إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الكاتبة والشاعرة سلوى الراشدي لـ"الصباح": تحدوني في كتاباتي روح الهواية والعشق للأدب بأصنافه

تونس-الصباح

رغم قلة الظهور في المحافل والملتقيات الأدبية والفكرية فإن نصوصها الشعرية والنثرية تكشف وتقدم لنا مبدعة استثنائية في بوحها الإبداعي الذي ينم عن روح عاشقة للأدب متيمة به إلى حد الانصهار الكلي في تفاصيله وأسراره.

اختارت عن قناعة وإيمان التحليق بنصوصها في الأفق الرحب بلا قيود وبكل حرية ولا ولاء لها في ذلك الا للصدق الشفاف في أجل وأبهى مظاهره، قدرها البحث عن جمال الوجود لصياغة قلعتها التي تستكين اليها.

سلوى الراشدي الشاعرة والكاتبة والناقدة اقتحمت منذ حوالي الشهر تجربة الترجمة من خلال رواية الكاتب الروائي الكبير عبد القادر بن الحاج نصر "حديقة لكسمبورغ " عن دار الأدب الوجيز اثراء لتجربة وتنويعا لتفاصيل قلعتها الإبداعية التي صاغتها من رحم النضال في صمت، وبعيدا عن الضجيج الذي لا طائل منه.

حاورها: محسن بن احمد

*أيّ دوافع كانت وراء اقتحامك عالم الكتابة؟

لعلّ أوّل دافع لدخول عالم الكتابة هو حبّ القراءة، أي حبّ المطالعة. وكما لا يخفى فإنّ الكتابة والقراءة هما في الأساس وجهان لعملة واحدة، وحبي للقراءة وبالتالي للكتاب نشأ معي في بيئتي الأولى، إذ كان والدي رحمه الله من رجال التعليم في بداية الاستقلال، في زمن كان يمجّد المعلّم و يُجلّه، و يعتبر المعرفة سلاحا مشهورا ضدّ الجهل والفقر والتّخلّف، وقد راهن عليه كبار الساسة فكان عند الزعيم بورقيبة من أهمّ ركائز بناء الدّولة لذا جعل التعليم وتعميمه من أوكد أولويّاته.

والدي نشّأني على حبّ القراءة، إذ كان بدوره شغوفا بها حتى أنني كنت كم مرّة أباغته يقرأ وقد أظلم فضاء الغرفة من حوله دون أن يشعر به فأشعل فانوس الضوء وأسأله كيف ترى يا أبي ما تقرأ؟ فيجيب بجملته المعهودة: إنّما تعمى البصائر ولا تعمى الأبصار...وكانت له مكتبة خاصّة بها عيون الكتب في الأدب القديم والحديث، وفي التاريخ والفقه والتفسير، ورغم أنه كان زيتونيّا آحادي التكوين إلّا أنّه كان يحببني في اللغات.

كانت نواة مكتبتي الأولى من الجوائز التي كنت أغنمها آخر السّنة، ومن هداياه لي...بعد ذلك، وفي المرحلة الثانويّة من تعلّمي، حظيت بأساتذة حببوني في اللغتين، عربية وفرنسيّة، وفتحوا عيوني، أنا ورفاقي من نفس الجيل على جميل الشعر والأدب في نصوص منتقاة تحفر في الذاكرة ولا تنسى، نصوص من الأدب العربي والفرنسي على السواء، فبل أن تتدهور برامج التعليم و تنزل إلى اعتماد نصوص عن وصفات المطبخ وما شابهها من الاهتمامات الضحلة محتوى وشكلا، وقد عشت في جهة مهمّشة نوعا ما، وفهم أهلها أنّ التعليم أهمّ سلّم للصّعود والإقلاع...وكان جيلي بصفة عامّة غير مشتت الاهتمامات، فكانت المعاهد و نوادي الشبيبة المدرسيّة من أهمّ وسائل التكوين والترفيه في آن.

الدّافع الثاني وراء اعتناق الكتابة هو اكتشاف متعة الآخر بما نكتب، و هذا الأمر دعاني تدريجيّا إلى توسيع حلقة المتلقّين لديّ على مدى سنوات إلى أن كبرت في رأسي فكرة اقتحام المغامرة بنشر ما أكتب في كتاب.

تحسّست متعة الكتابة ومشاركة الآخر في أحضان الصداقة والرفقة والأتراب، فكنّا نقرأ لبعضنا ونستمع لإنتاجاتنا وأحيانا نلجأ لأساتذتنا، إلى أن اجتزنا امتحان الباكالوريا.

خضت تجربة الصحافة لسنوات التسعينات، ثم خضت تجربة هامة مع صحيفة La Presse في ملحقها الأدبي:Lettres, arts et Pensée, حيث واظبت على تقديم قراءات نقدية لعدة روايات تونسية كتبها أصحابها بالعربية، وهنا بالذات بدأت تجربة الترجمة، وقد جمعت تلك القراءات في كتاب Plumes de mon pays نشره المرحوم الصديق فارس بوقرة بدار آفاقPerspectives .

و قد كان إنشائي مع ثلة من الأصدقاء الأدباء لناد أدبيّ بحمام الأنف وارتيادي لمجالس الأدب والثقافة في فترة ما بمثابة المحكّ والورشة التي طورت بلا شكّ لغتي وبلورت فكرة النشر لديّ.

الدافع الثالث الذي كان وراء اقتحامي هذا الميدان وشجعني أن أكون كاتبة، هو تعاظم قناعتي بأهميّة الحرف كسلاح توعويّ ونضالي ناجع في إيقاظ الضمائر والإحاطة بقضايا شعوبنا ومشاغلنا الذاتية والجماعية، وللتعبير عن همومنا وطموحاتنا وآمالنا، والانخراط في الحضارة الإنسانية من بابها الواسع وبصورة إيجابية فعّالة، من أجل أن نكون !

لقد ترسّخت قناعتي بأنّ الكتابة هي الأثر الباقي الذي يخترق الأزمان، ويجعل منّا علامة في التّاريخ، كما كان من قبل أجدادنا حاملين راية العلم والأدب للإنسانية جمعاء. فلإن كان بحر التاريخ يتقدّم أمواجا أمواجا، ونحن الآن في قعر الموج، فسيأتي زمن نعتليه بما نبني وما نترك للأجيال...

كنت ولازلت دوما أعي أنّ تجربتي مهما كانت متواضعة، سيكون لها شرف المحاولة وصدق النية في نفع البلاد والعباد !...أليس التّفاؤل قدر المبدعين؟!

