صدر في الأيام الماضية مؤلف فكري استثنائي قيًم للدكتورعلي الشابي توقف فيه عند أحد عمالقة الفكر الإنساني " أبو الريحان البيروني"...مؤلف كشف فيه صاحبه ما قدمه هذا العلم الخالد للثقافة الإنسانية وعلاقة ذلك بالعلامة عبد الرحمان بن خلدون وتأسيس علم الاجتماع وأيهما الأسبق في ذلك.
ومما لاشك فيه أن هذا الكتاب سيثير حتما نقاشا كبيرا وتباينا في الآراء والمواقف ناهيك وأن الدكتور علي الشابي بين وقدم الكثير من الحجج والبراهين التي من شأنها أن تفتح النقاش الفكري على مصراعيه بخصوص علم العمران البشري والاجتماعي..
فكانت لنا رحلة ممتعة بين ثنايا كتاب " أبو الريحان البيروني، المفكر الأكبر" مع مؤلفه الدكتور الشاعر والمبدع الحصيف علي الشابي..
حوار: محسن بن احمد
أي سر وراء هذا الاهتمام بأبي الريحان البيروني ؟
-كلفني سنة 1958 أستاذي الدكتور يحيى الخشاب في كلية الآداب بجامعة القاهرة بإعداد بحث حول " صورة ايران" في كتاب أبي الريحان البيروني وعنوانه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة "ومنذ ذلك الوقت ظلت علاقتي بكتبه قائمة بل إنها كانت تزداد مع الأيام إحكاما لان كتبه كاشفة للثقافات السائدة في القرن الخامس عشر الهجري وهي الثقافات العربية واليونانية والفارسية والهندية، فهي تجمع بين فلسفة اليونان والهام الهند وحكمة إيران ولا نهائية الخيال الإبداعي وصيغة التراكم المعرفي المستحدثة لدى العرب.
**هذا يعني أن أبا الريحان البيروني يتوفر على ميزات وخصوصيات في تعاطيه مع الفكر الكوني بصفة عامة؟
-فعلا ولا اخفي سرا إذا قلت أن ميزة البيروني في عصره وقبل عصره وبعد عصره فهو متخصص في العلوم على اختلافها في المجالين العلمي والإنساني بل أكثر من ذلك فهو مبتكر لعلوم كثيرة منها علم مساحة الأرض ووضع اللبنة الأولى لعلم التفاضل والتكامل في الرياضيات ومبتكر علم الانثروبولوجيا والرائد في علم الاجتماع ومبتكر علم الجغرافيا البشرية وعلم مقارنة الأديان ومنهج البحث التاريخي في الثقافة الإسلامية وأحد مؤسسي تاريخ العلوم وأبو الصيدلية العربية والداعية الأعظم إلى التسامح الديني والعرقي " عصر أواخر القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس "وقد سماه جورج سارتون بـ"عصر البيروني " وقال عنه المستشرق الألماني " سخاو " " هو أعظم عقلية في التاريخ "
تلك هي الميزة الأولى التي تتوفر عند البيروني أما الميزة الثانية فهي التسامح والانفتاح في عصر مضطرب موزع بين المعتدلين والمتطرفين في المستويين الديني والمذهبي بصورة خاصة.
يرفض البيروني استخدام الدين في السياسة شأنه في ذلك شأن ابن المقفع من قبله لان الاستخدام يؤدي في نظرهما إلى ان تصبح أهواء المستخدم وتفسيراته دينا، وقد انتقد البيروني الفرق الإسلامية التي استخدمت الدين في السياسة بتكفير بعضها البعض ولاحتكارها للحقيقة المطلقة من أجل السيطرة على الحكم مما يؤدي إلى الاقتتال وقد أدت فعلا إلى الاقتتال والاحتراب
كما أن البيروني قارن بين الفرق الإسلامية والفرق الهندية فأكد أن الفرق الهندية تختلف ولكنها لا تصل إلى الاقتتال لأنها لا تخلط الدين بالسياسة.
واستهجن البيروني المتعصبين المتهورين حسب تعبيره الذين هم ضد العقلانية اليونانية والإسهام الحضاري الروماني وهم يعتبرون كل من إسمه مختتم بحرف السين " وهنا يقصد اليونانيون " هو كافر ومن ثمة لا يقبل هؤلاء المتعصبون قوله ولو كان حقا
عقَب عليهم البيروني بقوله " مادام الأمر كذلك فان على هؤلاء أن لا يأكلوا ويشربوا مادام اليونانيون يأكلون ويشربون " وهذا المسلك مناف لقوله تعالى "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله" وفي هذا السياق قدم البيروني إلى إمام جامع " غزنة " بأفغانستان جهازا ابتكره لضبط أوقات الصلاة فرفضه الإمام لأنه مبني على الشهور الرومية والروم في نظره كفار فتألم البيروني اشد الألم.
