" الاسم على الاسم وربّي يجيب القسم " بهذا المثل الشّعبيّ أردت أن استهلّ مداخلتي في قراءة أوّليّة شاملة لديوان الشّعرالشّعبي "هذا كلام في الرّيح «للشّاعر الطّبيب الأديب "المولدي فرّوج".
بهذه المجموعة الشّعريّة، كان للشّاعر موعد مع ضرب من ضروب الشّعر المحدود التّداول والجمهور، وهو الشّعر الشّعبي العامّي ذلك أنّ الكثيرين من المتابعين للحركة الشّعريّة عموما، لا يهتمّون كثيرا لذلك النّوع ، ولا أخفي سرّاً فقد كنت أنا أيضا من هؤلاء الذين لا يستهويهم كثيرا ذلك الصّنف من الأشعار، وأسباب ذلك العزوف متعدّدة ولا يتّسع المجال الآن للخوض فيها، ولكنّ الفضول دفعني هذه المرّة لاقتحام النّصوص الشّعريّة الشّعبيّة التّونسيّة لشاعرنا "المولدي فرّوج "، خصوصا وأنّ كتاباته السّابقة وتجربته الطّويلة والغزيرة مع الأدب وتفرّعاته في كلّ المجالات من شعر ورواية ومسرح وسيناريو وترجمة وتراجم ومقال سياسيّ وثقافي هي مختلفة عن هذه السّابقة، وهي تجربة غنيّة تتّسم بالمستوى الرّفيع وقوّة البلاغة ولا غرابة في ذلك فهو من عمالقة الأدب والفنّ في البلاد، لذلك وجدتني مدفوعا للاطّلاع عمّا جادت به قريحته في هذا الميدان. وبتصفّح الكتاب تبيّن أنّها مجموعة شعريّة باللّهجة التونسية المهذّبة، كما أنّها تجربة فريدة من نوعها وهي نشر الشّعر ورقيّا وصوتيّا في آن واحد، إذ " تحمل كل قصيدة رابطا (Code QR ) يحيل القارئ مباشرة عبر هاتفه النّقّال إلى سماع القصيد بصوت صاحبه عن طريق "اليوتيوب." وبذلك يتمكّن الانسان من الجمع بين متعة القراءة والسّماع إلى القصيد بصوت الشّاعر في آن واحد مع موسيقى مصاحبة، وهو ما يعطي للقصيد جماليّة ورونقا وعمقا كما يمكّن القارئ من الإبحار قلبا وقالبا في روح المقاطع الشعريّة، من خلال المؤثّرات المصاحبة.
في الحقيقة فإنّ الشّعر الشّعبي ليس غريبا عن الشّاعر خاصّة و أنّه أصيل "البرادعة " الجميلة من ولاية المهديّة هذه القرية الرّيفيّة الهادئة التي "بدأت الحياة تدبّ فيها وتأخذ شكلا آخر وتعطي طعما ألذّ"، حسب ماورد في كتابه "البرادعة في التاريخ والذّاكرة " في البرادعة نهل شاعرنا من التّراث الشّعبي الرّيفي بكلّ ألوانه وتمظهراته وتجلّياته، ممّا جعله يدخل غمار ملاحم الشّعر العامّي منذ عقود، وفي هذا الإطار فقد نظم عدّة قصائد في مواضيع مختلفة لعلّ أقدمها حسب ما ورد في الدّيوان تعود إلى سنة (1981)،وهو قصيد "ريبيرا " بايطاليا وفيها دوّن تجربته في الهجرة إضافة إلى ما يتعلّق بمعاناة المهاجرين في الغربة من سوء المعاملة والحرمان والاحتقار، ثمّ تنوّعت المواضيع بعد ذلك وشملت تقريبا جلّ المجالات الاجتماعيّة، ولامست الجوانب الإنسانية السّلوكيّة والعاطفيّة، وقد وجدت صدى كبيرا واهتماما واسعا لا سيّما عند الفنّان "محمّد بحر" الذي لحّن بعض تلك القصائد وغنّاها بصوته، كما تُعدّ أغلب قصائد الدّيوان محطّات تؤرّخ لفترات من حياة الشّاعر وتجاربه السّابقة، كما تؤرّخ أيضا لأحداث عاشتها تونس
