إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

البرلمان الأوروبي الجديد ومخاطر صعود اليمين المتطرف

 

 

   لقد ترذلت الأحزاب الأوروبية الكبرى وانقسمت بفعل انعدام الكاريزمات السياسية

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

جاءت انتخابات البرلمان الأوروبي منتصف جوان الجاري 2024، لتأتي بنتائج كانت متوقعة في نظر المراقبين وهي تقدم قوى اليمين المتطرف واليمين المعتدل التي أصبحت على رأس المجموعات المكونة له سياسيا وحزبيا، بعد ان ظل البرلمان منذ هيكلته بالشكل الحالي عام 1979 معقل قوى وسط اليسار.

  وأمام تركيبته الجديدة الملغومة يمينا محافظا وأقصى يمين متطرف حد العنصرية، تجد المؤسسة التشريعية الأوروبية نفسها مفككة الأوصال بعد هذه النتائج الكارثية التي وصفتها عدة صحف أوروبية وفرنسية ب"الزلزال"، خاصة في فرنسا التي أعلن رئيسها مانويل ماكرون حل البرلمان كما يسمح له به الدستور، استباقا منه لما قد يحدث على الساحة الداخلية. وهو قرار يحمل في طياته عديد المفاجآت التي قد لا تكون سارة لحكم ماكرون في باريس الذي يتهمه فيه معارضوه بأنه حكم فردي حاكم بأمره في ديمقراطية شكلية يتحكم فيها الرئيس بكل الآليات، وهي عنوان دستور الجمهورية الخامسة التي أنشاها الجنرال ديغول منذ 1959 ولم يقع مراجعتها بالتحيين الديمقراطي . ومن المنتظر أن ينعكس هذا التوجه اليميني للناخبين في هذه الانتخابات الأوروبية على مسار ونتائج الانتخابات العامة والتشريعية في بلدان الاتحاد الأوروبي مكرسا مزيدا من المخاطر على التوازنات الداخلية والإقليمية لأوروبا وعلى جوارها المباشر في حوض المتوسط الجنوبي.

مسار متوقع

لقد توقعت منذ أشهر التحاليل الصحفية العقلانية هذه النتيجة لهذا المد اليميني في البرلمان الأوروبي بسبب تفكك الحياة السياسية والحزبية التي اندثرت فيها الأحزاب السياسية الكبرى والوازنة والتي صنعت على مدى عقود ربيع الديمقراطية في أوروبا ظلت فيها الأحزاب الأوربية الكبرى المهيكلة هي العمود الفقري للحياة السياسية والديمقراطية فيها وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الاتحاد الأوروبي ومعه برلمانه وسلطته التنفيذية والنقابية والاجتماعية والإنسانية. وسمحت تلك الأحزاب بمنع تمدد الإخطبوط اليميني المتطرف الذي وقع محاصرته بمختلف الآليات الدستورية والقانونية وحتى السردية التاريخية المضخمة ومنها معاداة السامية ونشر الكراهية .

   وفي إطار ذلك ظل كل بلد وخاصة ألمانيا وفرنسا ، يستعمل كل الأساليب لتحجيم قوة اليمين المتطرف بدءا بالنازيين الجدد بألمانيا وانتهاء بالجبهة الوطنية في فرنسا مع جان ماري لوبان ثم ابنته المنتصرة حاليا في الانتخابات الأوروبية . وكانت كل التحالفات ممكنة في ثمانينات القرن الماضي مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ثم مع الرئيس جاك شيراك الذي انتخب بنسبة أكثر من ثمانين بالمائة من ناخبي اليمين واليسار بعد أن تقدم جان ماري لوبان في الانتخابات في الدور الأولى فوجب التصدي له . وها هي ابنته مارين التي انفصلت عن أبيها وعادته عقوقا سياسيا أو تمثيلا مسرحيا ماكْيَافيليّا وأصبحت خلال العشريات الماضية ثاني قوة كادت تطيح بالرئيس ماكرون . واليوم أصبحت تتصدر المشهد ولها اكبر حصة تزيد عن الثلاثين بالمائة داخل البرلمان الأوروبي . وقالت انها مستعدة للحكم على التو.