 *كيف تنظرين إلى ذكرياتك القديمة مع أوّل نصّ إبداعي لك؟

أوّل نصّ إبداعي شاركت به في نادي القصة بالقصرين كان سني في الرابعة عشر مع تلاميذ أكبر مني سنا ومستوى وحزت جائزة تشجيعية اذكرها، متمثلة في رواية بوليسية من حجم كتاب الجيب...كانت رمزية جدا ولكن فعلها في قلبي الصغير كان سحريا وأكسبتني ثقة غريبة تلامس الغرور...وتتالت بعدها المحاولات في معهد الشابي مع صديقتي الشاعرة فوزية العلوي والمرحومة وسيلة عرفاوي وأخيها المرحوم علي العرفاوي صاحب الرائعة التلفزية بنت الخزاف، وفاطمة القاسمي وجلال الزريبي ومنصف العبيدي والحبيب النصراوي وغيرهم

*أيّ دور للقصيد في وجدان الشاعر؟ أو الشاعرة من وجهة نظرك ؟...هل هي قلعة الاحتماء، أم نافذة يطلّ منها على عوالمه السرّيّة والحميميّة؟

في الحالتين هناك ارتباط عميق بين الذات الشاعرة وتعبيرها، فالأنا متجلّية في الشعر سواء عبّرت عن ذاتها، أو عن الآخر، أو عن المحيط، دائما من خلالها هي، بحيث تكون منخرطة متلبسة بما تعبّر عنه، أو متبنية له بشدّة، فسواء عبّر الشاعر عن حالاته الشخصية الحميمة، أو تحدّث عن الآخر، أو عن النحن،

أن استعمالك لعبارتي "قلعة للإحتماء" ليس اعتباطا، بل فيهما إيحاء بأنّ الشاعر مستهدف، أو هو في وضع هش خارج القصيد. ولعلّ هذه الهشاشة مردّها إلى وجود هذا الرابط العضوي بين القائل ومقوله، إلى حدّ التعرية!. فعلا فإن الشعر من أكثر الفنون الفاصحة الفاضحة لدواخلنا ويتطلّب الكثير من الحريّة بل التحرّر ليكون. لذلك نحتاجه ونرتاح إلى سماعه، شعراء كنّا أم مجرّد محبين للشعر، فهو يقول ما نودّ ان نقوله ولا نقول، وهو في هذا أيضا نافذة تطلّ على عوالمنا السريّة والحميمية. الشعر يقولنا و يقول عنّا. والشعر يحمي نفسه بنفسه إذ يفلت من الأحكام الأخلاقوية ومن سلطات الهيمنة والرقابة المجتمعية بحصن من المجاز يترك له هامشا من المناعة بالامتناع. بينما محاربوه عادة ما تكون أسلحتهم اللغوية تعتمد المباشرة، وهنا نصل إلى مفهوم القلعة. قلعة من مجاز!

*ماهو الشعر في نظرك؟ و لمن تتوجّهين بقصائدك؟

الشعر في نظري، ذلك الصادر عن موهبة حقيقية، هو تركيبة مزدوجة بين الانفعالي الفطري، والإرادي الواعي...بين الطبيعي التلقائي، و ما هو صنعة واشتغال.

وعندما نتحدث عن موهبة، فإننا لا نعني بالضرورة أنه وحي يوحى ينزل علينا من السّماء فنصدّق بأنّ الشعراء أنبياء بعثوا برسالة يهومون في الأرض بشرا لا كالبشر، الموهبة من وجهة نظري مرتبطة بنوع من الذكاء الفطري يجعل الشاعر يحسّ ويعي ويستوعب حدود اللغة ومراميها بفطنة خاصّة أكثر وأسرع من غيرهم. وأرى أيضا أنّ تلك الموهبة تتربّى بالسماع والتقليد في البداية وتتهذب بالمعرفة والممارسة، إلى أن تتركز فتمرّ إلى الخلق والإبداع...وإن لم يقع كلّ ذلك فهي تمضي إلى التكرار والتبلّد والتآكل.

عندما قلت إنّ الشعر تعبيرة انفعالية فذلك لأنه غالبا ما يكون حالة مزاجيّة وليدة حاجة ملحة للتعبير، وتلك الحاجة تنتج كردة فعل عن وضع ما يعيشه الشاعر، يحدث له ضغطا نفسيا وحالات شعورية مثل حالات الحب والفقد والشوق والخوف والغضب والخيبة والثورة واليأس والانتظار...حالات تولّد لديه حتمية التعبير فيخرج بكمّ هائل من الأحاسيس ويكون بذلك الشعر موجّها بالأساس للذات التي تجد فيه متنفسا، ولقارئ ضمنيّ يقصده ثم لكلّ متلقّ واجد نفسه فيه.

الشعر أيضا تعبيرة فنيّة جماليّة واعية تخضع للذوق وتتطلب مهارة، وبقدر جودتها تغنم متلقيها وتختاره و تلامس ذوقه وتنميه فالشعر الجيّد يصنع جمهورا جيدا بالفعل.

و الشعر أخيرا حمّال معان و أفكار ويستعمل للتأثير في الجمهور العريض لذلك نراه حاضرا في المجالس الكبرى وفي فن الخطابة لانه قادر على التوجيه والتأثير والاستنفار و بث الوعي.

*تكتبين القصّة والخاطرة والمقال والشعر، فكيف تعيشين لحظة الكتابة وما هو المحدّد لها؟

للكتابة طقوس غريبة فهي تلحّ في أوقات ليست دوما معقولة، خاصة في الشعر، و كثيرا ما نسمع الشعراء يقولون بانهم يقطعون نومهم أو أكلهم أو أي شغل لهم ليسجلوا بيتا أو صدرا أو فكرة قبل أن ترحل عنهم الى ضباب النسيان...وللكتّاب الكبار في تاريخ الأدب عادات لا يحيدون عنها لاستقبال أفكارهم على الورق ، فمن روائيي القرن التاسع عشر بفرنسا من كان يكتب وهو يمشي بالغابة، ومنهم من كان ينعزل ببيته، أو بقصر عشيقته، أما كتاب القرن العشرين، فمنهم من كان ينعزل بغرفة صغيرة بجانب بيته وينقطع عن عائلته، مثل سيمنون Simenon صاحب سلسلة المفتش Megret، ومن كان يكتب بالمقهى، ومن كان ينعزل في جزيرة حتى يتم روايته، مثل أمين معلوف، ومن كتابنا العرب نذكر نادرة عن توفيق الحكيم الذي كان ينعزل في غرفة بسطح منزله ليكتب حتى أنه ليلة زفافه ترك عروسه تنتظر ونسيها إلى صبح اليوم الموالي في فستان الفرح...

أنا بكلّ تواضع لا أحتاج إلّا ركنا بالبيت أجلس به ويكون كما اتفق، حسب ما تسمح به مشاغلي العائلية، أحيانا بغرفة الجلوس، وأحيانا قرب المكتبة، وأحيانا بالمطبخ، أو بالحديقة...و كثيرا ما تحلو الكتابة على أنفاس النيام، في النصف الثاني من الليل، أو في ساعات الفجر.