منذ ثمانينات القرن الماضي وصولا إلى الأحداث الآنيّة، ممّا حدا بالشّاعر إلى تخليد مسيرته الشّعريّة الشّعبيّة في ديوان "كلام في الرّيح" الذي يُمكن أن يرتقي إلى مصافّ المراجع التّاريخيّة فجمّع ما جادت به قريحته من أشعار سابقة ولاحقة، فكانت مجموعة شعريّة، تحمل زخما كبيرا وكمّا هائلا من المقاصد والدّلالات والاختلاجات، وهي حبلى بالمعاني الغزيرة التي تنمّ عن شخصيّة متشبّعة بالقيم النّبيلة المتجذّرة في موطنها ووطنها، المتأصّلة في جذورها وأصالتها، المتشبّعة بهوّيتها وانتمائها، ويبدو ذلك جليّا منذ البداية حيث أنّ الغلاف مُوشّح بلوحة فنّيّة رائعة بألوان متناسقة، اختزل فيها الشّاعر قيمة التّراث الشّعبي وأجلّيته من خلال مشهد يمثّل رجلا يقف على قمّة وهو يرتدي إزارا تقليديّا مع شاشية حمراء على الرّأس، وهو يفتح ذراعيه للفضاء الرّحب اللّامتناهي في محيط جبليّ، وهو ما يؤشّر على سموّ الإرث التقليديّ عموما برموزه وثقافته ومعجمه وتحليقه عاليا معانقا الرّيح في قوّتها وصفائها، ويعلو ذلك المشهد العنوان الذي كًتب بخطّ غليظ متموّج ،وهو في ذات الوقت مطلع لقصيد يتوسّط الكتاب بل ربّما كان ذلك القصيد لبّ الدّيوان وقلبه النّابض ومحوره السّامق، حيث تتفجّر فيه البراعة اللغويّة للشّاعر، وتتفتّق مواهبه وتتدفّق المعاني لتؤكّد المامه الكبير بالمعجم الشّعبيّ العاميّ، بأسلوب سلس رقراق واضح بعيد عن المقارعات والمغالاة التي عُرفت بها بعض الأنماط من الشّعر الشّعبيّ عموما، بعيدا كذلك عن الإسراف اللّغوي وتكليف العبارة ما لا تحتمل ، وبذلك جنح الشّاعر إلى تبسيط الجمل الشّعريّة تبسيطا حلوا شيّقا بما يُمكّن الجميع بمختلف مستوياتهم من إدراك المعاني وفهم المقاصد في جوّ من الذّوق الرّفيع ورشاقة الأمثلة والمقامات، من خلال مقاطع جميلة النّظم عذبة الكلمة رفيعة الذّوق :
ثمـــة كلام كالنّسمة يهبّ فوق جــــبيـــــــنك
ثمـــة كلام الحشمة في كل وقت يزيــــــــنك
وثمــــة كلام الغمة من غير ذنب يديــــــــنك
وثمـــة كلام للنغمة ترقيـــــــص دون طرب
وثمـــــة كلام القمة مخصوص بالعرب الريح
في تلك المقاطع تظهر جليّا سلاسة الكلام وانسيابه انسيابا رائقا مع صدق العبارة ووضوحها، وهو ما يدلّ دلالة قطعيّة على تجذّر الشّاعر في واقعه، وإدراكه العميق لإكراهاته وتمكّنه بكلّ حرفيّة واقتدار من صياغة جمل فائقة الدّقّة في تمحيص الواقع وتحليل العلاقات الاجتماعيّة بل لعلّه يرتقي بتلك الجمل إلى مصافّ المصلحين والمرشدين والنّاصحين للجميع بالتّحلّي بالأخلاق الفاضلة، وترك الخداع والأنانيّة ونبذ العنف وبذلك يخرج الشّاعر من جلباب النّاقد والنّاقل، ليلبس جلباب المصلح الدّاعي إلى السّلم ونبذ العنف والترفّع عن الأنانيّة وحبّ الذّات، وتجاوز الخلافات والتّرفّع عن المهاترات التي تضرّ بالبلاد والعباد:
ما تضربوش بلادي
وما تخربوش العش، ليه اولادي
قولوا شبيه الطّقس جايْ رمادي
والشمس تطلع كل يوم بحال
ها الأرض فدّت من كلام الصّادي
ونادت عليكم: متين تبدوا
ولا يخفي الشّاعر انشغاله الشّديد بالأوضاع السّائدة في البلاد، وتبرّمه ممّا اعترى البلاد من وهن وضعف، معبّرا عن آلامه العميقة من سوء تصرّف السّاسة، وانشغالهم عن قضايا النّاس، مع تبنّيه وانحيازه الكامل لشعبه باعتناقه لمشاكل مجتمعه، ومسايرته للمتغّيّرات الحاصلة في وطنه، كذلك غيرته عليه وحبّه الشّديد له، وتشريحه الدّقيق للأوضاع السّائدة بما يكتنفها من صراعات وتطاحنات على السّلطة والمال والجاه:
تونس قدرها تشلّك
وخيالها بين الثنايا طروف
ما بين طلق الصّرف والحنيّك
تمشي لتالي والحزام مرخوف
لا عاد تنفع زكرتك يا بريّك
ولم يفوّت الشّاعر الفرصة في نفس الوقت بالتغنّي بتونس " خضراء "، مبرزا عشقه لها وتعلّقه غير المحدود ببلاده، وتجذّره في ترابها فانطلق يثني على محاسنها، ويتجوّل في أرجائها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، معدّدا خيراتها وأفضالها ومناطقها بتضاريسها وجبالها وأنهارها وبحارها وجزرها وأشجارها ونخيلها وآثارها...ولم يغفل تقريبا عن ذكر أيّ منطقة من البلاد ومميزاتها وخصوصياتها، طبعا دون أن ينسى " البرادعة " مسقط رأسه وكذلك مدينة "المهديّة " التي يكنّ لها حنينا خاصّا ببحرها ومنارتها " النّاظور"، وصيّاديها كلّ ذلك بأسلوب شيّق وبلغة ثريّة شديدة التأثير بالغة المعاني تتأرجح بين مشاعر واختلاجات فيها الكثير من اللّوعة والحرقة والنّوستالجيا والأمل والعشق والحيرة والحبّ والجمال .... في الجملة، هو ديوان استطاع الشّاعر أن يبنيه بإحكام واقتدار، بتوظيف اللّفظ المناسب في المكان المناسب للمعنى المناسب فهو بذلك جدير بالقراءة والتّمحيص وسبر أغواره وذلك هو مبتغانا في قادم الأيّام إن شاء الله .....
بقلم الناقد: المولدي عــزّوز
تونس-الصباح
" الاسم على الاسم وربّي يجيب القسم " بهذا المثل الشّعبيّ أردت أن استهلّ مداخلتي في قراءة أوّليّة شاملة لديوان الشّعرالشّعبي "هذا كلام في الرّيح «للشّاعر الطّبيب الأديب "المولدي فرّوج".
بهذه المجموعة الشّعريّة، كان للشّاعر موعد مع ضرب من ضروب الشّعر المحدود التّداول والجمهور، وهو الشّعر الشّعبي العامّي ذلك أنّ الكثيرين من المتابعين للحركة الشّعريّة عموما، لا يهتمّون كثيرا لذلك النّوع ، ولا أخفي سرّاً فقد كنت أنا أيضا من هؤلاء الذين لا يستهويهم كثيرا ذلك الصّنف من الأشعار، وأسباب ذلك العزوف متعدّدة ولا يتّسع المجال الآن للخوض فيها، ولكنّ الفضول دفعني هذه المرّة لاقتحام النّصوص الشّعريّة الشّعبيّة التّونسيّة لشاعرنا "المولدي فرّوج "، خصوصا وأنّ كتاباته السّابقة وتجربته الطّويلة والغزيرة مع الأدب وتفرّعاته في كلّ المجالات من شعر ورواية ومسرح وسيناريو وترجمة وتراجم ومقال سياسيّ وثقافي هي مختلفة عن هذه السّابقة، وهي تجربة غنيّة تتّسم بالمستوى الرّفيع وقوّة البلاغة ولا غرابة في ذلك فهو من عمالقة الأدب والفنّ في البلاد، لذلك وجدتني مدفوعا للاطّلاع عمّا جادت به قريحته في هذا الميدان. وبتصفّح الكتاب تبيّن أنّها مجموعة شعريّة باللّهجة التونسية المهذّبة، كما أنّها تجربة فريدة من نوعها وهي نشر الشّعر ورقيّا وصوتيّا في آن واحد، إذ " تحمل كل قصيدة رابطا (Code QR ) يحيل القارئ مباشرة عبر هاتفه النّقّال إلى سماع القصيد بصوت صاحبه عن طريق "اليوتيوب." وبذلك يتمكّن الانسان من الجمع بين متعة القراءة والسّماع إلى القصيد بصوت الشّاعر في آن واحد مع موسيقى مصاحبة، وهو ما يعطي للقصيد جماليّة ورونقا وعمقا كما يمكّن القارئ من الإبحار قلبا وقالبا في روح المقاطع الشعريّة، من خلال المؤثّرات المصاحبة.