  أحزاب تاريخية كبرى منقرضة

  لقد كانت تلك الأحزاب الكبرى العمود الفقري للعمل السياسي في أوروبا. وهي تضم عموم أحزاب يمينية ويسارية معتدلة على غرار الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي في فرنسا وكذلك الحرب الاشتراكي والحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا وأيضا الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، إلى غيره من مكونات الأحزاب التي كانت تحصل على أكثر من ثلاثين بالمائة منذ الدور الأول . وهي أحزاب عريقة ومتجذرة في المجتمعات الأوروبية، تمثل مرجعا عريقا وإطارا يتحقق فيه التداول السلمي على السلطة عبر التفاهم على اقتسامها أو التعايش السلمي بين المؤسسات الدستورية عندما تنخرم التوازنات. لكن هذه الأحزاب تفككت كلعبة الدومينو خلال العشريتين الماضيتين. وبعض خبراء الإعلام والتواصل والميديا السوسيولوجية، يقول ان ظهور محامل التواصل الاجتماعي جعل كل فرد يعتبر نفسه زعيم حزب سياسي "يولي ويعزل" في "جاماته ولايكاته " ومؤثّريه الاجتماعيين على عقول الناخبين التي اختلط فيها الحابل بالنابل في سوق عكاظ أصبح فيها الانتصاب الفوضوي سيد الموقف . وقد قوض ذلك أركان الأحزاب التقليدية وانحسر تأثيرها مع ظهور موجات الشعبوية في عموم أوروبا وأمريكا، كبديل للعمل الحزبي التقليدي القائم على ثنائية اليمين واليسار أو المحافظين والليبراليين منذ عالم السياسة ومنظر الديمقراطية أليكسي دي طوكفيل عام 1830. وأصبحت اليوم أوروبا دون مظلة حزبية صلبة يمكن أن تقارع بها كلا من بريطانيا أو أمريكا التي حافظت فيها على ثنائية حزبيتها بفضل التقاليد الانغلوساكسونية المحنطة كالمومياء الديمقراطية لديهما.

ترذيل الأحزاب السياسية

   لقد ترذلت الأحزاب الأوروبية الكبرى وانقسمت بفعل انعدام الكاريزمات السياسية لديها والزعماء القدوة أصحاب التجارب المحنكين ممن يجود بهم الدهر وقد عركتهم تجارب السنين ومآسي الحروب . وأصبحت تلك الأحزاب لا تبلغ نسبة عشرة بالمائة من الأصوات وسط انشقاقات زعاماتها المتهاوية صبيانيا ومراهقة سياسية، ينشر فيها الغسيل الوسخ في شبكات التواصل الاجتماعي التتْفيهيّة للجميع ، وهو حال كل من الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديغولي اللذين تركا المكان لحزب وسطي سَنْفُورِي جديد صنعه ماكرون لجمع البقايا الهاملة ، ولكنه لم يعرف ماذا سيفعل به تاركا المجال لصعود أتباع مارين لوبان لليمين المتطرف. وفي إيطاليا انقسم الحزب الاشتراكي لبيتينو كراكسي مع الديمقراطية المسيحية المنقرضة لاندريوتي لترك الفضاء واسعا أمام أحزاب شعبوية ويمينية متطرفة تتاجر بقضايا الهجرة ومأساة سكان ووافدي جزيرة لامبادوزة، مع حزب "المقرونة" لبرلسكوني، ثم لاحقا مع السيدة جيورجيا ميلوني التي أصبحت تحتل المرتبة الأولي في برلمان بلادها وفي البرلمان الأوروبي . وأصبحت القوى اليمينية المتطرفة العابرة للحدود، هي المسيطرة على الحياة السياسية وعلى مشرعي البرلمان الأوروبي. كما أصبح الجهاز التنفيذي الحاكم في عدة بلدان بأوروبا تسيطر عليه القوي المتطرفة، وذلك حاليا في كل من إيطاليا وسلوفاكيا والمجر وكرواتيا وفنلندا وقريبا حسب التوقعات في هولاندا وفرنسا التي سقطت حديثا هذه الأيام في أيدي الجبهة اليمينية المتطرفة .