في الحقيقة اخصص وقتا أكبر للقراءة، وكثيرا ما أكتب برأسي من فرط ما أؤجل فعل الكتابة حتى لكأنّي سأعيش قرنا آخر. وأكتب حسب مزاجي شعرا أو نثرا، وقد يرد بالعربية الفصحى، عشقي الأول، أو بالفرنسية التي أعشقها أيضا دون استلاب، ومنذ بضع سنوات تعلّقت بالشعر بالدارجة التي وجدت فيها تصالحا مريحا مع الذات وتعاملت معها بلا دونية واكتشفت أنه يمكن الإبداع فيها مثلها مثل الفصحى، و كان الفضل في تبلور تجربة الدارجة اطلاعي على بعض البحوث و سماعي لشعراء في الشعبي والمحكي وارتيادي لنادي الأدب الشعبي مع الباحث الشاعر علي سعيدان ومشاركتي في بعض الملتقيات بتونس والجزائر، طبعا كل هذا النشاط لا يكفي لأتجرّأ على الشعر بالعامية، لو لا ردود الفعل الإيجابية في المجالس و الشهادة لي بالموهبة، فكانت لي فيه ملحمة راس العين.

في كلّ ما كتبت وما أكتب من شعر أو قصّة أو خاطرة أو مقال نقدي، لم أكتب يوما عند الطّلب، بل باختياري دوما، لا يحدوني في ذلك غير روح الهواية والعشق للأدب بأصنافه.

*لست من الحريصات على الظهور في الملتقيات والمهرجانات الثقافية والأدبيّة، أيّ سرّ وراء ذلك؟

-أنا لست مقاطعة تماما للقاءات الأدب والثقافة ولا أنكر أنّ فيها ما هو ممتع أحيانا ومُجدٍ نسبيّا من حيث الحضور والمحتوى، و لاأنكر جهود القائمين عليها من مديري الدور ورؤساء النوادي فمنهم من يناضل حقا لضمان مستوى مشرف ومقبول رغم ما يشكو منه من قلة الدعم الذي يشتت الجهد ويؤثر على مستوى الجلسات. و لكن ضعف بعض النفوس. ينزل بها أحيانا إلى سوء التنظيم وانخرام العدل في المعاملة ، وتعلو أصوات التنديد ضد المحاباة للمرتادين الذي يحتاجون بعضهم ويتناسون الباقين وتسوء المعاملة حتى تصبح أحيانا مقرفة لا تليق بالمبدعين، و تصبح اللقاءات أقرب إلى موائد اللئام...و ما أقبح المجاملات في الوجه والضرب في الظهر، وتصل إلى تنكر الأصدقاء و الإهانة و الإقصاء إهانة لا يمسحها الزمن رغم التسامح و التجاوز...ليس لهذا خلق المبدع والفنان والشاعر والكاتب! و ليس بهذا نكون نخبة تستحق الاحترام. زد على ذلك أن هذه المجالس التي وجدت لاحتضان المبدعين، إذا أعطيناها أكثر من حجمها و تحولت إلى مقياس للنجاح ومصدرا للاعتراف به و بمجهوده، يصبح اخلالها في أداء دورها هذا خطرا على من يعوّل عليها من الكتاب، إذ ليست هي دائما بأياد أمينة وعقول ناضجة تقدر المسؤولية وتحسن المعاملة وقادرة على التسيير واحتواء ما يمكن أن يطرأ...بل أحيانا تضعف وتخضع لمنطق التصنيف ورد الفعل والانتقام و التقزيم. أعرف مِن الكتاب مّن ساءت حالته النفسية وتعاظم عنده الشعور

بالاضطهاد و دخل في دوامة التشكي و التذمر جرّاءها، وأعرف من هجر الكتابة لشعوره باللامبالاة...حمدا لله أن هذه المعاملات لا تعمم ولكنها للأسف موجودة، و ما على الكاتب إذا لاحظها إلّا أن ينسحب بشرف و ينكبّ على إبداعه الذي وحده يرفعه فوق الترهات

*قلت في تصريح سابق لك: " قسوتي على نفسي وراء ترددي في النشر"...هل مازالت هذه القسوة مسيطرة عليك، والدافع لقلّة إصداراتك؟

فعلا أنا قاسية على نفسي، لكني لست كارهة لهذا الموقف، بل متمسكة به كضمان لحد أدنى من الجودة احتراما لنفسي وللمتلقي.

أنا بدأت الكتابة باكرا لكني لم أخض تجربة النشر في الشباب، وكان لزاما عليّ أن احترم كهولتي حين فكرت في إصدار، فقد تجاوزت سنّ المغامرة والتجريب، ولو أن الكتابة تظل دوما تجريبا وقابلة للنقد والتقييم، ولا مجال لأفضلية نص على نص باعتبار سن كاتبه، فهناك نصوص لشباب بنضج وجماليات لافتة، والعكس بالعكس، كلّ ما في الأمر أن أنساق الكتابة والنشر متفاوتة عند الكتّاب، فنجد كتّابا أكثر غزارة من كتاب آخرين، أمّا التقييم فيتجاوز هذا الأمر ويبقى للنّاقد وللمتلقي، إذا توفّرا !...هذا الأمر يجرّنا إلى التفكّر في مواكبة النقد للكتاب، هل هي كافية عندنا؟..و أيضا للتفكّر في مسألة القارئ...هل نحن نقرأ؟...

يسعى الكتّاب إلى النشر إما على حسابهم، أو بعقد مع دور النشر، لكن ما هو مصير الكتاب بعد المطبعة؟..هل الكاتب المتكفل بكتابه قادر على توزيعه؟...هل دور النشر تقوم كلها بدورها على أحسن وجه في فتح مسالك لترويج الكتاب في الداخل وفي الخارج؟ هل اتحادات الكتّاب مضطلعة بدورها في احتضان الكتاب والإحاطة بهم ؟...هل هناك جهود كافية وناجعة؟...هل نحن المتشبثون بكليشيهات من قبيل " أمة اقرأ" قادرون على خلق قارئ يسعى إلى الكتاب، في وضع اقتصادي واجتماعي يشكو ضعفا وتقلبا؟...إذا كانت المقدرة الشرائية لدى المواطن محدودة، كيف التوصل إلى زرع ثقافة استهلاك الكتاب كضرورة لتوازن الشخصية ولتكوين الناشئة وحفظها من أنواع الانحرافات والادمانات الجديدة؟...من المتدخلون الحقيقيون: العائلة ؟ أم المدرسة؟ أم الإعلام؟ أم دور الثقافة؟ أم الناشرون والكتاب؟..أم كلّ هؤلاء؟

لا شكّ أن صناعة الكتاب مكلفة وخوض غمارها يعتبر مغامرة مجهولة المصير بالنسبة للكاتب والناشر أيضا...هل هناك مردودية تشجع على المواصلة؟..هل هناك استراتيجية لضمان صحّة هذا المجال واستمراريته، في ظروف معقولة، فنحن بعيدون سنين ضوئية عن واقع الكتاب في البلدان المتقدمة أين تصل نسب المبيعات في الكتب إلى أرقام خيالية، وتجد الكاتب يعيش من كتبه، لأن ثقافة القراءة متفشية ومتغلغلة في شرايين المجتمع، ومترسخة في عاداته وسلوكياته اليومية.

