إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر الهادي دانيال لـ"الصباح": أتوجه بشعري إلى ذاتي التي تستدرك انهيارها أمام خراب العالم

 

 

حوار محسن بن احمد

ساقه  القدر ليحل بتونس منذ 42 سنة خلت .. على أرضها انطلق في تأسيس مملكته الشعرية والفكرية الثائرة على السائد  والمتمردة على الخمول .. كسب الرهان بجديته وإيمانه بالكلمة الفاعلة التواقة إلى الأجمل والأرقى والأفضل في الحياة

"الهادي دانيال" السوري المولد والنشأة والفلسطيني الهوى والتونسي الاستقرار والمكان هو اليوم أحد الفاعلين ومن رواد المشهد الثقافي التونسي والعربي على حد السواء.

الهادي دانيال يحمل على كاهله تجربة إبداعية استثنائية نحتها من ذاته التي عاشت وعرفت ولامست أكثر من مكان وموضع وموقف وحدث ذاتي وعام

**مَن الذي أغراك باقتحام عالم الكتابة بمختلف تفرعاتها؟

- القراءة والرغبة الملحة بالتعبير الجمالي عن الذات القلقة هما اللتان دفعتاني إلى الكتابة فمنذ كنت طفلا يتلقى مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة القرية الجبلية المسربلة بالغابات والوديان كنت ألفت انتباه محيطي بخطّي الجميل ورسومي الأنيقة وفي ذات الوقت ألْفِتُ الانتباه بما أؤلفه من أزجال أنافس بها قوّاليّ القرية الذين كانوا يرتجلون أزجالهم بينما أكتب أزجالي برويّة على الأوراق التي أنتزعها من الدفتر المدرسي ومن هذه الأوراق أقرأ تلك الأزجال التي كان معظمها سخرية فَكِهة من القوّالين القرويين الذين يتراشقون بعبارات الهجاء  المقفاة. عندما انتقلت عائلتي الصغيرة إلى العاصمة دمشق وأنا لا أزال في المرحلة الابتدائية تكثف اهتمامي بالرسم والغناء فأسمع وأردد بشغف أغاني عبد الحليم حافظ، وأرسم بدقة وجوها أحببتها كوجه أختي الصغيرة آنذاك ووجهَي الشهيدين الطيار فايز منصور والفدائي الأخضر العربي وغيرهم. ولكن ما إن عثرت في صيف 1970 ،الذي قضيته في القرية، على مكتبة عمي الأصغر حتى التهمت ما احتوته من أعمال جبران خليل جبران والمنفلوطي ونجيب محفوظ وحنا مينة وفارس زرزور وجرجي زيدان، وكما هائلا من الروايات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية كان أبرزها الترجمتان الكاملتان لرواية فيكتور هوغو "البؤساء" ورواية مكسيم غوركي "الأم" إضافة إلى دفاتر جوزيف ستالين.

وعندما عدت إلى العاصمة وجدتني مدمنا على القراءة من خارج المنهاج المدرسي وعلى حسابه، وأكتب الخواطر والمحاولات الشعرية وأرسلها إلى الصحف والمجلات السورية والفلسطينية التي تصدر في دمشق فلقيَتْ اهتماما من محرريّ الصفحات الثقافية الذين كانوا أسماء لامعة في الفضاء الثقافي السوري والعربي وأعني هنا ممدوح عدوان، بندر عبد الحميد، خلدون الشمعة، علي الجندي، زكريا تامر، علي كنعان، صدر الدين الماغوط، وأحمد دحبور. وفي أوائل سنة  1973 تعرفت على الشاعر محمد خالد رمضان من خلال مجلة "جيل الثورة" التي كانت المنبر الأول للكتابات الشابة، ومن مكتبته الخاصة قرأت جميع أعداد مجلتي "حوار" و"شعر" اللبنانيتين، وجميع مجلدات "الأعمال الكاملة" لبدر شاكر السياب وخليل حاوي ويوسف الخال وأدونيس وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط ومحمود درويش، ومجلدات الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وغيرها. وفي هذه الفترة أصبحتُ اسما معروفا لدرجة أنّ خلدون الشمعة قال لي إنّني واحد من الذين يعلّق مستقبَل الشعر السوري عليهم آمالا، وطلب مني مخطوط مجموعتي الشعرية الأولى لإصدارها عن اتحاد الكتّاب العرب لأنه تكلّم مع زكريا تامر بهذا الشأن، لكنّ ذلك كان آخر ما يشغلني.

**الهادي دانيال سوري المولد والنشأة والصبا ماذا فعل المكان الشامي بك؟

-ولدت في قرية جبلية يبدو البحر من شرفة منزلنا فيها خيطا أزرق يلمع حين تشرق الشمس وينكسر بها حين تغرب.. بيئة زراعية غابية غادرتها مبكرا إلى العاصمة دمشق وسكنت في ضاحية من ضواحيها تسمى "القابون" يقطن فيها إضافة إلى سكانها الأصليين، القادمون من الساحل ومن شمال وجنوب البلاد للعمل في مؤسسات الدولة الصناعية والعسكرية، كانت "القابون" محاطة بمساحات شاسعة مزروعة بأشجار المشمش والعنب وأنواع الخضار ابتلعها مع الوقت إسمنت البناء العشوائي للسكن وغيره. كانت مجلتا "الجندي" نصف الشهرية و"جيش الشعب" الأسبوعية بعض مصادري المعرفية وأيضا كانتا منبرين لنشر قصائدي. ومن إعلام دولة في حالة حرب مع الكيان الصهيوني تكوّن لا وعيي الساخط على الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، ومن مجتمع يسمي الفلسطينيين "لاجئين" وأهل القنيطرة المحتلة "نازحين" بدأ وعيي السياسي يتخلص من شرنقته ويجتاز بجناحي فراشة هشّين الحدود "حرْقاً" أي بطريقة غير شرعية إلى لبنان للالتحاق بالثورة الفلسطينية في بيروت. كنت لا أزال "طفلا" تحت السن القانوني وبالتالي لا يُسمح لي بمغادرة البلاد إلا بموافقة ولي الأمر وكفالته. حدث ذلك في أواخر سنة1973. كان جيشنا قد خرج من حرب "تشرين"(أكتوبر) التي استعاد بها مدينة القنيطرة لكن مرتفعات الجولان ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى الآن، في هذه الفترة اتخذت قرارات مصيرية ونفذتها: مغادرة سلطة العائلة والدين، وسلطة المدرسة، وسلطة المجتمع، وسلطة الحزب الشيوعي وتوجهت رأسا إلى ذلك الحيّز الغامض والفضاء الحر في هذا المكان الشامي من بيروت الغربية إلى الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة الذي تؤثثه الثورة الفلسطينية بفصائلها المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية وبالأحزاب المنضوية في الحركة الوطنية اللبنانية، تلك الفصائل والأحزاب بمؤسساتها المدنية والعسكرية كانت تكوّن مجتمعا حرا مسلّحاً وديمقراطيا في آن، هو مجتمع الثورة الذي بوصلته بالأساس تحرير فلسطين واستعادة الحق الفلسطيني. في هذا المجتمع الاستثنائي تكونتُ فكريا وسياسيا، خاصة وأنني إبّان التحاقي بصفوف الثورة فدائيا يحمل السلاح الذي تدرب على تفكيكه وتركيبه واستخدامه كنت في الآن نفسه أنشر قصائدي في المجلات والصحف اللبنانية والفلسطينية التي تصدر في بيروت، وبعد ذلك بأشهُر أصدرتُ مجموعتي الشعرية الأولى وتمّ إلحاقي بمؤسسات الثورة الإعلامية، محررا ثقافيا لمجلة "الصمود" لسان جبهة الرفض الفلسطينية، فمصححا ومحررا ثقافيا فسكرتيرا لتحرير مجلة "الهدف" لسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فمدير برامج ثقافية لإذاعة "صوت فلسطين" إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية إلى أن غادرنا بيروت باتجاه تونس.

**الهجرة ومغادرة أرض المولد بالنسبة لك هل كان اختيارا منك أم اضطرارا؟

-الهجرة الأولى في سن الطفولة الأولى كانت، كما أسلفتُ، مع العائلة داخل الدولة السورية من القرية الساحلية إلى إحدى ضواحي العاصمة دمشق، الهجرة الثانية كانت اختيارية في سن المراهقة إلى خارج الدولة السورية ولكن داخل بلاد الشام جغرافيّاً وتاريخياً، لكن الهجرة إلى تونس كانت انضباطا لقرارات منظمة التحرير الفلسطينية. كان ذلك قبل اثنين وأربعين عاما، وكنت في السادسة والعشرين من عمري وفي رصيدي ست مجموعات شعرية صدرت جميعها في بيروت.