اختلاط السبل

  لقد بينت الدراسات السياسية والسوسيولوجية أن الناخب الأوروبي اختلطت عليه السبل على مستوى انتخابات بلاده وانتخابات البرلمان الأوروبي والذي يتهمه البعض بأنه بيروقراطية إدارية لديمقراطية إطارات بروكسل وسترازبوع، خريجي المدارس العليا للإدارة ، لا دخل فيها للجائع والبطال والمحتاج.

    فبعد ان كان النظام السياسي قائما على ثنائية اليمين واليسار وفروعهما المحدودة اختلطت على ذلك الناخب وعلى المتلقي والمحلل تيارات الشعبوية والليبرالية المتوحشة وشطط القومية العرقية والمشككون في الاتحاد الأوروبي نفسه من قوي اليمين المتعجرف القومي . وأصبحت مفاهيم الحرية والعدالة مختلطة في أذهان الناخبين، مؤذنة بخراب المشروع الأوروبي، كما توقع ذلك المشككون فيه ودعاة استعادة السيادة الوطنية من سيادة أوربية بقيت حبرا على ورق . ومثلت الهجرة و الهوية الأوروبية المسيحية العائدة بقوة مع هؤلاء من الماضي القروسطي لأوروبا، هي المسيطرة علي النقاش العام، حد الهستيريا والعنصرية ورفض الأجانب بل وحتى إشعال حروب صليبية أخرى في بحر المتوسط وإحياء مجد الاستعمار المقبور .

       لقد زادت حرب أوكرانيا والحرب ضد روسيا من تأجيج الصراعات وتصاعد نقمة الأوروبيين على قياداتهم في المركز في بروكسل وسترازبوغ ، الذين يدفعون بمزيد التشدد وتوجيه الأسلحة المدمرة الى أوكرانيا حتى تنتصر على روسيا الشقيق القريب من أوروبا، في معركة خاسرة منذ البداية وبتكاليف مالية كبيرة ، شعوب أوروبا أولى بها، وهم يتجرعون تبعات التضخم والبطالة وتدني مستوى العيش والتغطية الاجتماعية في أوروبا التي كانت مضرب الأمثال في العالم في مجال الحماية الاجتماعية الإنسانية بمواطنيها وزائريها من الأجانب. فإذا بحكوماتهم وممثليهم في البرلمان المتخلي يصدرون القرارات المتتالية بنزعة حربية لتوجيه الدعم العسكري المكثف لأوكرانيا بمئات مليارات اليوروهات وهم يتضورن جوعا وبعضهم من أبناء أوروبا يأكلون من المزابل، كما أفادت بذلك تحقيقات صحفية بثتها وسائل إعلام حكومية في أوروبا.

 وبالإضافة إلى ذلك تخطط الحكومات الأوروبية في اندفاعها الانتحاري بنزعة حربية رومانية متأصلة جبلة فيها ، لرفع ميزانيات الدفاع لديها للتصدي، للدب الروسي الوهمي بضغط من الإدارة الأمريكية التي تريد حربا عالمية بالوكالة في أوكرانيا تكون دول أوروبا وقودها القاتل لأبنائها المعوزين الذين لم يبق لهم غير التصويت لأحزاب قومية متطرفة جعلت في حملاتها الانتخابية، مصالح البلاد القومية فوق كل اعتبار، حتى قبل المشروع الأوروبي المتهالك، في انتظار ما ستسفر عنه انتخابات أمريكا في نوفمبر القادم والتي قد تدفع المرشح الشعبوي دونالد ترامب الى الحكم من جديد، وشعاره كما زملاؤه الأوروبيون من اليمين المتطرف: " أمريكا أولا".