*إلى أيّ حدّ من وجهة نظرك يمكن اعتبار الفضاءات الافتراضية أسلوبا جيّدا في الإبداع ؟

تتميّز الكتابة في الفضاء الافتراضي عن الكتب بالظهور الفوري لردود الفعل لكنها تظلّ كالوجبات السريعة تسكت الجوع لحين وتخلّف نوعا من الإدمان لأنها مغرية وسهلة الوصول وكما تخلّف النشويات والمقليات والملح والزيوت بالأكلات السريعة السمنة وأعراض الكولستيرول، تخلّف كذلك المجاملات الزائدة رغم تفشي الأخطاء والسرقات الأدبية، بعض أعراض تضخم الذات والنرجسية مع هبوط المستوى. لكن هذا لا يمنع من أن الفضاء الأزرق ساهم في التعريف بالكتّاب بين بعضهم في البلد الواحد وبين الاقطار المختلفة وسهل التثاقف فصارت الملتقيات تنطلق من وسائل التعارف الاجتماعية إلى أرض الواقع وتقع الدعوات بين مدن البلاد وخارجها من بلاد المغرب العربي والبلدان العربية وتجاوزت هذه الوسائل حتى دور اتحادات الكتاب وأصبح الكتاب يتصلون ببعضهم ليقرؤوا لبعضهم و تصل هذه المعاملات إلى حد اعتماد بعض الأعمال للدراسات الجامعية من طرف الطلبة لنيل الشهائد العليا، في جامعات اجنبية. ورغم تقهقر "الفايسبوك" الا أن الكثير من الكتاب الراسخين يعتمدونه لبث بعض نصوصهم والتعريف بنشاطاتهم، كما يستعمل لدى المبتدئين وغير المبتدئين كورشة للكتابة اذ توجد منصّات جادة تستمع وتنقد وتوجه وتعرف بالكتّاب. كما أن "النت" يكون جلسات شعرية وأدبية متنوعة عن بعد بالصوت والصورة أو كتابة بالنسبة للأوفياء في مواعيد كتاباتهم على شاشة الفضاء الأزرق. بصفة عامة يمكن أن نقول أن لهذا للفضاء إمكانيات جمّة تفيد الكتّاب إذا حسن استعمالها.

*اتجهت في الفترة الأخيرة إلى الترجمة من خلال رواية عبد القادر بن الحاج نصر " حديقة لكسمبورغ"، ماذا تقولين عن هذه التجربة؟

كان لي شرف ترجمة رواية الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر "حديقة لكسمبورغ" وقد صدرت مؤخرا عن دار الوجيز للأدب. هذه الرواية السيرية فيها من السيرة الذاتية التصاقها بالأنا الكاتبة وبما عاشت من أحداث في فترة ما من حياتها وما زارت من أماكن، و من عرفت من أشخاص تعاملت معها، ذكرت بأسمائها...و لها من الرواية الصيغة التي وردت عليها وطريقة الطرح التي تسعى إلى الحبك والتشويق والتأثير باختيار المواقف ونهج الشعرية في كثير من المواضع. وقد جلبتني منذ تصفحتها عندما أهداني إياها، لِما حملت من معان سامية كالتضحية والوفاء والصداقة والتفاني والوطنية والإصرار، رغم المحن.

وقد برزت تلك المعاني في الحكي بسلاسة دون إعطاء دروس أخلاقية ولا تجميل مزيف ، بل بتعرية لما بالنفس من ضعف أحيانا وما يعتريها من حالات يأس وخوف وصبر وما تعرفه من خيبات و انتصارات. قصة إنسانية جدا بعيدة عن التهويمات وتصف واقعا مريرا كلل بنجاح.

ترجمة نص طويل إلى لغة مخالفة ناتجة عن ثقافة مختلفة... لغة لها ميكانيزماتها المغايرة للغة الأم أمر ليس هينا، لكن رغبتي في تحقيق تلك الترجمة كانت أكبر من الصعوبات التى يمكن أن ألقاها. وقد أمتعتني التجربة خاصة واني وجدت تشجيعا كبيرا من صاحب دار النشر الحديثة الذي حثني على اتمامها بعزم لتكون في افتتاح هذه الدار الجادة التى تكفلت به ووضعت ثقتها في وفي قيمة الكتاب.

*ما هو المحدد لاختيارك ترجمة رواية دون أخرى، وما هي تقنياتك المعتمدة في ذلك؟

-أنا لم أقم بنشر ترجمة كاملة قبل "حديقة لكسمبورغ" لكني لست حديثة عهد بالترجمة، فأنا كما سبق أن قلت قد اشتغلت سابقا على روايات تونسية كتبت بالعربية وكتبت عنها مقالات نقدية بجريدة La Presse واخترت تسعة عشرة عنوانا لروائيين مختلفين من تونس لتكون في كتاب Plumes de mon pays الصادر عن دار آفاق Perspectives للمرحوم فارس بو قرة ولا يخفى أن مثل هذا العمل يتطلب مجهود ترجمة جليّ في رأسي حين اشتغل عليه وعلى الورق. ثم لم اتوان عن ترجمة بعض النصوص لأصدقاء، كما شرعت في ترجمة رواية أخرى انقطعت عنها وقتيا وسأعود إليها بعد نشر عمل خاص بي. المقياس الذي أعتمده في اختيار ترجمة رواية على حساب أخرى هو ذاتي جدا..أنا لا أترجم عند الطلب لذا كلّ ما أريده هو أن يعجبني النص، و لو كنت لا اعرف صاحبه على ارض الواقع ولا سبق أن رأيته، وأن يمسّني و يحرّك مشاعري أو يثير أفكاري. أعمد في ترجمتي إلى أن أكون وفية للفكرة ولروح النص أكثر من الترجمة الحرفية، لكن هناك حدا أدنى للدنو من النص في صيغته الأصلية، كي لا احيد عنه.

أحيانا تعترضني صعوبات ككل مترجم يتعامل مع لغتين مختلفتين حضاريا وثقافيا، إذ نجد أحيانا أمثالا عربية أو جملا محلية لا اجد ما يطابقها بالفرنسية فألجأ إلى التوفيق بينها و بين ما أختار من زاد اللغة التي اترجم إليها..المهمّ أن أضع دوما صوب أعيني هدف ان لا أشوّه النص الأصلي ولا أخلّ بمعانيه.

 *كيف يمكن التوفيق بين الجمالية والأمانة في ترجمة النصوص الأدبية؟

كلّما كثرت الضوابط الفنية في النص الأصلي كلّما صعب نقلها بأمانة الى لغة أخرى، فالشعر المتقيد بالقافية وبالصدر والعجز مثلا يعسر ترجمته دون أن يفقد هذا الجانب الفني...نادرا ما ننجح في ذلك. فيكون الشعر النثري المتحرر من هذه القيود أقرب إلى المطابقة الى النص الأصلي عند ترجمته.

