مثلت حرب غزة مسمارا آخر يدق في نعش الغرب المهيمن على الساحة العالمية ومعه نعش حليفته إسرائيل
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
المتابع لوسائل الإعلام الفرنسية منذ مدة يصاب بحالة من الإحباط والغثيان وخيبة الأمل من المواقف المتشنجة للصحافيين والمعلقين وأساليب التضليل والتعتيم الإعلامي البعيدة عن أخلاقيات المهنة الصحفية وقواعد الموضوعية وحرية التعبير.
وتخيم اليوم على الصحافة الفرنسية أجواء الحرب الروسية الفرنسية التي جرت منذ أكثر من قرن من الزمن وهي حرب القرم عام 1855 وكانت فيها فرنسا حليفة الخلافة العثمانية في مواجهة روسيا القيصرية . وقد عادت هذه الأجواء المتشنجة إلى الواجهة الإعلامية مع الهزيمة التي ألحقتها روسيا بفرنسا في معقلها الاستعماري بإفريقيا. وأصبح ذلك جليا في صحافتها الورقية والالكترونية وإذاعاتها وتلفزاتها ومحاملها الرقمية، تحولت فيها كل قاعات التحرير في فرنسا الى أبواق حرب ضد القيصر الروسي الجديد فلاديمير بوتين حيث تتفنن التلفزيونات الإخبارية مثل "أل. سي. إي، أو، بي. أف. أم. تي في"، أو "سي نيوز" في مهاترات ومزايدات وقلب للحقائق وتضليل، وكأنها تلقت تعليمات من وكالة الاتصال الخارجي التابعة لوزارة الخارجية في الكي دورسيه، للمحاصرة الإعلامية للدعاية القيصرية القادمة من الكريملين وإحباط خططها الدعائية .
هكذا تصبح النقاشات سطحية وتافهة بين الحاضرين في الاستديوهات من معلقين ومعلقات من الدرجة الثانية والثالثة ومن خبراء عسكريين وجنرالات متقاعدين، كلهم ملتفون حول الصحفي الذي يدير النقاش عبر سماعة أذنه، مسنودا بمختص في التوثيق التضليلي الانتقائي . وبهذه التشكيلة الكروية تتحول الحصة السياسية الإخبارية اليومية إلى سيل من التحاليل الموجهة التي تصب في فكرة "التصدي للدب الروسي الذي يرعب أوروبا كلها كما أرعبها في السابق هتلر" (ونابليون) .
وهذا الأمر هو في خلفية الأمور رد إعلامي بدائي على روسيا بوتين التي أطردت فرنسا من باقي مستعمراتها الإفريقية السابقة هذه السنة من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأغلقت لها قواعدها العسكرية التي عوضها الروس بعتادهم العسكري وميلشياتهم المدربة، ممولين بأموال الصين الحليفة الغنية بأموالها ومشاريعها التنموية في الدول الإفريقية دون أي سؤال لها عن أحوال حقوق الإنسان أو الديمقراطية فيها، كما تفعل عادة دول القارة العجوز التي تكيل في ذلك بمكيالين في علاقاتها مع دول العالم ضد الحق ومع الباطل في فلسطين خصوصا. بل إن صحفيي قناة فرنس 24 وإذاعة "أرْ أفْ إي" الحكوميتين الفرنسيتين ، بقيتا مشدوهتين وهما تستجوبان مؤخرا المرشح الرئاسي والوزير الأول السابق لدولة تشاد، التي نُقلت إليها على عجل مؤقتا القوات الفرنسية المطرودة من مالي والنيجر، حيث صرح للصحافييْن بقوله :"أشعر بالحزن لفرنسا التي أصبحت هي وقواتها في حالة تشرد دون إقامة قارة مثل المشردين ممن يطلق عليهم بالفرنسية "أسْدِيَافْ .