كما أن البيروني انتقد بشدة ما كان عليه السلطان محمود الغزنوي من تعصب وتطرف إلى حد انه كان يعتبر حرية الرأي إلحادا والفلسفة كفرا وكاد أن يقتل البيروني بعد أن قتل أستاذ البيروني الحكيم عبد الصمد وهمً أن يقبض على ابن سينا والتنكيل به، إذ هو في نظره كافر ولولا فراره إلى بلاط قابوس أمير دولة "الديالمة الزياريين" في " طبرستان " وجرجان " وقد رد ابن سينا عليه وعلى التكفيريين جميعا ببيتين من الشعر قالهما بالفارسية وترجمتهما:
قد كذبتم إنني بالكفر مغرم
أين من مُحكم إيماني احٌكمُ
أو وحيد الدهر مثلي كافر
فإذن لم يبق في العالم مسلم
كان البيروني ضد التكفيريين وضد التطرف والتعصب والانغلاق الفكري ويقول في هذا الشأن " إني لاآبي قبول الحق من أي معدن وجدته " ولتسامحه لم يكن بالقائل وإنما يهتم بالقول لذلك أشاد بآراء " الايرانشهري " الكلامية بالرغم من إلحاده واعتمد خبرا ورد في كتاب " ماني " وعنوانه " الشبرقان " لان ماني يُحرم الكذب
ونظرا لتسامح البيروني فإنه كان يفضل العربية على اللغتين الخوارزمية والفارسية بالرغم من أصله الفارسي الذي لم يمنعه كذلك من اتهام الفرس بالكذب والمبالغة
كما أنه تفرغ لدراسة الهند دراسة انثروبولوجية لم تزل إلى اليوم الدراسة المعتمدة الأولى لدى الهنود.
**كيف تقدم منهج البيروني في دراسة المجتمع الهندي ؟
-اعتمد البيروني في دراسته للهند منهجا وصفيا بمنأى عن النقد والتجريح وعن التحسين والتهجين وقد اعتمد في هذه الدراسة التوجيه الإلهي في قوله تعالى "لا إكراه في الدين "و قوله تعالى "أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "وقد أقام في الهند مدة طويلة كما زارها مرات كثيرة فحذق لغتها وأتقن علومها وتعرف على المجتمع الهندي من حيث ثقافته وتاريخه وعاداته ثم ألف كتابه " في تحقيق ما للهند.."
واضح في كتاب " في تحقيق ما للهند .." إن المسلمين في الهند كانوا لا يعاملون " الهنادكة "معاملة الكفار وعبدة الأوثان مثلما كانوا يعاملون أعراب الجزيرة وإنما ابدوا لهم كل احترام على أساس أن لهم دين خاص بهم هو " الهندوكية " بل إن البيروني قسم المجتمع الهندي إلى قسمين:
-العوام الذين يدينون بالأساطير والخرافات
-البراهمة "النخبة العالمة" الذين يعبدون الله الواحد الأزلي من غير ابتداء ولا انتهاء المختار القادر الحكيم الحي المحيي المدبر لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.
تناولت في كتابك الصادر حديثا " أبوالريحان البيروني المفكر الأكبر " عمل كل من البيروني وابن خلدون في المجال التاريخي وفي منهج البحث التاريخي فأي صلة بينهما ؟
-كلاهما أبدع عملا رائدا اتخذ منه الدارسون في مجال علم الاجتماع مرتكزا لدراساتهم ممثلا في كتاب " في تحقيق ما للهند ..."و" المقدمة " لابن خلدون كما أن ضبطهما لمنهج البحث التاريخي يعتبر هو أيضا عمل فارق في مسيرة البحث التاريخي في الثقافة الإسلامية ومن البين أن البيروني هو مبتكر"الانثروبولوجيا" وهي الدراسة العلمية للثقافات والشعوب في طرق تفكيرها وتصرفها ومفاهيمها وتصوراتها ونُظمها السائدة وعاداتها وتقاليدها وعلاقة كل هذا بالبيئة الطبيعية
لقد ابتكر البيروني " الانثروبولوجيا" وتناولها باعتبارها علما له موضوع ومنهج ووظيفة كما أنه صاحب دور كبير في تأسيس علم الاجتماع غير أن ابن خلدون أفاد انه مبتكر علم الاجتماع وبينهما أي " الانثروبولوجيا " و" علم الاجتماع" تشاكل وتداخل إلى حد انه يصعب الفصل بينهما بل إن من بين الباحثين من يُوحد بينهما فيجعل " الانثروبولوجيا" حكرا على المجتمعات البدائية بينما يجعل علم الاجتماع حكرا على دراسة المجتمعات الحضارية
من وجهة نظرك وبعد دراسة البيروني هل كان ابن خلدون سباقا في دراسة المسائل الاجتماعية ومسائل العمران ؟
-يرى ابن خلدون انه المبتكر لعلم الاجتماع من خلال دراسته للتاريخ دراسة تحليلية نقدية ودراسة الدولة والمجتمع وقيام الحضارات وسقوطها، وقد أورد أن مسائل محدودة قد تم ذكرها قبله لكنها غير مستوفاة بالدرس والتحليل وهذه المسائل هي أربعة بالإضافة إلى ما تناوله " الطرطوشي" وينبغي هنا أن أشير إلى أن المسائل الأربعة كلها مصدرها فارس وتتعلق بالسياسة والمُلك والعدل وإذن هي في رأيه أن هذه المسائل التي ذكرها هي التي أُثرتَ على السابقين وإن وٌجدت أخرى فإنها لم تصل إلينا.
