إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

براءة من فقدان الخطوط الحمراء لحماية اللغة أهمّ معالم السيادة

 

 

اللغات هي أقدم من الأعلام كرموز لسيادة الشعوب والمجتمعات

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي – عالم الاجتماع

يطغى منذ مدة في المجتمع التونسي خطابُ السيادة على المستويين الشفوي والمكتوب في شتى وسائل الاتصال والمجالات التي تشمل القمة والقاعدة وما بينهما. فمسألة السيادة ذات معالم متعددة تتطلب الدفاع عنها جميعا وصيانتها بالكامل حتى تتمتع الشعوب والمجتمعات براية السيادة الكاملة والمنيعة.

وعندما تعطي بعض الشعوب والمجتمعات أولوية لبعض معالم السيادة وتهمش البعض الآخر مثل فقدان التلفزة التونسية للسيادة اللغوية عندما تستعمل كلمات فرنسية لا ضرورة في استعمالها مثل كلمة reportage فإن ذلك يدعو عالميْ النفس والاجتماع لفهم وتفسير ذلك السلوك، أي أن الضمير العلمي لا يسمح لهما بالفرجة فقط كأغلبية المواطنين.

حضور وفقدان الخطوط الحمراء لحماية السيادة

    فقد غضب كثير من التونسيين والتونسيات عن حدث تغطية العلم التونسي لكنهم لا يظهرون ولا يعبرون عن حرج بالنسبة لكتابة معظم اللافتات باللغة الفرنسية فقط في الشوارع وغيرها في البلاد التونسية. وبعبارة أخرى، فالغضب الكبير الذي أحدثته تغطيةُ العلم ناتج عن وجود خطوط حمراء في المجتمع التونسي تحمي العلم من أي اعتداء وضرر باعتباره رمزا للسيادة الوطنية، بينما تفيد الملاحظات في هذا المجتمع أنه لا توجد خطوط حمراء بل خطوط رمادية في أحسن الأحوال بالنسبة لحماية اللغة العربية/الوطنية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال والثورة. فهذا السلوك الجماعي المهين للغة العربية لا تفسره العبارة التونسية (هكاكا وبرا) بل تفسره العلوم الاجتماعية بكثير من المصداقية.

الأعلاَم واللغات

فالأعلام هي رموز من رموز سيادة الشعوب والمجتمعات المعاصرة لكن اللغات هي أقدم من الأعلام كرموز لسيادة الشعوب والمجتمعات. فالتحليل الفكري يشير إلى أن اللغات أهم بكثير من الأعلام، إذ أن اللغات البشرية تمنح الناس القدرة على التفكير بما فيها التفكير في صناعة الأعلام واحتضانها بحماس قوي كرمز لسيادة الشعوب والمجتمعات. أي أن اللغات البشرية هي بيت القصيد في تعليم البشر خصلة التفكير بكل أنواعه المختلفة. ومن ثم، فميلاد فكرة الأعلام م وصناعتها في أشكالها وألوانها المتنوعة يعود إلى هبة اللغات البشرية التي تتحدثها الشعوب والمجتمعات وتكتب بها. وهكذا يتجلى أن الغيرة على العلم في تونس أكثر من الغيرة على اللغة العربية/الوطنية هي سلوك جماعي في الاتجاه المعاكس لما ذكرناه حول العلاقة بين اللغات والأعلام لدى الشعوب والمجتمعات.

