تعيش بلادنا تحولا مجتمعيا كبيرا يرجح الكفة للإناث على حساب الذكور في عديد المستويات، لعل أبرز ملامحه، ما تبينه المؤشرات والأرقام والمعطيات الخاصة بالتعليم والدراسة في الجامعات والخريجين، في ظل تأكيد الأرقام على ارتفاع عدد الإناث من الطالبات في الجامعات والارتفاع المسجل من سنة دراسية وجامعية الى أخرى في عدد المتحصلات على الشهائد العليا مقارنة بالذكور. لتختلف القراءات بشأن هذه المسألة بين مرحب ومستحسن لها على اعتبار أنها ترجمة لخيارات تعليمية واجتماعية وثقافية في سياسة دولة الاستقلال التي راهنت على تكريس حقوق المرأة بما في ذلك حقها في التعليم والعمل وبين من يعتبرها تشكل خطرا يهدد الصورة النمطية للأسرة والمجتمع وتضع ما اصطلح عليه بـ"رب الأسرة" في خانة المراجعة. وهو ما جعل بعض المختصين في علم النفس وعلم الاجتماعي والمتابعين للشأن العام والمختصين في مجالات علمية وبحثية ذات علاقة بهذه المسألة يطلقون صيحة فزع حول ما يعتبره البعض غزو "التأنيث" النوعي، وما يمكن أن يحدثه من خلل في الأسرة والمجتمع وتغيير للمرجعيات أمام تواصل ظاهرة انقطاع الذكور عن الدراسة، مطالبين بضرورة إعادة النظر والقيام بمراجعات شاملة للمقاربات المعتمدة على عديد المستويات في ظل هذه المعطيات والتطورات الجديدة ومدى تداعياتها على تركيبة المجتمع والمنظومة ومؤسسات الدولة في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى أن وزير التعليم العالي والبحث العلمي، منصف بوكثير، كان قد أكد حقيقة التغير والتحول الذي يشهده المجتمع التونسي من خلال تقديمه جملة من المعطيات الرقمية تعكس نسبة حضور الفتيات في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، مبينا أن 66٪ من الطلبة هم إناث، وأن متوسط نسبة الطالبات في المجال العلمي يبلغ 62٪ و73٪ في مجال الصحة والخدمات الاجتماعية وأن أكثر من 70% من المتخرجين من الجامعة هم من الإناث أيضا فيما يتكوّن إطار التدريس في الجامعات من نسبة تفوق 50٪ من النساء من مختلف التخصّصات، وتمثل نسبة أعضاء هيئة التدريس الجامعية من النساء في مجال العلوم 49.3٪ وترتفع النسبة إلى 55٪ في قطاع البحث العلمي، وتصل إلى 66٪ في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ما يضع تونس بين الدول الرائدة في العالم في هذا المجال باعتبار أن المعدل العالمي للباحثات لا يتجاوز 33٪.
وسبق أن أكدت منسقة حراك الدكاترة والباحثين المقصيين عن العمل، د.مريم الدزيري لـ"الصباح"، أن 75% من هذه الفئة أي من حاملي شهائد الدكتوراه والباحثين الذين يتجاوز عددهم خمسة آلاف هم من الإناث. وتؤكد الأرقام والمعطيات أن عدد الأطباء الإناث في تونس يفوق عدد الأطباء الذكور، ويمثل الإناث الأغلبية من بين خرّيجي الدكتوراه في الصحة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والتّصرف والقانون.
وتشير البيانات الخاصة بمنظمة الأمم المتحدة أن عدد سكان تونس سنة 2021 يبلغ حوالي 11.936 مليون نسمة موزعين بنسبة 49.60% من الذكور و50.4 % من الإناث ما يناهز 5.920 مليون نسمة من الذكور و6.016 مليون نسمة من الإناث.
