الاختلاف حول أهدافه ومراميه ودوافعه وعناصره ورافعاته ونقاش مضطرب حول مكوناته ومقارباته وخياراته وخاصة الإجابة على السؤال المفصلي المتعلق بمعرفة أي إصلاح تربوي نريد يكون مواكبا لتحديات العصر ومعبرا عن هواجس المستقبل وتكون مخرجاته إنتاج جيل من المتعلمين مرتبطين بوطنهم وفي خدمته تحتاجهم البلاد في نهضتها وتقدمها ومستقبلها ، قدم الدكتور " مراد بهلول " الأستاذ الجامعي والمختص في علوم التربية ومناهج التعليم والخبير لدى اليونسكو، تصورا حاول من خلاله الإجابة على السؤال المطروح في علاقة بما يشهده العالم من سرعة كبيرة في تطوير التعليم وما يحصل من تحولات مستقبلية للعمل بمنظومة الكفايات واعتبر أنه لا يمكن اليوم الحديث عن إصلاح تربوي جاد ومثمر ويعطي نتائج إيجابية لسنوات طويلة إلا إذا كان هذا الإصلاح خيارا وطنيا جامعا تتفق عليه المجموعة الوطنية ورؤية إستراتيجية نابعة من خصوصياتنا وحاجياتنا الداخلية من دون إهمال لكل التجارب المقارنة في إصلاح التعليم.
المسألة الثانية التي تطرق إليها واعتبرها من ركائز الإصلاح تتعلق بالاتفاق حول المنهجية التي سوف نتبعها والطريق الذي سوف نسلكه في عملية الإصلاح وهي محطة حسب رأيه مهمة تحاول أن تجيب على سؤال كيف نواجه أو كيف نوجّه التفكير في هذا الإصلاح؟ أي كيف سنفكر في عملية الإصلاح ؟ هل سنفكر في مدخلاته ومخرجاته بعقلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين أم وفق ذهنية أخرى تقطع مع نمط ونوعية التفكير الحالية؟ فإذا نظرنا اليوم في العالم من حولننا فإننا سوف نجد أن التفكير في مختلف الإصلاحات التربوية تتم وفق مبادئ ومفاهيم خمسة :
أولا: اعتماد مقاربة " التعليم التحويلي " والمقصود به أن دور المدرسة اليوم لم يعد يقتصر على تقديم جملة من المعارف الكلاسيكية التي يتلقاها التلميذ أثناء الدرس ويتولى إعادتها يوم الامتحان وإنما دورها هو تقديم معارف تمكّن الفرد من التحرّر وتجعله يتغير باستمرار في ديناميكية وبصورة متواصلة وهذا يقتضي صياغة مقاربات ومناهج ومحتويات وأشكال تقييم وتكوين مدرسين وفق هذه الرؤية .
ثانيا : إن التعليم الذي ورثناه عن حقبة القرن 19 كان يحصل بين جدران القسم وبين دفة الكتاب والسؤال المطروح حول مشروع الإصلاح إن كنا سنبقى على هذا النموذج أم أن المصلحة تقتضي تغييره والانتقال نحو تصور جديد خاصة وأن واقع التعليم اليوم في العالم يحصل داخل وخارج المدرسة وخارج الزمن الرسمي الذي أصبح يوفر إمكانيات وفرصا تعليمية أخرى وهذا الطارئ الجديد هو الذي يفسر ذهاب الأولياء إلى مصادر أخرى للتعليم يرونها أكثر فائدة والسؤال الذي تطرحه هذه التحولات هو هل ستحافظ المدرسة التونسية على مكانتها التاريخية وموقعها كأداة وحيدة للتعليم أم ينبغي أن تنفتح على أشكال أخرى؟ وهذا يحملنا إلى تبني نظرة أخرى للإصلاح تقوم على مقاربة ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية مستقبلية بالأساس.
ثالثا : إن التعلّمات المدرسية اليوم لم تعد موادا مفككة ولا مجزأة وإنما أصبحت ضمن مقاربة مجالية تتنافذ فيها المواد وتتعانق بحيث يمكن فيها أن تكون الفنون الجميلة مثلا مدخلا لقضايا رياضية بصرية ثقافية أنثروبولوجية اجتماعية وهذا يتطلب أن ننتبه إلى هذا الجديد ونحن نصوغ البرامج و المحاور .