كما يبقى الحوض الجنوبي من المتوسط متوجسا من مخاطر صعود هذا اليمين المتطرف على سياسات الجوار الاورومتوسطي وسياسات الهجرة ومصالح مواطنيه وحرياتهم في الفضاء الأوروبي المغلق في وجه أبنائهم، والمفتوح في وجه الآخرين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البرلمان الأوروبي الجديد ومخاطر صعود اليمين المتطرف

 

 

   لقد ترذلت الأحزاب الأوروبية الكبرى وانقسمت بفعل انعدام الكاريزمات السياسية

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

جاءت انتخابات البرلمان الأوروبي منتصف جوان الجاري 2024، لتأتي بنتائج كانت متوقعة في نظر المراقبين وهي تقدم قوى اليمين المتطرف واليمين المعتدل التي أصبحت على رأس المجموعات المكونة له سياسيا وحزبيا، بعد ان ظل البرلمان منذ هيكلته بالشكل الحالي عام 1979 معقل قوى وسط اليسار.

  وأمام تركيبته الجديدة الملغومة يمينا محافظا وأقصى يمين متطرف حد العنصرية، تجد المؤسسة التشريعية الأوروبية نفسها مفككة الأوصال بعد هذه النتائج الكارثية التي وصفتها عدة صحف أوروبية وفرنسية ب"الزلزال"، خاصة في فرنسا التي أعلن رئيسها مانويل ماكرون حل البرلمان كما يسمح له به الدستور، استباقا منه لما قد يحدث على الساحة الداخلية. وهو قرار يحمل في طياته عديد المفاجآت التي قد لا تكون سارة لحكم ماكرون في باريس الذي يتهمه فيه معارضوه بأنه حكم فردي حاكم بأمره في ديمقراطية شكلية يتحكم فيها الرئيس بكل الآليات، وهي عنوان دستور الجمهورية الخامسة التي أنشاها الجنرال ديغول منذ 1959 ولم يقع مراجعتها بالتحيين الديمقراطي . ومن المنتظر أن ينعكس هذا التوجه اليميني للناخبين في هذه الانتخابات الأوروبية على مسار ونتائج الانتخابات العامة والتشريعية في بلدان الاتحاد الأوروبي مكرسا مزيدا من المخاطر على التوازنات الداخلية والإقليمية لأوروبا وعلى جوارها المباشر في حوض المتوسط الجنوبي.

مسار متوقع

لقد توقعت منذ أشهر التحاليل الصحفية العقلانية هذه النتيجة لهذا المد اليميني في البرلمان الأوروبي بسبب تفكك الحياة السياسية والحزبية التي اندثرت فيها الأحزاب السياسية الكبرى والوازنة والتي صنعت على مدى عقود ربيع الديمقراطية في أوروبا ظلت فيها الأحزاب الأوربية الكبرى المهيكلة هي العمود الفقري للحياة السياسية والديمقراطية فيها وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس الاتحاد الأوروبي ومعه برلمانه وسلطته التنفيذية والنقابية والاجتماعية والإنسانية. وسمحت تلك الأحزاب بمنع تمدد الإخطبوط اليميني المتطرف الذي وقع محاصرته بمختلف الآليات الدستورية والقانونية وحتى السردية التاريخية المضخمة ومنها معاداة السامية ونشر الكراهية .

   وفي إطار ذلك ظل كل بلد وخاصة ألمانيا وفرنسا ، يستعمل كل الأساليب لتحجيم قوة اليمين المتطرف بدءا بالنازيين الجدد بألمانيا وانتهاء بالجبهة الوطنية في فرنسا مع جان ماري لوبان ثم ابنته المنتصرة حاليا في الانتخابات الأوروبية . وكانت كل التحالفات ممكنة في ثمانينات القرن الماضي مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ثم مع الرئيس جاك شيراك الذي انتخب بنسبة أكثر من ثمانين بالمائة من ناخبي اليمين واليسار بعد أن تقدم جان ماري لوبان في الانتخابات في الدور الأولى فوجب التصدي له . وها هي ابنته مارين التي انفصلت عن أبيها وعادته عقوقا سياسيا أو تمثيلا مسرحيا ماكْيَافيليّا وأصبحت خلال العشريات الماضية ثاني قوة كادت تطيح بالرئيس ماكرون . واليوم أصبحت تتصدر المشهد ولها اكبر حصة تزيد عن الثلاثين بالمائة داخل البرلمان الأوروبي . وقالت انها مستعدة للحكم على التو.