ما قاله ابن خلدون ليس صحيحا لقد ذُكرت مسائل أخرى في مصادر كان ابن خلدون مطلعا عليها لكن يبدو أنه تغافل عنها لينسب إلى نفسه السبق في ابتكار علم الاجتماع وبيان ذلك
1-إن ابن خلدون اطلع على كتاب "السياسة" وكتاب "الخطابة" لأرسطو كما اطلع على كتاب " الجمهورية " لأفلاطون لكنه أغفل ذكر ذلك بالمعنى الذي أشرت إليه في حين انه كشف في نقده لتلخيص ابن رشد لكتاب " الخطابة " عن اطلاعه على هذا الكتاب مما يدل على صلته الوثيقة به
2- بشأن مصادر النظم السياسية والإدارية الفارسية المُعربة التي عمد إلى التغاضي عنها واستناد المؤرخين إليها يوضحان جلية الأمر
لقد عرًب ابن المقفع من الفارسية كتبا تاريخية ومصادر في النظم السياسية والإدارية ومقدمة هذه الكتب " تنسر " و" خداي نمه " وكتاب "ابين نامه " كما تم تعريب كتاب " اردشير " وكل هذه المؤلفات نقل عنها مؤرخون كثيرون منهم المسعودي الذي كان ابن خلدون يقول عنه "إنه إمام المؤرخين " كما نقل عن هذه المؤلفات " مسكويه" وكذلك البيروني في كتابه " في تحقيق ما للهند.." كما إن ابن المقفع تناول في كتبه ومن بينها كتبه " اليتيمة " مسائل تتعلق بالنظم السياسية والإدارية وهي مسائل قال عنها ابن خلدون " إن ابن المقفع تناولها تناولا خطابيا بلاغيا " وهدف ابن خلدون من ذلك هو الاستئثار بابتكار علم الاجتماع والواقع أن ابن المقفع تناول هذه المسائل المتعلقة بنظام الحكم وبناء المؤسسات بالبرهنة وبالتنظير بمنأى عن الخطابة والبلاغة
لقد أمعن ابن المقفع في الاعتبار بنظم الدولة الساسانية وأوضاع الحكم منذ بواكير الإسلام إلى الدولة العباسية فانتهى إلى طرح صيغة تتفق مع مصلحة المجتمع من حيث صلة الحاكم بالمحكوم والصفات الواجب توفرها في الحاكم ومع ما استقر في خبرة إيران وتجربة الهند كما تتفق مع النظم الفارسية من حيث المؤسسات التي يجب أن تتوفر للدولة وذلك بقصد إفادة المجتمع الإسلامي وفصًل ابن خلدون ذلك تفصيلا كبيرا لا مجال للوقوف عنده الآن.
ومن ثمة فإن ما قاله ابن خلدون وهو إن القدماء لم يكتبوا في مسائل علم الاجتماع أو أنهم كتبوا ولم يصل ألينا هو خطأ او قل تغافل والواقع أن الفرس قد كتبوا في النظم الاجتماعية والسياسية واستوفوها في كتب كثيرة.
**من وجهة نظرك..لماذا تغافل ابن خلدون في كتاباته عن ذكر البيروني والتعرض لمؤلفاته وهو المبتكر لعلم الانثروبولوجيا؟
-فعلا لم يذكر ابن خلدون البيروني ولم يشر إليه لا في المجال الاجتماعي ولا في حديثه عن العلوم والعلماء بينما يعد البيروني المؤسس لعلم " الانثروبولوجيا" واكبر عالم مبتكر وشهرته ذائعة في المشرق والمغرب
ففي المجال الحضاري الإسلامي نجد أن اراء البيروني الاجتماعية قد تردد صداها في " المقدمة " لابن خلدون من ذلك قول البيروني " الإنسان مدني بالطبع" وفصًل في ذلك تفصيلا نجده أيضا في مقدمة ابن خلدون فالبيروني قال "إن الإنسان يعيش في البداية في عزلة تامة لكن استعداده العقلي حمله على الإقبال على التمدن مع أبناء جنسه بسبب كثرة حاجاته وعدم امتلاكه لوسائل الدفاع ووفرة أعدائه" وحدد الأسس الحاملة لعلم الاجتماع وهي:
-الاستئناس الذي يتم بالتجانس بين المجتمعين-الأمن من الشر والخوف
-المنفعة الجامعة وبقدر ما تجمع هذه المنفعة بين الناس تفرق بينهم بسبب اختلافهم في الإرادات والمقاصد لذلك تعددت الحرف والصناعات وقد جعل الله الاختلاف أساسا
لقد تردد صدى هذه الآراء في مقدمة ابن خلدون " الاجتماع ضرورة لأنه يوفر ما للإنسان في حاجة إليه من غذاء ودفاع ودرء الخوف وإذا حصل الاجتماع تتأكد الضرورة لوجود من يقودهم وهذا هو معنى المُلك"
لم يذكر ابن خلدون البيروني في المقدمة والتاريخ بالرغم من ذيوعه شرقا وغربا وحسبك ان تعرف عمق الصلة بين المشرق والمغرب من خلال نصوص كثيرة من بينها ما ذكره " أبو العرب" في كتابه " طبقات علماء إفريقيا وتونس "
ومن ثمة لا يمكن أن يقال بان البيروني لم يكن معروفا في القرن الثامن في بلاد المغرب ذلك أن ابن سعيد المغربي اعتمد البيروني في كتابه "بسط الأرض".