حضور متدن في مواقع القرار
كانت عدة جهات قد أطلقت صيحة فزع منددة بتراجع حضور المرأة في مواقع ودوائر القرار. وقد أثارت مسألة عدم تنصيص القانون الانتخابي الذي تم اعتماده في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها في 2022 على مبدأ التناصف وعدم دعم الدولة للحملات الانتخابية في قانون راهن على الانتخاب على البرامج الجهوية، جدلا في عدة أوساط سياسية ومدنية على اعتبار أن في ذلك إقصاء ممنهجا للمرأة. وتعزز يقين المنتصرين لحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية بعد أن كانت نسبة حضور المرأة في مجلس نواب الشعب في حدود 16 % وكانت نسبتها في المجالس المحلية في حدد 12 % وفق ما أكدته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
فيما كشفت آمال بالحاج موسى وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن مؤخرا، أن سنة 2024 تميزت بتسجيلها تعيين أكبر عدد من أعضاء الحكومة خلال الخمس سنوات الماضية والذي بلغ 10 وزيرات أي بنسبة تقدّر بـ 42% تقلّدن وزارات العدل والماليّة والاقتصاد والتّخطيط والتّجارة والصّناعة والتّجهيز والنّقل والتّربية والبيئة والأسرة والمرأة والطّفولة وكبار السّنّ.
وتؤكد عديد الجهات والقراءات أن التميز المعرفي والعلمي للمرأة وريادتها في نسب التخرج والتكوين وكفاءاتها في مختلف المجالات لم تشفع لها لتكون في مواقع القرار والإدارة والتسيير على النحو المطلوب. إذ ظل حضورها في هذا الجانب متدنيا. وهو ما أكدته وزيرة المرأة والأسرة والمسنين "أنه رغم الحضور اللافت في الحكومة وفي مجالات الابتكار والبحث العلمي لا نلاحظه للأسف في نسب تواجد النّساء في المواقع القياديّة العليا على غرار خطة مدير عام وكاتب عام وزارة والتي بقيت دون المستوى المأمول إذ لم تتعد نسبة السّيدات في خطّة مديرة عامّة الـ33% أمّا رئيسات دواوين الوزارات فتقدّر نسبتهنّ بـ27% وإجمالا تقدّر نسبة تواجد النّساء في المناصب القياديّة بـ36%".
ولئن اعتبر المختص في علم الاجتماع مهدي مبروك الظاهرة "محيرة ومحبطة أحيانا" في تفاعله مع الموضوع على شبكة التواصل الاجتماعي لا تخلو من خلل نفسي وفكري تدفع الجميع للبحث في أسبابها ومعالجتها في محاولة لإيجاد نمط تناصف في مجتمع قائم على التناصف، إلا أن الأخصائية في علم الاجتماع فتحية السعيدي فسرت ظاهرة ارتفاع نسبة حضور الفتيات والنساء في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، بأن التنشئة الاجتماعية للأسر التونسية تحمل الفتاة مسؤولية النجاح في الدراسة بشكل أو بآخر. بما يمثله من رغبة في التحرر من القيود الأسرية والمجتمعية وإثبات الذات في المجتمع. لكن رغم ذلك تعتبر هيمنة الفكر الذكوري من العوامل التي جعلت هذا التميز للمرأة لا ينعكس على أرض الواقع المهني والعملي في تونس.
الدكتورة أمال القرامي لـ"الصباح": ظاهرة حريّة بالدراسة لكن..
