-الشّرح هو مبدأ إجرائي عامّ ينسحب على كلّ الأحكام والأذون النّافذة
إبراهيم البَرتاجي
أستاذ تعليم عال في القانون العامّ
ينشرح الصّدر عند الاطّلاع على حكم الشّرح الّذي أصدره الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بتاريخ 18 أكتوبر 2022 في قضية اللّوز والمتعلّق بقرار في توقيف التّنفيذ صادر عنه، وذلك لأنّه توخّى فيه أقصى درجات الوضوح حتّى تتمكّن الإدارة من فهم ما يتعيّن عليها القيام به تنفيذا لما تمّ القضاء به.
انطلقت القضية بصدور قرار إداري يقضي بإلغاء دورة امتحان الباكالوريا في خصوص تلميذ تمّ اتّهامه بارتكاب عملية غشّ. طعن المعني بالأمر في هذا القرار وطلب توقيف تنفيذه. وقد استجاب الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية لهذا الطّلب بعد أن تثبّت من توفّر شرطي المطاعن الجدّية والأضرار الّتي يصعب تداركها، حسب ما تقرّه أحكام قانون المحكمة الإدارية الصّادر في 1 جوان 1972 وفقه القضاء الإداري.
لكن لم يتمكّن المعني بالأمر من تنفيذ هذا القرار القضائي بسبب، على ما يبدو، عدم تبيُّن الإدارة ما يعنيه توقيف التّنفيذ بصفة عملية، أي ما هو الواجب المحمول عليها تبعا لما قضت به المحكمة. إزاء هذا الوضع طلب المدّعي من القاضي أن يشرح حكمه، استنادا إلى ما جاء في الفصل 57 من قانون المحكمة الإدارية كما وقع تنقيحه في 3 جوان 1996 من انّه " يمكن للدّائرة الّتي صدر عنها الحكم النّظر في شرح منطوق حكمها..." تجاوز هنا القاضي عبارة " الدّائرة" الموجودة في الفصل 57 المذكور وبيّن عن صواب " أنّ الشّرح هو مبدأ إجرائي عامّ ينسحب على كلّ الأحكام والأذون النّافذة باعتباره يساعد على رفع الغموض عنها ويسهّل تنفيذها. " ومن حيث الأصل، قدّم القاضي شرحا ضافيا شافيا بيّن فيه أنّه تمّ وقتيا إلغاء القرار الإداري المطعون فيه، ممّا تكون معه الإدارة مدعوّة إلى معاملة المعني بالأمر كسائر المترشّحين.
إلغاء قرار الإدارة وقتيا
بيّن الرّئيس الأوّل بوضوح " أنّ المقصود من منطوق القرار موضوع المطلب الماثل هو إلغاء قرار إلغاء الدّورة في حقّ العارض ". وغنيّ عن الذّكر أنّ المقصود هنا هو الإلغاء الوقتي باعتبار أنّ الإلغاء النّهائي يتمّ لاحقا، عند الاقتضاء، من طرف قاضي الأصل. وقد تعمّد الرّئيس الأوّل عدم إضافة عبارة " وقتي " ليبيّن كما ينبغي أنّه، من حيث الآثار الحينية يتساوى توقيف التّنفيذ والإلغاء. ففي الحالتين يزول القرار الإداري المشتكى منه ويُعتبر كأنّه لم يوجد. إنّما يكمن الفرق بين الإجراءين المذكورين في مدى هذا الزّوال، فهو وقتي عند توقيف التّنفيذ وهو نهائي عند الإلغاء. والواضح أنّ الرّئيس الأوّل قد ضاق ذرعا بصعوبات الفهم الحقيقية أو المفتعلة المتّصلة بالقرارات القاضية بتوقيف التّنفيذ، فالتجأ إلى ما يشبه العلاج بالصّدمة، وذلك باستعمال عبارة " الإلغاء " ليبيّن أنّ القرار الإداري المشتكى منه اندثر، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
وحسنا فعل القاضي عندما اجتنب إضافة عبارة " وقتي " الّتي لا يشكّ أحد من أهل الاختصاص في أنّها موجودة ضمنيا. إنّما لم يكن الكلام موجّها إلى الخاصّة، بل كان موجّها إلى عامّة المنظورين والإداريين، بما فيهم الإدارة المدّعى عليها الّتي يتعيّن عليها أن تفهم أن قرارها لم يعد موجودا. بذلك ليس من شأن ذكر كلمة " وقتي " أن يُضيف شيئا في عملية التّنفيذ، بل، على العكس من ذلك، قد يُدخل وجودها ضبابية على المشهد يجعل الإدارة تتساءل إن كان الإلغاء الوقتي يُلزمها بأن تعيد الحالة إلى ما كانت عليه.