وإذن عدم ذكر ابن خلدون للبيروني كان لغرض قصدي هو تفرده بابتكار علم الاجتماع من حيث أن البيروني والذي ابتكر " الانثروبولوجيا" الاجتماعية وإن لم يصل إلى حد التنظير فانه برهن على أنه كان ينحو إلى التعميم والتقنين فكان له دور كبير في تأسيس علم الاجتماع وذلك من خلال تفسيره لكثير من التغيرات الاجتماعية والتاريخية ولا غنى فيما يروج له المُستلبون من أن قرن تأسيس علم الاجتماع هو القرن التاسع عشر وإذن تأسيس علم الاجتماع كان شراكة بين البيروني وابن خلدون.
كيف كان التعاطي مع منهج البحث التاريخي بالنسبة للبيروني وابن خلدون؟
-يعتبر البيروني المبتكر للمنهج العلمي المتكامل للبحث التاريخي للثقافة الإسلامية كما أن ابن خلدون وضع هو الأخر منهجا للبحث التاريخي نجده مفصلا في مقدمته إلا أننا نلحظ بين المنهجين تشابها في ما يتصل بصدقية الخبر وما يشترط في المؤرخ
أين يكمن هذا التشابه ؟
-اشترط البيروني لقبول الخبر شرطين هما " قوانين الطبيعة ومقاييس المنطق " وهما اللذان اشترطهما ابن خلدون " طبائع الكائنات ومعيار الحكمة " كما نجد أن ما اشترطه ابن خلدون في المؤرخ قد استوحاه من شروط البيروني في هذا الصدد وكل ذلك مفصل في الكتاب
كما أن ابن خلدون نقل عن البيروني في مواطن كثيرة من المقدمة من ذلك ما يجب أن يتحقق لقيام المُلك وهو العصبية والتأبيد السماوي.
كان البيروني ملتزما بأحكام الوصل بين منهجه النقدي وما أورده من أخبار وحوادث تاريخية وهذا يكشف عن حقيقة سبقه إلى ابتكار هذا المنهج للبحث التاريخي العلمي
أما ابن خلدون لم يطبق منهجه على الأخبار والحوادث إلا قليلا فلم يكن حريصا على التطبيق لأنه لم يكن المؤسس للمنهج المتكامل للبحث التاريخي ومن ثمة أسفرت كتابته في كثير من الأحيان عن قطيعة بين النظري والممارسة وعن تجاوز للمبادئ التي وضعها من ذلك مثلا، وصًله نسب أبي العباس والاستفادة منه في حين أن الحفصيين هم بربر خالصون وادعاءه ربط نسب مؤسس الأسرة الموحدية بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ادعاء لاغنى فيه وكان يقصد من وراء ذلك رضاء الدولة الموحدية
لكن البعض من المؤرخين أراد التبرير لابن خلدون فقال باستساغة الفصل بين النظري والممارسة وأنه ترك التطبيق للقارئ وهو تبرير لا معنى له.
وما انتهينا إليه هو التأسيس الرائد لعلم الاجتماع حيث قدم له البيروني بابتكاره "الانثروبولوجيا الاجتماعية " وبالنزوع إلى التعميم والتقنين وأنهاه ابن خلدون بأحكام التنظير حيث قدم نظرياته حول دور البيئة والعوامل الاجتماعية في تشكل المجتمعات والتطور التاريخي لها وكلاهما استند في كتابة تاريخه مع اختلاف واضح في التطبيق والتوجيه واستخلاص العبرة من تجارب الأمم شرقا وغربا وكشف أسباب قيام الحضارات وسقوطها والعلمان الرائدان مثلاه علما ومنهجا المزكيان في عصرهما مسيرة الفعل العربي إلى أفاق مستحدثة والمسهمان أيما إسهام في تطوير الثقافة الإنسانية
الدكتور علي الشابي في سطور
جمع الدكتور علي الشابي في مسيرته بين العمل السياسي والإبداع الشعري والثقافي.
فقد تولى في المجال السياسي عديد المهمات والمناصب العليا في الدولة منها كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلف بالشؤون الدينية ليتم تعيينه بعد ذلك وزيرا في ذات الوزارة كما ترأس المجلس الإسلامي الأعلى وجامعة الزيتونة
والدكتور علي الشابي الذي ينتمي إلى عائلة شاعر تونس الخالد ابوالقاسم الشابي برز شاعرا متفردا في كل ما يكتبه من قصائد ذات نفس وطني بدرجة أولى كما أولى اهتماما كبيرا بابي القاسم الشابي من خلال مؤلفات توقفت عند النادر وغير المتداول من أشعار هذا الشاعر الفذ بأسلوب سلس جمع بين الإمتاع والإقناع.