  أحزاب تاريخية كبرى منقرضة

  لقد كانت تلك الأحزاب الكبرى العمود الفقري للعمل السياسي في أوروبا. وهي تضم عموم أحزاب يمينية ويسارية معتدلة على غرار الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي في فرنسا وكذلك الحرب الاشتراكي والحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا وأيضا الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، إلى غيره من مكونات الأحزاب التي كانت تحصل على أكثر من ثلاثين بالمائة منذ الدور الأول . وهي أحزاب عريقة ومتجذرة في المجتمعات الأوروبية، تمثل مرجعا عريقا وإطارا يتحقق فيه التداول السلمي على السلطة عبر التفاهم على اقتسامها أو التعايش السلمي بين المؤسسات الدستورية عندما تنخرم التوازنات. لكن هذه الأحزاب تفككت كلعبة الدومينو خلال العشريتين الماضيتين. وبعض خبراء الإعلام والتواصل والميديا السوسيولوجية، يقول ان ظهور محامل التواصل الاجتماعي جعل كل فرد يعتبر نفسه زعيم حزب سياسي "يولي ويعزل" في "جاماته ولايكاته " ومؤثّريه الاجتماعيين على عقول الناخبين التي اختلط فيها الحابل بالنابل في سوق عكاظ أصبح فيها الانتصاب الفوضوي سيد الموقف . وقد قوض ذلك أركان الأحزاب التقليدية وانحسر تأثيرها مع ظهور موجات الشعبوية في عموم أوروبا وأمريكا، كبديل للعمل الحزبي التقليدي القائم على ثنائية اليمين واليسار أو المحافظين والليبراليين منذ عالم السياسة ومنظر الديمقراطية أليكسي دي طوكفيل عام 1830. وأصبحت اليوم أوروبا دون مظلة حزبية صلبة يمكن أن تقارع بها كلا من بريطانيا أو أمريكا التي حافظت فيها على ثنائية حزبيتها بفضل التقاليد الانغلوساكسونية المحنطة كالمومياء الديمقراطية لديهما.

ترذيل الأحزاب السياسية

   لقد ترذلت الأحزاب الأوروبية الكبرى وانقسمت بفعل انعدام الكاريزمات السياسية لديها والزعماء القدوة أصحاب التجارب المحنكين ممن يجود بهم الدهر وقد عركتهم تجارب السنين ومآسي الحروب . وأصبحت تلك الأحزاب لا تبلغ نسبة عشرة بالمائة من الأصوات وسط انشقاقات زعاماتها المتهاوية صبيانيا ومراهقة سياسية، ينشر فيها الغسيل الوسخ في شبكات التواصل الاجتماعي التتْفيهيّة للجميع ، وهو حال كل من الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديغولي اللذين تركا المكان لحزب وسطي سَنْفُورِي جديد صنعه ماكرون لجمع البقايا الهاملة ، ولكنه لم يعرف ماذا سيفعل به تاركا المجال لصعود أتباع مارين لوبان لليمين المتطرف. وفي إيطاليا انقسم الحزب الاشتراكي لبيتينو كراكسي مع الديمقراطية المسيحية المنقرضة لاندريوتي لترك الفضاء واسعا أمام أحزاب شعبوية ويمينية متطرفة تتاجر بقضايا الهجرة ومأساة سكان ووافدي جزيرة لامبادوزة، مع حزب "المقرونة" لبرلسكوني، ثم لاحقا مع السيدة جيورجيا ميلوني التي أصبحت تحتل المرتبة الأولي في برلمان بلادها وفي البرلمان الأوروبي . وأصبحت القوى اليمينية المتطرفة العابرة للحدود، هي المسيطرة على الحياة السياسية وعلى مشرعي البرلمان الأوروبي. كما أصبح الجهاز التنفيذي الحاكم في عدة بلدان بأوروبا تسيطر عليه القوي المتطرفة، وذلك حاليا في كل من إيطاليا وسلوفاكيا والمجر وكرواتيا وفنلندا وقريبا حسب التوقعات في هولاندا وفرنسا التي سقطت حديثا هذه الأيام في أيدي الجبهة اليمينية المتطرفة .