في الحقيقة فإنّ الشّعر الشّعبي ليس غريبا عن الشّاعر خاصّة و أنّه أصيل "البرادعة " الجميلة من ولاية المهديّة هذه القرية الرّيفيّة الهادئة التي "بدأت الحياة تدبّ فيها وتأخذ شكلا آخر وتعطي طعما ألذّ"، حسب ماورد في كتابه "البرادعة في التاريخ والذّاكرة " في البرادعة نهل شاعرنا من التّراث الشّعبي الرّيفي بكلّ ألوانه وتمظهراته وتجلّياته، ممّا جعله يدخل غمار ملاحم الشّعر العامّي منذ عقود، وفي هذا الإطار فقد نظم عدّة قصائد في مواضيع مختلفة لعلّ أقدمها حسب ما ورد في الدّيوان تعود إلى سنة (1981)،وهو قصيد "ريبيرا " بايطاليا وفيها دوّن تجربته في الهجرة إضافة إلى ما يتعلّق بمعاناة المهاجرين في الغربة من سوء المعاملة والحرمان والاحتقار، ثمّ تنوّعت المواضيع بعد ذلك وشملت تقريبا جلّ المجالات الاجتماعيّة، ولامست الجوانب الإنسانية السّلوكيّة والعاطفيّة، وقد وجدت صدى كبيرا واهتماما واسعا لا سيّما عند الفنّان "محمّد بحر" الذي لحّن بعض تلك القصائد وغنّاها بصوته، كما تُعدّ أغلب قصائد الدّيوان محطّات تؤرّخ لفترات من حياة الشّاعر وتجاربه السّابقة، كما تؤرّخ أيضا لأحداث عاشتها تونس
منذ ثمانينات القرن الماضي وصولا إلى الأحداث الآنيّة، ممّا حدا بالشّاعر إلى تخليد مسيرته الشّعريّة الشّعبيّة في ديوان "كلام في الرّيح" الذي يُمكن أن يرتقي إلى مصافّ المراجع التّاريخيّة فجمّع ما جادت به قريحته من أشعار سابقة ولاحقة، فكانت مجموعة شعريّة، تحمل زخما كبيرا وكمّا هائلا من المقاصد والدّلالات والاختلاجات، وهي حبلى بالمعاني الغزيرة التي تنمّ عن شخصيّة متشبّعة بالقيم النّبيلة المتجذّرة في موطنها ووطنها، المتأصّلة في جذورها وأصالتها، المتشبّعة بهوّيتها وانتمائها، ويبدو ذلك جليّا منذ البداية حيث أنّ الغلاف مُوشّح بلوحة فنّيّة رائعة بألوان متناسقة، اختزل فيها الشّاعر قيمة التّراث الشّعبي وأجلّيته من خلال مشهد يمثّل رجلا يقف على قمّة وهو يرتدي إزارا تقليديّا مع شاشية حمراء على الرّأس، وهو يفتح ذراعيه للفضاء الرّحب اللّامتناهي في محيط جبليّ، وهو ما يؤشّر على سموّ الإرث التقليديّ عموما برموزه وثقافته ومعجمه وتحليقه عاليا معانقا الرّيح في قوّتها وصفائها، ويعلو ذلك المشهد العنوان الذي كًتب بخطّ غليظ متموّج ،وهو في ذات الوقت مطلع لقصيد يتوسّط الكتاب بل ربّما كان ذلك القصيد لبّ الدّيوان وقلبه النّابض ومحوره السّامق، حيث تتفجّر فيه البراعة اللغويّة للشّاعر، وتتفتّق مواهبه وتتدفّق المعاني لتؤكّد المامه الكبير بالمعجم الشّعبيّ العاميّ، بأسلوب سلس رقراق واضح بعيد عن المقارعات والمغالاة التي عُرفت بها بعض الأنماط من الشّعر الشّعبيّ عموما، بعيدا كذلك عن الإسراف اللّغوي وتكليف العبارة ما لا تحتمل ، وبذلك جنح الشّاعر إلى تبسيط الجمل الشّعريّة تبسيطا حلوا شيّقا بما يُمكّن الجميع بمختلف مستوياتهم من إدراك المعاني وفهم المقاصد في جوّ من الذّوق الرّفيع ورشاقة الأمثلة والمقامات، من خلال مقاطع جميلة النّظم عذبة الكلمة رفيعة الذّوق :