**منذ أكثر من 42 سنة وأنت مستقر في تونس ماذا تحتفظ في ذاكرتك عن السنوات الأولى لك فيها؟.

-بشكل عام أذكر تلك الحفاوة منقطعة النظير من الدولة والشعب بقيادة منظمة التحرير ومقاتليها ومؤسساتها وكادرها السياسي والإعلامي والثقافي والأمني ، ولكن فيما يخصني كان هاجسي التعرّف على المشهد الثقافي التونسي، وإن كان اسمي قد سبقني سنة 1977 عبر مجلة "الهدف" إلى الجزائر التي زرتها لأول مرة سنة 1977لمدة شهر وأسبوعين، فقد رسخ بتونس في ذاكرة  المنتج الثقافي "الحبيب بلهادي" من حفل أحياه الفنان المغربي "سعيد المغربي" وأنشد من ألحانه واحدة من قصائد مجموعتي الشعرية الأولى. وقد عرّفني "الحبيب" إلى أصدقائه في الوسط الثقافي كالناقد أحمد حاذق العرف والشعراء محمد العوني، المنصف المزغني، ومحمد الصغير أولاد أحمد، وكانت فاتحة التعارف مشاركتي في مهرجان الشعر العربي الحديث في دار الثقافة ابن خلدون، ومن خلال "الحبيب" أيضا تعرفت على صحيفة "الطريق الجديد" لسان الحزب الشيوعي التونسي وعلى رئيس تحريرها الرفيق الراحل "أحمد ابراهيم" الذي دعاني إلى كتابة زاوية قارة فيها بعنوان "انطباع". لكن في الوقت نفسه، وعندما كُلّفت بإدارة الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في تونس وبمراسلة مجلة "فلسطين الثورة" لسان منظمة التحرير التي كانت تصدر في العاصمة القبرصية "نيقوسيا" و"المجلة الثقافية" التي كان الشاعر بلند الحيدري يشرف عليها بالعاصمة البريطانية "لندن". وضعت قائمة برموز الثقافة التونسية الذين عزمت على محاورتهم (محمود المسعدي، هشام جعيّط، عبد الوهاب بوحديبة، منصف السويسي، محمد العروسي المطوي، عبد القادر بن الشيخ، عمر بن سالم، محمد لطفي اليوسفي.. وغيرهم) كنت أقرأ مؤلفات كل مبدع من هؤلاء وكل ما يتوفر مما كُتِبَ عن نتاجه قبل وضع أسئلة الحوار. جميعهم حاورتهم مباشرة. أذكر أنني حاورت العروسي المطوي في مكتبه بمقر اتحاد الكتاب التونسيين الساعة السادسة صباحا، ومحمد لطفي اليوسفي في مقر اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وهشام جعيط بمنزله في ضاحية المرسى وعمر بن سالم في منزلي، وعبد القادر بن الشيخ في نزل الهلتون...إلخ، فقط رئيس البرلمان محمود المسعدي بعد أن قرأت كتبه كلها وكل ما استطعت جمعه من دراسات وكتب صدرت حول مدونته اتصلت بمكتبه في رئاسة البرلمان وبعد لأي من الاتصالات المتكررة أجابني واشترط علي أن أحضِرَ إليه الأسئلة مسبقا فحملت إليه أكثر من عشرين سؤالا يحفر في عمق تجربته، كان برفقتي الأخ م.م مصور "فلسطين الثورة" آنذاك، التقط للمسعدي عدة صور وودعنا بوعد منه بأن يجيب على الأسئلة لكن عبثا انتظرنا، غادر هذه الحياة الدنيا قبل أن تصلني أجوبته. وأعددت ثلاثة ملفات عن الأدب التونسي : ملف أدب الطليعة، ملف شعراء الثمانينات، وملف الأدب النسائي التونسي، وأعددت أكثر من متابعة نقدية لدورات كاملة من مهرجانات قرطاج الدولية والمسرحية والسينمائية، لقد أجريت حوارا شبه شامل مع الثقافة التونسية، وقد وثقت ذلك في أربعة كتب صدرت جميعها عن دار نقوش عربية: المسرح العربي على ركح قرطاج 1997، أسئلة الأدب التونسي2008، قراءاتي في الأدب التونسي2009، أسئلة الفكر التونسي2010،حوار مع السينما.. السم في الصورة2012. وأذكر أنّ الشاعر العراقي حميد سعيد كتب إليّ بعد أن قرأ كتاب "أسئلة الأدب التونسي" (لو كنت مسؤولا عن الثقافة في تونس لأمرتُ بترجمة هذا الكتاب إلى كلّ لغات العالم ووزعتُه مجانا). هذا النقد الثقافي، وقصائدي في المكان التونسي، أهم ما بقي في الحيّز التونسي من ذاكرتي  وآمل أنه قد يستقر في الذاكرة الثقافية التونسية.

**إلى أي مدى مثلت الهجرة انعطافا مركزيا في حياتك ومسيرتك؟

-كان "أحمد دحبور" العذب الدافئ صديقاً وشاعراً يناديني "أيها الساكن في الريح"، فقد صادف أنه كلما ذهبَ إلى بلد اعترضته في مكتبة أو فندق أو مقهى أو حانة. هذه الهجرات المتواصلة لم تتوقف حتى بعد نزولي في البر التونسي، ذلك أنه بحكم مهامي في منظمة التحرير كثيرا ما تنقلت لأقيم عاما في الجزائر وعاما في الرباط وعاما في بغداد وأقل من عام في نيقوسيا وقرابة العام بين صنعاء وعدن وهكذا، ولكن دائما كنت أعود إلى تونس التي اخترتها مقرّا رسميّا، إن صحّ التعبير لأنها نسبيا المكان الأقل تحفظا على حريّتي الشخصية والفكرية، ولي صولات وجولات في هذا السياق لا يتحملها نظام عربي آخر، لأنّي مُتطّلّب على مستوى الحياة اليومية بأبعادها الفكرية والإبداعية وفي تونس أجد غالبا الهامش المناسب لأكتب وأعيش نمط الحياة الذي أختار أو أبتكر. فكما سبق وأن أشَرْتُ أنا تكوّنت فكريا ونفسيا وعاطفيا في مجتمع الثورة الحر الذي لا سقف ولا ضابط له غير الوعي الحضاري المشعّ والضمير الإنساني اليقظ. 

**تغيير المكان ماذا يمكن أن يضيف للمبدع شاعرا كان أو ساردا؟

-لكلّ مكان رائحته وذاكرته وأطيافه وربما عبقريته الخاصة، بمعنى ليس بالضرورة أن نذهب جميعا إلى وادي عبقر. ولكن أحيانا لا نتمكن من مجاراة "آرثر رامبو" بأن نجوب العالم بأسره دون أن نغادر الكرسي نفسه في المكان إياه. فقد تَأْلَفُ المكانَ الذي تعيش فيه ويألفك "فانفُرْ" على حدّ تعبير "ممدوح عدوان" في عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. حينئذ وجب تغيير المكان لتنشيط الحواس التي أعطبتها الرتابة وأفضت إلى سكتة شعرية خشيتُ أن تطولَ فقطعتُ تذكرة طائرة إلى الجزائر العاصمة، كان الطقس ماطرا قليلا، لكن خلال يومين كتبت قصيدتين من القصائد التي أعتزّ بها، وعدت إلى المكان التونسي لأواصل نشاطي بحيوية. ذات الشيء حصل حين غادرت العاصمة إلى مدينة قربص شتاءً لأقيم في فندق ضخم كنتُ نزيله الثالث والأخير بعد عجوزين أوربيين. لكن تغيير المكان داخل البلاد نفسها أفضى إلى قصيدةٍ/ محطةٍ في تجربتي. أحيانا تكتشف قيمة المكان الكامنة عندك بعد أن تغادره. لقد كنت أسير في أحد شوارع بغداد حين وجدتني للحظات أسير مبتهجا في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، كان حلم يقظة يؤكد ما أختزنه من أحاسيس إزاء هذا الشارع.

**في لقاء صحفي لك قلت إن "تجربتك الشعرية لا تشبه أي تجربة أخرى" كيف تحدد لنا ملامح هذه التجربة وما تنفرد به قياسا بالتجارب الأخرى؟.