قُصور تشخيص ضُعف التحمس للعربية يذكر معظم التونسيات والتونسيين أن ضعف التحمس للغة العربية في المجتمع التونسي يعود إلى آثار الاستعمار الفرنسي وهو تفسير له نصيب من الصحة لكنه غير دقيق ، فالتونسيات والتونسيون الذين درسوا كل المواد والمواضيع باللغة العربية مثل خريجي ما سُمى شُعبة (أ) في مطلع الاستقلال 1960 وخريجي التعليم الزيتوني الذين درسوا جميع المواد والمواضيع باللسان العربي هم التونسيون اليوم وأمس الذين يدافعون ويتحمسون لاستعمال اللغة العربية أكثر من التونسيات والتونسيين (وهم الأغلبية اليوم) الذين درسوا معظم المواد والمواضيع أو البعض منها باللغة الفرنسية . ومنه، فرغم تعرض الجميع لنفس احتلال الاستعمار الفرنسي فإن الذين درسوا بالفرنسية المواد والمواضيع هم أكثر استعمالا للغة الفرنسية في الحديث والكتابة ومن ثم أكثر تحمسا وتعاطفا كذلك لصالح استمرار حضور الفرنسية في الحياة العامة التونسية في صغيرها وكبيرها. ويعني هذا أن التدريس بالفرنسية يُفسد علاقة المودة مع اللغة العربية/الوطنية. وهكذا يتضح الفرق جليا بين عمليتيْ تعلّم اللغات الأجنبية، من جهة، والتدريس بها، من جهة أخرى. وهو خطأ تربوي يعتقد المسؤولون في نظام التعليم ألتونسي - بما فيهم هؤلاء الذين كُلّفوا بإصلاح التعليم اليوم- أنه ليس بالخطأ الكبير رغم وجود ثلاثة عوامل من المفترض أن تلفت نظرهم إلى ذلك الخطأ العظيم : 1- فأنظمة التعليم في أوروبا تدرس المواد والمواضيع بلغاتها فقط. 2- إن معظم خريجي التعليم التونسي اليوم فاقدون لعلاقة سليمة أي طبيعية ( استعمالهم للغتهم فقط في حديثهم وكتابتهم) مع لغتهم الوطنية/العربية. 3- تفيد الملاحظات الميدانية والتحاليل النظرية أن اللغات هي بطاقات تعريف لهويات الشعوب والمجتمعات، ومنه فإعاقة اللغات من طرف أهلها أو من غيرهم تؤدي إلى ارتباك محتوم في الهويات كما يشهد على ذلك اليوم حال هويات كثير من التونسيات والتونسيين ( أنظر كتابي : إعاقة اللغة وارتباك الهوية 2018).

التدريس بالفرنسية والإعاقة اللغوية النفسية

     لا يقتصر التدريس بالفرنسية على إعاقة اللغة العربية في المجتمع التونسي على الجانبين الشفوي والكتابي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين نفسيا (الحشمة) في استعمالها على المستويين الشفوي والكتابي. ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال اللغة الوطنية مما يؤدي إلى ضُعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. إذن ، فتلك الإعاقة اللغوية النفسية هي سلوك ناتج ومُفصح عن ضُعف أو فقدان العلاقة الحميمة مع اللغة العربية الناتج في المقام الأول من التدريس باللغة الفرنسية الذي أكد على وجوبه من طرف وزير التربية السابق محمود المسعدي الذي صرح لمجلة Dialogue « Il faut enseigner en français et apprendre l’arabe ».. علما أن المسعدي وبورقيبة وغيرهما روّاد الفترة الأولى للاستقلال كانوا خريجي المدرسة الصادقية وغيرها التي درّست بالفرنسية كلغة أولى.

الأهمية العظيمة للغات عند المفكرين وصمتهم عن الأعلام

يعتبر المفكرون أنّ اللغات هي أمهات وجود الشعوب واستمرار حضورها، فهي ليست أفضل من الأعلام فقط بل هي تتفوق على الجبال والغابات والأنهار والبحار والمحيطات في حماية حدود الشعوب وهوياتها وسيادتها. يتجلى من مقولة المفكرين حول الأهمية العظمى للغات في حياة الشعوب والمجتمعات ومن تحليلنا لانتكاسة وضع اللغة العربية/الوطنية في المجتمع التونسي بسبب وجود خطوط رمادية لا خطوط حمراء تمنحها الحماية الوطنية الكاملة باعتبارها رمزا مميّزا للسيادة أعز من العلم التونسي والحدود الجغرافية والسياسية وغيرها كما عبر عن ذلك بوضوح زمرةُ المفكرين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

براءة من فقدان الخطوط الحمراء لحماية اللغة أهمّ معالم السيادة

 

 

اللغات هي أقدم من الأعلام كرموز لسيادة الشعوب والمجتمعات

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي – عالم الاجتماع

يطغى منذ مدة في المجتمع التونسي خطابُ السيادة على المستويين الشفوي والمكتوب في شتى وسائل الاتصال والمجالات التي تشمل القمة والقاعدة وما بينهما. فمسألة السيادة ذات معالم متعددة تتطلب الدفاع عنها جميعا وصيانتها بالكامل حتى تتمتع الشعوب والمجتمعات براية السيادة الكاملة والمنيعة.