اعتبرت الدكتورة أمال قرامي، الأكاديمية المختصة في الدراسات الثقافية والجندرية في حديثها عن المسألة لـ"الصباح"، أن نسبة ارتفاع خريجات الجامعات في تونس في تزايد ملحوظ وأرجعت ذلك لأسباب ديموغرافية وبيولوجية وغيرها من العوامل الأخرى المتداخلة. وهي ترى أن المسألة لا تدعو للخوف ولا تشكل خطورة في حين اعتبرت أن من بين الأسباب لهذه التزايد ظاهرة الانقطاع المبكر للذكور عن الدراسة. وهو ما اعتبرته يدفع للقلق والخوف. وأضافت قائلة: "في الحقيقة ارتفاع مثل هذه النسب، موضوع حريّ بالدراسة المستفيضة من قبل عدة اختصاصات لأن الوضع اليوم يتجاوز الدراسات الكلاسيكية القديمة في التعاطي مع مثل هذه الظواهر والتغيرات في المجتمع. بل تتطلب الاعتماد على إحصائيات دقيقة واعتماد مقاربات علوم الاجتماع والنفس والجندر وغيرها لدراسة هذه الظاهرة من جوانب مختلفة ومقارنتها بدول أخرى تعيش أو عاشت نفس التحولات تقريبا".
في سياق متصل اعتبرت الأستاذة الجامعة المختصة في الجندر أنه لا يمكن تصنيف هذه الظاهرة في خانة الخطورة. موضحة: "لا أعتبر تميز الإناث في عالم الدراسة والمعرفة يشكل خطرا، لأنه لا مانع من أن يكون الأكفاء في مواقع القرار والمناصب والمواقع المهنية العليا لأن ذلك استحقاق جهد وعمل. فمن خلال تجربتي كأستاذة جامعية فإن نسبة حضور وانضباط الإناث في الجامعة أكثر من الذكور وهذا يبين جانبا من هذا الواقع والتحول المسجل والذي ما انفك يتكرس في واقع الجامعة التونسية في السنوات الأخيرة".
وفسرت في جانب آخر هذه الظاهرة معتبرة أن مناهج التربية والتعليم لم تعد تعني الأطفال والشباب في المقابل لا تزال العائلة التونسية تراهن على التعليم كمصعد اجتماعي في مختلف الطبقات الاجتماعية. وأضافت قائلة: "رغم محافظة العائلة التونسية على تمسكها بأهمية التعليم والمعرفة إلا أن استقطاب الذكور بدرجة أكثر لعالم الألعاب والتكنولوجيات والعنف والمخدرات مقابل غياب دور العائلة في الرقابة على خلاف دورها في الرقابة بشكل أكبر على الفتيات من العوامل التي ساهمت في الوصول إلى هذا الوضع بأن يكون انقطاع الذكور عن الدراسة أكثر مما عليه الأمر بالنسبة للفتيات. ثم إن نسبة الذكور المهاجرين بشكل نظامي أو غير نظامي تكون أكبر ومن العوامل التي أدت إلى هذا الوضع".
واعتبرت أمال قرامي أن المسألة تشكل قلقا وخوفا فقط بالنسبة لمن كانوا في مواقع السلطة والقرار ويرون في ذلك تخوفا من افتقاد الامتيازات لفائدة المرأة بعد أن اعتاد البعض على أن السلطة والامتيازات ذكورية وليس هناك أي دور لمسألة الكفاءة. وأضافت: "أدعو الجهات المعنية للعودة لاطلاع على تجارب تحول في المجتمعات تشبه الوضع الحالي في تونس في هذا المستوى لنتبين أن حضور المرأة في مواقع القرار والقيادة والإدارة ساهم في تقدم وتطور هذه البلدان على أصعدة مختلفة على غرار ألبانيا التي كانت لي فرصة لزيارتها والإطلاع عن كثب على تجربة بلد أغلب أعضاء برلمانه من النساء وهناك 12 امرأة وزيرة من بين 17 حقيبة وزارية".