-لا أذكر في أي سياق قلتُ ذلك، لكن بالتأكيد مدونتي الشعرية لم تصدر عن عدم، ولكن في الوقت نفسه لا تحاكي مدونات سابقة عليها، وإن امتصت أنساغ تلك المدوّنات السابقة أو المرافقة واكتسبت مهاراتها وراكمتْها ليس لمحاكاتِها وتقليدها إنما لتجنب ملامحها وموازاتها في سياق تنافسي، لذلك اتفق كثيرون من نقاد شعري وقرائه الحاذقين في تلقي وتذوّق الشعر على أنّ لتجربتي ملامحها الخاصة حين قارنوها بالبياتي كما فعل الشاعر أحمد مطر أو بتجارب أدونيس وسعدي يوسف ودرويش كما فعل الناقد نور الدين الخبثاني أو بأرثر رامبو وتريستان تزارا كما فعل الشاعر والناقد والروائي نديم الوزة والناقد والباحث صقر أبو فخر أو بغوتييه كما فعل الشاعر والناقد عهد فاضل أو بمحمد الماغوط كما فعل الناقد محمد جمعة حمادة أو بشعر النضال الفلسطيني وخليل حاوي كما فعل الناقد والروائي محمد خريّف، وأحيانا يحارون كالناقد نزيه خاطر الذي ختم قراءة طويلة لمجموعتي "رؤى الفتى" التي تضم قصائدي لسنة 1973بقوله "كأنّ الشعر كله هادي دانيال" أو بوصفي شاعر المقاومة والاغتراب المسافر بأجنحة من ريح كما فعل الناقد والروائي والشاعر مصطفى الكيلاني وأخيرا أذهب مع "علي اللواتي" الشاعر والسارد والرسام والناقد الفني في مقدمته لمجلد أعمالي الشعرية 2002-2022 الذي يصدر هذا الشهر، عندما شبّه مدوّنتي الشعريّة بنهر متدفق يغالب قارئه ويحفر مجراه في الآن نفسه.

**لمن يتوجه الهادي دانيال بشعره؟.

-أتوجّه أولا إلى ذاتي التي تستدرك انهيارها أمام خراب العالم وتتماسك بكتابة الشعر، وعندما تهزّني كتابتي كمتلقٍّ أكون متيقنا من أنها ستهزّ المتلقي القادم، فكم من قصيدة اختلط حبر ولادتها بدموعي. هذا ربما ما يسميه نقاد الشعر ومنظروه الصدق الفني الذي يهز عاطفة المتلقي وآليات تفكيره وأنا بالمناسبة لا أخاطب الجموع والقطعان، بل أخاطب المتلقي الفرد، حتى لو كان يصغي مع جماعة أوجمهور، إنّ ما يهمني أن يتلقاها كل مستمع أو قارئ وكأنها كتبت إليه تحديدا. وكم شعرت بالجدوى عندما قال لي الشاعر التونسي الراحل "الميداني بن صالح" بعد أن فرغت من قراءة قصيدتي في مهرجان للشعر العربي الحديث في توزر بتسعينات القرن الماضي "يا هادي وأنت تقرأ شعرتُ بشَعر لحيتي يقبّ" بعد عام وفي مهرجان المربد في العراق وكنت أقرأ قصيدتي في البصرة، وبعد أن فرغت من قراءتها تقدّم مني مدير التشريفات بوزارة الثقافة والإعلام وقال لي حرفيا "يا أستاذ بينما أنت تقرأ قصيدتك شعرت أن شعر لحيتي يقبّ". ومؤخرا وأنا أقرأ قصيدتي "قصيدة المدينتين" اقتربت مني سيدتان تونسيتان في مكانين وزمانين مختلفين وقالا لي العبارة نفسها "يا أستاذ بعد أن أكملت قصيدتك، شعرت كأنني كنت أشاهد شريطا سينمائيا"..لهكذا متلقين أتوجه بشعري.

**ما الذي يستفزك لتكتب الشعر؟.

- قادح الكتابة الشعرية قد يكون قراءة عمل إبداعي شعري أو سردي أو مشاهدة فيلم سينما أو مسرحية، أو حالة إنسانية طارئة أو وقفة درامية شجاعة في مواجهة ظالم،أو لحظة شوق وحنين، أما قصائد الشأن العام فإنّ مخاضها يكون أطول، بانتظار أن يتحول هذا الشأن العام إلى شأن خاص فالكتابة الإبداعية مغامرة ذاتية في النهاية أيا كان موضوع الكتابة وهاجسها.وغالبا تأتي القصيدة كحلم يقظة أدوّنه فور استيقاظي منه وعندما كنت صبيا وفتى كنت أحيانا أحلم في نومي بكتابة قصيدة فأنهض منه وأدونها على دفتر لا يفارق سريري.

**كيف تعيش لحظة الكتابة زمانا ومكانا؟.

-عندما تطلّ عليّ القصيدة من شرفة مخيّلتي، أستعد لاستقبالها: إن كنتُ أسير في الشارع أقف على الرصيف وأخرج قلما ودفترا وأكتب، إن كنت في مقهى يتحول ما حولي إلى ضجيج بعيد وأطياف. وحين أكون في المنزل أغلق الباب علي في مكتبي ولا يُفْتَح إلّا بعد أن أكون قد أيقنت من أنني غير قادر على إضافة حرف آخر إلى ما كتبته، إن كان الوقت ليلا أنام لأراجع في اليوم التالي ما كتبته، إمّا أقتنع بأنه قمينٌ بأن أقطع له حبل السرّة وأغسله فيتخلص من أدران المخاض أو أهمله وكأنه لم يكن. وإن كتبتُه نهارا أقضي الليل ساهرا أتفكر به وأمحو هنا وأزيد هناك إلى أن يستوي جماليا ويبدو لي أنه لم يعد قابل لزيادة أو نقصان، عندئذ أعيد قراءته كمتلقٍّ وأقرر مصيره.

** ما هو مفهومك للحداثة في الشعر؟

-البعض يتصرف وكأنّ الحداثة مثل "ثورات الربيع العربي" حالة عدمية من الهدم والتخريب بدون رؤية أو رؤيا، وكما عاد ثوار الربيع العربي إلى مفردات ما قبل الدولة كالعشيرة والقبيلة والطائفة عاد بعض شعراء "الحداثة المستوردة" إلى النظم التقريري لا إلى الشعر بشكل إيقاعي تقليدي. أنا أفهم الحداثة في الشعر حركة تجريبية مستمرة تهدف إلى البناء الجمالي الأجمل والأكثر استيعابا لمتغيرات المجتمع البشري وأن يكون هذا التجريب بتخصيب لغتنا وتوليدها على مستوى الإيقاع والمعنى لا باستيراد أشكال إيقاعية ومعايير شعرية خاصة بلغات أخرى كأن حاول كثيرون إيهامنا بأنّ معايير سوزان برنار لقصيدة النثر الفرنسية هي معايير قصيدة النثر بلغات العالم أجمع بما في ذلك اللغة العربية، وواقع الحال أن قصيدة محمد الماغوط النموذج الأجمل والأنضج  لقصيدة النثر العربية لم تأبه بوصفة سوزان برنار ومثلها قصائد سركون بولص وصلاح فائق، ولذا كانت قصائدي في "رأس تداولته القبعات" مثلا قصائد نثر بمعايير شعرية اللغة العربية وتجلياتها الإيقاعية غير المحدودة، والمدهشة دون تصنع أو تقعّر. في ذات الوقت لم نستنفد بعد الطاقة الغنائية في لغتنا بعيدا عن قوالب الفراهيدي. وفي العشرية الأخيرة إلى الآن تقريبا تطفو تقليعة "الهايكو" اليابانية لدرجة وكأنها خلاص سحري لأزمة الشعر العربي المعاصر؟. ما يهمني أن لا تستنقع قصيدتي في شكل إيقاعي واحد وأن أثري مدوّنتي باستيلاد الجديد المُوحي أسلوبا وقاموسا وبناء جماليا رشيقا ومتماسكا فلا أعبد إرثنا باستحضار أرواح الموتى ولا أعدم الكونيَّ المعتّق الذي يزيده قِدَمُه لمعاناً وتَجَوهُراً،  أن لا أسقط في النمطية وأن تبقى مرجعيّة كتابتي الشعرية الحياة بتغيراتها والقيم الإنسانية الكونية بثباتها رغم أنف تسونامي حَيْونَةِ الإنسان أو تشييئه.

**كيف استطعت الجمع بين الشعر والكتابة السردية والمقال السياسي؟.

-إنّ كتابة الشعر هي مشروع حياتي،وما تبقّى على هامشه. أحيانا أضطرّ لكتابة المقال السياسي عندما يتطلب الموقف تدقيقا وتفصيلا وتحليلا موضوعيا تضيق به الكتابة الشعرية، وأحيانا أكتب في النقد الثقافي أيضا لبيان موقفٍ أو رأيٍ في شأن ثقافيّ ما، وصدرت هذه الكتابات السياسية والنقدية في عشرين كتابا تقريبا، لكنّ الكتابة الشعرية هي الأغزر والأهمّ ، فقد أصدرتُ حتى الآن سبعاً وعشرين مجموعة شعريّة، شكّلت تجربةً إبداعيةً عمرها نصف قرن صدر حولها حتى الآن سبعة كتب نقدية وعشرات الدراسات في مجلات ثقافية لنقاد وشعراء عرب مشهود لهم بذائقتهم وعمق معرفتهم، كما تُرجمت ثلاث مجموعات شعرية منها إلى الإيطالية والإنقليزية والفرنسية.