وعندما تعطي بعض الشعوب والمجتمعات أولوية لبعض معالم السيادة وتهمش البعض الآخر مثل فقدان التلفزة التونسية للسيادة اللغوية عندما تستعمل كلمات فرنسية لا ضرورة في استعمالها مثل كلمة reportage فإن ذلك يدعو عالميْ النفس والاجتماع لفهم وتفسير ذلك السلوك، أي أن الضمير العلمي لا يسمح لهما بالفرجة فقط كأغلبية المواطنين.

حضور وفقدان الخطوط الحمراء لحماية السيادة

    فقد غضب كثير من التونسيين والتونسيات عن حدث تغطية العلم التونسي لكنهم لا يظهرون ولا يعبرون عن حرج بالنسبة لكتابة معظم اللافتات باللغة الفرنسية فقط في الشوارع وغيرها في البلاد التونسية. وبعبارة أخرى، فالغضب الكبير الذي أحدثته تغطيةُ العلم ناتج عن وجود خطوط حمراء في المجتمع التونسي تحمي العلم من أي اعتداء وضرر باعتباره رمزا للسيادة الوطنية، بينما تفيد الملاحظات في هذا المجتمع أنه لا توجد خطوط حمراء بل خطوط رمادية في أحسن الأحوال بالنسبة لحماية اللغة العربية/الوطنية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال والثورة. فهذا السلوك الجماعي المهين للغة العربية لا تفسره العبارة التونسية (هكاكا وبرا) بل تفسره العلوم الاجتماعية بكثير من المصداقية.

الأعلاَم واللغات

فالأعلام هي رموز من رموز سيادة الشعوب والمجتمعات المعاصرة لكن اللغات هي أقدم من الأعلام كرموز لسيادة الشعوب والمجتمعات. فالتحليل الفكري يشير إلى أن اللغات أهم بكثير من الأعلام، إذ أن اللغات البشرية تمنح الناس القدرة على التفكير بما فيها التفكير في صناعة الأعلام واحتضانها بحماس قوي كرمز لسيادة الشعوب والمجتمعات. أي أن اللغات البشرية هي بيت القصيد في تعليم البشر خصلة التفكير بكل أنواعه المختلفة. ومن ثم، فميلاد فكرة الأعلام م وصناعتها في أشكالها وألوانها المتنوعة يعود إلى هبة اللغات البشرية التي تتحدثها الشعوب والمجتمعات وتكتب بها. وهكذا يتجلى أن الغيرة على العلم في تونس أكثر من الغيرة على اللغة العربية/الوطنية هي سلوك جماعي في الاتجاه المعاكس لما ذكرناه حول العلاقة بين اللغات والأعلام لدى الشعوب والمجتمعات.