ثمـــة كلام كالنّسمة يهبّ فوق جــــبيـــــــنك
ثمـــة كلام الحشمة في كل وقت يزيــــــــنك
وثمــــة كلام الغمة من غير ذنب يديــــــــنك
وثمـــة كلام للنغمة ترقيـــــــص دون طرب
وثمـــــة كلام القمة مخصوص بالعرب الريح
في تلك المقاطع تظهر جليّا سلاسة الكلام وانسيابه انسيابا رائقا مع صدق العبارة ووضوحها، وهو ما يدلّ دلالة قطعيّة على تجذّر الشّاعر في واقعه، وإدراكه العميق لإكراهاته وتمكّنه بكلّ حرفيّة واقتدار من صياغة جمل فائقة الدّقّة في تمحيص الواقع وتحليل العلاقات الاجتماعيّة بل لعلّه يرتقي بتلك الجمل إلى مصافّ المصلحين والمرشدين والنّاصحين للجميع بالتّحلّي بالأخلاق الفاضلة، وترك الخداع والأنانيّة ونبذ العنف وبذلك يخرج الشّاعر من جلباب النّاقد والنّاقل، ليلبس جلباب المصلح الدّاعي إلى السّلم ونبذ العنف والترفّع عن الأنانيّة وحبّ الذّات، وتجاوز الخلافات والتّرفّع عن المهاترات التي تضرّ بالبلاد والعباد:
ما تضربوش بلادي
وما تخربوش العش، ليه اولادي
قولوا شبيه الطّقس جايْ رمادي
والشمس تطلع كل يوم بحال
ها الأرض فدّت من كلام الصّادي
ونادت عليكم: متين تبدوا
ولا يخفي الشّاعر انشغاله الشّديد بالأوضاع السّائدة في البلاد، وتبرّمه ممّا اعترى البلاد من وهن وضعف، معبّرا عن آلامه العميقة من سوء تصرّف السّاسة، وانشغالهم عن قضايا النّاس، مع تبنّيه وانحيازه الكامل لشعبه باعتناقه لمشاكل مجتمعه، ومسايرته للمتغّيّرات الحاصلة في وطنه، كذلك غيرته عليه وحبّه الشّديد له، وتشريحه الدّقيق للأوضاع السّائدة بما يكتنفها من صراعات وتطاحنات على السّلطة والمال والجاه:
تونس قدرها تشلّك
وخيالها بين الثنايا طروف
ما بين طلق الصّرف والحنيّك
تمشي لتالي والحزام مرخوف
لا عاد تنفع زكرتك يا بريّك
ولم يفوّت الشّاعر الفرصة في نفس الوقت بالتغنّي بتونس " خضراء "، مبرزا عشقه لها وتعلّقه غير المحدود ببلاده، وتجذّره في ترابها فانطلق يثني على محاسنها، ويتجوّل في أرجائها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، معدّدا خيراتها وأفضالها ومناطقها بتضاريسها وجبالها وأنهارها وبحارها وجزرها وأشجارها ونخيلها وآثارها...ولم يغفل تقريبا عن ذكر أيّ منطقة من البلاد ومميزاتها وخصوصياتها، طبعا دون أن ينسى " البرادعة " مسقط رأسه وكذلك مدينة "المهديّة " التي يكنّ لها حنينا خاصّا ببحرها ومنارتها " النّاظور"، وصيّاديها كلّ ذلك بأسلوب شيّق وبلغة ثريّة شديدة التأثير بالغة المعاني تتأرجح بين مشاعر واختلاجات فيها الكثير من اللّوعة والحرقة والنّوستالجيا والأمل والعشق والحيرة والحبّ والجمال .... في الجملة، هو ديوان استطاع الشّاعر أن يبنيه بإحكام واقتدار، بتوظيف اللّفظ المناسب في المكان المناسب للمعنى المناسب فهو بذلك جدير بالقراءة والتّمحيص وسبر أغواره وذلك هو مبتغانا في قادم الأيّام إن شاء الله .....