إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"أحبها بلا ذاكرة".. رواية سبر أغوار الذات على تخوم الذاكرة

 

بقلم: ريم القمري

تونس-الصباح

الانسان بما هو حامل لفكر ،حامل لقضايا..الإنسان بما هو مواقف سياسية، وثقافية واجتماعية، الإنسان بما هو صراع دائم مع ذاته، ومع المجتمع.

تلك هي الأفكار والمحاور التي تبسطها أمامنا رواية "أحبها بلا ذاكرة" للكاتب التونسي لمين السعيدي، والصادرة عن دار عليسة للنشر بتونس.

هذه الرواية الإشكالية في موضوعها، وفي طريقة السرد أيضا، تجعلنا أمام نص مختلف، نص يطرح تساؤلات عديدة ،وقضايا متشابكة جوهرها الإنسان.. الإنسان بما يحمله من متناقضات نفسية، اجتماعية ثقافية.

الانسان إبن بيئته ومجتمعه ،وأيضا إبن عقد نقصه وابن تجاربه الفاشلة. الانسان ضحية مبادئه الفكرية.

وتقدم رواية "أحبها بلا ذاكرة "للكاتب أمين السعيدي رؤية فلسفية  ، حيث تتشابك أفكار الشخصيات في نضالها لبناء هويتها، وفهم الذات وسط صراعات مع الطبيعة والمجتمع والسلطة والرغبات الذاتية.

و تسلط الرواية  الضوء على معركة العقل ضد قيود المجتمع، وتقدم الحرية كمفهوم أساسي وجوهري لتحرر الشعوب والإنسانية جمعاء.

ويبرز الحلم في حياة بطل الرواية "عدنان" كعمود فقري يشد البناء السردي داخل الرواية، ويربط الأحداث فيما بينها.

هذا البطل، الذي عاش تجارب نفسية وحسية قوية جعلته ينضج قبل أوانه ، وجعلته يتحول إلى رمز حقيقي في نظر المجتمع وفي نظر نفسه.

وهذا البطل نفسه، الذي سيواجه مصيره بكل حرية ومسؤولية ، وسيقف في مواجهة ذاته، ليحاسبها وليغير مواقفه القديمة، متجاهلا ما يمكن أن يسببه له ذلك من نكران ، ونفور داخل مجتمع كان يعتبره رمزا ومثلا أعلى،  فهي أيضا  بهذا المعنى، رواية الشجاعة.

ويعتمد السعيدي في السرد على تقنية الفلاش باك  حيث يتنقل بنا الكاتب ، بين الأحداث الماضية والحاضرة ليربطها بسلاسة، مما يعزز البنية السردية ويعطيها طابعا متميزا وفريدا.

ويصور الكاتب بطله "عدنان" شخصية متمردة في المقام الغول على التقاليد والسلطة السياسية، ويسعى إلى تحرير المجتمع من أغلال الجهل والفقر بمعناه المادي والفكري أيضا. و في المقام الثاني سيتحول إلى متمرد على نفسه وعلى أفكاره وعلى مواقفه ومبادئه.

 وذلك حين يكتشف أن حلمه بالحرية والعدالة والكرامة قد أصبح يشكل قيداً جديداً عليه .

هذا الاكتشاف سيجعله يعيش تناقضا فكريا ونفسيا وهذا التناقض سيجعله شخصية مضطربة تكافح لفهم تعقيدات الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية ليبدأ رحلة جديدة عند بلوغه العقد الرابع من عمره، مذكراً إيانا بأسطورة سيزيف او بغيلان المسعدي في رواية السد، وشخصية أبو هريرة في رواية "حدث أبو هريرة قال"، وإن اختلف السياق واختلف الوضع إلا أن الرحلة تبدو ذاتها.

تدور أحداث الرواية في أماكن واقعية وغامضة، مما يزيد من غرابة النص ويعمق أبعاده. وهناك مراوحة  في الأماكن بين المدينة بكل فضاءاتها،  القرية والريف أيضا بكل ما فيه من فضاءات تختلف كليا عن فضاءات المدينة.