عبد الباسط الفقيه لـ"الصباح": التفاوت بين المكانة المهنية والوظيفية للأزواج يؤدي إلى خلل والتكافؤ هو الأساس
فيما أفاد عبد الباسط الفقيه، المختص في علم النفس في تطرقه للمسألة وتوصيفه لهذه التحولات في حديثه لـ"الصباح"، أنها بمثابة خلل في تركيبة الأسرة والمجتمع وجبت دراستها وبحث الدوافع والأسباب العلمية والموضوعية التي أدت إلى هذه النتائج في ظل تقارب نسب الذكور والإناث في المستوى الديمغرافي للمجتمع التونسي. وفسر تخوف البعض من مسألة تأنيث الوظائف والقيادات الإدارية ومواقع القرار على اعتبار أنه نابع من مجتمع ومحيط كانت فيه الأولوية في مثل هذه المواقع والوظائف للذكور. وأضاف قائلا: "حقيقة المشكل هنا أن هناك إهمالا للدراسة والتعلق بالرقي في مدارج العلم والمعرفة والانقطاع المبكر على خلاف ما عليه الوضع بالنسبة للفتيات. لأنه لا تزال التحديات المطروحة أمام الفتيات لإكمال الدراسة والتخرج من الجامعة كمصعد وحيد للعمل والتحرر من الهيمنة الذكورية هو نيل الشهادة الجامعية والحصول على موطن شغل مرموق".
في المقابل اعتبر أن نزعة الذكور وميلهم للربح السريع والانتهازية والتواكل التي نشأوا عليها في أسرهم، من العوامل التي جعلت نسبة كبيرة من هؤلاء يختارون الانقطاع عن الدراسة مبكرا ثم قبول الزواج بفتيات ونساء أكثر درجات علمية وفي وظائف ومواقع عمل مرموقة. وهو ما اعتبره سببا لإحداث خلل في الأسرة والمجتمع لأنه الرجل لم يعد هو رب الأسرة ومصدر عيشها ورزقها وإنما المرأة هي التي أصبحت تقوم بهذا الدور.
تفاوت وخلل
وفسر المختص في علم النفس أن التفاوت بين المكانة المهنية والوظيفية بين الزوجين ينتج عنه خلل كبير في مستوى تربية الأطفال بعد أن أصبح دور الأب في الأسرة مجرد "ذكر" مسؤول عن الإنجاب وهو ما يحيل في تقديره، إلى تحول المرجعية من أخلاقية وقانونية إلى مرجعية مادية تصبح فيها المرأة هي المسؤولة عن الأسرة في مجتمع لا تزال تسيطر عليه الصورة النمطية للرجل والمرأة. وهو نفس الوضع، حسب قراءته، الذي يدفع بعض الشباب إلى اللهث وراء الزواج بالأجنبيات من الكبيرات في السن بدافع الانتهازية والتواكل.
كما اعتبر الفقيه أن هذه الظاهرة وإن كانت لصالح الفتيات لضمان مواقع وظيفية ومهنية محترمة وحظوظ أوفر للزواج على اعتبار أن الجمال موهبة وأن الشهادة الجامعية هي نتيجة اجتهاد وتحصيل معرفي ضامنة للرفاه الأسري في المستقبل، إلا أنها سببا لصراع جديد حول الأدوار بين الأزواج خاصة وتداعيات ذلك الخطيرة على الأطفال، وفق تأكيده لأن العلاقة الأساسية بين الأزواج يفترض أن تبنى على التكافؤ. وأضاف: "ما نلاحظه من ظواهر منتشرة في صفوف الأطفال والمراهقين والشباب اليوم، من تدني المستوى الدراسي وانقطاع مبكر وتشبه بالإناث وتواكل وغيرها من ممارسات السرقة والعنف وتعاطي المخدرات.. إنما هي نتيجة لمثل هذه النوعية من الخلل الأسري والتفاوت بين الأزواج"
ويرى المختص في علم النفس أنه على العائلة القيام بدورها في توعية الأبناء وتثقيفهم وتوعيتهم بأهمية التعليم والتعويل على الذات ليكون الذكر والأنثى ندين في المدرسة والمعهد والجامعة والعمل ومواقع القرار.
