إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

حين يصبح الغشّ في المناظرات حديث القاصي والدّاني

  تسربت العديد من السّلوكيات المشينة داخل بيوتنا ومؤسساتنا التربوية والجامعية باسم "التقدّمية وحرية التعبير والرأي"

أتذكر جيدا أنّي في سنواتي الأولى من التعليم الابتدائي "نظام قديم" كنت أقف عند قولين كُتبا بخطّ واضح وجميل، وقد وضع كل واحد منهما في إطار معلّق على أحد جدران القاعة: "قل الحقّ ولو كان مرّا"، "لا آخذ متاع غيري". وعلى مثل هذه القيم السامية والنبيلة نشأنا ودخلنا معترك الحياة...

لم نكن نسمع إلاّ لماما عن الغشّ في الامتحان. كان ذلك يحصل ربّما بمعدل حادثة على مرّ عدّة سنوات. وما أصعب على التلميذ أن يُسجّل اسمه فوق سبورة المدرسة أو المعهد تشهيرا بغشه وبمدّة عقابه فيظل خجولا من نفسه ولا يفتأ جبينه يتصبب عرقا وهو يشعر بأنّه يُشار إليه بالبنان.

ومن العجب أنّ الاستثناء أصبح قاعدة في موضوع الغشّ. فقد أصبحنا اليوم نتحدث عن "المتفنّنين" و"المبدعين" في اختلاق طرق جديدة للقيام بعمليّة التحيّل والغشّ. وصارت ظاهرة الغشّ في امتحانات نهاية كلّ سنة دراسية تُثار في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة. ومن المحزن أنّ هذه الآفة قد أصبحت محلّ متابعة حينية من المرصد التابع لوزارة التربية والتعليم وشغله الشاغل. ففي المنابر، تُستضاف الجهات المسؤولة لتتحدّث عن اجتهادها في البحث عن الطرق الكفيلة بالتّصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت بمثابة الملح في الطعام في أغلب المناظرات. لقد ولّى وانتهى الزمن الذي كانت تخصّص فيه برامج يحضرها لفيف من الأساتذة كلّ حسب اختصاصه بعد إجراء اختبارات المواد الأساسية في مناظرة الباكالوريا للخوض في المواضيع التي طُرحت على التلاميذ. وغدت عملية الغشّ ظاهرة عادية حتّى إنّنا قبلناها وحدا بنا الأمر إلى المقارنة بين نسب الغش بين السنوات الدراسية المتعاقبة. ومع الأسف الشديد، فقد سُجّلت محاولات الغشّ عند المترشحين للدخول إلى المعهد الأعلى للقضاء والمعهد الأعلى للمحاماة عن طريق ما يسمى ب"الكيت". وقيل انّ مقابل المساعدة على الغش في إحدى المناظرات قد وصل إلى عشرة آلاف دينار.

ومن المؤسف أن يقع التّطرّق إلى هذه الظاهرة عند كل مواعيد الامتحانات ولاسيما منها الوطنية وعلى رأسها الباكالوريا دون العودة إلى معالجة المسألة جذريا بتحديث المناهج التربوية وتغيير طرق تعاملنا مع أبنائنا منذ الصغر. فبالإضافة إلى الحثّ على التميّز والتفوق، وهذا أمر محمود يجب ألاّ نغفل عن غرس قيم الصدق والأمانة والسلوك القويم في ناشئتنا. وكما يُقال لا يستقيم الظّل والعود أعوج.

لقد تسربت العديد من السّلوكيات المشينة داخل بيوتنا ومؤسساتنا التربوية والجامعية باسم "التقدّمية وحرية التعبير والرأي" والحال أنّها لا تخلو من الوقاحة وقلّة الحياء. والأعجب أنّ الأمر قد أصبح عاديا ولا يثير في الكثير منّا الغضب أو الاستنكار. لقد أدّى كلّ ذلك في جانب كبير منه إلى ما وصلت إليه أوضاعنا من أجواء العنف والتطاول على المربي والإطار التربوي والجامعي. أما عن الملاعب فحدّث ولا حرج. ولعلّ ما وقع في نهاية الأسبوع الفارط بملعب حمادي العقربي برادس هو أكبر شاهد على خطر العنف الذي استفحل في سلوكيّات الكثير من أبنائنا وبناتنا.