تونس-الصباح
صدر في الأيام الماضية مؤلف فكري استثنائي قيًم للدكتورعلي الشابي توقف فيه عند أحد عمالقة الفكر الإنساني " أبو الريحان البيروني"...مؤلف كشف فيه صاحبه ما قدمه هذا العلم الخالد للثقافة الإنسانية وعلاقة ذلك بالعلامة عبد الرحمان بن خلدون وتأسيس علم الاجتماع وأيهما الأسبق في ذلك.
ومما لاشك فيه أن هذا الكتاب سيثير حتما نقاشا كبيرا وتباينا في الآراء والمواقف ناهيك وأن الدكتور علي الشابي بين وقدم الكثير من الحجج والبراهين التي من شأنها أن تفتح النقاش الفكري على مصراعيه بخصوص علم العمران البشري والاجتماعي..
فكانت لنا رحلة ممتعة بين ثنايا كتاب " أبو الريحان البيروني، المفكر الأكبر" مع مؤلفه الدكتور الشاعر والمبدع الحصيف علي الشابي..
حوار: محسن بن احمد
أي سر وراء هذا الاهتمام بأبي الريحان البيروني ؟
-كلفني سنة 1958 أستاذي الدكتور يحيى الخشاب في كلية الآداب بجامعة القاهرة بإعداد بحث حول " صورة ايران" في كتاب أبي الريحان البيروني وعنوانه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة "ومنذ ذلك الوقت ظلت علاقتي بكتبه قائمة بل إنها كانت تزداد مع الأيام إحكاما لان كتبه كاشفة للثقافات السائدة في القرن الخامس عشر الهجري وهي الثقافات العربية واليونانية والفارسية والهندية، فهي تجمع بين فلسفة اليونان والهام الهند وحكمة إيران ولا نهائية الخيال الإبداعي وصيغة التراكم المعرفي المستحدثة لدى العرب.
**هذا يعني أن أبا الريحان البيروني يتوفر على ميزات وخصوصيات في تعاطيه مع الفكر الكوني بصفة عامة؟
-فعلا ولا اخفي سرا إذا قلت أن ميزة البيروني في عصره وقبل عصره وبعد عصره فهو متخصص في العلوم على اختلافها في المجالين العلمي والإنساني بل أكثر من ذلك فهو مبتكر لعلوم كثيرة منها علم مساحة الأرض ووضع اللبنة الأولى لعلم التفاضل والتكامل في الرياضيات ومبتكر علم الانثروبولوجيا والرائد في علم الاجتماع ومبتكر علم الجغرافيا البشرية وعلم مقارنة الأديان ومنهج البحث التاريخي في الثقافة الإسلامية وأحد مؤسسي تاريخ العلوم وأبو الصيدلية العربية والداعية الأعظم إلى التسامح الديني والعرقي " عصر أواخر القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس "وقد سماه جورج سارتون بـ"عصر البيروني " وقال عنه المستشرق الألماني " سخاو " " هو أعظم عقلية في التاريخ "
تلك هي الميزة الأولى التي تتوفر عند البيروني أما الميزة الثانية فهي التسامح والانفتاح في عصر مضطرب موزع بين المعتدلين والمتطرفين في المستويين الديني والمذهبي بصورة خاصة.
يرفض البيروني استخدام الدين في السياسة شأنه في ذلك شأن ابن المقفع من قبله لان الاستخدام يؤدي في نظرهما إلى ان تصبح أهواء المستخدم وتفسيراته دينا، وقد انتقد البيروني الفرق الإسلامية التي استخدمت الدين في السياسة بتكفير بعضها البعض ولاحتكارها للحقيقة المطلقة من أجل السيطرة على الحكم مما يؤدي إلى الاقتتال وقد أدت فعلا إلى الاقتتال والاحتراب
كما أن البيروني قارن بين الفرق الإسلامية والفرق الهندية فأكد أن الفرق الهندية تختلف ولكنها لا تصل إلى الاقتتال لأنها لا تخلط الدين بالسياسة.
واستهجن البيروني المتعصبين المتهورين حسب تعبيره الذين هم ضد العقلانية اليونانية والإسهام الحضاري الروماني وهم يعتبرون كل من إسمه مختتم بحرف السين " وهنا يقصد اليونانيون " هو كافر ومن ثمة لا يقبل هؤلاء المتعصبون قوله ولو كان حقا
عقَب عليهم البيروني بقوله " مادام الأمر كذلك فان على هؤلاء أن لا يأكلوا ويشربوا مادام اليونانيون يأكلون ويشربون " وهذا المسلك مناف لقوله تعالى "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله" وفي هذا السياق قدم البيروني إلى إمام جامع " غزنة " بأفغانستان جهازا ابتكره لضبط أوقات الصلاة فرفضه الإمام لأنه مبني على الشهور الرومية والروم في نظره كفار فتألم البيروني اشد الألم.