أما في القصة والرواية يعتبر التزام فنيات مثل السجع والإيقاع في الجمل أو أجزائها تكلفا لغويا أحيانا، إلا إذا كان موظفا في مقاطع، لذلك تكون ترجمة النصوص السردية أكثر انسيابا من النصوص الشعرية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكاتبة والشاعرة سلوى الراشدي لـ"الصباح":  تحدوني في كتاباتي روح الهواية والعشق للأدب بأصنافه

تونس-الصباح

رغم قلة الظهور في المحافل والملتقيات الأدبية والفكرية فإن نصوصها الشعرية والنثرية تكشف وتقدم لنا مبدعة استثنائية في بوحها الإبداعي الذي ينم عن روح عاشقة للأدب متيمة به إلى حد الانصهار الكلي في تفاصيله وأسراره.

اختارت عن قناعة وإيمان التحليق بنصوصها في الأفق الرحب بلا قيود وبكل حرية ولا ولاء لها في ذلك الا للصدق الشفاف في أجل وأبهى مظاهره، قدرها البحث عن جمال الوجود لصياغة قلعتها التي تستكين اليها.

سلوى الراشدي الشاعرة والكاتبة والناقدة اقتحمت منذ حوالي الشهر تجربة الترجمة من خلال رواية الكاتب الروائي الكبير عبد القادر بن الحاج نصر "حديقة لكسمبورغ " عن دار الأدب الوجيز اثراء لتجربة وتنويعا لتفاصيل قلعتها الإبداعية التي صاغتها من رحم النضال في صمت، وبعيدا عن الضجيج الذي لا طائل منه.

حاورها: محسن بن احمد

*أيّ دوافع كانت وراء اقتحامك عالم الكتابة؟

لعلّ أوّل دافع لدخول عالم الكتابة هو حبّ القراءة، أي حبّ المطالعة. وكما لا يخفى فإنّ الكتابة والقراءة هما في الأساس وجهان لعملة واحدة، وحبي للقراءة وبالتالي للكتاب نشأ معي في بيئتي الأولى، إذ كان والدي رحمه الله من رجال التعليم في بداية الاستقلال، في زمن كان يمجّد المعلّم و يُجلّه، و يعتبر المعرفة سلاحا مشهورا ضدّ الجهل والفقر والتّخلّف، وقد راهن عليه كبار الساسة فكان عند الزعيم بورقيبة من أهمّ ركائز بناء الدّولة لذا جعل التعليم وتعميمه من أوكد أولويّاته.

والدي نشّأني على حبّ القراءة، إذ كان بدوره شغوفا بها حتى أنني كنت كم مرّة أباغته يقرأ وقد أظلم فضاء الغرفة من حوله دون أن يشعر به فأشعل فانوس الضوء وأسأله كيف ترى يا أبي ما تقرأ؟ فيجيب بجملته المعهودة: إنّما تعمى البصائر ولا تعمى الأبصار...وكانت له مكتبة خاصّة بها عيون الكتب في الأدب القديم والحديث، وفي التاريخ والفقه والتفسير، ورغم أنه كان زيتونيّا آحادي التكوين إلّا أنّه كان يحببني في اللغات.

كانت نواة مكتبتي الأولى من الجوائز التي كنت أغنمها آخر السّنة، ومن هداياه لي...بعد ذلك، وفي المرحلة الثانويّة من تعلّمي، حظيت بأساتذة حببوني في اللغتين، عربية وفرنسيّة، وفتحوا عيوني، أنا ورفاقي من نفس الجيل على جميل الشعر والأدب في نصوص منتقاة تحفر في الذاكرة ولا تنسى، نصوص من الأدب العربي والفرنسي على السواء، فبل أن تتدهور برامج التعليم و تنزل إلى اعتماد نصوص عن وصفات المطبخ وما شابهها من الاهتمامات الضحلة محتوى وشكلا، وقد عشت في جهة مهمّشة نوعا ما، وفهم أهلها أنّ التعليم أهمّ سلّم للصّعود والإقلاع...وكان جيلي بصفة عامّة غير مشتت الاهتمامات، فكانت المعاهد و نوادي الشبيبة المدرسيّة من أهمّ وسائل التكوين والترفيه في آن.

الدّافع الثاني وراء اعتناق الكتابة هو اكتشاف متعة الآخر بما نكتب، و هذا الأمر دعاني تدريجيّا إلى توسيع حلقة المتلقّين لديّ على مدى سنوات إلى أن كبرت في رأسي فكرة اقتحام المغامرة بنشر ما أكتب في كتاب.

تحسّست متعة الكتابة ومشاركة الآخر في أحضان الصداقة والرفقة والأتراب، فكنّا نقرأ لبعضنا ونستمع لإنتاجاتنا وأحيانا نلجأ لأساتذتنا، إلى أن اجتزنا امتحان الباكالوريا.

خضت تجربة الصحافة لسنوات التسعينات، ثم خضت تجربة هامة مع صحيفة La Presse في ملحقها الأدبي:Lettres, arts et Pensée, حيث واظبت على تقديم قراءات نقدية لعدة روايات تونسية كتبها أصحابها بالعربية، وهنا بالذات بدأت تجربة الترجمة، وقد جمعت تلك القراءات في كتاب Plumes de mon pays نشره المرحوم الصديق فارس بوقرة بدار آفاقPerspectives .

و قد كان إنشائي مع ثلة من الأصدقاء الأدباء لناد أدبيّ بحمام الأنف وارتيادي لمجالس الأدب والثقافة في فترة ما بمثابة المحكّ والورشة التي طورت بلا شكّ لغتي وبلورت فكرة النشر لديّ.

الدافع الثالث الذي كان وراء اقتحامي هذا الميدان وشجعني أن أكون كاتبة، هو تعاظم قناعتي بأهميّة الحرف كسلاح توعويّ ونضالي ناجع في إيقاظ الضمائر والإحاطة بقضايا شعوبنا ومشاغلنا الذاتية والجماعية، وللتعبير عن همومنا وطموحاتنا وآمالنا، والانخراط في الحضارة الإنسانية من بابها الواسع وبصورة إيجابية فعّالة، من أجل أن نكون !

لقد ترسّخت قناعتي بأنّ الكتابة هي الأثر الباقي الذي يخترق الأزمان، ويجعل منّا علامة في التّاريخ، كما كان من قبل أجدادنا حاملين راية العلم والأدب للإنسانية جمعاء. فلإن كان بحر التاريخ يتقدّم أمواجا أمواجا، ونحن الآن في قعر الموج، فسيأتي زمن نعتليه بما نبني وما نترك للأجيال...

كنت ولازلت دوما أعي أنّ تجربتي مهما كانت متواضعة، سيكون لها شرف المحاولة وصدق النية في نفع البلاد والعباد !...أليس التّفاؤل قدر المبدعين؟!