مما يجعلنا ننتقل في كل مرة بين القرية والمدينة في رحلات سريعة خاطفة.

الحوار يتراوح بين الضمني والصريح، مما يبرز جليا اختلاف الشخصيات فكرياً وعقائدياً واجتماعياً، إلا أنها جميعاً تتفق في اضطرابها وحيرتها و خاصة في محاولاتها ورغبتها في فهم الذات وفهم الآخر.

و جل هذه الحوارات تدفع القارئ للتفكير في النقد الذاتي وتصحيح الأخطاء، ونقد كل ما يعتبر مسكوتاً عنه في المجتمعات المدنية والريفية على حد السواء.

البطل "عدنان"، يخوض مغامرات متعددة تعكس صراعاً داخلياً بين الروح والعقل والجسد، حيث تتجلى هذه التناقضات في تجاربه  الحسية والروحية بين الخمر والصلاة، الجنس المحرم والأخلاق، السعادة والحرية، الحب والجنس ، المرأة و علاقتها بالرجل.

تتنوع أساليب السرد في الرواية بين الحوار المباشر والحوار الضمني، إلى جانب الوصف والتناص مع الشعر والنثر والنصوص الدينية، مما يخلق نصاً غريباً يشبه غربة البطل "عدنان".

تميز السعيدي بتوظيف اللغة بشكل مبدع، مستخدماً الأساليب البيانية المتنوعة من مجاز وتشبيه واستعارة وكناية، مما يمنح العمل تماسكاً في البنية والمضمون. هيمنة الاسترجاع أول الفلاش باك على أحداث الرواية تشير إلى ذاكرة تسعى لتطليق الماضي وتصوغ معالم مستقبل مختلف يشكل قطيعه مع ماض فاشل. لكن الماضي يظل رابضا في ذاكرة وقلب بطل الرواية، كأننا مهما فعلنا لا نستطيع أن أن نتخلص من الماضي.

ولعل شخصية سارة المعلمة ، التي يصعب الحكم عليها أو تصنيفها، أكبر دليل على ذلك .

فهي تارة الحب الحقيقي وتارة أخرى هي المرأة التي استغلت الطفل وحولته باكرا إلى رجل،  وهي أحيانا أخرى المرأة كاملة الأنوثة والتي لا شبيه ولا مثيل لها.

لكنها في كل الأحوال كانت حاضرة بقوة وتنجح دائما في العودة  بالبطل إلى الماضي.

وهنا نقف في حيرة أمام هذه الشخصية الإشكالية والمعقدة لهذه المرأة ، التي عاشت قصة حب وجنس محرم، مع تلميذها في فحولته التي لا يزال متراوحا فيها  بين الطفولة والمراهقة ،إلى رجل كامل الفحولة .

ونجد أنفسنا عاجزين، عن الحكم عليها ،هل نعتبرها أجرمت بحق الطفولة ، أم علينا أن نحبها ، ونراها بعيون "عدنان" الذي ما توقف أبدا عن حبها ، وظل يبحث عنها في كل النساء اللاتي عرفهن بعدها.

أعتقد أن الكاتب هنا استعمل هذه المرأة كرمز، فهي ليست مجرد امرأة،  إنها ربما تمثل المجتمع وما يتركه فينا من أثر حين يعيد تشكيل شخصيتنا منذ نعومة أظافرنا،  وهو ما سينعكس مستقبلا على كل حياتنا. ويحدد مصائرنا.

رواية ، "أحبها بلا ذاكرة" هي مغامرة فكرية لرجل يثور على التاريخ السياسي والفكري والأدبي لوطن بأسره.  يبتكر مفاهيم جديدة، ساعياً لثورة تشمل كل ما يتعلق بالإنسان والحياة، محاولاً فك قيود الماضي والتطلع إلى مستقبل أفضل.