ولكن على الرغم من ذلك قصيدتي هي خطاب ذاتِيَ وأحاسيسها وانفعالاتها ازاء ما تراه وتسمعه وتشمّه وتذوقه وتلمسه والتعبير الجمالي الأصدق والأعمق عن أفكاريَ ومواقفي وقلقي ورؤاي الوجودية والإنسانية، وبالتالي فهي تحمل أيضا بعض تفاصيل سيرتي العاطفية والثقافية والسياسية،(وقد لاحظ الأستاذ علي اللواتي ذلك) ولكن بسرديةٍ لغتُها مجازية وتمزج الواقعيّ بالمُتَخَيّل أو الكائن بما كنت أرغب في أن يكون خلال لحظة كتابة القصيدة أو انكتابها لأنها أحيانا وخاصة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي كنت أتلقّاها كوحي وأفرِغُها على الورق كماهي، ولكن في الأغلب وحتى الآن تبدأ القصيدة كانفجار ينبوع وأرافقها فأحفر مجراها بمهاراتي المُكتَسَبة ولكن دون أن أعرف مسبقا إلى أين قد نصل.

**في كتاباتك السياسية ما هي الأولوية؟ لكتابة الواقع وتحليله، أم استشراف المستقبل؟

الكتابة السياسية النظيفة، أي الموضوعية، تحلل معطيات الواقع على ضوء دروس التاريخ القديم والمعاصر، وهذه الكتابة هي التي "تستشرف المستقبل"، أمّا الكتابة الموجهة التي شعارها اكذبْ اكذبْ حتى تصدق أنت أكاذيبك، هذه كتابة موجهة وتضليلية ومدفوعة الأجر. لذلك عندما أصدرت كتابي السياسي الثاني "ثورات الفوضى الخلاقة سلال فارغة" الذي نال شرف أول كتاب يقدم إلى المحاكمة كاتبه وناشره، ومهّدتُ له بكتاب "حروب المصالح الأمريكية محرقة البشرية" فصدرا في السنة ذاتها 2011بتونس، وتلاهما كتاب "الربيع العربي يتمخض عن خريف إسلامي بغيوم صهيوني"سنة2012 فكتاب "أوهام الربيع العربي: الوعي القطيعي"سنة2013،فكتاب "سوريا التي غيرت وجه العالم"سنة 2013 أيضا، فكتاب "مؤامرة الربيع العربي: القضية الفلسطينية"سنة2014، فكتابا "صخرة الصمود السوري والرؤوس الحامية" و "التطبيع ومقاربات في المسألة الفلسطينية" سنة2017. جميعها من عناوينها وسنوات صدورها ندرك أنها كانت كتبا استشرافية بامتياز ربما أيضا لأن كاتبها شاعر "يرى الملك عارياً"، كان سهلا عليّ أن أدرك أنّ الظروف الموضوعية في الدول التي استهدفتها مؤامرة الربيع العربي ناضجة لقيام ثورات وطنية ديمقراطية، بانتظار توفر الظرف الذاتي لذلك سارع الغرب لتنفيذ سيناريوهات لانقلابات تبدو وكأنها ثورات شعبية لكن في حقيقتها من تدبير وتنفيذ أصحاب نظرية "الفوضى الخلاقة" الذين يدركون بتقارير مراكز بحوثهم أنّ اندلاع ثورات وطنية ديمقراطية في منطقتنا ستكون وبالا على سياساتهم الخارجية ومصالحهم المرتبطة بنهب ثروات شعوبنا الطبيعية والبشرية وبإبقائنا أسرى حروب التجهيل والتدمير والتفقير والتيئيس و"مراكمة الأصفار".   وكان أسهل أن أتذكر أنّ الظروف الموضوعية لا تصنع ثورة بدون ظرف ذاتي، أي نظرية ثورية وحزب ثوري، وهذا كان غائبا فاستُبْدِلَ بجماعات تحركها السفارات الأمريكية ووصيفاتها الأوربية وبرنامجها الوحيد في كل الدول المستهدفة: إسقاط النظام الوطني، الجمهوري تحديدا، في الفوضى الخلاقة. وفضلا عن ذلك لا يمكن الوصول إلى أهداف نظيفة بأدوات قذرة، وكماركسي لا يمكنني أن أفهم كيف أتحالف مع عدو استراتيجي كالإمبريالية الغربية والصهيونية ضد خصم وطني (فجميع هذه الأنظمة من تونس إلى دمشق حوربت لإيجابياتها لا لسلبياتها، . على ضوء هذه المعطيات التي أعدّها بديهية كتبت وأصدرت كتبي السياسية الاستشرافية.

**كيف تنظر الى الواقع الثقافي العربي اليوم وهل الحروب قادرة على إنتاج مبدعين في الشعر والسرد؟

-إنه حضيضيّ، كبقية أوْجُهِ واقعنا العربي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إننا نفتقد المثقف العضوي والثقافة المعنية على الأقل بالحقوق الحيوانية للإنسان: حقه في الحياة والماء والطعام. يَخْلِطُ البعضُ بين المُثَقَّفِ بالمَعْنى الغرامشي (المُثَقَّف العُضوي) وبينَ "تَقَنيّ المعرفة" ، فالثّقافَةُ عنْدَ الأوَّل سُلوكٌ وَمَوقف، لكنّها عنْدَ الثاني سلعَةٌ يعرضها في السوق، وبينما المُثَقَّفُ العُضويّ يُمَثِّلُ ضمير الناس فإنّ تقنيّ المعرفة الذي ينتحل صِفَة "المُثَقَّف" هُو مُضَلِّل الناس وسمسار مُعاناتِهم وقضاياهم.

أمّا إن كانت الحروب قادرة على إنتاج مبدعين في الشعر والسرد، فالحرب العالمية الثانية أنتجت أدبها خاصة في الاتحاد السوفياتي السابق ولكنّ أغلبه أدب موجّه لتخليد بطولات الجيش الأحمر ومعاناة اليهود في المجتمعات الغربية. وكما أنّ أدب السجون هو في النهاية أناشيد للحرية فإن أدب الحروب يفترض أن يكون رسائل من أجل السلام. في الحرب الأهلية اللبنانية حضر عدد مهمّ من الأدباء والشعراء العرب، كنت واحدا منهم، و كنا شعراءً وأدباءً قبل الحرب أيضاً، لكنّ الأخيرة حضرت بقوة في مدوناتنا الشعرية والسردية. الأرجح عندي أن الشاعر أو الأديب الذي ظهر في الحرب كان سيظهر أيضا لو أن الأخيرة لم تنشب ولكن مدونته كانت ستختلف. 

********

الهادي دانيال

سيرة موجزة

من مواليد قرية كفرية مِن ريفِ اللاذقيّة على الساحل السوري.

التَحَقَ سنة 1973 بالثورة الفلسطينيّة في بيروت وعَمِلَ في عدد مِن مؤسساتها الإعلامية، والآن يدير دار الشنفرى للنشر في تونس دون أن يغادر صفوف منظمة التحرير الفلسطينية حتى الآن.

اصدر مجلّد "الأعمال الشعريّة 1973-2003" بتونس مُتضَمِّنا أول 12مجموعة شعريّة تتصدّرها مقدّمة من الدكتور مصطفى الكيلاني .واصدر سنة 2024مجلد "الأعمال الشعرية 2002-2022" بتونس أيضاً متضمنا الـ15مجموعة شعرية المتبقية عن دار الشنفرى للنشر.

كما أصدر عن دور نشر تونسية أكثر من 20كتابا في النقد الأدبي والفكر السياسي وأدب الأطفال، وصدرت سنة2009  مختارات من شعره بعنوان "صقر الرؤى" أعدّها وقدّم لها الدكتور مصطفى الكيلاني.

تمت ترجمة العديد من مجموعاته الشعرية منها

-مجموعته "رأس تداولته القبعات"  إلى الإيطالية

 -ومجموعة "الشمس كنسر هَرِم"  إلى الإنقليزية كما صدرت عن دار الشنفرى للنشر بتونس،سنة2022، ترجمة فرنسية لمجموعة "شرفة في الهواء"

صدَرَ حَوْلَ شِعْره العديد من الكتب النقديّة منها على سبيل الذكر لا الحصر :

-هادي دانيال حمامة رصيف العالم. لوليد الزريبي.

.-مرآة لحياة وشِعر هادي دانيال . لحمدي مخلف الحديثي.