إنّ ما يحزن ويبعث على القلق أنّ هذا السلوك الأرعن يجد تشجيعا من قبل عديد الأولياء أو الصّمت المطبق الذي يشفّ عن اللامبالاة في أفضل الحالات.

أذكر جيّدا أنّني كنت أستمع إلى أطفالنا وتلاميذنا يغنّون داخل الروضات وفي قاعات الدّرس الأنشودة التالية:

لا يحب أبي أن أرقص رقصة البولكا                      

فليقل ما بدا له إنّني سأرقص البولكا

(Mon papa ne veut pas
Que je danse, que je danse,

Mon papa ne veut pas
Que je danse la polka.

Il dira ce qu’il voudra.
Moi je danse, moi je danse,

Il dira ce qu’il voudra,
Moi, je danse la polka.)

وأذكر أيضا نصّا يُدّرس لتلاميذ السنة السّابعة أساسيّ في حصة شرح النص تحت عنوان "أنا أيضا مسؤول" يحمل في مضمونه تطاولا على موقف الأب وتحدّيا مشتركا له من قبل أفراد العائلة وقد شكلوا حلفا ضده. والحال أنّه أكد بهدوء أنّه المسؤول الأول عن تربية أبنائه.

وعلى العموم، فإنّ تعاطي حكوماتنا وإعلامنا وأسرنا مع عديد القضايا التي تنخر مجتمعنا لا يتم إلاّ بصفة مناسباتيّة ولا تقع معالجتها إلا سطحيا.

 رحم الله أبا العتاهية حيث قال:

تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها *** إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ

أَنّى لَكَ الصَحوُ مِن سُكرٍ وَأَنتَ مَتى *** تَصِحُّ مِن سَكرَةٍ تَغشاكَ في نَكَسِ

مصدّق الشّريف

حين يصبح الغشّ في المناظرات حديث القاصي والدّاني

  تسربت العديد من السّلوكيات المشينة داخل بيوتنا ومؤسساتنا التربوية والجامعية باسم "التقدّمية وحرية التعبير والرأي"

أتذكر جيدا أنّي في سنواتي الأولى من التعليم الابتدائي "نظام قديم" كنت أقف عند قولين كُتبا بخطّ واضح وجميل، وقد وضع كل واحد منهما في إطار معلّق على أحد جدران القاعة: "قل الحقّ ولو كان مرّا"، "لا آخذ متاع غيري". وعلى مثل هذه القيم السامية والنبيلة نشأنا ودخلنا معترك الحياة...

لم نكن نسمع إلاّ لماما عن الغشّ في الامتحان. كان ذلك يحصل ربّما بمعدل حادثة على مرّ عدّة سنوات. وما أصعب على التلميذ أن يُسجّل اسمه فوق سبورة المدرسة أو المعهد تشهيرا بغشه وبمدّة عقابه فيظل خجولا من نفسه ولا يفتأ جبينه يتصبب عرقا وهو يشعر بأنّه يُشار إليه بالبنان.

ومن العجب أنّ الاستثناء أصبح قاعدة في موضوع الغشّ. فقد أصبحنا اليوم نتحدث عن "المتفنّنين" و"المبدعين" في اختلاق طرق جديدة للقيام بعمليّة التحيّل والغشّ. وصارت ظاهرة الغشّ في امتحانات نهاية كلّ سنة دراسية تُثار في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة. ومن المحزن أنّ هذه الآفة قد أصبحت محلّ متابعة حينية من المرصد التابع لوزارة التربية والتعليم وشغله الشاغل. ففي المنابر، تُستضاف الجهات المسؤولة لتتحدّث عن اجتهادها في البحث عن الطرق الكفيلة بالتّصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت بمثابة الملح في الطعام في أغلب المناظرات. لقد ولّى وانتهى الزمن الذي كانت تخصّص فيه برامج يحضرها لفيف من الأساتذة كلّ حسب اختصاصه بعد إجراء اختبارات المواد الأساسية في مناظرة الباكالوريا للخوض في المواضيع التي طُرحت على التلاميذ. وغدت عملية الغشّ ظاهرة عادية حتّى إنّنا قبلناها وحدا بنا الأمر إلى المقارنة بين نسب الغش بين السنوات الدراسية المتعاقبة. ومع الأسف الشديد، فقد سُجّلت محاولات الغشّ عند المترشحين للدخول إلى المعهد الأعلى للقضاء والمعهد الأعلى للمحاماة عن طريق ما يسمى ب"الكيت". وقيل انّ مقابل المساعدة على الغش في إحدى المناظرات قد وصل إلى عشرة آلاف دينار.