 *كيف تنظرين إلى ذكرياتك القديمة مع أوّل نصّ إبداعي لك؟

أوّل نصّ إبداعي شاركت به في نادي القصة بالقصرين كان سني في الرابعة عشر مع تلاميذ أكبر مني سنا ومستوى وحزت جائزة تشجيعية اذكرها، متمثلة في رواية بوليسية من حجم كتاب الجيب...كانت رمزية جدا ولكن فعلها في قلبي الصغير كان سحريا وأكسبتني ثقة غريبة تلامس الغرور...وتتالت بعدها المحاولات في معهد الشابي مع صديقتي الشاعرة فوزية العلوي والمرحومة وسيلة عرفاوي وأخيها المرحوم علي العرفاوي صاحب الرائعة التلفزية بنت الخزاف، وفاطمة القاسمي وجلال الزريبي ومنصف العبيدي والحبيب النصراوي وغيرهم

*أيّ دور للقصيد في وجدان الشاعر؟ أو الشاعرة من وجهة نظرك ؟...هل هي قلعة الاحتماء، أم نافذة يطلّ منها على عوالمه السرّيّة والحميميّة؟

في الحالتين هناك ارتباط عميق بين الذات الشاعرة وتعبيرها، فالأنا متجلّية في الشعر سواء عبّرت عن ذاتها، أو عن الآخر، أو عن المحيط، دائما من خلالها هي، بحيث تكون منخرطة متلبسة بما تعبّر عنه، أو متبنية له بشدّة، فسواء عبّر الشاعر عن حالاته الشخصية الحميمة، أو تحدّث عن الآخر، أو عن النحن،

أن استعمالك لعبارتي "قلعة للإحتماء" ليس اعتباطا، بل فيهما إيحاء بأنّ الشاعر مستهدف، أو هو في وضع هش خارج القصيد. ولعلّ هذه الهشاشة مردّها إلى وجود هذا الرابط العضوي بين القائل ومقوله، إلى حدّ التعرية!. فعلا فإن الشعر من أكثر الفنون الفاصحة الفاضحة لدواخلنا ويتطلّب الكثير من الحريّة بل التحرّر ليكون. لذلك نحتاجه ونرتاح إلى سماعه، شعراء كنّا أم مجرّد محبين للشعر، فهو يقول ما نودّ ان نقوله ولا نقول، وهو في هذا أيضا نافذة تطلّ على عوالمنا السريّة والحميمية. الشعر يقولنا و يقول عنّا. والشعر يحمي نفسه بنفسه إذ يفلت من الأحكام الأخلاقوية ومن سلطات الهيمنة والرقابة المجتمعية بحصن من المجاز يترك له هامشا من المناعة بالامتناع. بينما محاربوه عادة ما تكون أسلحتهم اللغوية تعتمد المباشرة، وهنا نصل إلى مفهوم القلعة. قلعة من مجاز!

*ماهو الشعر في نظرك؟ و لمن تتوجّهين بقصائدك؟

الشعر في نظري، ذلك الصادر عن موهبة حقيقية، هو تركيبة مزدوجة بين الانفعالي الفطري، والإرادي الواعي...بين الطبيعي التلقائي، و ما هو صنعة واشتغال.

وعندما نتحدث عن موهبة، فإننا لا نعني بالضرورة أنه وحي يوحى ينزل علينا من السّماء فنصدّق بأنّ الشعراء أنبياء بعثوا برسالة يهومون في الأرض بشرا لا كالبشر، الموهبة من وجهة نظري مرتبطة بنوع من الذكاء الفطري يجعل الشاعر يحسّ ويعي ويستوعب حدود اللغة ومراميها بفطنة خاصّة أكثر وأسرع من غيرهم. وأرى أيضا أنّ تلك الموهبة تتربّى بالسماع والتقليد في البداية وتتهذب بالمعرفة والممارسة، إلى أن تتركز فتمرّ إلى الخلق والإبداع...وإن لم يقع كلّ ذلك فهي تمضي إلى التكرار والتبلّد والتآكل.

عندما قلت إنّ الشعر تعبيرة انفعالية فذلك لأنه غالبا ما يكون حالة مزاجيّة وليدة حاجة ملحة للتعبير، وتلك الحاجة تنتج كردة فعل عن وضع ما يعيشه الشاعر، يحدث له ضغطا نفسيا وحالات شعورية مثل حالات الحب والفقد والشوق والخوف والغضب والخيبة والثورة واليأس والانتظار...حالات تولّد لديه حتمية التعبير فيخرج بكمّ هائل من الأحاسيس ويكون بذلك الشعر موجّها بالأساس للذات التي تجد فيه متنفسا، ولقارئ ضمنيّ يقصده ثم لكلّ متلقّ واجد نفسه فيه.

الشعر أيضا تعبيرة فنيّة جماليّة واعية تخضع للذوق وتتطلب مهارة، وبقدر جودتها تغنم متلقيها وتختاره و تلامس ذوقه وتنميه فالشعر الجيّد يصنع جمهورا جيدا بالفعل.

و الشعر أخيرا حمّال معان و أفكار ويستعمل للتأثير في الجمهور العريض لذلك نراه حاضرا في المجالس الكبرى وفي فن الخطابة لانه قادر على التوجيه والتأثير والاستنفار و بث الوعي.

*تكتبين القصّة والخاطرة والمقال والشعر، فكيف تعيشين لحظة الكتابة وما هو المحدّد لها؟

للكتابة طقوس غريبة فهي تلحّ في أوقات ليست دوما معقولة، خاصة في الشعر، و كثيرا ما نسمع الشعراء يقولون بانهم يقطعون نومهم أو أكلهم أو أي شغل لهم ليسجلوا بيتا أو صدرا أو فكرة قبل أن ترحل عنهم الى ضباب النسيان...وللكتّاب الكبار في تاريخ الأدب عادات لا يحيدون عنها لاستقبال أفكارهم على الورق ، فمن روائيي القرن التاسع عشر بفرنسا من كان يكتب وهو يمشي بالغابة، ومنهم من كان ينعزل ببيته، أو بقصر عشيقته، أما كتاب القرن العشرين، فمنهم من كان ينعزل بغرفة صغيرة بجانب بيته وينقطع عن عائلته، مثل سيمنون Simenon صاحب سلسلة المفتش Megret، ومن كان يكتب بالمقهى، ومن كان ينعزل في جزيرة حتى يتم روايته، مثل أمين معلوف، ومن كتابنا العرب نذكر نادرة عن توفيق الحكيم الذي كان ينعزل في غرفة بسطح منزله ليكتب حتى أنه ليلة زفافه ترك عروسه تنتظر ونسيها إلى صبح اليوم الموالي في فستان الفرح...

أنا بكلّ تواضع لا أحتاج إلّا ركنا بالبيت أجلس به ويكون كما اتفق، حسب ما تسمح به مشاغلي العائلية، أحيانا بغرفة الجلوس، وأحيانا قرب المكتبة، وأحيانا بالمطبخ، أو بالحديقة...و كثيرا ما تحلو الكتابة على أنفاس النيام، في النصف الثاني من الليل، أو في ساعات الفجر.