الشاعر الهادي دانيال لـ"الصباح": أتوجه بشعري إلى ذاتي التي تستدرك انهيارها أمام خراب العالم

 

 

حوار محسن بن احمد

ساقه  القدر ليحل بتونس منذ 42 سنة خلت .. على أرضها انطلق في تأسيس مملكته الشعرية والفكرية الثائرة على السائد  والمتمردة على الخمول .. كسب الرهان بجديته وإيمانه بالكلمة الفاعلة التواقة إلى الأجمل والأرقى والأفضل في الحياة

"الهادي دانيال" السوري المولد والنشأة والفلسطيني الهوى والتونسي الاستقرار والمكان هو اليوم أحد الفاعلين ومن رواد المشهد الثقافي التونسي والعربي على حد السواء.

الهادي دانيال يحمل على كاهله تجربة إبداعية استثنائية نحتها من ذاته التي عاشت وعرفت ولامست أكثر من مكان وموضع وموقف وحدث ذاتي وعام

**مَن الذي أغراك باقتحام عالم الكتابة بمختلف تفرعاتها؟

- القراءة والرغبة الملحة بالتعبير الجمالي عن الذات القلقة هما اللتان دفعتاني إلى الكتابة فمنذ كنت طفلا يتلقى مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة القرية الجبلية المسربلة بالغابات والوديان كنت ألفت انتباه محيطي بخطّي الجميل ورسومي الأنيقة وفي ذات الوقت ألْفِتُ الانتباه بما أؤلفه من أزجال أنافس بها قوّاليّ القرية الذين كانوا يرتجلون أزجالهم بينما أكتب أزجالي برويّة على الأوراق التي أنتزعها من الدفتر المدرسي ومن هذه الأوراق أقرأ تلك الأزجال التي كان معظمها سخرية فَكِهة من القوّالين القرويين الذين يتراشقون بعبارات الهجاء  المقفاة. عندما انتقلت عائلتي الصغيرة إلى العاصمة دمشق وأنا لا أزال في المرحلة الابتدائية تكثف اهتمامي بالرسم والغناء فأسمع وأردد بشغف أغاني عبد الحليم حافظ، وأرسم بدقة وجوها أحببتها كوجه أختي الصغيرة آنذاك ووجهَي الشهيدين الطيار فايز منصور والفدائي الأخضر العربي وغيرهم. ولكن ما إن عثرت في صيف 1970 ،الذي قضيته في القرية، على مكتبة عمي الأصغر حتى التهمت ما احتوته من أعمال جبران خليل جبران والمنفلوطي ونجيب محفوظ وحنا مينة وفارس زرزور وجرجي زيدان، وكما هائلا من الروايات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية كان أبرزها الترجمتان الكاملتان لرواية فيكتور هوغو "البؤساء" ورواية مكسيم غوركي "الأم" إضافة إلى دفاتر جوزيف ستالين.

وعندما عدت إلى العاصمة وجدتني مدمنا على القراءة من خارج المنهاج المدرسي وعلى حسابه، وأكتب الخواطر والمحاولات الشعرية وأرسلها إلى الصحف والمجلات السورية والفلسطينية التي تصدر في دمشق فلقيَتْ اهتماما من محرريّ الصفحات الثقافية الذين كانوا أسماء لامعة في الفضاء الثقافي السوري والعربي وأعني هنا ممدوح عدوان، بندر عبد الحميد، خلدون الشمعة، علي الجندي، زكريا تامر، علي كنعان، صدر الدين الماغوط، وأحمد دحبور. وفي أوائل سنة  1973 تعرفت على الشاعر محمد خالد رمضان من خلال مجلة "جيل الثورة" التي كانت المنبر الأول للكتابات الشابة، ومن مكتبته الخاصة قرأت جميع أعداد مجلتي "حوار" و"شعر" اللبنانيتين، وجميع مجلدات "الأعمال الكاملة" لبدر شاكر السياب وخليل حاوي ويوسف الخال وأدونيس وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط ومحمود درويش، ومجلدات الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وغيرها. وفي هذه الفترة أصبحتُ اسما معروفا لدرجة أنّ خلدون الشمعة قال لي إنّني واحد من الذين يعلّق مستقبَل الشعر السوري عليهم آمالا، وطلب مني مخطوط مجموعتي الشعرية الأولى لإصدارها عن اتحاد الكتّاب العرب لأنه تكلّم مع زكريا تامر بهذا الشأن، لكنّ ذلك كان آخر ما يشغلني.

**الهادي دانيال سوري المولد والنشأة والصبا ماذا فعل المكان الشامي بك؟

-ولدت في قرية جبلية يبدو البحر من شرفة منزلنا فيها خيطا أزرق يلمع حين تشرق الشمس وينكسر بها حين تغرب.. بيئة زراعية غابية غادرتها مبكرا إلى العاصمة دمشق وسكنت في ضاحية من ضواحيها تسمى "القابون" يقطن فيها إضافة إلى سكانها الأصليين، القادمون من الساحل ومن شمال وجنوب البلاد للعمل في مؤسسات الدولة الصناعية والعسكرية، كانت "القابون" محاطة بمساحات شاسعة مزروعة بأشجار المشمش والعنب وأنواع الخضار ابتلعها مع الوقت إسمنت البناء العشوائي للسكن وغيره. كانت مجلتا "الجندي" نصف الشهرية و"جيش الشعب" الأسبوعية بعض مصادري المعرفية وأيضا كانتا منبرين لنشر قصائدي. ومن إعلام دولة في حالة حرب مع الكيان الصهيوني تكوّن لا وعيي الساخط على الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، ومن مجتمع يسمي الفلسطينيين "لاجئين" وأهل القنيطرة المحتلة "نازحين" بدأ وعيي السياسي يتخلص من شرنقته ويجتاز بجناحي فراشة هشّين الحدود "حرْقاً" أي بطريقة غير شرعية إلى لبنان للالتحاق بالثورة الفلسطينية في بيروت. كنت لا أزال "طفلا" تحت السن القانوني وبالتالي لا يُسمح لي بمغادرة البلاد إلا بموافقة ولي الأمر وكفالته. حدث ذلك في أواخر سنة1973. كان جيشنا قد خرج من حرب "تشرين"(أكتوبر) التي استعاد بها مدينة القنيطرة لكن مرتفعات الجولان ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى الآن، في هذه الفترة اتخذت قرارات مصيرية ونفذتها: مغادرة سلطة العائلة والدين، وسلطة المدرسة، وسلطة المجتمع، وسلطة الحزب الشيوعي وتوجهت رأسا إلى ذلك الحيّز الغامض والفضاء الحر في هذا المكان الشامي من بيروت الغربية إلى الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة الذي تؤثثه الثورة الفلسطينية بفصائلها المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية وبالأحزاب المنضوية في الحركة الوطنية اللبنانية، تلك الفصائل والأحزاب بمؤسساتها المدنية والعسكرية كانت تكوّن مجتمعا حرا مسلّحاً وديمقراطيا في آن، هو مجتمع الثورة الذي بوصلته بالأساس تحرير فلسطين واستعادة الحق الفلسطيني. في هذا المجتمع الاستثنائي تكونتُ فكريا وسياسيا، خاصة وأنني إبّان التحاقي بصفوف الثورة فدائيا يحمل السلاح الذي تدرب على تفكيكه وتركيبه واستخدامه كنت في الآن نفسه أنشر قصائدي في المجلات والصحف اللبنانية والفلسطينية التي تصدر في بيروت، وبعد ذلك بأشهُر أصدرتُ مجموعتي الشعرية الأولى وتمّ إلحاقي بمؤسسات الثورة الإعلامية، محررا ثقافيا لمجلة "الصمود" لسان جبهة الرفض الفلسطينية، فمصححا ومحررا ثقافيا فسكرتيرا لتحرير مجلة "الهدف" لسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فمدير برامج ثقافية لإذاعة "صوت فلسطين" إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية إلى أن غادرنا بيروت باتجاه تونس.

**الهجرة ومغادرة أرض المولد بالنسبة لك هل كان اختيارا منك أم اضطرارا؟

-الهجرة الأولى في سن الطفولة الأولى كانت، كما أسلفتُ، مع العائلة داخل الدولة السورية من القرية الساحلية إلى إحدى ضواحي العاصمة دمشق، الهجرة الثانية كانت اختيارية في سن المراهقة إلى خارج الدولة السورية ولكن داخل بلاد الشام جغرافيّاً وتاريخياً، لكن الهجرة إلى تونس كانت انضباطا لقرارات منظمة التحرير الفلسطينية. كان ذلك قبل اثنين وأربعين عاما، وكنت في السادسة والعشرين من عمري وفي رصيدي ست مجموعات شعرية صدرت جميعها في بيروت.