رابعا : إن التعلمات المدرسية التي نعمل على اعتمادها في الإصلاح الجديد ينبغي أن تنفتح على مفهوم " التربية على" أي أن يطرح التعليم القضايا الجوهرية حول كيف نربي الطفل على مناهضة العنف والتعصب وأنماط التفكر البدائي والتنمية المستديمة والتفكير العقلاني. ما نلاحظه أن هذه القضايا موجودة في البرامج الدراسية بشكل ضمني في بعض المحتويات وغير بارزة بشكل واضح والمطلوب هو كيف يمكن تحويلها من مجرد معارف مبثوثة ومهمشة في بعض المواد لنجعل منها مواد أساسية وتأصيلها ضمن وحدات تعلمية أفقية تكون مدخلا لإنتاج وعي جديد وإحداث تغيرات على مستوى التمثلات الذهنية لدى الطفل وعلى مستوى المواقف والمنظومة السلوكية وهذا التحليل يقودنا من جديد ويعيدنا إلى فكرة " التعليم التحويلي ".
خامسا : وأخيرا فإن هذه التعّلمات المدرسية المطلوبة من المفروض أن تنفتح على ما يسمى بالمهارات الحياتية التي تقود إلى سؤال المهن المستقبلية. والمقصود بالمهارات الحياتية أن يكون الهدف الأساسي للتعليم في المدرسة هو إكساب الطفل القدرة على الصمود والمقصود بذلك هو كيف يمكن لنا اليوم أن نحول تجربة مدرسية فاشلة إلى تجربة ناجحة وأن تكون لنا القدرة على قراءة المستقبل واستباقه والقدرة على التغير الذاتي وفق ديناميكية التطورات المستقبلية للمهن .
اليوم هناك مهن كثيرة ستختفي وستندثر بمفعول ما حصل ويحصل في العالم من تطور مذهل للذكاء الاصطناعي ومن الاعتماد على التقنيات الحديثة وهذا يعني أن مختلف الشهائد العلمية يجب أن تساير التطورات فبعد خمس أو ست سنوات من اليوم سوف نكون على هامش العلم والمعرفة إذا لم يساير تعليمنا كل هذه التحولات التي يشهدها العالم وأثرت في مجال العلم والمعرفة وهذا يفرض على القائمين على الإصلاح الانتباه إلى ضرورة ملازمة ديناميكية التطور التي تدفعنا إلى القيام بقراءة نقدية إلى ما نحن عليه واستباق المستقبل حتى لا يداهمنا لذلك يجب أن يكون التفكير في الإصلاح وفق هذه الرؤية الفطنة المنتبهة إلى ما يجري في العالم من حولنا وكل التطورات والتحولات السريعة .
وهذا يجرنا إلى سؤال المنوال التربوي الذي نبحث عنه ونريده لتعليمنا ؟ وصياغة هذا المنوال تتم وفق تحديين أساسيين التحدي الأول هو أن يكون الإصلاح تونسيا مرتبطا بالوطن وتتجسد فيه الذاتية المجتمعية والثاني خارجي في علاقة بفكرة الانفتاح عن التجارب العالمية والخيارات الإستراتيجية العالمية فنحن لسنا منفصلين عن العالم ولا خارجه وهذا المنهج المتبع الذي يمزج بين المعطى المحلي والمعطى الخارجي يصل حتى إلى الخيارات اللغوية المستقبلية المرتبطة بالقوة التشغيلية المستقبلية والتي يمكن أن تساهم في التموقع الاستراتيجي لتونس في أفق عالمي جديد.
يعتبر الدكتور مراد بهلول أن المنوال التربوي الذي تبنته الدولة التونسية وقامت عليه كل الإصلاحات بداية من مرحلة الاستقلال وحتى آخر إصلاح في سنة 2002 هو " منوال تكنوقراطي " في علاقة بالتقسيم الاجتماعي للعمل غايته توفير للمتعلمين جملة من المكتسبات والمؤهلات والاقتدارات تمكنهم في المستقبل من الانصهار وولوج سوق الشغل بكل سهولة ويسر وتمكنهم من الحصول على عمل ووظيفة وهذا الخيار الوطني الذي تراضت عليه المجموعة الوطنية جاء في سياق تاريخي والدولة الوطنية بصدد البناء وكان في حينه نافعا ومفيدا وقد أدى أغراضه غير أنه اليوم لم يعد من الممكن أن نواصل على نهجه والسؤال هل ما تم تطبيقه هو النموذج الأكثر انسجاما وملاءمة لكل التغييرات الحاصلة في مجال التربية والتعليم وفي علاقة بالتحولات الكبرى التي حصلت في العالم ؟ الجواب بالطبع لا. فاليوم هناك نماذج أخرى يطلق عليها النماذج الاجتماعية الديمقراطية ونعني بها أن التعليم هو حق اجتماعي وعلى الدولة أن تبذل مجهودا في تحرير هذا الفعل من العطلاء .