نزيهة
تونس – الصباح
تعيش بلادنا تحولا مجتمعيا كبيرا يرجح الكفة للإناث على حساب الذكور في عديد المستويات، لعل أبرز ملامحه، ما تبينه المؤشرات والأرقام والمعطيات الخاصة بالتعليم والدراسة في الجامعات والخريجين، في ظل تأكيد الأرقام على ارتفاع عدد الإناث من الطالبات في الجامعات والارتفاع المسجل من سنة دراسية وجامعية الى أخرى في عدد المتحصلات على الشهائد العليا مقارنة بالذكور. لتختلف القراءات بشأن هذه المسألة بين مرحب ومستحسن لها على اعتبار أنها ترجمة لخيارات تعليمية واجتماعية وثقافية في سياسة دولة الاستقلال التي راهنت على تكريس حقوق المرأة بما في ذلك حقها في التعليم والعمل وبين من يعتبرها تشكل خطرا يهدد الصورة النمطية للأسرة والمجتمع وتضع ما اصطلح عليه بـ"رب الأسرة" في خانة المراجعة. وهو ما جعل بعض المختصين في علم النفس وعلم الاجتماعي والمتابعين للشأن العام والمختصين في مجالات علمية وبحثية ذات علاقة بهذه المسألة يطلقون صيحة فزع حول ما يعتبره البعض غزو "التأنيث" النوعي، وما يمكن أن يحدثه من خلل في الأسرة والمجتمع وتغيير للمرجعيات أمام تواصل ظاهرة انقطاع الذكور عن الدراسة، مطالبين بضرورة إعادة النظر والقيام بمراجعات شاملة للمقاربات المعتمدة على عديد المستويات في ظل هذه المعطيات والتطورات الجديدة ومدى تداعياتها على تركيبة المجتمع والمنظومة ومؤسسات الدولة في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى أن وزير التعليم العالي والبحث العلمي، منصف بوكثير، كان قد أكد حقيقة التغير والتحول الذي يشهده المجتمع التونسي من خلال تقديمه جملة من المعطيات الرقمية تعكس نسبة حضور الفتيات في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، مبينا أن 66٪ من الطلبة هم إناث، وأن متوسط نسبة الطالبات في المجال العلمي يبلغ 62٪ و73٪ في مجال الصحة والخدمات الاجتماعية وأن أكثر من 70% من المتخرجين من الجامعة هم من الإناث أيضا فيما يتكوّن إطار التدريس في الجامعات من نسبة تفوق 50٪ من النساء من مختلف التخصّصات، وتمثل نسبة أعضاء هيئة التدريس الجامعية من النساء في مجال العلوم 49.3٪ وترتفع النسبة إلى 55٪ في قطاع البحث العلمي، وتصل إلى 66٪ في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ما يضع تونس بين الدول الرائدة في العالم في هذا المجال باعتبار أن المعدل العالمي للباحثات لا يتجاوز 33٪.
وسبق أن أكدت منسقة حراك الدكاترة والباحثين المقصيين عن العمل، د.مريم الدزيري لـ"الصباح"، أن 75% من هذه الفئة أي من حاملي شهائد الدكتوراه والباحثين الذين يتجاوز عددهم خمسة آلاف هم من الإناث. وتؤكد الأرقام والمعطيات أن عدد الأطباء الإناث في تونس يفوق عدد الأطباء الذكور، ويمثل الإناث الأغلبية من بين خرّيجي الدكتوراه في الصحة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والتّصرف والقانون.
وتشير البيانات الخاصة بمنظمة الأمم المتحدة أن عدد سكان تونس سنة 2021 يبلغ حوالي 11.936 مليون نسمة موزعين بنسبة 49.60% من الذكور و50.4 % من الإناث ما يناهز 5.920 مليون نسمة من الذكور و6.016 مليون نسمة من الإناث.