اختلاط السبل

  لقد بينت الدراسات السياسية والسوسيولوجية أن الناخب الأوروبي اختلطت عليه السبل على مستوى انتخابات بلاده وانتخابات البرلمان الأوروبي والذي يتهمه البعض بأنه بيروقراطية إدارية لديمقراطية إطارات بروكسل وسترازبوع، خريجي المدارس العليا للإدارة ، لا دخل فيها للجائع والبطال والمحتاج.

    فبعد ان كان النظام السياسي قائما على ثنائية اليمين واليسار وفروعهما المحدودة اختلطت على ذلك الناخب وعلى المتلقي والمحلل تيارات الشعبوية والليبرالية المتوحشة وشطط القومية العرقية والمشككون في الاتحاد الأوروبي نفسه من قوي اليمين المتعجرف القومي . وأصبحت مفاهيم الحرية والعدالة مختلطة في أذهان الناخبين، مؤذنة بخراب المشروع الأوروبي، كما توقع ذلك المشككون فيه ودعاة استعادة السيادة الوطنية من سيادة أوربية بقيت حبرا على ورق . ومثلت الهجرة و الهوية الأوروبية المسيحية العائدة بقوة مع هؤلاء من الماضي القروسطي لأوروبا، هي المسيطرة علي النقاش العام، حد الهستيريا والعنصرية ورفض الأجانب بل وحتى إشعال حروب صليبية أخرى في بحر المتوسط وإحياء مجد الاستعمار المقبور .

       لقد زادت حرب أوكرانيا والحرب ضد روسيا من تأجيج الصراعات وتصاعد نقمة الأوروبيين على قياداتهم في المركز في بروكسل وسترازبوغ ، الذين يدفعون بمزيد التشدد وتوجيه الأسلحة المدمرة الى أوكرانيا حتى تنتصر على روسيا الشقيق القريب من أوروبا، في معركة خاسرة منذ البداية وبتكاليف مالية كبيرة ، شعوب أوروبا أولى بها، وهم يتجرعون تبعات التضخم والبطالة وتدني مستوى العيش والتغطية الاجتماعية في أوروبا التي كانت مضرب الأمثال في العالم في مجال الحماية الاجتماعية الإنسانية بمواطنيها وزائريها من الأجانب. فإذا بحكوماتهم وممثليهم في البرلمان المتخلي يصدرون القرارات المتتالية بنزعة حربية لتوجيه الدعم العسكري المكثف لأوكرانيا بمئات مليارات اليوروهات وهم يتضورن جوعا وبعضهم من أبناء أوروبا يأكلون من المزابل، كما أفادت بذلك تحقيقات صحفية بثتها وسائل إعلام حكومية في أوروبا.

 وبالإضافة إلى ذلك تخطط الحكومات الأوروبية في اندفاعها الانتحاري بنزعة حربية رومانية متأصلة جبلة فيها ، لرفع ميزانيات الدفاع لديها للتصدي، للدب الروسي الوهمي بضغط من الإدارة الأمريكية التي تريد حربا عالمية بالوكالة في أوكرانيا تكون دول أوروبا وقودها القاتل لأبنائها المعوزين الذين لم يبق لهم غير التصويت لأحزاب قومية متطرفة جعلت في حملاتها الانتخابية، مصالح البلاد القومية فوق كل اعتبار، حتى قبل المشروع الأوروبي المتهالك، في انتظار ما ستسفر عنه انتخابات أمريكا في نوفمبر القادم والتي قد تدفع المرشح الشعبوي دونالد ترامب الى الحكم من جديد، وشعاره كما زملاؤه الأوروبيون من اليمين المتطرف: " أمريكا أولا".

كما يبقى الحوض الجنوبي من المتوسط متوجسا من مخاطر صعود هذا اليمين المتطرف على سياسات الجوار الاورومتوسطي وسياسات الهجرة ومصالح مواطنيه وحرياتهم في الفضاء الأوروبي المغلق في وجه أبنائهم، والمفتوح في وجه الآخرين.