معاملة المدّعي كسائر المترشّحين
لم يكتف القاضي الإداري بالقول أنّه تمّ إلغاء القرار الإداري المشتكى منه، بل حرص على أن يبيّن الخطوات الّتي يتعيّن على الإدارة القيام بها تبعا لقرار توقيف التّنفيذ الصّادر عنه. وبما أنّ المعني بالأمر اجتاز الاختبارات، بيّنت المحكمة أنّه يتعيّن " احتساب نتائجه في موادّ الامتحان الّتي اجتازها كغيره من المترشّحين والتّصريح بنجاحه أو رسوبه حسب المعدّل المتحصّل عليه ".
وليس من المبالغة القول أنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته إذنا موجّها للإدارة يأمرها بما يجب القيام به بعد صدور قرار توقيف التّنفيذ. ومثل هذا الإذن لا يقلّ أهمّية عن الإذن الّذي وجّهه القاضي ألاستعجالي الإداري في قضية مالوش بتاريخ 23 ديسمبر 2021، في إطار تنفيذ حكم بالإلغاء صادر عن المحكمة الإدارية.
يبيّن هذا الحكم الصّادر عن الرّئيس الأوّل أنّ المحكمة الإدارية ابتعدت كلّيا عمّا سبق أن قالته من أنّ " طريقة الشّرح هي ليست طريقة تهدف إلى بيان كيفية تنفيذ الأحكام " (حكم في الشّرح صادر بتاريخ 22 جانفي 1999)، وهو ما يدلّ على أنّ فقه القضاء مادّة حية محكومة بسنّة التّطوّر.
نجد هنا قاضيا قريبا من المتقاضي وحاسّا بمعاناته. فلا هو تمسّك بأنّ منطوق الحكم واضح ولا يستحقّ شرحا، ولا هو اكتفى بالقول أنّه تمّ إلغاء القرار الإداري المشتكى منه. بل اعتمد تمشّيا بيداغوجيا سمح له بتوضيح الرّؤية كما ينبغي أمام الإدارة حتّى تذعن لحكمه وهي مطمئنّة أنّ ذاك هو السّبيل القانوني السّليم. أبدع الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بهذا الحرص على إنصاف المدّعي ورفع كلّ حرج عن الإدارة. وحريّ بمختلف الهيئات القضائية أن تتّبع مثل هذا التّمشّي سواء عند إصدار الأحكام أو عند شرحها، وذلك حرصا على إيصال الحقوق إلى أصحابها ونُصرة لدولة القانون.
-الشّرح هو مبدأ إجرائي عامّ ينسحب على كلّ الأحكام والأذون النّافذة
إبراهيم البَرتاجي
أستاذ تعليم عال في القانون العامّ
ينشرح الصّدر عند الاطّلاع على حكم الشّرح الّذي أصدره الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بتاريخ 18 أكتوبر 2022 في قضية اللّوز والمتعلّق بقرار في توقيف التّنفيذ صادر عنه، وذلك لأنّه توخّى فيه أقصى درجات الوضوح حتّى تتمكّن الإدارة من فهم ما يتعيّن عليها القيام به تنفيذا لما تمّ القضاء به.
انطلقت القضية بصدور قرار إداري يقضي بإلغاء دورة امتحان الباكالوريا في خصوص تلميذ تمّ اتّهامه بارتكاب عملية غشّ. طعن المعني بالأمر في هذا القرار وطلب توقيف تنفيذه. وقد استجاب الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية لهذا الطّلب بعد أن تثبّت من توفّر شرطي المطاعن الجدّية والأضرار الّتي يصعب تداركها، حسب ما تقرّه أحكام قانون المحكمة الإدارية الصّادر في 1 جوان 1972 وفقه القضاء الإداري.
لكن لم يتمكّن المعني بالأمر من تنفيذ هذا القرار القضائي بسبب، على ما يبدو، عدم تبيُّن الإدارة ما يعنيه توقيف التّنفيذ بصفة عملية، أي ما هو الواجب المحمول عليها تبعا لما قضت به المحكمة. إزاء هذا الوضع طلب المدّعي من القاضي أن يشرح حكمه، استنادا إلى ما جاء في الفصل 57 من قانون المحكمة الإدارية كما وقع تنقيحه في 3 جوان 1996 من انّه " يمكن للدّائرة الّتي صدر عنها الحكم النّظر في شرح منطوق حكمها..." تجاوز هنا القاضي عبارة " الدّائرة" الموجودة في الفصل 57 المذكور وبيّن عن صواب " أنّ الشّرح هو مبدأ إجرائي عامّ ينسحب على كلّ الأحكام والأذون النّافذة باعتباره يساعد على رفع الغموض عنها ويسهّل تنفيذها. " ومن حيث الأصل، قدّم القاضي شرحا ضافيا شافيا بيّن فيه أنّه تمّ وقتيا إلغاء القرار الإداري المطعون فيه، ممّا تكون معه الإدارة مدعوّة إلى معاملة المعني بالأمر كسائر المترشّحين.