تضليل وتعتيم إعلامي
وتطل على المتلقي للرسالة الإعلامية مظاهر متنوعة للتضليل وبث الأخبار الزائفة والتوجيه الإعلامي الفجّ القادم من الشمال والذي صاحب مختلف الحروب والنزاعات التي شنها الغرب الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي لا يزال يشنها بنزعته الرومانية العدوانية المتأصلة جبلة فيه لسفك الدماء، سواء في ترابه الأوروبي، في أوكرانيا اليوم، أو في الدول العربية كما جرى في أجندات إسقاط الأنظمة الوطنية لما بعد الاستقلال في عملية ما سمي بالربيع العَربي العِبري الغَربي منذ العشرية الماضية، أو في مواصلة الحرب اللاأخلاقية التي تشنها إسرائيل على سكان غزة والتي قتل فيها وأصيب أكثر من مائة ألف مدني وأكثر من مائة صحفي علي أيدي الجيش الإسرائيلي ومستوطنيه ومن المرتزقة والقناصة القادمين من دول الغرب الأطلسي.
لقد مثلت حرب غزة الجارية مأساتها منذ سبعة أشهر مسمارا أخر يدق في نعش الغرب المهيمن علي الساحة العالمية ومعه نعش الحليفة إسرائيل . وهاهي الجامعات الأمريكية والمثقفون هناك ينتفضون على الهمجية وتلك الحرب ويتضامنون مع المعتدى عليه الأعزل، بعد أن سقطت في المستنقع كل قيم عصر الأنوار التي قامت عليها النهضة الغربية منذ خمسة قرون واستلهمت من التيار الإنساني الذي عرفته البشرية مع الإرث الفلسفي والعلمي لليونان في العصر القديم وللعرب في العصر الوسيط. ولكن تبين أن هذه القيم هي أضغاث أحلام، وبَان بالكاشف للجميع أن الأنظمة السلطوية وحتى الاستبداية قد تكون أرحم من الغرب الديمقراطي ولها حد أدني من القيم الأخلاقية التي تسير على هديها الشعوب والحضارات ، بشكل يتجاوز بكثير ما أظهره الغرب من تجاوز فج لهذه القيم عبر استغلال العبيد واستعمار الشعوب وشن الحروب الدموية دون كلل إلى اليوم.
وقد كشفت الدراسات الميدانية وتحاليل رصد محتوى الصحافة الفرنسية خلال الأشهر الأخيرة مدى سيطرة اللوبيات الإسرائيلية على الإعلام الفرنسي الذي ظل يروج في تعاليقه وافتتاحياته خلال العشرين سنة الماضية أن قضية فلسطين وجد لها حل بعد توقيع اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو عام 1993 وما تلاه من تطبيع دول عربية مع إسرائيل. كما ظلت الصحف الفرنسية تروج في الأثناء أن هناك صراعا فلسطينيا فلسطينيا بين حركة فتح وحركة حماس التي سيطرت على قطاع غزة بعد الانتخابات التي كانت تلك الصحافة تقول بشأنها إن الفلسطينيين مثل أشقائهم العرب غير قادرين علي التعامل الناجح مع الديمقراطية، مرددة زعهما أن إسرائيل هي "الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط".
لقد بينت ذلك دراسة قائمة على قراءة مضمون الصحافة الفرنسية طوال تلك الفترة ونشرت الأيام الماضية . وقد قامت بها منظمة "أكريماد" الفرنسية للإعلام التي تقوم منذ تسعينات القرن الماضي بتحليل ونقد وتوثيق تجاوزات وانحرافات الإعلام في علاقاته بالسلطة والقوى المتنفذة واللوبيات التي تسير على خط انحراف قيمي، أو ما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو ب"ثورة محافظة " يقودها الإعلام في الغرب. وعبر انحرافه ، تتحول الثورات إلى "لا ثورات"، بل تصبح استكانة وقبولا بمنطق السيطرة، مما يزيد في تعميق الفوارق بين الإفراد والمجتمعات ويكرس هيمنة الأقوياء في مجتمع يدعي الحرية والمساواة والإخاء.