ومن المؤسف أن يقع التّطرّق إلى هذه الظاهرة عند كل مواعيد الامتحانات ولاسيما منها الوطنية وعلى رأسها الباكالوريا دون العودة إلى معالجة المسألة جذريا بتحديث المناهج التربوية وتغيير طرق تعاملنا مع أبنائنا منذ الصغر. فبالإضافة إلى الحثّ على التميّز والتفوق، وهذا أمر محمود يجب ألاّ نغفل عن غرس قيم الصدق والأمانة والسلوك القويم في ناشئتنا. وكما يُقال لا يستقيم الظّل والعود أعوج.

لقد تسربت العديد من السّلوكيات المشينة داخل بيوتنا ومؤسساتنا التربوية والجامعية باسم "التقدّمية وحرية التعبير والرأي" والحال أنّها لا تخلو من الوقاحة وقلّة الحياء. والأعجب أنّ الأمر قد أصبح عاديا ولا يثير في الكثير منّا الغضب أو الاستنكار. لقد أدّى كلّ ذلك في جانب كبير منه إلى ما وصلت إليه أوضاعنا من أجواء العنف والتطاول على المربي والإطار التربوي والجامعي. أما عن الملاعب فحدّث ولا حرج. ولعلّ ما وقع في نهاية الأسبوع الفارط بملعب حمادي العقربي برادس هو أكبر شاهد على خطر العنف الذي استفحل في سلوكيّات الكثير من أبنائنا وبناتنا.

إنّ ما يحزن ويبعث على القلق أنّ هذا السلوك الأرعن يجد تشجيعا من قبل عديد الأولياء أو الصّمت المطبق الذي يشفّ عن اللامبالاة في أفضل الحالات.

أذكر جيّدا أنّني كنت أستمع إلى أطفالنا وتلاميذنا يغنّون داخل الروضات وفي قاعات الدّرس الأنشودة التالية:

لا يحب أبي أن أرقص رقصة البولكا                      

فليقل ما بدا له إنّني سأرقص البولكا

(Mon papa ne veut pas
Que je danse, que je danse,

Mon papa ne veut pas
Que je danse la polka.

Il dira ce qu’il voudra.
Moi je danse, moi je danse,

Il dira ce qu’il voudra,
Moi, je danse la polka.)

وأذكر أيضا نصّا يُدّرس لتلاميذ السنة السّابعة أساسيّ في حصة شرح النص تحت عنوان "أنا أيضا مسؤول" يحمل في مضمونه تطاولا على موقف الأب وتحدّيا مشتركا له من قبل أفراد العائلة وقد شكلوا حلفا ضده. والحال أنّه أكد بهدوء أنّه المسؤول الأول عن تربية أبنائه.

وعلى العموم، فإنّ تعاطي حكوماتنا وإعلامنا وأسرنا مع عديد القضايا التي تنخر مجتمعنا لا يتم إلاّ بصفة مناسباتيّة ولا تقع معالجتها إلا سطحيا.

 رحم الله أبا العتاهية حيث قال:

تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها *** إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ

أَنّى لَكَ الصَحوُ مِن سُكرٍ وَأَنتَ مَتى *** تَصِحُّ مِن سَكرَةٍ تَغشاكَ في نَكَسِ

مصدّق الشّريف