**منذ أكثر من 42 سنة وأنت مستقر في تونس ماذا تحتفظ في ذاكرتك عن السنوات الأولى لك فيها؟.

-بشكل عام أذكر تلك الحفاوة منقطعة النظير من الدولة والشعب بقيادة منظمة التحرير ومقاتليها ومؤسساتها وكادرها السياسي والإعلامي والثقافي والأمني ، ولكن فيما يخصني كان هاجسي التعرّف على المشهد الثقافي التونسي، وإن كان اسمي قد سبقني سنة 1977 عبر مجلة "الهدف" إلى الجزائر التي زرتها لأول مرة سنة 1977لمدة شهر وأسبوعين، فقد رسخ بتونس في ذاكرة  المنتج الثقافي "الحبيب بلهادي" من حفل أحياه الفنان المغربي "سعيد المغربي" وأنشد من ألحانه واحدة من قصائد مجموعتي الشعرية الأولى. وقد عرّفني "الحبيب" إلى أصدقائه في الوسط الثقافي كالناقد أحمد حاذق العرف والشعراء محمد العوني، المنصف المزغني، ومحمد الصغير أولاد أحمد، وكانت فاتحة التعارف مشاركتي في مهرجان الشعر العربي الحديث في دار الثقافة ابن خلدون، ومن خلال "الحبيب" أيضا تعرفت على صحيفة "الطريق الجديد" لسان الحزب الشيوعي التونسي وعلى رئيس تحريرها الرفيق الراحل "أحمد ابراهيم" الذي دعاني إلى كتابة زاوية قارة فيها بعنوان "انطباع". لكن في الوقت نفسه، وعندما كُلّفت بإدارة الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في تونس وبمراسلة مجلة "فلسطين الثورة" لسان منظمة التحرير التي كانت تصدر في العاصمة القبرصية "نيقوسيا" و"المجلة الثقافية" التي كان الشاعر بلند الحيدري يشرف عليها بالعاصمة البريطانية "لندن". وضعت قائمة برموز الثقافة التونسية الذين عزمت على محاورتهم (محمود المسعدي، هشام جعيّط، عبد الوهاب بوحديبة، منصف السويسي، محمد العروسي المطوي، عبد القادر بن الشيخ، عمر بن سالم، محمد لطفي اليوسفي.. وغيرهم) كنت أقرأ مؤلفات كل مبدع من هؤلاء وكل ما يتوفر مما كُتِبَ عن نتاجه قبل وضع أسئلة الحوار. جميعهم حاورتهم مباشرة. أذكر أنني حاورت العروسي المطوي في مكتبه بمقر اتحاد الكتاب التونسيين الساعة السادسة صباحا، ومحمد لطفي اليوسفي في مقر اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وهشام جعيط بمنزله في ضاحية المرسى وعمر بن سالم في منزلي، وعبد القادر بن الشيخ في نزل الهلتون...إلخ، فقط رئيس البرلمان محمود المسعدي بعد أن قرأت كتبه كلها وكل ما استطعت جمعه من دراسات وكتب صدرت حول مدونته اتصلت بمكتبه في رئاسة البرلمان وبعد لأي من الاتصالات المتكررة أجابني واشترط علي أن أحضِرَ إليه الأسئلة مسبقا فحملت إليه أكثر من عشرين سؤالا يحفر في عمق تجربته، كان برفقتي الأخ م.م مصور "فلسطين الثورة" آنذاك، التقط للمسعدي عدة صور وودعنا بوعد منه بأن يجيب على الأسئلة لكن عبثا انتظرنا، غادر هذه الحياة الدنيا قبل أن تصلني أجوبته. وأعددت ثلاثة ملفات عن الأدب التونسي : ملف أدب الطليعة، ملف شعراء الثمانينات، وملف الأدب النسائي التونسي، وأعددت أكثر من متابعة نقدية لدورات كاملة من مهرجانات قرطاج الدولية والمسرحية والسينمائية، لقد أجريت حوارا شبه شامل مع الثقافة التونسية، وقد وثقت ذلك في أربعة كتب صدرت جميعها عن دار نقوش عربية: المسرح العربي على ركح قرطاج 1997، أسئلة الأدب التونسي2008، قراءاتي في الأدب التونسي2009، أسئلة الفكر التونسي2010،حوار مع السينما.. السم في الصورة2012. وأذكر أنّ الشاعر العراقي حميد سعيد كتب إليّ بعد أن قرأ كتاب "أسئلة الأدب التونسي" (لو كنت مسؤولا عن الثقافة في تونس لأمرتُ بترجمة هذا الكتاب إلى كلّ لغات العالم ووزعتُه مجانا). هذا النقد الثقافي، وقصائدي في المكان التونسي، أهم ما بقي في الحيّز التونسي من ذاكرتي  وآمل أنه قد يستقر في الذاكرة الثقافية التونسية.

**إلى أي مدى مثلت الهجرة انعطافا مركزيا في حياتك ومسيرتك؟

-كان "أحمد دحبور" العذب الدافئ صديقاً وشاعراً يناديني "أيها الساكن في الريح"، فقد صادف أنه كلما ذهبَ إلى بلد اعترضته في مكتبة أو فندق أو مقهى أو حانة. هذه الهجرات المتواصلة لم تتوقف حتى بعد نزولي في البر التونسي، ذلك أنه بحكم مهامي في منظمة التحرير كثيرا ما تنقلت لأقيم عاما في الجزائر وعاما في الرباط وعاما في بغداد وأقل من عام في نيقوسيا وقرابة العام بين صنعاء وعدن وهكذا، ولكن دائما كنت أعود إلى تونس التي اخترتها مقرّا رسميّا، إن صحّ التعبير لأنها نسبيا المكان الأقل تحفظا على حريّتي الشخصية والفكرية، ولي صولات وجولات في هذا السياق لا يتحملها نظام عربي آخر، لأنّي مُتطّلّب على مستوى الحياة اليومية بأبعادها الفكرية والإبداعية وفي تونس أجد غالبا الهامش المناسب لأكتب وأعيش نمط الحياة الذي أختار أو أبتكر. فكما سبق وأن أشَرْتُ أنا تكوّنت فكريا ونفسيا وعاطفيا في مجتمع الثورة الحر الذي لا سقف ولا ضابط له غير الوعي الحضاري المشعّ والضمير الإنساني اليقظ. 

**تغيير المكان ماذا يمكن أن يضيف للمبدع شاعرا كان أو ساردا؟

-لكلّ مكان رائحته وذاكرته وأطيافه وربما عبقريته الخاصة، بمعنى ليس بالضرورة أن نذهب جميعا إلى وادي عبقر. ولكن أحيانا لا نتمكن من مجاراة "آرثر رامبو" بأن نجوب العالم بأسره دون أن نغادر الكرسي نفسه في المكان إياه. فقد تَأْلَفُ المكانَ الذي تعيش فيه ويألفك "فانفُرْ" على حدّ تعبير "ممدوح عدوان" في عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. حينئذ وجب تغيير المكان لتنشيط الحواس التي أعطبتها الرتابة وأفضت إلى سكتة شعرية خشيتُ أن تطولَ فقطعتُ تذكرة طائرة إلى الجزائر العاصمة، كان الطقس ماطرا قليلا، لكن خلال يومين كتبت قصيدتين من القصائد التي أعتزّ بها، وعدت إلى المكان التونسي لأواصل نشاطي بحيوية. ذات الشيء حصل حين غادرت العاصمة إلى مدينة قربص شتاءً لأقيم في فندق ضخم كنتُ نزيله الثالث والأخير بعد عجوزين أوربيين. لكن تغيير المكان داخل البلاد نفسها أفضى إلى قصيدةٍ/ محطةٍ في تجربتي. أحيانا تكتشف قيمة المكان الكامنة عندك بعد أن تغادره. لقد كنت أسير في أحد شوارع بغداد حين وجدتني للحظات أسير مبتهجا في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، كان حلم يقظة يؤكد ما أختزنه من أحاسيس إزاء هذا الشارع.

**في لقاء صحفي لك قلت إن "تجربتك الشعرية لا تشبه أي تجربة أخرى" كيف تحدد لنا ملامح هذه التجربة وما تنفرد به قياسا بالتجارب الأخرى؟.