وتفيد الدراسة أن الإعلام الفرنسي المتحكم فيه من اللوبيات الصهيونية النافذة في إسرائيل، تحكّم في مسارات الأخبار والتحاليل لأحداث ما بعد السابع من أكتوبر 2023 . وعلى سبيل المثال ظلت وسائل الإعلام الفرنسية تردد في كل نشراتها لأسابيع وأشهر بلغة خشبية ، مقتل ألف من الإسرائيليين وتتغاضى عن مقتل أكثر من ثلاثين ألفا من الفلسطينيين في عمليات القصف والقنص. كما ظلت تردد خبر قطع رؤوس أطفال رضع إسرائيليين وهو ما نفته قناة "سي أن أن" الأمريكية وقالت ميدانيا إنه غير صحيح. ولكن وسائل الإعلام الفرنسية ظلت على عنادها التضليلي، حيث يقع تداول ذلك الموضوع الكاذب من زوايا عدة وعلى لسان كرونيكارات عدة بعضهم منشطون ومنشطات حسناوات في برامج فرجوية للألعاب والرقص والغناء والفدلكة ، ولا علاقة لهم بالسياسة والصحافة وخلفياتها . وهم يعرفون أن الأمر "فايك نيوز" ولكن ترديده يدعم زعمهم بأن إسرائيل "تدافع عن نفسها" بتلك الغارات ضد المنازل والمستشفيات، حسبما أبانت الدراسة الفرنسية .
وفي إطار ما يسمي حرب الأرقام والبيانات، رددت صحيفة "لوموند" الجدية أن رقم القتلى الفلسطينيين يجب التحري منه وهو "مضخم" لأنه صادر عن مصدر "وزارة صحة حماس" والحال أن حماس هي حركة نضالية وليست لها حكومة ولا وزارات. وهو إمعان في التضليل، بل إن العديد من الصحف الفرنسية فرضت حصارا إعلاميا كاملا على أخبار الحرب إمعانا في التضليل والتعمية، والحال أن تلك الأخبار توردها الصحافة الإسرائيلية نفسها، وهو ما يجعل الصحافة الفرنسية متذيّلة ومنبطحة و"أكثر مَلكية من الملكيّين" كما يقول المثل الفرنسي .
لقد بدا واضحا للجميع أن هناك مخطط اتصال وضعته وكالة الاتصال الخارجي الفرنسية ركز على أن القضية الفلسطينية كانت محلولة بفضل التطبيع مع إسرائيل وأن الأزمة بدأت مع "الهجوم الدموي" لحماس فجر السابع من اكتوبر . والحقيقة أن هذه الحرب على غزة ليست الأولي والأخيرة وهي الرابعة من نوعها وأن الضفة الغربية والقطاع لازالا أراضي تحت الاحتلال يدفعان الضرائب بعملة الشيكل الإسرائيلي.
تلك هي حقيقة الأوضاع. ولكن الدعاية الإسرائيلية تحكمت في الصحافة الفرنسية وقام الجميع في قاعات التحرير بتطبيق الخطة المضادة بحذافيرها، وأكثر، وهم كلهم كانوا خائفين من بطش المتنفذين في كل وسائل الإعلام الفرنسية، التي تفيد الدراسة أن تسعين بالمائة من تلك الوسائل يملكها عشرة من رجال الأعمال والصناعيين الموالين لإسرائيل، منها قناة "سي نْيوز" الإخبارية وهي قناة فرنسية إسرائيلية تابعة لمجموعة "ألْتِيسْ" التي تملك عدة قنوات إذاعية وتلفزية منها إذاعة مونتي كارلو بالفرنسية والعربية وتلفزة "بِي أفْ أمْ تِي فِي" الإخبارية . ويملك هذه الشركة الإعلامية الاتصالية رجل الأعمال من أصل لبناني رودولف سْعادة، ويديرها أرْتِيرْ دْرايْفُوس ومؤسسها ألانْ فْايْلْ.