حضور متدن في مواقع القرار
كانت عدة جهات قد أطلقت صيحة فزع منددة بتراجع حضور المرأة في مواقع ودوائر القرار. وقد أثارت مسألة عدم تنصيص القانون الانتخابي الذي تم اعتماده في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها في 2022 على مبدأ التناصف وعدم دعم الدولة للحملات الانتخابية في قانون راهن على الانتخاب على البرامج الجهوية، جدلا في عدة أوساط سياسية ومدنية على اعتبار أن في ذلك إقصاء ممنهجا للمرأة. وتعزز يقين المنتصرين لحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية بعد أن كانت نسبة حضور المرأة في مجلس نواب الشعب في حدود 16 % وكانت نسبتها في المجالس المحلية في حدد 12 % وفق ما أكدته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
فيما كشفت آمال بالحاج موسى وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن مؤخرا، أن سنة 2024 تميزت بتسجيلها تعيين أكبر عدد من أعضاء الحكومة خلال الخمس سنوات الماضية والذي بلغ 10 وزيرات أي بنسبة تقدّر بـ 42% تقلّدن وزارات العدل والماليّة والاقتصاد والتّخطيط والتّجارة والصّناعة والتّجهيز والنّقل والتّربية والبيئة والأسرة والمرأة والطّفولة وكبار السّنّ.
وتؤكد عديد الجهات والقراءات أن التميز المعرفي والعلمي للمرأة وريادتها في نسب التخرج والتكوين وكفاءاتها في مختلف المجالات لم تشفع لها لتكون في مواقع القرار والإدارة والتسيير على النحو المطلوب. إذ ظل حضورها في هذا الجانب متدنيا. وهو ما أكدته وزيرة المرأة والأسرة والمسنين "أنه رغم الحضور اللافت في الحكومة وفي مجالات الابتكار والبحث العلمي لا نلاحظه للأسف في نسب تواجد النّساء في المواقع القياديّة العليا على غرار خطة مدير عام وكاتب عام وزارة والتي بقيت دون المستوى المأمول إذ لم تتعد نسبة السّيدات في خطّة مديرة عامّة الـ33% أمّا رئيسات دواوين الوزارات فتقدّر نسبتهنّ بـ27% وإجمالا تقدّر نسبة تواجد النّساء في المناصب القياديّة بـ36%".
ولئن اعتبر المختص في علم الاجتماع مهدي مبروك الظاهرة "محيرة ومحبطة أحيانا" في تفاعله مع الموضوع على شبكة التواصل الاجتماعي لا تخلو من خلل نفسي وفكري تدفع الجميع للبحث في أسبابها ومعالجتها في محاولة لإيجاد نمط تناصف في مجتمع قائم على التناصف، إلا أن الأخصائية في علم الاجتماع فتحية السعيدي فسرت ظاهرة ارتفاع نسبة حضور الفتيات والنساء في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، بأن التنشئة الاجتماعية للأسر التونسية تحمل الفتاة مسؤولية النجاح في الدراسة بشكل أو بآخر. بما يمثله من رغبة في التحرر من القيود الأسرية والمجتمعية وإثبات الذات في المجتمع. لكن رغم ذلك تعتبر هيمنة الفكر الذكوري من العوامل التي جعلت هذا التميز للمرأة لا ينعكس على أرض الواقع المهني والعملي في تونس.
الدكتورة أمال القرامي لـ"الصباح": ظاهرة حريّة بالدراسة لكن..