كما أن البيروني انتقد بشدة ما كان عليه السلطان محمود الغزنوي من تعصب وتطرف إلى حد انه كان يعتبر حرية الرأي إلحادا والفلسفة كفرا وكاد أن يقتل البيروني بعد أن قتل أستاذ البيروني الحكيم عبد الصمد وهمً أن يقبض على ابن سينا والتنكيل به، إذ هو في نظره كافر ولولا فراره إلى بلاط قابوس أمير دولة "الديالمة الزياريين" في " طبرستان " وجرجان " وقد رد ابن سينا عليه وعلى التكفيريين جميعا ببيتين من الشعر قالهما بالفارسية وترجمتهما:
قد كذبتم إنني بالكفر مغرم
أين من مُحكم إيماني احٌكمُ
أو وحيد الدهر مثلي كافر
فإذن لم يبق في العالم مسلم
كان البيروني ضد التكفيريين وضد التطرف والتعصب والانغلاق الفكري ويقول في هذا الشأن " إني لاآبي قبول الحق من أي معدن وجدته " ولتسامحه لم يكن بالقائل وإنما يهتم بالقول لذلك أشاد بآراء " الايرانشهري " الكلامية بالرغم من إلحاده واعتمد خبرا ورد في كتاب " ماني " وعنوانه " الشبرقان " لان ماني يُحرم الكذب
ونظرا لتسامح البيروني فإنه كان يفضل العربية على اللغتين الخوارزمية والفارسية بالرغم من أصله الفارسي الذي لم يمنعه كذلك من اتهام الفرس بالكذب والمبالغة
كما أنه تفرغ لدراسة الهند دراسة انثروبولوجية لم تزل إلى اليوم الدراسة المعتمدة الأولى لدى الهنود.
**كيف تقدم منهج البيروني في دراسة المجتمع الهندي ؟
-اعتمد البيروني في دراسته للهند منهجا وصفيا بمنأى عن النقد والتجريح وعن التحسين والتهجين وقد اعتمد في هذه الدراسة التوجيه الإلهي في قوله تعالى "لا إكراه في الدين "و قوله تعالى "أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "وقد أقام في الهند مدة طويلة كما زارها مرات كثيرة فحذق لغتها وأتقن علومها وتعرف على المجتمع الهندي من حيث ثقافته وتاريخه وعاداته ثم ألف كتابه " في تحقيق ما للهند.."
واضح في كتاب " في تحقيق ما للهند .." إن المسلمين في الهند كانوا لا يعاملون " الهنادكة "معاملة الكفار وعبدة الأوثان مثلما كانوا يعاملون أعراب الجزيرة وإنما ابدوا لهم كل احترام على أساس أن لهم دين خاص بهم هو " الهندوكية " بل إن البيروني قسم المجتمع الهندي إلى قسمين:
-العوام الذين يدينون بالأساطير والخرافات
-البراهمة "النخبة العالمة" الذين يعبدون الله الواحد الأزلي من غير ابتداء ولا انتهاء المختار القادر الحكيم الحي المحيي المدبر لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.
تناولت في كتابك الصادر حديثا " أبوالريحان البيروني المفكر الأكبر " عمل كل من البيروني وابن خلدون في المجال التاريخي وفي منهج البحث التاريخي فأي صلة بينهما ؟
-كلاهما أبدع عملا رائدا اتخذ منه الدارسون في مجال علم الاجتماع مرتكزا لدراساتهم ممثلا في كتاب " في تحقيق ما للهند ..."و" المقدمة " لابن خلدون كما أن ضبطهما لمنهج البحث التاريخي يعتبر هو أيضا عمل فارق في مسيرة البحث التاريخي في الثقافة الإسلامية ومن البين أن البيروني هو مبتكر"الانثروبولوجيا" وهي الدراسة العلمية للثقافات والشعوب في طرق تفكيرها وتصرفها ومفاهيمها وتصوراتها ونُظمها السائدة وعاداتها وتقاليدها وعلاقة كل هذا بالبيئة الطبيعية
لقد ابتكر البيروني " الانثروبولوجيا" وتناولها باعتبارها علما له موضوع ومنهج ووظيفة كما أنه صاحب دور كبير في تأسيس علم الاجتماع غير أن ابن خلدون أفاد انه مبتكر علم الاجتماع وبينهما أي " الانثروبولوجيا " و" علم الاجتماع" تشاكل وتداخل إلى حد انه يصعب الفصل بينهما بل إن من بين الباحثين من يُوحد بينهما فيجعل " الانثروبولوجيا" حكرا على المجتمعات البدائية بينما يجعل علم الاجتماع حكرا على دراسة المجتمعات الحضارية
من وجهة نظرك وبعد دراسة البيروني هل كان ابن خلدون سباقا في دراسة المسائل الاجتماعية ومسائل العمران ؟
-يرى ابن خلدون انه المبتكر لعلم الاجتماع من خلال دراسته للتاريخ دراسة تحليلية نقدية ودراسة الدولة والمجتمع وقيام الحضارات وسقوطها، وقد أورد أن مسائل محدودة قد تم ذكرها قبله لكنها غير مستوفاة بالدرس والتحليل وهذه المسائل هي أربعة بالإضافة إلى ما تناوله " الطرطوشي" وينبغي هنا أن أشير إلى أن المسائل الأربعة كلها مصدرها فارس وتتعلق بالسياسة والمُلك والعدل وإذن هي في رأيه أن هذه المسائل التي ذكرها هي التي أُثرتَ على السابقين وإن وٌجدت أخرى فإنها لم تصل إلينا.