قُصور تشخيص ضُعف التحمس للعربية يذكر معظم التونسيات والتونسيين أن ضعف التحمس للغة العربية في المجتمع التونسي يعود إلى آثار الاستعمار الفرنسي وهو تفسير له نصيب من الصحة لكنه غير دقيق ، فالتونسيات والتونسيون الذين درسوا كل المواد والمواضيع باللغة العربية مثل خريجي ما سُمى شُعبة (أ) في مطلع الاستقلال 1960 وخريجي التعليم الزيتوني الذين درسوا جميع المواد والمواضيع باللسان العربي هم التونسيون اليوم وأمس الذين يدافعون ويتحمسون لاستعمال اللغة العربية أكثر من التونسيات والتونسيين (وهم الأغلبية اليوم) الذين درسوا معظم المواد والمواضيع أو البعض منها باللغة الفرنسية . ومنه، فرغم تعرض الجميع لنفس احتلال الاستعمار الفرنسي فإن الذين درسوا بالفرنسية المواد والمواضيع هم أكثر استعمالا للغة الفرنسية في الحديث والكتابة ومن ثم أكثر تحمسا وتعاطفا كذلك لصالح استمرار حضور الفرنسية في الحياة العامة التونسية في صغيرها وكبيرها. ويعني هذا أن التدريس بالفرنسية يُفسد علاقة المودة مع اللغة العربية/الوطنية. وهكذا يتضح الفرق جليا بين عمليتيْ تعلّم اللغات الأجنبية، من جهة، والتدريس بها، من جهة أخرى. وهو خطأ تربوي يعتقد المسؤولون في نظام التعليم ألتونسي - بما فيهم هؤلاء الذين كُلّفوا بإصلاح التعليم اليوم- أنه ليس بالخطأ الكبير رغم وجود ثلاثة عوامل من المفترض أن تلفت نظرهم إلى ذلك الخطأ العظيم : 1- فأنظمة التعليم في أوروبا تدرس المواد والمواضيع بلغاتها فقط. 2- إن معظم خريجي التعليم التونسي اليوم فاقدون لعلاقة سليمة أي طبيعية ( استعمالهم للغتهم فقط في حديثهم وكتابتهم) مع لغتهم الوطنية/العربية. 3- تفيد الملاحظات الميدانية والتحاليل النظرية أن اللغات هي بطاقات تعريف لهويات الشعوب والمجتمعات، ومنه فإعاقة اللغات من طرف أهلها أو من غيرهم تؤدي إلى ارتباك محتوم في الهويات كما يشهد على ذلك اليوم حال هويات كثير من التونسيات والتونسيين ( أنظر كتابي : إعاقة اللغة وارتباك الهوية 2018).

التدريس بالفرنسية والإعاقة اللغوية النفسية

     لا يقتصر التدريس بالفرنسية على إعاقة اللغة العربية في المجتمع التونسي على الجانبين الشفوي والكتابي فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقة المواطنات والمواطنين بلغتهم بحيث تصبح مكانة هذه الأخيرة عندهم ليست هي المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. فتراهم في كثير من الحالات غير مرتاحين نفسيا (الحشمة) في استعمالها على المستويين الشفوي والكتابي. ومن ثم، طالما يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال اللغة الوطنية مما يؤدي إلى ضُعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. إذن ، فتلك الإعاقة اللغوية النفسية هي سلوك ناتج ومُفصح عن ضُعف أو فقدان العلاقة الحميمة مع اللغة العربية الناتج في المقام الأول من التدريس باللغة الفرنسية الذي أكد على وجوبه من طرف وزير التربية السابق محمود المسعدي الذي صرح لمجلة Dialogue « Il faut enseigner en français et apprendre l’arabe ».. علما أن المسعدي وبورقيبة وغيرهما روّاد الفترة الأولى للاستقلال كانوا خريجي المدرسة الصادقية وغيرها التي درّست بالفرنسية كلغة أولى.

الأهمية العظيمة للغات عند المفكرين وصمتهم عن الأعلام

يعتبر المفكرون أنّ اللغات هي أمهات وجود الشعوب واستمرار حضورها، فهي ليست أفضل من الأعلام فقط بل هي تتفوق على الجبال والغابات والأنهار والبحار والمحيطات في حماية حدود الشعوب وهوياتها وسيادتها. يتجلى من مقولة المفكرين حول الأهمية العظمى للغات في حياة الشعوب والمجتمعات ومن تحليلنا لانتكاسة وضع اللغة العربية/الوطنية في المجتمع التونسي بسبب وجود خطوط رمادية لا خطوط حمراء تمنحها الحماية الوطنية الكاملة باعتبارها رمزا مميّزا للسيادة أعز من العلم التونسي والحدود الجغرافية والسياسية وغيرها كما عبر عن ذلك بوضوح زمرةُ المفكرين.