في الحقيقة اخصص وقتا أكبر للقراءة، وكثيرا ما أكتب برأسي من فرط ما أؤجل فعل الكتابة حتى لكأنّي سأعيش قرنا آخر. وأكتب حسب مزاجي شعرا أو نثرا، وقد يرد بالعربية الفصحى، عشقي الأول، أو بالفرنسية التي أعشقها أيضا دون استلاب، ومنذ بضع سنوات تعلّقت بالشعر بالدارجة التي وجدت فيها تصالحا مريحا مع الذات وتعاملت معها بلا دونية واكتشفت أنه يمكن الإبداع فيها مثلها مثل الفصحى، و كان الفضل في تبلور تجربة الدارجة اطلاعي على بعض البحوث و سماعي لشعراء في الشعبي والمحكي وارتيادي لنادي الأدب الشعبي مع الباحث الشاعر علي سعيدان ومشاركتي في بعض الملتقيات بتونس والجزائر، طبعا كل هذا النشاط لا يكفي لأتجرّأ على الشعر بالعامية، لو لا ردود الفعل الإيجابية في المجالس و الشهادة لي بالموهبة، فكانت لي فيه ملحمة راس العين.

في كلّ ما كتبت وما أكتب من شعر أو قصّة أو خاطرة أو مقال نقدي، لم أكتب يوما عند الطّلب، بل باختياري دوما، لا يحدوني في ذلك غير روح الهواية والعشق للأدب بأصنافه.

*لست من الحريصات على الظهور في الملتقيات والمهرجانات الثقافية والأدبيّة، أيّ سرّ وراء ذلك؟

-أنا لست مقاطعة تماما للقاءات الأدب والثقافة ولا أنكر أنّ فيها ما هو ممتع أحيانا ومُجدٍ نسبيّا من حيث الحضور والمحتوى، و لاأنكر جهود القائمين عليها من مديري الدور ورؤساء النوادي فمنهم من يناضل حقا لضمان مستوى مشرف ومقبول رغم ما يشكو منه من قلة الدعم الذي يشتت الجهد ويؤثر على مستوى الجلسات. و لكن ضعف بعض النفوس. ينزل بها أحيانا إلى سوء التنظيم وانخرام العدل في المعاملة ، وتعلو أصوات التنديد ضد المحاباة للمرتادين الذي يحتاجون بعضهم ويتناسون الباقين وتسوء المعاملة حتى تصبح أحيانا مقرفة لا تليق بالمبدعين، و تصبح اللقاءات أقرب إلى موائد اللئام...و ما أقبح المجاملات في الوجه والضرب في الظهر، وتصل إلى تنكر الأصدقاء و الإهانة و الإقصاء إهانة لا يمسحها الزمن رغم التسامح و التجاوز...ليس لهذا خلق المبدع والفنان والشاعر والكاتب! و ليس بهذا نكون نخبة تستحق الاحترام. زد على ذلك أن هذه المجالس التي وجدت لاحتضان المبدعين، إذا أعطيناها أكثر من حجمها و تحولت إلى مقياس للنجاح ومصدرا للاعتراف به و بمجهوده، يصبح اخلالها في أداء دورها هذا خطرا على من يعوّل عليها من الكتاب، إذ ليست هي دائما بأياد أمينة وعقول ناضجة تقدر المسؤولية وتحسن المعاملة وقادرة على التسيير واحتواء ما يمكن أن يطرأ...بل أحيانا تضعف وتخضع لمنطق التصنيف ورد الفعل والانتقام و التقزيم. أعرف مِن الكتاب مّن ساءت حالته النفسية وتعاظم عنده الشعور

بالاضطهاد و دخل في دوامة التشكي و التذمر جرّاءها، وأعرف من هجر الكتابة لشعوره باللامبالاة...حمدا لله أن هذه المعاملات لا تعمم ولكنها للأسف موجودة، و ما على الكاتب إذا لاحظها إلّا أن ينسحب بشرف و ينكبّ على إبداعه الذي وحده يرفعه فوق الترهات

*قلت في تصريح سابق لك: " قسوتي على نفسي وراء ترددي في النشر"...هل مازالت هذه القسوة مسيطرة عليك، والدافع لقلّة إصداراتك؟

فعلا أنا قاسية على نفسي، لكني لست كارهة لهذا الموقف، بل متمسكة به كضمان لحد أدنى من الجودة احتراما لنفسي وللمتلقي.

أنا بدأت الكتابة باكرا لكني لم أخض تجربة النشر في الشباب، وكان لزاما عليّ أن احترم كهولتي حين فكرت في إصدار، فقد تجاوزت سنّ المغامرة والتجريب، ولو أن الكتابة تظل دوما تجريبا وقابلة للنقد والتقييم، ولا مجال لأفضلية نص على نص باعتبار سن كاتبه، فهناك نصوص لشباب بنضج وجماليات لافتة، والعكس بالعكس، كلّ ما في الأمر أن أنساق الكتابة والنشر متفاوتة عند الكتّاب، فنجد كتّابا أكثر غزارة من كتاب آخرين، أمّا التقييم فيتجاوز هذا الأمر ويبقى للنّاقد وللمتلقي، إذا توفّرا !...هذا الأمر يجرّنا إلى التفكّر في مواكبة النقد للكتاب، هل هي كافية عندنا؟..و أيضا للتفكّر في مسألة القارئ...هل نحن نقرأ؟...

يسعى الكتّاب إلى النشر إما على حسابهم، أو بعقد مع دور النشر، لكن ما هو مصير الكتاب بعد المطبعة؟..هل الكاتب المتكفل بكتابه قادر على توزيعه؟...هل دور النشر تقوم كلها بدورها على أحسن وجه في فتح مسالك لترويج الكتاب في الداخل وفي الخارج؟ هل اتحادات الكتّاب مضطلعة بدورها في احتضان الكتاب والإحاطة بهم ؟...هل هناك جهود كافية وناجعة؟...هل نحن المتشبثون بكليشيهات من قبيل " أمة اقرأ" قادرون على خلق قارئ يسعى إلى الكتاب، في وضع اقتصادي واجتماعي يشكو ضعفا وتقلبا؟...إذا كانت المقدرة الشرائية لدى المواطن محدودة، كيف التوصل إلى زرع ثقافة استهلاك الكتاب كضرورة لتوازن الشخصية ولتكوين الناشئة وحفظها من أنواع الانحرافات والادمانات الجديدة؟...من المتدخلون الحقيقيون: العائلة ؟ أم المدرسة؟ أم الإعلام؟ أم دور الثقافة؟ أم الناشرون والكتاب؟..أم كلّ هؤلاء؟

لا شكّ أن صناعة الكتاب مكلفة وخوض غمارها يعتبر مغامرة مجهولة المصير بالنسبة للكاتب والناشر أيضا...هل هناك مردودية تشجع على المواصلة؟..هل هناك استراتيجية لضمان صحّة هذا المجال واستمراريته، في ظروف معقولة، فنحن بعيدون سنين ضوئية عن واقع الكتاب في البلدان المتقدمة أين تصل نسب المبيعات في الكتب إلى أرقام خيالية، وتجد الكاتب يعيش من كتبه، لأن ثقافة القراءة متفشية ومتغلغلة في شرايين المجتمع، ومترسخة في عاداته وسلوكياته اليومية.