اعتبرت الدكتورة أمال قرامي، الأكاديمية المختصة في الدراسات الثقافية والجندرية في حديثها عن المسألة لـ"الصباح"، أن نسبة ارتفاع خريجات الجامعات في تونس في تزايد ملحوظ وأرجعت ذلك لأسباب ديموغرافية وبيولوجية وغيرها من العوامل الأخرى المتداخلة. وهي ترى أن المسألة لا تدعو للخوف ولا تشكل خطورة في حين اعتبرت أن من بين الأسباب لهذه التزايد ظاهرة الانقطاع المبكر للذكور عن الدراسة. وهو ما اعتبرته يدفع للقلق والخوف. وأضافت قائلة: "في الحقيقة ارتفاع مثل هذه النسب، موضوع حريّ بالدراسة المستفيضة من قبل عدة اختصاصات لأن الوضع اليوم يتجاوز الدراسات الكلاسيكية القديمة في التعاطي مع مثل هذه الظواهر والتغيرات في المجتمع. بل تتطلب الاعتماد على إحصائيات دقيقة واعتماد مقاربات علوم الاجتماع والنفس والجندر وغيرها لدراسة هذه الظاهرة من جوانب مختلفة ومقارنتها بدول أخرى تعيش أو عاشت نفس التحولات تقريبا".
في سياق متصل اعتبرت الأستاذة الجامعة المختصة في الجندر أنه لا يمكن تصنيف هذه الظاهرة في خانة الخطورة. موضحة: "لا أعتبر تميز الإناث في عالم الدراسة والمعرفة يشكل خطرا، لأنه لا مانع من أن يكون الأكفاء في مواقع القرار والمناصب والمواقع المهنية العليا لأن ذلك استحقاق جهد وعمل. فمن خلال تجربتي كأستاذة جامعية فإن نسبة حضور وانضباط الإناث في الجامعة أكثر من الذكور وهذا يبين جانبا من هذا الواقع والتحول المسجل والذي ما انفك يتكرس في واقع الجامعة التونسية في السنوات الأخيرة".
وفسرت في جانب آخر هذه الظاهرة معتبرة أن مناهج التربية والتعليم لم تعد تعني الأطفال والشباب في المقابل لا تزال العائلة التونسية تراهن على التعليم كمصعد اجتماعي في مختلف الطبقات الاجتماعية. وأضافت قائلة: "رغم محافظة العائلة التونسية على تمسكها بأهمية التعليم والمعرفة إلا أن استقطاب الذكور بدرجة أكثر لعالم الألعاب والتكنولوجيات والعنف والمخدرات مقابل غياب دور العائلة في الرقابة على خلاف دورها في الرقابة بشكل أكبر على الفتيات من العوامل التي ساهمت في الوصول إلى هذا الوضع بأن يكون انقطاع الذكور عن الدراسة أكثر مما عليه الأمر بالنسبة للفتيات. ثم إن نسبة الذكور المهاجرين بشكل نظامي أو غير نظامي تكون أكبر ومن العوامل التي أدت إلى هذا الوضع".
واعتبرت أمال قرامي أن المسألة تشكل قلقا وخوفا فقط بالنسبة لمن كانوا في مواقع السلطة والقرار ويرون في ذلك تخوفا من افتقاد الامتيازات لفائدة المرأة بعد أن اعتاد البعض على أن السلطة والامتيازات ذكورية وليس هناك أي دور لمسألة الكفاءة. وأضافت: "أدعو الجهات المعنية للعودة لاطلاع على تجارب تحول في المجتمعات تشبه الوضع الحالي في تونس في هذا المستوى لنتبين أن حضور المرأة في مواقع القرار والقيادة والإدارة ساهم في تقدم وتطور هذه البلدان على أصعدة مختلفة على غرار ألبانيا التي كانت لي فرصة لزيارتها والإطلاع عن كثب على تجربة بلد أغلب أعضاء برلمانه من النساء وهناك 12 امرأة وزيرة من بين 17 حقيبة وزارية".