مثلت حرب غزة مسمارا آخر يدق في نعش الغرب المهيمن على الساحة العالمية ومعه نعش حليفته إسرائيل
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
المتابع لوسائل الإعلام الفرنسية منذ مدة يصاب بحالة من الإحباط والغثيان وخيبة الأمل من المواقف المتشنجة للصحافيين والمعلقين وأساليب التضليل والتعتيم الإعلامي البعيدة عن أخلاقيات المهنة الصحفية وقواعد الموضوعية وحرية التعبير.
وتخيم اليوم على الصحافة الفرنسية أجواء الحرب الروسية الفرنسية التي جرت منذ أكثر من قرن من الزمن وهي حرب القرم عام 1855 وكانت فيها فرنسا حليفة الخلافة العثمانية في مواجهة روسيا القيصرية . وقد عادت هذه الأجواء المتشنجة إلى الواجهة الإعلامية مع الهزيمة التي ألحقتها روسيا بفرنسا في معقلها الاستعماري بإفريقيا. وأصبح ذلك جليا في صحافتها الورقية والالكترونية وإذاعاتها وتلفزاتها ومحاملها الرقمية، تحولت فيها كل قاعات التحرير في فرنسا الى أبواق حرب ضد القيصر الروسي الجديد فلاديمير بوتين حيث تتفنن التلفزيونات الإخبارية مثل "أل. سي. إي، أو، بي. أف. أم. تي في"، أو "سي نيوز" في مهاترات ومزايدات وقلب للحقائق وتضليل، وكأنها تلقت تعليمات من وكالة الاتصال الخارجي التابعة لوزارة الخارجية في الكي دورسيه، للمحاصرة الإعلامية للدعاية القيصرية القادمة من الكريملين وإحباط خططها الدعائية .
هكذا تصبح النقاشات سطحية وتافهة بين الحاضرين في الاستديوهات من معلقين ومعلقات من الدرجة الثانية والثالثة ومن خبراء عسكريين وجنرالات متقاعدين، كلهم ملتفون حول الصحفي الذي يدير النقاش عبر سماعة أذنه، مسنودا بمختص في التوثيق التضليلي الانتقائي . وبهذه التشكيلة الكروية تتحول الحصة السياسية الإخبارية اليومية إلى سيل من التحاليل الموجهة التي تصب في فكرة "التصدي للدب الروسي الذي يرعب أوروبا كلها كما أرعبها في السابق هتلر" (ونابليون) .
وهذا الأمر هو في خلفية الأمور رد إعلامي بدائي على روسيا بوتين التي أطردت فرنسا من باقي مستعمراتها الإفريقية السابقة هذه السنة من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأغلقت لها قواعدها العسكرية التي عوضها الروس بعتادهم العسكري وميلشياتهم المدربة، ممولين بأموال الصين الحليفة الغنية بأموالها ومشاريعها التنموية في الدول الإفريقية دون أي سؤال لها عن أحوال حقوق الإنسان أو الديمقراطية فيها، كما تفعل عادة دول القارة العجوز التي تكيل في ذلك بمكيالين في علاقاتها مع دول العالم ضد الحق ومع الباطل في فلسطين خصوصا. بل إن صحفيي قناة فرنس 24 وإذاعة "أرْ أفْ إي" الحكوميتين الفرنسيتين ، بقيتا مشدوهتين وهما تستجوبان مؤخرا المرشح الرئاسي والوزير الأول السابق لدولة تشاد، التي نُقلت إليها على عجل مؤقتا القوات الفرنسية المطرودة من مالي والنيجر، حيث صرح للصحافييْن بقوله :"أشعر بالحزن لفرنسا التي أصبحت هي وقواتها في حالة تشرد دون إقامة قارة مثل المشردين ممن يطلق عليهم بالفرنسية "أسْدِيَافْ .