 "أحبها بلا ذاكرة".. رواية سبر أغوار الذات على تخوم الذاكرة

 

بقلم: ريم القمري

تونس-الصباح

الانسان بما هو حامل لفكر ،حامل لقضايا..الإنسان بما هو مواقف سياسية، وثقافية واجتماعية، الإنسان بما هو صراع دائم مع ذاته، ومع المجتمع.

تلك هي الأفكار والمحاور التي تبسطها أمامنا رواية "أحبها بلا ذاكرة" للكاتب التونسي لمين السعيدي، والصادرة عن دار عليسة للنشر بتونس.

هذه الرواية الإشكالية في موضوعها، وفي طريقة السرد أيضا، تجعلنا أمام نص مختلف، نص يطرح تساؤلات عديدة ،وقضايا متشابكة جوهرها الإنسان.. الإنسان بما يحمله من متناقضات نفسية، اجتماعية ثقافية.

الانسان إبن بيئته ومجتمعه ،وأيضا إبن عقد نقصه وابن تجاربه الفاشلة. الانسان ضحية مبادئه الفكرية.

وتقدم رواية "أحبها بلا ذاكرة "للكاتب أمين السعيدي رؤية فلسفية  ، حيث تتشابك أفكار الشخصيات في نضالها لبناء هويتها، وفهم الذات وسط صراعات مع الطبيعة والمجتمع والسلطة والرغبات الذاتية.

و تسلط الرواية  الضوء على معركة العقل ضد قيود المجتمع، وتقدم الحرية كمفهوم أساسي وجوهري لتحرر الشعوب والإنسانية جمعاء.

ويبرز الحلم في حياة بطل الرواية "عدنان" كعمود فقري يشد البناء السردي داخل الرواية، ويربط الأحداث فيما بينها.

هذا البطل، الذي عاش تجارب نفسية وحسية قوية جعلته ينضج قبل أوانه ، وجعلته يتحول إلى رمز حقيقي في نظر المجتمع وفي نظر نفسه.

وهذا البطل نفسه، الذي سيواجه مصيره بكل حرية ومسؤولية ، وسيقف في مواجهة ذاته، ليحاسبها وليغير مواقفه القديمة، متجاهلا ما يمكن أن يسببه له ذلك من نكران ، ونفور داخل مجتمع كان يعتبره رمزا ومثلا أعلى،  فهي أيضا  بهذا المعنى، رواية الشجاعة.

ويعتمد السعيدي في السرد على تقنية الفلاش باك  حيث يتنقل بنا الكاتب ، بين الأحداث الماضية والحاضرة ليربطها بسلاسة، مما يعزز البنية السردية ويعطيها طابعا متميزا وفريدا.

ويصور الكاتب بطله "عدنان" شخصية متمردة في المقام الغول على التقاليد والسلطة السياسية، ويسعى إلى تحرير المجتمع من أغلال الجهل والفقر بمعناه المادي والفكري أيضا. و في المقام الثاني سيتحول إلى متمرد على نفسه وعلى أفكاره وعلى مواقفه ومبادئه.

 وذلك حين يكتشف أن حلمه بالحرية والعدالة والكرامة قد أصبح يشكل قيداً جديداً عليه .

هذا الاكتشاف سيجعله يعيش تناقضا فكريا ونفسيا وهذا التناقض سيجعله شخصية مضطربة تكافح لفهم تعقيدات الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية ليبدأ رحلة جديدة عند بلوغه العقد الرابع من عمره، مذكراً إيانا بأسطورة سيزيف او بغيلان المسعدي في رواية السد، وشخصية أبو هريرة في رواية "حدث أبو هريرة قال"، وإن اختلف السياق واختلف الوضع إلا أن الرحلة تبدو ذاتها.

تدور أحداث الرواية في أماكن واقعية وغامضة، مما يزيد من غرابة النص ويعمق أبعاده. وهناك مراوحة  في الأماكن بين المدينة بكل فضاءاتها،  القرية والريف أيضا بكل ما فيه من فضاءات تختلف كليا عن فضاءات المدينة.