عبد الباسط الفقيه لـ"الصباح": التفاوت بين المكانة المهنية والوظيفية للأزواج يؤدي إلى خلل والتكافؤ هو الأساس
فيما أفاد عبد الباسط الفقيه، المختص في علم النفس في تطرقه للمسألة وتوصيفه لهذه التحولات في حديثه لـ"الصباح"، أنها بمثابة خلل في تركيبة الأسرة والمجتمع وجبت دراستها وبحث الدوافع والأسباب العلمية والموضوعية التي أدت إلى هذه النتائج في ظل تقارب نسب الذكور والإناث في المستوى الديمغرافي للمجتمع التونسي. وفسر تخوف البعض من مسألة تأنيث الوظائف والقيادات الإدارية ومواقع القرار على اعتبار أنه نابع من مجتمع ومحيط كانت فيه الأولوية في مثل هذه المواقع والوظائف للذكور. وأضاف قائلا: "حقيقة المشكل هنا أن هناك إهمالا للدراسة والتعلق بالرقي في مدارج العلم والمعرفة والانقطاع المبكر على خلاف ما عليه الوضع بالنسبة للفتيات. لأنه لا تزال التحديات المطروحة أمام الفتيات لإكمال الدراسة والتخرج من الجامعة كمصعد وحيد للعمل والتحرر من الهيمنة الذكورية هو نيل الشهادة الجامعية والحصول على موطن شغل مرموق".
في المقابل اعتبر أن نزعة الذكور وميلهم للربح السريع والانتهازية والتواكل التي نشأوا عليها في أسرهم، من العوامل التي جعلت نسبة كبيرة من هؤلاء يختارون الانقطاع عن الدراسة مبكرا ثم قبول الزواج بفتيات ونساء أكثر درجات علمية وفي وظائف ومواقع عمل مرموقة. وهو ما اعتبره سببا لإحداث خلل في الأسرة والمجتمع لأنه الرجل لم يعد هو رب الأسرة ومصدر عيشها ورزقها وإنما المرأة هي التي أصبحت تقوم بهذا الدور.
تفاوت وخلل
وفسر المختص في علم النفس أن التفاوت بين المكانة المهنية والوظيفية بين الزوجين ينتج عنه خلل كبير في مستوى تربية الأطفال بعد أن أصبح دور الأب في الأسرة مجرد "ذكر" مسؤول عن الإنجاب وهو ما يحيل في تقديره، إلى تحول المرجعية من أخلاقية وقانونية إلى مرجعية مادية تصبح فيها المرأة هي المسؤولة عن الأسرة في مجتمع لا تزال تسيطر عليه الصورة النمطية للرجل والمرأة. وهو نفس الوضع، حسب قراءته، الذي يدفع بعض الشباب إلى اللهث وراء الزواج بالأجنبيات من الكبيرات في السن بدافع الانتهازية والتواكل.
كما اعتبر الفقيه أن هذه الظاهرة وإن كانت لصالح الفتيات لضمان مواقع وظيفية ومهنية محترمة وحظوظ أوفر للزواج على اعتبار أن الجمال موهبة وأن الشهادة الجامعية هي نتيجة اجتهاد وتحصيل معرفي ضامنة للرفاه الأسري في المستقبل، إلا أنها سببا لصراع جديد حول الأدوار بين الأزواج خاصة وتداعيات ذلك الخطيرة على الأطفال، وفق تأكيده لأن العلاقة الأساسية بين الأزواج يفترض أن تبنى على التكافؤ. وأضاف: "ما نلاحظه من ظواهر منتشرة في صفوف الأطفال والمراهقين والشباب اليوم، من تدني المستوى الدراسي وانقطاع مبكر وتشبه بالإناث وتواكل وغيرها من ممارسات السرقة والعنف وتعاطي المخدرات.. إنما هي نتيجة لمثل هذه النوعية من الخلل الأسري والتفاوت بين الأزواج"
ويرى المختص في علم النفس أنه على العائلة القيام بدورها في توعية الأبناء وتثقيفهم وتوعيتهم بأهمية التعليم والتعويل على الذات ليكون الذكر والأنثى ندين في المدرسة والمعهد والجامعة والعمل ومواقع القرار.