تضليل وتعتيم إعلامي
وتطل على المتلقي للرسالة الإعلامية مظاهر متنوعة للتضليل وبث الأخبار الزائفة والتوجيه الإعلامي الفجّ القادم من الشمال والذي صاحب مختلف الحروب والنزاعات التي شنها الغرب الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي لا يزال يشنها بنزعته الرومانية العدوانية المتأصلة جبلة فيه لسفك الدماء، سواء في ترابه الأوروبي، في أوكرانيا اليوم، أو في الدول العربية كما جرى في أجندات إسقاط الأنظمة الوطنية لما بعد الاستقلال في عملية ما سمي بالربيع العَربي العِبري الغَربي منذ العشرية الماضية، أو في مواصلة الحرب اللاأخلاقية التي تشنها إسرائيل على سكان غزة والتي قتل فيها وأصيب أكثر من مائة ألف مدني وأكثر من مائة صحفي علي أيدي الجيش الإسرائيلي ومستوطنيه ومن المرتزقة والقناصة القادمين من دول الغرب الأطلسي.
لقد مثلت حرب غزة الجارية مأساتها منذ سبعة أشهر مسمارا أخر يدق في نعش الغرب المهيمن علي الساحة العالمية ومعه نعش الحليفة إسرائيل . وهاهي الجامعات الأمريكية والمثقفون هناك ينتفضون على الهمجية وتلك الحرب ويتضامنون مع المعتدى عليه الأعزل، بعد أن سقطت في المستنقع كل قيم عصر الأنوار التي قامت عليها النهضة الغربية منذ خمسة قرون واستلهمت من التيار الإنساني الذي عرفته البشرية مع الإرث الفلسفي والعلمي لليونان في العصر القديم وللعرب في العصر الوسيط. ولكن تبين أن هذه القيم هي أضغاث أحلام، وبَان بالكاشف للجميع أن الأنظمة السلطوية وحتى الاستبداية قد تكون أرحم من الغرب الديمقراطي ولها حد أدني من القيم الأخلاقية التي تسير على هديها الشعوب والحضارات ، بشكل يتجاوز بكثير ما أظهره الغرب من تجاوز فج لهذه القيم عبر استغلال العبيد واستعمار الشعوب وشن الحروب الدموية دون كلل إلى اليوم.
وقد كشفت الدراسات الميدانية وتحاليل رصد محتوى الصحافة الفرنسية خلال الأشهر الأخيرة مدى سيطرة اللوبيات الإسرائيلية على الإعلام الفرنسي الذي ظل يروج في تعاليقه وافتتاحياته خلال العشرين سنة الماضية أن قضية فلسطين وجد لها حل بعد توقيع اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو عام 1993 وما تلاه من تطبيع دول عربية مع إسرائيل. كما ظلت الصحف الفرنسية تروج في الأثناء أن هناك صراعا فلسطينيا فلسطينيا بين حركة فتح وحركة حماس التي سيطرت على قطاع غزة بعد الانتخابات التي كانت تلك الصحافة تقول بشأنها إن الفلسطينيين مثل أشقائهم العرب غير قادرين علي التعامل الناجح مع الديمقراطية، مرددة زعهما أن إسرائيل هي "الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط".
لقد بينت ذلك دراسة قائمة على قراءة مضمون الصحافة الفرنسية طوال تلك الفترة ونشرت الأيام الماضية . وقد قامت بها منظمة "أكريماد" الفرنسية للإعلام التي تقوم منذ تسعينات القرن الماضي بتحليل ونقد وتوثيق تجاوزات وانحرافات الإعلام في علاقاته بالسلطة والقوى المتنفذة واللوبيات التي تسير على خط انحراف قيمي، أو ما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو ب"ثورة محافظة " يقودها الإعلام في الغرب. وعبر انحرافه ، تتحول الثورات إلى "لا ثورات"، بل تصبح استكانة وقبولا بمنطق السيطرة، مما يزيد في تعميق الفوارق بين الإفراد والمجتمعات ويكرس هيمنة الأقوياء في مجتمع يدعي الحرية والمساواة والإخاء.