*إلى أيّ حدّ من وجهة نظرك يمكن اعتبار الفضاءات الافتراضية أسلوبا جيّدا في الإبداع ؟

تتميّز الكتابة في الفضاء الافتراضي عن الكتب بالظهور الفوري لردود الفعل لكنها تظلّ كالوجبات السريعة تسكت الجوع لحين وتخلّف نوعا من الإدمان لأنها مغرية وسهلة الوصول وكما تخلّف النشويات والمقليات والملح والزيوت بالأكلات السريعة السمنة وأعراض الكولستيرول، تخلّف كذلك المجاملات الزائدة رغم تفشي الأخطاء والسرقات الأدبية، بعض أعراض تضخم الذات والنرجسية مع هبوط المستوى. لكن هذا لا يمنع من أن الفضاء الأزرق ساهم في التعريف بالكتّاب بين بعضهم في البلد الواحد وبين الاقطار المختلفة وسهل التثاقف فصارت الملتقيات تنطلق من وسائل التعارف الاجتماعية إلى أرض الواقع وتقع الدعوات بين مدن البلاد وخارجها من بلاد المغرب العربي والبلدان العربية وتجاوزت هذه الوسائل حتى دور اتحادات الكتاب وأصبح الكتاب يتصلون ببعضهم ليقرؤوا لبعضهم و تصل هذه المعاملات إلى حد اعتماد بعض الأعمال للدراسات الجامعية من طرف الطلبة لنيل الشهائد العليا، في جامعات اجنبية. ورغم تقهقر "الفايسبوك" الا أن الكثير من الكتاب الراسخين يعتمدونه لبث بعض نصوصهم والتعريف بنشاطاتهم، كما يستعمل لدى المبتدئين وغير المبتدئين كورشة للكتابة اذ توجد منصّات جادة تستمع وتنقد وتوجه وتعرف بالكتّاب. كما أن "النت" يكون جلسات شعرية وأدبية متنوعة عن بعد بالصوت والصورة أو كتابة بالنسبة للأوفياء في مواعيد كتاباتهم على شاشة الفضاء الأزرق. بصفة عامة يمكن أن نقول أن لهذا للفضاء إمكانيات جمّة تفيد الكتّاب إذا حسن استعمالها.

*اتجهت في الفترة الأخيرة إلى الترجمة من خلال رواية عبد القادر بن الحاج نصر " حديقة لكسمبورغ"، ماذا تقولين عن هذه التجربة؟

كان لي شرف ترجمة رواية الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر "حديقة لكسمبورغ" وقد صدرت مؤخرا عن دار الوجيز للأدب. هذه الرواية السيرية فيها من السيرة الذاتية التصاقها بالأنا الكاتبة وبما عاشت من أحداث في فترة ما من حياتها وما زارت من أماكن، و من عرفت من أشخاص تعاملت معها، ذكرت بأسمائها...و لها من الرواية الصيغة التي وردت عليها وطريقة الطرح التي تسعى إلى الحبك والتشويق والتأثير باختيار المواقف ونهج الشعرية في كثير من المواضع. وقد جلبتني منذ تصفحتها عندما أهداني إياها، لِما حملت من معان سامية كالتضحية والوفاء والصداقة والتفاني والوطنية والإصرار، رغم المحن.

وقد برزت تلك المعاني في الحكي بسلاسة دون إعطاء دروس أخلاقية ولا تجميل مزيف ، بل بتعرية لما بالنفس من ضعف أحيانا وما يعتريها من حالات يأس وخوف وصبر وما تعرفه من خيبات و انتصارات. قصة إنسانية جدا بعيدة عن التهويمات وتصف واقعا مريرا كلل بنجاح.

ترجمة نص طويل إلى لغة مخالفة ناتجة عن ثقافة مختلفة... لغة لها ميكانيزماتها المغايرة للغة الأم أمر ليس هينا، لكن رغبتي في تحقيق تلك الترجمة كانت أكبر من الصعوبات التى يمكن أن ألقاها. وقد أمتعتني التجربة خاصة واني وجدت تشجيعا كبيرا من صاحب دار النشر الحديثة الذي حثني على اتمامها بعزم لتكون في افتتاح هذه الدار الجادة التى تكفلت به ووضعت ثقتها في وفي قيمة الكتاب.

*ما هو المحدد لاختيارك ترجمة رواية دون أخرى، وما هي تقنياتك المعتمدة في ذلك؟

-أنا لم أقم بنشر ترجمة كاملة قبل "حديقة لكسمبورغ" لكني لست حديثة عهد بالترجمة، فأنا كما سبق أن قلت قد اشتغلت سابقا على روايات تونسية كتبت بالعربية وكتبت عنها مقالات نقدية بجريدة La Presse واخترت تسعة عشرة عنوانا لروائيين مختلفين من تونس لتكون في كتاب Plumes de mon pays الصادر عن دار آفاق Perspectives للمرحوم فارس بو قرة ولا يخفى أن مثل هذا العمل يتطلب مجهود ترجمة جليّ في رأسي حين اشتغل عليه وعلى الورق. ثم لم اتوان عن ترجمة بعض النصوص لأصدقاء، كما شرعت في ترجمة رواية أخرى انقطعت عنها وقتيا وسأعود إليها بعد نشر عمل خاص بي. المقياس الذي أعتمده في اختيار ترجمة رواية على حساب أخرى هو ذاتي جدا..أنا لا أترجم عند الطلب لذا كلّ ما أريده هو أن يعجبني النص، و لو كنت لا اعرف صاحبه على ارض الواقع ولا سبق أن رأيته، وأن يمسّني و يحرّك مشاعري أو يثير أفكاري. أعمد في ترجمتي إلى أن أكون وفية للفكرة ولروح النص أكثر من الترجمة الحرفية، لكن هناك حدا أدنى للدنو من النص في صيغته الأصلية، كي لا احيد عنه.

أحيانا تعترضني صعوبات ككل مترجم يتعامل مع لغتين مختلفتين حضاريا وثقافيا، إذ نجد أحيانا أمثالا عربية أو جملا محلية لا اجد ما يطابقها بالفرنسية فألجأ إلى التوفيق بينها و بين ما أختار من زاد اللغة التي اترجم إليها..المهمّ أن أضع دوما صوب أعيني هدف ان لا أشوّه النص الأصلي ولا أخلّ بمعانيه.

 *كيف يمكن التوفيق بين الجمالية والأمانة في ترجمة النصوص الأدبية؟

كلّما كثرت الضوابط الفنية في النص الأصلي كلّما صعب نقلها بأمانة الى لغة أخرى، فالشعر المتقيد بالقافية وبالصدر والعجز مثلا يعسر ترجمته دون أن يفقد هذا الجانب الفني...نادرا ما ننجح في ذلك. فيكون الشعر النثري المتحرر من هذه القيود أقرب إلى المطابقة الى النص الأصلي عند ترجمته.

أما في القصة والرواية يعتبر التزام فنيات مثل السجع والإيقاع في الجمل أو أجزائها تكلفا لغويا أحيانا، إلا إذا كان موظفا في مقاطع، لذلك تكون ترجمة النصوص السردية أكثر انسيابا من النصوص الشعرية.