أي منوال تربوي نريد ؟ إذا أخذنا المنوال الأول التكنوقراطي فسوف نحافظ على نفس الرؤية القديمة للتعليم وسوف نبقي على فكرة المناظرات الوطنية والامتحانات التقليدية الكتابية والتقييم التحصيلي أما إذا توجهنا نحو مقاربات اجتماعية ديمقراطية وربطنا التعليم بالحقوق الاجتماعية فسوف يأخذ التعليم صيغة أخرى لا تقوم على فكرة التقييم التحصيلي فقط وإنما على فكرة أن التعليم هو تقييم تكويني .
في لقائه بوزير التعليم العالي كان الرئيس قيس سعيد على حق حينما أذن بمراجعة بعض الشعب العلمية التي لا تفتح أفاقا للطلبة في تونس وتمنح شهائد عليا لا تفتح أفاقا إلا في الخارج أو إبقاء أصحابها في حالة عطالة عن العمل وهو موقف يقرأ بالعودة إلى تقرير البنك الدولي لسنة 2020 الذي أكد على أن مستقبل الاقتصاد العالمي بين سنة 2030 و 2050 سوف يبنى على أساس المهارات الذهنية العليا والسؤال المطروح اليوم هل أن المنظومة التربوية والتعليمية في تونس تشكلت حسب المواصفات العالمية المستقبلية .
العالم اليوم يتجه شيئا فشيئا نحو التحول التقني الرقمي والتحول الايكولوجي والتحول الطاقي وبالتالي من غير المسموح اليوم ونحن على أبواب إصلاح تربوي شامل أن نفصل المدرسة والمنظومة التكوينية التربوية عن هذه النقلات الثلاث وخاصة فيما يتعلق بالتحول الأول الرقمي التقني . العالم متجه نحو الذكاء الاصطناعي كقوة انتاج وكقوة اقتصادية وهذا ليس موقفا معياريا أيديولوجيا وإنما هو موقف تفرضه هذه التحولات الحقيقة وعلينا أن نسايرها وقد تعرض إليها مؤتمر دافوس في النقطة الرابعة من تقريره التي أكدت على أن الذكاء هو اليوم قوة الاقتصاد بالأساس ولما نطرح هذه الفكرة في علاقة بقراءة نقدية للمنظومة التربوية التكوينية نجد أن الوظائف الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا فهي إما في المجالات التي تتطلب ذكاء خارقا أو في المهن اليومية وهذا يعني أن الكثير من المهن ستختفي أو سوف تندمج في مهن أخرى وهذا يدعونا إلى القيام بقراءة متأنية ورصينة لتعليمنا من أجل الدخول في المستقبل وفي عالم الغد والتكهن بالكفاءات والمهن المستقبلية وهذا يحيلنا الى سؤال أساسي وهو أنه إذا كانت المهن في العالم تتطور نحو هذه الأفاق فإن الأساس المعرفي ومسألة الكفاءة يجب أن تتغير وكمثال على ذلك أن المدرسة الابتدائية اليوم قد تأسست على ثلاث مقومات " القراءة و الكتابة والحساب " ومنها تفرعت كل المعارف والعلوم الأخرى وهذا الأساس يعود إلى خيارات القرن 19 فهل سنواصل في تعليم الكتابة الورقية وتعليم كيف نرسم تفاحة ونلوّن بقرة أم نتجه شيئا فشيئا نحو الكتابة الرقمية . المدرسة اليوم في إطار مقاربة الكفايات تعلم الكتابة الخطية التي لا تستعمل إلا داخل حصة القسم في حين أن المجتمع يشتغل وفق الكتابة الرقمية وهذا ما يفسر تراجع قدرات الخط عند الطفل وصعوبة الكتابة عند البعض وطرح هذه المسألة ليس افتعالا منا وإنما هي مواكبة للحالة التاريخية التي تحيط بنا فهل سنواصل بنفس هذه الأساليب التعلمية ؟
نحن اليوم أمام مشروع إصلاحي طموح وأمامنا فرصة تاريخية غير أن مشروعا وطنيا بهذا الحجم وبهذه الرهانات المطروحة عليه كرافعة لكل إصلاح يحتاجه المجتمع وكمدخل ضروري ترتبط به الكثير من مجالات الحياة الأخرى يحتاج إلى تمويل كبير وميزانية ضخمة لإنجاحه. والسؤال اليوم هل أن المالية العمومية يتوفر لها من الإمكانيات المادية ما يجعلها تقوم بهذا الإصلاح أم ينبغي أن تنفتح على خيارات أخرى وهذه مسألة إستراتيجية يجب أن يتم البحث فيها ضمن خيارات المشروع الوطني الجامع بعيدا عن كل الحسابات الأيديولوجية وكل التدخلات الخارجية والتأثيرات الدولية التي تبدأ بمسألة التمويل والإعانة على الإصلاح؟