وتفيد الدراسة أن الإعلام الفرنسي المتحكم فيه من اللوبيات الصهيونية النافذة في إسرائيل، تحكّم في مسارات الأخبار والتحاليل لأحداث ما بعد السابع من أكتوبر 2023 . وعلى سبيل المثال ظلت وسائل الإعلام الفرنسية تردد في كل نشراتها لأسابيع وأشهر بلغة خشبية ، مقتل ألف من الإسرائيليين وتتغاضى عن مقتل أكثر من ثلاثين ألفا من الفلسطينيين في عمليات القصف والقنص. كما ظلت تردد خبر قطع رؤوس أطفال رضع إسرائيليين وهو ما نفته قناة "سي أن أن" الأمريكية وقالت ميدانيا إنه غير صحيح. ولكن وسائل الإعلام الفرنسية ظلت على عنادها التضليلي، حيث يقع تداول ذلك الموضوع الكاذب من زوايا عدة وعلى لسان كرونيكارات عدة بعضهم منشطون ومنشطات حسناوات في برامج فرجوية للألعاب والرقص والغناء والفدلكة ، ولا علاقة لهم بالسياسة والصحافة وخلفياتها . وهم يعرفون أن الأمر "فايك نيوز" ولكن ترديده يدعم زعمهم بأن إسرائيل "تدافع عن نفسها" بتلك الغارات ضد المنازل والمستشفيات، حسبما أبانت الدراسة الفرنسية .
وفي إطار ما يسمي حرب الأرقام والبيانات، رددت صحيفة "لوموند" الجدية أن رقم القتلى الفلسطينيين يجب التحري منه وهو "مضخم" لأنه صادر عن مصدر "وزارة صحة حماس" والحال أن حماس هي حركة نضالية وليست لها حكومة ولا وزارات. وهو إمعان في التضليل، بل إن العديد من الصحف الفرنسية فرضت حصارا إعلاميا كاملا على أخبار الحرب إمعانا في التضليل والتعمية، والحال أن تلك الأخبار توردها الصحافة الإسرائيلية نفسها، وهو ما يجعل الصحافة الفرنسية متذيّلة ومنبطحة و"أكثر مَلكية من الملكيّين" كما يقول المثل الفرنسي .
لقد بدا واضحا للجميع أن هناك مخطط اتصال وضعته وكالة الاتصال الخارجي الفرنسية ركز على أن القضية الفلسطينية كانت محلولة بفضل التطبيع مع إسرائيل وأن الأزمة بدأت مع "الهجوم الدموي" لحماس فجر السابع من اكتوبر . والحقيقة أن هذه الحرب على غزة ليست الأولي والأخيرة وهي الرابعة من نوعها وأن الضفة الغربية والقطاع لازالا أراضي تحت الاحتلال يدفعان الضرائب بعملة الشيكل الإسرائيلي.
تلك هي حقيقة الأوضاع. ولكن الدعاية الإسرائيلية تحكمت في الصحافة الفرنسية وقام الجميع في قاعات التحرير بتطبيق الخطة المضادة بحذافيرها، وأكثر، وهم كلهم كانوا خائفين من بطش المتنفذين في كل وسائل الإعلام الفرنسية، التي تفيد الدراسة أن تسعين بالمائة من تلك الوسائل يملكها عشرة من رجال الأعمال والصناعيين الموالين لإسرائيل، منها قناة "سي نْيوز" الإخبارية وهي قناة فرنسية إسرائيلية تابعة لمجموعة "ألْتِيسْ" التي تملك عدة قنوات إذاعية وتلفزية منها إذاعة مونتي كارلو بالفرنسية والعربية وتلفزة "بِي أفْ أمْ تِي فِي" الإخبارية . ويملك هذه الشركة الإعلامية الاتصالية رجل الأعمال من أصل لبناني رودولف سْعادة، ويديرها أرْتِيرْ دْرايْفُوس ومؤسسها ألانْ فْايْلْ.