-لا أذكر في أي سياق قلتُ ذلك، لكن بالتأكيد مدونتي الشعرية لم تصدر عن عدم، ولكن في الوقت نفسه لا تحاكي مدونات سابقة عليها، وإن امتصت أنساغ تلك المدوّنات السابقة أو المرافقة واكتسبت مهاراتها وراكمتْها ليس لمحاكاتِها وتقليدها إنما لتجنب ملامحها وموازاتها في سياق تنافسي، لذلك اتفق كثيرون من نقاد شعري وقرائه الحاذقين في تلقي وتذوّق الشعر على أنّ لتجربتي ملامحها الخاصة حين قارنوها بالبياتي كما فعل الشاعر أحمد مطر أو بتجارب أدونيس وسعدي يوسف ودرويش كما فعل الناقد نور الدين الخبثاني أو بأرثر رامبو وتريستان تزارا كما فعل الشاعر والناقد والروائي نديم الوزة والناقد والباحث صقر أبو فخر أو بغوتييه كما فعل الشاعر والناقد عهد فاضل أو بمحمد الماغوط كما فعل الناقد محمد جمعة حمادة أو بشعر النضال الفلسطيني وخليل حاوي كما فعل الناقد والروائي محمد خريّف، وأحيانا يحارون كالناقد نزيه خاطر الذي ختم قراءة طويلة لمجموعتي "رؤى الفتى" التي تضم قصائدي لسنة 1973بقوله "كأنّ الشعر كله هادي دانيال" أو بوصفي شاعر المقاومة والاغتراب المسافر بأجنحة من ريح كما فعل الناقد والروائي والشاعر مصطفى الكيلاني وأخيرا أذهب مع "علي اللواتي" الشاعر والسارد والرسام والناقد الفني في مقدمته لمجلد أعمالي الشعرية 2002-2022 الذي يصدر هذا الشهر، عندما شبّه مدوّنتي الشعريّة بنهر متدفق يغالب قارئه ويحفر مجراه في الآن نفسه.

**لمن يتوجه الهادي دانيال بشعره؟.

-أتوجّه أولا إلى ذاتي التي تستدرك انهيارها أمام خراب العالم وتتماسك بكتابة الشعر، وعندما تهزّني كتابتي كمتلقٍّ أكون متيقنا من أنها ستهزّ المتلقي القادم، فكم من قصيدة اختلط حبر ولادتها بدموعي. هذا ربما ما يسميه نقاد الشعر ومنظروه الصدق الفني الذي يهز عاطفة المتلقي وآليات تفكيره وأنا بالمناسبة لا أخاطب الجموع والقطعان، بل أخاطب المتلقي الفرد، حتى لو كان يصغي مع جماعة أوجمهور، إنّ ما يهمني أن يتلقاها كل مستمع أو قارئ وكأنها كتبت إليه تحديدا. وكم شعرت بالجدوى عندما قال لي الشاعر التونسي الراحل "الميداني بن صالح" بعد أن فرغت من قراءة قصيدتي في مهرجان للشعر العربي الحديث في توزر بتسعينات القرن الماضي "يا هادي وأنت تقرأ شعرتُ بشَعر لحيتي يقبّ" بعد عام وفي مهرجان المربد في العراق وكنت أقرأ قصيدتي في البصرة، وبعد أن فرغت من قراءتها تقدّم مني مدير التشريفات بوزارة الثقافة والإعلام وقال لي حرفيا "يا أستاذ بينما أنت تقرأ قصيدتك شعرت أن شعر لحيتي يقبّ". ومؤخرا وأنا أقرأ قصيدتي "قصيدة المدينتين" اقتربت مني سيدتان تونسيتان في مكانين وزمانين مختلفين وقالا لي العبارة نفسها "يا أستاذ بعد أن أكملت قصيدتك، شعرت كأنني كنت أشاهد شريطا سينمائيا"..لهكذا متلقين أتوجه بشعري.

**ما الذي يستفزك لتكتب الشعر؟.

- قادح الكتابة الشعرية قد يكون قراءة عمل إبداعي شعري أو سردي أو مشاهدة فيلم سينما أو مسرحية، أو حالة إنسانية طارئة أو وقفة درامية شجاعة في مواجهة ظالم،أو لحظة شوق وحنين، أما قصائد الشأن العام فإنّ مخاضها يكون أطول، بانتظار أن يتحول هذا الشأن العام إلى شأن خاص فالكتابة الإبداعية مغامرة ذاتية في النهاية أيا كان موضوع الكتابة وهاجسها.وغالبا تأتي القصيدة كحلم يقظة أدوّنه فور استيقاظي منه وعندما كنت صبيا وفتى كنت أحيانا أحلم في نومي بكتابة قصيدة فأنهض منه وأدونها على دفتر لا يفارق سريري.

**كيف تعيش لحظة الكتابة زمانا ومكانا؟.

-عندما تطلّ عليّ القصيدة من شرفة مخيّلتي، أستعد لاستقبالها: إن كنتُ أسير في الشارع أقف على الرصيف وأخرج قلما ودفترا وأكتب، إن كنت في مقهى يتحول ما حولي إلى ضجيج بعيد وأطياف. وحين أكون في المنزل أغلق الباب علي في مكتبي ولا يُفْتَح إلّا بعد أن أكون قد أيقنت من أنني غير قادر على إضافة حرف آخر إلى ما كتبته، إن كان الوقت ليلا أنام لأراجع في اليوم التالي ما كتبته، إمّا أقتنع بأنه قمينٌ بأن أقطع له حبل السرّة وأغسله فيتخلص من أدران المخاض أو أهمله وكأنه لم يكن. وإن كتبتُه نهارا أقضي الليل ساهرا أتفكر به وأمحو هنا وأزيد هناك إلى أن يستوي جماليا ويبدو لي أنه لم يعد قابل لزيادة أو نقصان، عندئذ أعيد قراءته كمتلقٍّ وأقرر مصيره.

** ما هو مفهومك للحداثة في الشعر؟

-البعض يتصرف وكأنّ الحداثة مثل "ثورات الربيع العربي" حالة عدمية من الهدم والتخريب بدون رؤية أو رؤيا، وكما عاد ثوار الربيع العربي إلى مفردات ما قبل الدولة كالعشيرة والقبيلة والطائفة عاد بعض شعراء "الحداثة المستوردة" إلى النظم التقريري لا إلى الشعر بشكل إيقاعي تقليدي. أنا أفهم الحداثة في الشعر حركة تجريبية مستمرة تهدف إلى البناء الجمالي الأجمل والأكثر استيعابا لمتغيرات المجتمع البشري وأن يكون هذا التجريب بتخصيب لغتنا وتوليدها على مستوى الإيقاع والمعنى لا باستيراد أشكال إيقاعية ومعايير شعرية خاصة بلغات أخرى كأن حاول كثيرون إيهامنا بأنّ معايير سوزان برنار لقصيدة النثر الفرنسية هي معايير قصيدة النثر بلغات العالم أجمع بما في ذلك اللغة العربية، وواقع الحال أن قصيدة محمد الماغوط النموذج الأجمل والأنضج  لقصيدة النثر العربية لم تأبه بوصفة سوزان برنار ومثلها قصائد سركون بولص وصلاح فائق، ولذا كانت قصائدي في "رأس تداولته القبعات" مثلا قصائد نثر بمعايير شعرية اللغة العربية وتجلياتها الإيقاعية غير المحدودة، والمدهشة دون تصنع أو تقعّر. في ذات الوقت لم نستنفد بعد الطاقة الغنائية في لغتنا بعيدا عن قوالب الفراهيدي. وفي العشرية الأخيرة إلى الآن تقريبا تطفو تقليعة "الهايكو" اليابانية لدرجة وكأنها خلاص سحري لأزمة الشعر العربي المعاصر؟. ما يهمني أن لا تستنقع قصيدتي في شكل إيقاعي واحد وأن أثري مدوّنتي باستيلاد الجديد المُوحي أسلوبا وقاموسا وبناء جماليا رشيقا ومتماسكا فلا أعبد إرثنا باستحضار أرواح الموتى ولا أعدم الكونيَّ المعتّق الذي يزيده قِدَمُه لمعاناً وتَجَوهُراً،  أن لا أسقط في النمطية وأن تبقى مرجعيّة كتابتي الشعرية الحياة بتغيراتها والقيم الإنسانية الكونية بثباتها رغم أنف تسونامي حَيْونَةِ الإنسان أو تشييئه.

**كيف استطعت الجمع بين الشعر والكتابة السردية والمقال السياسي؟.

-إنّ كتابة الشعر هي مشروع حياتي،وما تبقّى على هامشه. أحيانا أضطرّ لكتابة المقال السياسي عندما يتطلب الموقف تدقيقا وتفصيلا وتحليلا موضوعيا تضيق به الكتابة الشعرية، وأحيانا أكتب في النقد الثقافي أيضا لبيان موقفٍ أو رأيٍ في شأن ثقافيّ ما، وصدرت هذه الكتابات السياسية والنقدية في عشرين كتابا تقريبا، لكنّ الكتابة الشعرية هي الأغزر والأهمّ ، فقد أصدرتُ حتى الآن سبعاً وعشرين مجموعة شعريّة، شكّلت تجربةً إبداعيةً عمرها نصف قرن صدر حولها حتى الآن سبعة كتب نقدية وعشرات الدراسات في مجلات ثقافية لنقاد وشعراء عرب مشهود لهم بذائقتهم وعمق معرفتهم، كما تُرجمت ثلاث مجموعات شعرية منها إلى الإيطالية والإنقليزية والفرنسية.