مما يجعلنا ننتقل في كل مرة بين القرية والمدينة في رحلات سريعة خاطفة.

الحوار يتراوح بين الضمني والصريح، مما يبرز جليا اختلاف الشخصيات فكرياً وعقائدياً واجتماعياً، إلا أنها جميعاً تتفق في اضطرابها وحيرتها و خاصة في محاولاتها ورغبتها في فهم الذات وفهم الآخر.

و جل هذه الحوارات تدفع القارئ للتفكير في النقد الذاتي وتصحيح الأخطاء، ونقد كل ما يعتبر مسكوتاً عنه في المجتمعات المدنية والريفية على حد السواء.

البطل "عدنان"، يخوض مغامرات متعددة تعكس صراعاً داخلياً بين الروح والعقل والجسد، حيث تتجلى هذه التناقضات في تجاربه  الحسية والروحية بين الخمر والصلاة، الجنس المحرم والأخلاق، السعادة والحرية، الحب والجنس ، المرأة و علاقتها بالرجل.

تتنوع أساليب السرد في الرواية بين الحوار المباشر والحوار الضمني، إلى جانب الوصف والتناص مع الشعر والنثر والنصوص الدينية، مما يخلق نصاً غريباً يشبه غربة البطل "عدنان".

تميز السعيدي بتوظيف اللغة بشكل مبدع، مستخدماً الأساليب البيانية المتنوعة من مجاز وتشبيه واستعارة وكناية، مما يمنح العمل تماسكاً في البنية والمضمون. هيمنة الاسترجاع أول الفلاش باك على أحداث الرواية تشير إلى ذاكرة تسعى لتطليق الماضي وتصوغ معالم مستقبل مختلف يشكل قطيعه مع ماض فاشل. لكن الماضي يظل رابضا في ذاكرة وقلب بطل الرواية، كأننا مهما فعلنا لا نستطيع أن أن نتخلص من الماضي.

ولعل شخصية سارة المعلمة ، التي يصعب الحكم عليها أو تصنيفها، أكبر دليل على ذلك .

فهي تارة الحب الحقيقي وتارة أخرى هي المرأة التي استغلت الطفل وحولته باكرا إلى رجل،  وهي أحيانا أخرى المرأة كاملة الأنوثة والتي لا شبيه ولا مثيل لها.

لكنها في كل الأحوال كانت حاضرة بقوة وتنجح دائما في العودة  بالبطل إلى الماضي.

وهنا نقف في حيرة أمام هذه الشخصية الإشكالية والمعقدة لهذه المرأة ، التي عاشت قصة حب وجنس محرم، مع تلميذها في فحولته التي لا يزال متراوحا فيها  بين الطفولة والمراهقة ،إلى رجل كامل الفحولة .

ونجد أنفسنا عاجزين، عن الحكم عليها ،هل نعتبرها أجرمت بحق الطفولة ، أم علينا أن نحبها ، ونراها بعيون "عدنان" الذي ما توقف أبدا عن حبها ، وظل يبحث عنها في كل النساء اللاتي عرفهن بعدها.

أعتقد أن الكاتب هنا استعمل هذه المرأة كرمز، فهي ليست مجرد امرأة،  إنها ربما تمثل المجتمع وما يتركه فينا من أثر حين يعيد تشكيل شخصيتنا منذ نعومة أظافرنا،  وهو ما سينعكس مستقبلا على كل حياتنا. ويحدد مصائرنا.

رواية ، "أحبها بلا ذاكرة" هي مغامرة فكرية لرجل يثور على التاريخ السياسي والفكري والأدبي لوطن بأسره.  يبتكر مفاهيم جديدة، ساعياً لثورة تشمل كل ما يتعلق بالإنسان والحياة، محاولاً فك قيود الماضي والتطلع إلى مستقبل أفضل.