ما قاله ابن خلدون ليس صحيحا لقد ذُكرت مسائل أخرى في مصادر كان ابن خلدون مطلعا عليها لكن يبدو أنه تغافل عنها لينسب إلى نفسه السبق في ابتكار علم الاجتماع وبيان ذلك
1-إن ابن خلدون اطلع على كتاب "السياسة" وكتاب "الخطابة" لأرسطو كما اطلع على كتاب " الجمهورية " لأفلاطون لكنه أغفل ذكر ذلك بالمعنى الذي أشرت إليه في حين انه كشف في نقده لتلخيص ابن رشد لكتاب " الخطابة " عن اطلاعه على هذا الكتاب مما يدل على صلته الوثيقة به
2- بشأن مصادر النظم السياسية والإدارية الفارسية المُعربة التي عمد إلى التغاضي عنها واستناد المؤرخين إليها يوضحان جلية الأمر
لقد عرًب ابن المقفع من الفارسية كتبا تاريخية ومصادر في النظم السياسية والإدارية ومقدمة هذه الكتب " تنسر " و" خداي نمه " وكتاب "ابين نامه " كما تم تعريب كتاب " اردشير " وكل هذه المؤلفات نقل عنها مؤرخون كثيرون منهم المسعودي الذي كان ابن خلدون يقول عنه "إنه إمام المؤرخين " كما نقل عن هذه المؤلفات " مسكويه" وكذلك البيروني في كتابه " في تحقيق ما للهند.." كما إن ابن المقفع تناول في كتبه ومن بينها كتبه " اليتيمة " مسائل تتعلق بالنظم السياسية والإدارية وهي مسائل قال عنها ابن خلدون " إن ابن المقفع تناولها تناولا خطابيا بلاغيا " وهدف ابن خلدون من ذلك هو الاستئثار بابتكار علم الاجتماع والواقع أن ابن المقفع تناول هذه المسائل المتعلقة بنظام الحكم وبناء المؤسسات بالبرهنة وبالتنظير بمنأى عن الخطابة والبلاغة
لقد أمعن ابن المقفع في الاعتبار بنظم الدولة الساسانية وأوضاع الحكم منذ بواكير الإسلام إلى الدولة العباسية فانتهى إلى طرح صيغة تتفق مع مصلحة المجتمع من حيث صلة الحاكم بالمحكوم والصفات الواجب توفرها في الحاكم ومع ما استقر في خبرة إيران وتجربة الهند كما تتفق مع النظم الفارسية من حيث المؤسسات التي يجب أن تتوفر للدولة وذلك بقصد إفادة المجتمع الإسلامي وفصًل ابن خلدون ذلك تفصيلا كبيرا لا مجال للوقوف عنده الآن.
ومن ثمة فإن ما قاله ابن خلدون وهو إن القدماء لم يكتبوا في مسائل علم الاجتماع أو أنهم كتبوا ولم يصل ألينا هو خطأ او قل تغافل والواقع أن الفرس قد كتبوا في النظم الاجتماعية والسياسية واستوفوها في كتب كثيرة.
**من وجهة نظرك..لماذا تغافل ابن خلدون في كتاباته عن ذكر البيروني والتعرض لمؤلفاته وهو المبتكر لعلم الانثروبولوجيا؟
-فعلا لم يذكر ابن خلدون البيروني ولم يشر إليه لا في المجال الاجتماعي ولا في حديثه عن العلوم والعلماء بينما يعد البيروني المؤسس لعلم " الانثروبولوجيا" واكبر عالم مبتكر وشهرته ذائعة في المشرق والمغرب
ففي المجال الحضاري الإسلامي نجد أن اراء البيروني الاجتماعية قد تردد صداها في " المقدمة " لابن خلدون من ذلك قول البيروني " الإنسان مدني بالطبع" وفصًل في ذلك تفصيلا نجده أيضا في مقدمة ابن خلدون فالبيروني قال "إن الإنسان يعيش في البداية في عزلة تامة لكن استعداده العقلي حمله على الإقبال على التمدن مع أبناء جنسه بسبب كثرة حاجاته وعدم امتلاكه لوسائل الدفاع ووفرة أعدائه" وحدد الأسس الحاملة لعلم الاجتماع وهي:
-الاستئناس الذي يتم بالتجانس بين المجتمعين-الأمن من الشر والخوف
-المنفعة الجامعة وبقدر ما تجمع هذه المنفعة بين الناس تفرق بينهم بسبب اختلافهم في الإرادات والمقاصد لذلك تعددت الحرف والصناعات وقد جعل الله الاختلاف أساسا
لقد تردد صدى هذه الآراء في مقدمة ابن خلدون " الاجتماع ضرورة لأنه يوفر ما للإنسان في حاجة إليه من غذاء ودفاع ودرء الخوف وإذا حصل الاجتماع تتأكد الضرورة لوجود من يقودهم وهذا هو معنى المُلك"
لم يذكر ابن خلدون البيروني في المقدمة والتاريخ بالرغم من ذيوعه شرقا وغربا وحسبك ان تعرف عمق الصلة بين المشرق والمغرب من خلال نصوص كثيرة من بينها ما ذكره " أبو العرب" في كتابه " طبقات علماء إفريقيا وتونس "
ومن ثمة لا يمكن أن يقال بان البيروني لم يكن معروفا في القرن الثامن في بلاد المغرب ذلك أن ابن سعيد المغربي اعتمد البيروني في كتابه "بسط الأرض".