ولكن على الرغم من ذلك قصيدتي هي خطاب ذاتِيَ وأحاسيسها وانفعالاتها ازاء ما تراه وتسمعه وتشمّه وتذوقه وتلمسه والتعبير الجمالي الأصدق والأعمق عن أفكاريَ ومواقفي وقلقي ورؤاي الوجودية والإنسانية، وبالتالي فهي تحمل أيضا بعض تفاصيل سيرتي العاطفية والثقافية والسياسية،(وقد لاحظ الأستاذ علي اللواتي ذلك) ولكن بسرديةٍ لغتُها مجازية وتمزج الواقعيّ بالمُتَخَيّل أو الكائن بما كنت أرغب في أن يكون خلال لحظة كتابة القصيدة أو انكتابها لأنها أحيانا وخاصة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي كنت أتلقّاها كوحي وأفرِغُها على الورق كماهي، ولكن في الأغلب وحتى الآن تبدأ القصيدة كانفجار ينبوع وأرافقها فأحفر مجراها بمهاراتي المُكتَسَبة ولكن دون أن أعرف مسبقا إلى أين قد نصل.

**في كتاباتك السياسية ما هي الأولوية؟ لكتابة الواقع وتحليله، أم استشراف المستقبل؟

الكتابة السياسية النظيفة، أي الموضوعية، تحلل معطيات الواقع على ضوء دروس التاريخ القديم والمعاصر، وهذه الكتابة هي التي "تستشرف المستقبل"، أمّا الكتابة الموجهة التي شعارها اكذبْ اكذبْ حتى تصدق أنت أكاذيبك، هذه كتابة موجهة وتضليلية ومدفوعة الأجر. لذلك عندما أصدرت كتابي السياسي الثاني "ثورات الفوضى الخلاقة سلال فارغة" الذي نال شرف أول كتاب يقدم إلى المحاكمة كاتبه وناشره، ومهّدتُ له بكتاب "حروب المصالح الأمريكية محرقة البشرية" فصدرا في السنة ذاتها 2011بتونس، وتلاهما كتاب "الربيع العربي يتمخض عن خريف إسلامي بغيوم صهيوني"سنة2012 فكتاب "أوهام الربيع العربي: الوعي القطيعي"سنة2013،فكتاب "سوريا التي غيرت وجه العالم"سنة 2013 أيضا، فكتاب "مؤامرة الربيع العربي: القضية الفلسطينية"سنة2014، فكتابا "صخرة الصمود السوري والرؤوس الحامية" و "التطبيع ومقاربات في المسألة الفلسطينية" سنة2017. جميعها من عناوينها وسنوات صدورها ندرك أنها كانت كتبا استشرافية بامتياز ربما أيضا لأن كاتبها شاعر "يرى الملك عارياً"، كان سهلا عليّ أن أدرك أنّ الظروف الموضوعية في الدول التي استهدفتها مؤامرة الربيع العربي ناضجة لقيام ثورات وطنية ديمقراطية، بانتظار توفر الظرف الذاتي لذلك سارع الغرب لتنفيذ سيناريوهات لانقلابات تبدو وكأنها ثورات شعبية لكن في حقيقتها من تدبير وتنفيذ أصحاب نظرية "الفوضى الخلاقة" الذين يدركون بتقارير مراكز بحوثهم أنّ اندلاع ثورات وطنية ديمقراطية في منطقتنا ستكون وبالا على سياساتهم الخارجية ومصالحهم المرتبطة بنهب ثروات شعوبنا الطبيعية والبشرية وبإبقائنا أسرى حروب التجهيل والتدمير والتفقير والتيئيس و"مراكمة الأصفار".   وكان أسهل أن أتذكر أنّ الظروف الموضوعية لا تصنع ثورة بدون ظرف ذاتي، أي نظرية ثورية وحزب ثوري، وهذا كان غائبا فاستُبْدِلَ بجماعات تحركها السفارات الأمريكية ووصيفاتها الأوربية وبرنامجها الوحيد في كل الدول المستهدفة: إسقاط النظام الوطني، الجمهوري تحديدا، في الفوضى الخلاقة. وفضلا عن ذلك لا يمكن الوصول إلى أهداف نظيفة بأدوات قذرة، وكماركسي لا يمكنني أن أفهم كيف أتحالف مع عدو استراتيجي كالإمبريالية الغربية والصهيونية ضد خصم وطني (فجميع هذه الأنظمة من تونس إلى دمشق حوربت لإيجابياتها لا لسلبياتها، . على ضوء هذه المعطيات التي أعدّها بديهية كتبت وأصدرت كتبي السياسية الاستشرافية.

**كيف تنظر الى الواقع الثقافي العربي اليوم وهل الحروب قادرة على إنتاج مبدعين في الشعر والسرد؟

-إنه حضيضيّ، كبقية أوْجُهِ واقعنا العربي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إننا نفتقد المثقف العضوي والثقافة المعنية على الأقل بالحقوق الحيوانية للإنسان: حقه في الحياة والماء والطعام. يَخْلِطُ البعضُ بين المُثَقَّفِ بالمَعْنى الغرامشي (المُثَقَّف العُضوي) وبينَ "تَقَنيّ المعرفة" ، فالثّقافَةُ عنْدَ الأوَّل سُلوكٌ وَمَوقف، لكنّها عنْدَ الثاني سلعَةٌ يعرضها في السوق، وبينما المُثَقَّفُ العُضويّ يُمَثِّلُ ضمير الناس فإنّ تقنيّ المعرفة الذي ينتحل صِفَة "المُثَقَّف" هُو مُضَلِّل الناس وسمسار مُعاناتِهم وقضاياهم.

أمّا إن كانت الحروب قادرة على إنتاج مبدعين في الشعر والسرد، فالحرب العالمية الثانية أنتجت أدبها خاصة في الاتحاد السوفياتي السابق ولكنّ أغلبه أدب موجّه لتخليد بطولات الجيش الأحمر ومعاناة اليهود في المجتمعات الغربية. وكما أنّ أدب السجون هو في النهاية أناشيد للحرية فإن أدب الحروب يفترض أن يكون رسائل من أجل السلام. في الحرب الأهلية اللبنانية حضر عدد مهمّ من الأدباء والشعراء العرب، كنت واحدا منهم، و كنا شعراءً وأدباءً قبل الحرب أيضاً، لكنّ الأخيرة حضرت بقوة في مدوناتنا الشعرية والسردية. الأرجح عندي أن الشاعر أو الأديب الذي ظهر في الحرب كان سيظهر أيضا لو أن الأخيرة لم تنشب ولكن مدونته كانت ستختلف. 

********

الهادي دانيال

سيرة موجزة

من مواليد قرية كفرية مِن ريفِ اللاذقيّة على الساحل السوري.

التَحَقَ سنة 1973 بالثورة الفلسطينيّة في بيروت وعَمِلَ في عدد مِن مؤسساتها الإعلامية، والآن يدير دار الشنفرى للنشر في تونس دون أن يغادر صفوف منظمة التحرير الفلسطينية حتى الآن.

اصدر مجلّد "الأعمال الشعريّة 1973-2003" بتونس مُتضَمِّنا أول 12مجموعة شعريّة تتصدّرها مقدّمة من الدكتور مصطفى الكيلاني .واصدر سنة 2024مجلد "الأعمال الشعرية 2002-2022" بتونس أيضاً متضمنا الـ15مجموعة شعرية المتبقية عن دار الشنفرى للنشر.

كما أصدر عن دور نشر تونسية أكثر من 20كتابا في النقد الأدبي والفكر السياسي وأدب الأطفال، وصدرت سنة2009  مختارات من شعره بعنوان "صقر الرؤى" أعدّها وقدّم لها الدكتور مصطفى الكيلاني.

تمت ترجمة العديد من مجموعاته الشعرية منها

-مجموعته "رأس تداولته القبعات"  إلى الإيطالية

 -ومجموعة "الشمس كنسر هَرِم"  إلى الإنقليزية كما صدرت عن دار الشنفرى للنشر بتونس،سنة2022، ترجمة فرنسية لمجموعة "شرفة في الهواء"

صدَرَ حَوْلَ شِعْره العديد من الكتب النقديّة منها على سبيل الذكر لا الحصر :

-هادي دانيال حمامة رصيف العالم. لوليد الزريبي.

.-مرآة لحياة وشِعر هادي دانيال . لحمدي مخلف الحديثي.