إلغاء قرار الإدارة وقتيا
بيّن الرّئيس الأوّل بوضوح " أنّ المقصود من منطوق القرار موضوع المطلب الماثل هو إلغاء قرار إلغاء الدّورة في حقّ العارض ". وغنيّ عن الذّكر أنّ المقصود هنا هو الإلغاء الوقتي باعتبار أنّ الإلغاء النّهائي يتمّ لاحقا، عند الاقتضاء، من طرف قاضي الأصل. وقد تعمّد الرّئيس الأوّل عدم إضافة عبارة " وقتي " ليبيّن كما ينبغي أنّه، من حيث الآثار الحينية يتساوى توقيف التّنفيذ والإلغاء. ففي الحالتين يزول القرار الإداري المشتكى منه ويُعتبر كأنّه لم يوجد. إنّما يكمن الفرق بين الإجراءين المذكورين في مدى هذا الزّوال، فهو وقتي عند توقيف التّنفيذ وهو نهائي عند الإلغاء. والواضح أنّ الرّئيس الأوّل قد ضاق ذرعا بصعوبات الفهم الحقيقية أو المفتعلة المتّصلة بالقرارات القاضية بتوقيف التّنفيذ، فالتجأ إلى ما يشبه العلاج بالصّدمة، وذلك باستعمال عبارة " الإلغاء " ليبيّن أنّ القرار الإداري المشتكى منه اندثر، إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
وحسنا فعل القاضي عندما اجتنب إضافة عبارة " وقتي " الّتي لا يشكّ أحد من أهل الاختصاص في أنّها موجودة ضمنيا. إنّما لم يكن الكلام موجّها إلى الخاصّة، بل كان موجّها إلى عامّة المنظورين والإداريين، بما فيهم الإدارة المدّعى عليها الّتي يتعيّن عليها أن تفهم أن قرارها لم يعد موجودا. بذلك ليس من شأن ذكر كلمة " وقتي " أن يُضيف شيئا في عملية التّنفيذ، بل، على العكس من ذلك، قد يُدخل وجودها ضبابية على المشهد يجعل الإدارة تتساءل إن كان الإلغاء الوقتي يُلزمها بأن تعيد الحالة إلى ما كانت عليه.
معاملة المدّعي كسائر المترشّحين
لم يكتف القاضي الإداري بالقول أنّه تمّ إلغاء القرار الإداري المشتكى منه، بل حرص على أن يبيّن الخطوات الّتي يتعيّن على الإدارة القيام بها تبعا لقرار توقيف التّنفيذ الصّادر عنه. وبما أنّ المعني بالأمر اجتاز الاختبارات، بيّنت المحكمة أنّه يتعيّن " احتساب نتائجه في موادّ الامتحان الّتي اجتازها كغيره من المترشّحين والتّصريح بنجاحه أو رسوبه حسب المعدّل المتحصّل عليه ".
وليس من المبالغة القول أنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته إذنا موجّها للإدارة يأمرها بما يجب القيام به بعد صدور قرار توقيف التّنفيذ. ومثل هذا الإذن لا يقلّ أهمّية عن الإذن الّذي وجّهه القاضي ألاستعجالي الإداري في قضية مالوش بتاريخ 23 ديسمبر 2021، في إطار تنفيذ حكم بالإلغاء صادر عن المحكمة الإدارية.
يبيّن هذا الحكم الصّادر عن الرّئيس الأوّل أنّ المحكمة الإدارية ابتعدت كلّيا عمّا سبق أن قالته من أنّ " طريقة الشّرح هي ليست طريقة تهدف إلى بيان كيفية تنفيذ الأحكام " (حكم في الشّرح صادر بتاريخ 22 جانفي 1999)، وهو ما يدلّ على أنّ فقه القضاء مادّة حية محكومة بسنّة التّطوّر.
نجد هنا قاضيا قريبا من المتقاضي وحاسّا بمعاناته. فلا هو تمسّك بأنّ منطوق الحكم واضح ولا يستحقّ شرحا، ولا هو اكتفى بالقول أنّه تمّ إلغاء القرار الإداري المشتكى منه. بل اعتمد تمشّيا بيداغوجيا سمح له بتوضيح الرّؤية كما ينبغي أمام الإدارة حتّى تذعن لحكمه وهي مطمئنّة أنّ ذاك هو السّبيل القانوني السّليم. أبدع الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بهذا الحرص على إنصاف المدّعي ورفع كلّ حرج عن الإدارة. وحريّ بمختلف الهيئات القضائية أن تتّبع مثل هذا التّمشّي سواء عند إصدار الأحكام أو عند شرحها، وذلك حرصا على إيصال الحقوق إلى أصحابها ونُصرة لدولة القانون.