وإذن عدم ذكر ابن خلدون للبيروني كان لغرض قصدي هو تفرده بابتكار علم الاجتماع من حيث أن البيروني والذي ابتكر " الانثروبولوجيا" الاجتماعية وإن لم يصل إلى حد التنظير فانه برهن على أنه كان ينحو إلى التعميم والتقنين فكان له دور كبير في تأسيس علم الاجتماع وذلك من خلال تفسيره لكثير من التغيرات الاجتماعية والتاريخية ولا غنى فيما يروج له المُستلبون من أن قرن تأسيس علم الاجتماع هو القرن التاسع عشر وإذن تأسيس علم الاجتماع كان شراكة بين البيروني وابن خلدون.
كيف كان التعاطي مع منهج البحث التاريخي بالنسبة للبيروني وابن خلدون؟
-يعتبر البيروني المبتكر للمنهج العلمي المتكامل للبحث التاريخي للثقافة الإسلامية كما أن ابن خلدون وضع هو الأخر منهجا للبحث التاريخي نجده مفصلا في مقدمته إلا أننا نلحظ بين المنهجين تشابها في ما يتصل بصدقية الخبر وما يشترط في المؤرخ
أين يكمن هذا التشابه ؟
-اشترط البيروني لقبول الخبر شرطين هما " قوانين الطبيعة ومقاييس المنطق " وهما اللذان اشترطهما ابن خلدون " طبائع الكائنات ومعيار الحكمة " كما نجد أن ما اشترطه ابن خلدون في المؤرخ قد استوحاه من شروط البيروني في هذا الصدد وكل ذلك مفصل في الكتاب
كما أن ابن خلدون نقل عن البيروني في مواطن كثيرة من المقدمة من ذلك ما يجب أن يتحقق لقيام المُلك وهو العصبية والتأبيد السماوي.
كان البيروني ملتزما بأحكام الوصل بين منهجه النقدي وما أورده من أخبار وحوادث تاريخية وهذا يكشف عن حقيقة سبقه إلى ابتكار هذا المنهج للبحث التاريخي العلمي
أما ابن خلدون لم يطبق منهجه على الأخبار والحوادث إلا قليلا فلم يكن حريصا على التطبيق لأنه لم يكن المؤسس للمنهج المتكامل للبحث التاريخي ومن ثمة أسفرت كتابته في كثير من الأحيان عن قطيعة بين النظري والممارسة وعن تجاوز للمبادئ التي وضعها من ذلك مثلا، وصًله نسب أبي العباس والاستفادة منه في حين أن الحفصيين هم بربر خالصون وادعاءه ربط نسب مؤسس الأسرة الموحدية بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ادعاء لاغنى فيه وكان يقصد من وراء ذلك رضاء الدولة الموحدية
لكن البعض من المؤرخين أراد التبرير لابن خلدون فقال باستساغة الفصل بين النظري والممارسة وأنه ترك التطبيق للقارئ وهو تبرير لا معنى له.
وما انتهينا إليه هو التأسيس الرائد لعلم الاجتماع حيث قدم له البيروني بابتكاره "الانثروبولوجيا الاجتماعية " وبالنزوع إلى التعميم والتقنين وأنهاه ابن خلدون بأحكام التنظير حيث قدم نظرياته حول دور البيئة والعوامل الاجتماعية في تشكل المجتمعات والتطور التاريخي لها وكلاهما استند في كتابة تاريخه مع اختلاف واضح في التطبيق والتوجيه واستخلاص العبرة من تجارب الأمم شرقا وغربا وكشف أسباب قيام الحضارات وسقوطها والعلمان الرائدان مثلاه علما ومنهجا المزكيان في عصرهما مسيرة الفعل العربي إلى أفاق مستحدثة والمسهمان أيما إسهام في تطوير الثقافة الإنسانية
الدكتور علي الشابي في سطور
جمع الدكتور علي الشابي في مسيرته بين العمل السياسي والإبداع الشعري والثقافي.
فقد تولى في المجال السياسي عديد المهمات والمناصب العليا في الدولة منها كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلف بالشؤون الدينية ليتم تعيينه بعد ذلك وزيرا في ذات الوزارة كما ترأس المجلس الإسلامي الأعلى وجامعة الزيتونة
والدكتور علي الشابي الذي ينتمي إلى عائلة شاعر تونس الخالد ابوالقاسم الشابي برز شاعرا متفردا في كل ما يكتبه من قصائد ذات نفس وطني بدرجة أولى كما أولى اهتماما كبيرا بابي القاسم الشابي من خلال مؤلفات توقفت عند النادر وغير المتداول من أشعار هذا الشاعر الفذ بأسلوب سلس جمع بين الإمتاع والإقناع.