حوالي عقد ونيف يمر على تونس منذ الظهور العلني للخطابات السياسية والفكرية التي تبنتها مختلف القوى السياسية والاجتماعية اليمينية واليسارية إلى القومية إلى الليبرالية إلى غيرها، اصطلح على وضعها جميعا تحت اسم واحد هو "القوى الوطنية" ووصف خطابها بأنه "خطاب وطني " يتفاعل مع كل مرحلة سياسية ويتطور بتطور مطالبه حسب مقتضياتها ،خاصة مع حداثة رهانات دمقرطة النظام السياسي منذ سنة 2011 وتصادمه في بعض الأحيان مع خطابات عشوائية أو طارئة على الإجماع الوطني كالخطاب التكفيري الذي شهد ذروته بين سنتي 2012 و2013 وإنتهى بعواقب سيئة على وحدة النسيج المجتمعي والوطني وخلف رواسب سوداء في صيرورة التجربة التونسية من أحداث عنف وتكسير الاجتماعات السياسية والثقافية والتجمعات الحزبية والنقابية وأفرز الاغتيالات السياسية التي شارفت على إعلان الحرب الأهلية .
ورغم أن المكونين السياسي والحزبي في تونس قد مرا بخطورة الخطابات التقسيمية وما أنتجته من فرقة وتكلفة وطنية وشعبية ،نعيش اليوم ظهور خطابات جديدة لا تختلف كثيراً عن ما عشناه سابقاً ، فقد غزا الخطاب التخويني والتحريضي والتشفي والنكاية مواقع التواصل الاجتماعي على إعتبارها أكثر الوسائل والجسور متانة في الوصول والتفاعل مع المواطنين والأخطر من هذا تمكن هذا الخطاب من فرض تواجده في المنابر الإعلامية والإذاعية وفُرضَ حسب السياق السياسي الذي تعيشه البلاد كأطروحة فكرية تدافع عن نفسها بنفسها من خلال الاتهام وتحميل الآخر مسؤولية تعطل الحالة السياسية والتقدمية في تونس بموافقة تامة وضوء أخضر من أصحاب بعض المؤسسات الإذاعية والإعلامية وتبنيه من عدة وجوه ترويجية تغذي ثنائية "الوطني والعميل" وإتاحة الفرصة لتوزيع صكوك الوطنية .
وعوضاً عن بناء وصياغة خطاب يتأسس على العقلانية والفكر يسعى الى تجميع أغلب المدارس والتوجهات الإيديولوجية ويقرب وجهات التعارض والتنافر بين العائلات السياسية يستهدف نقطة التقاء حول رسم سياسة وطنية إستراتيجية في مختلف الأبعاد أهمها الاجتماعية والاقتصادية كأولوية مستعجلة ومُلحة من أجل مصلحة تونسية خالصة تطرح مركزية القضايا الوطنية كالصحة والنقل والتعليم وتوفير المواد الأساسية في الأسواق التونسية والتصدي لظاهرة التهريب والسوق السوداء والموازية والتضخم والمضاربة والاحتكار التي دمرت الاقتصاد الوطني والتفكير الجدي في التعامل مع ظاهرة الهجرة السرية ومعضلة تفجر البطالة في صفوف الحاملين لشهائد عليا وغيرهم ومكافحة الجريمة الكلاسيكية والطارئة والتصدي لقنوات الاتجار بالبشر والأعضاء والأدوية ، يعمد حاملو ومروجو هذا الخطاب الخطير الى تشتيت الذهنية العامة وإغراق السمع الشعبي بهوامش المسائل وتهميش أمهات القضايا التي تتطلب اليوم حلولا عاجلة بعيداً عن المزايدات ومحاولات شطب الأخر وتفسيخ تواجده السياسي وتحتاج الى كل من له القدرة على خدمة تونس للفائدة الوطنية بعيداً عن طمع الامتيازات الشخصية أو الحزبية أو السياسية أو العائلية.
الخطير في الأمر أن هذا الخطاب لم يتوقف عند حدود الثنائية الوطنية والتخوينية بل تعداه ليفرز بدوره نغمة إيقاعية أخرى من شماتة وتشفّ تعززه في الكثير من الأحيان وتثري انتشاره بين الناس وسرعان ما يتحول الى محاكم إدانات شعبية وفيسبوكية يعطي حق الخوض في سمعة وأعراض المخالفين وتعريضهم الى الوصم المجتمعي والهرسلة والإقصاء وكل ما قد ينتج عنه من تدمير الروابط العائلية والمهنية والمجتمعية والنفسية والأخطر من هذا هو تبنيه أيضاً كخطاب رسمي لشق كبير من السلطة التي كان الأجدر بها أن تعمل جاهدة على صياغة خطابات الوحدة والالتزام بالقانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء أو تمييز أو تشفّ والتصدي للمحاكم الفيسبوكية التي حلت محل المحاكم الجزائية وخطابات الكراهية التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي .
جزء هام من الذين يقدمون أنفسهم أيضا كمعارضة يتخفون هم الآخرون وراء خطاب المظلومية ويحاولون إعادة شحن شعبيتهم المتهاوية عبر استهداف التعاطف دون تقديم خطاب سياسي بديل قادر على مواجهة استشراء الوصم والتخوين ، هؤلاء رغم إخفاقهم سابقاً في تجارب حكم متعددة عادوا بدورهم ليحتلوا دور المعارضة للرجوع الى الحكم ،يعتبرون أن المعارضة فقط مكان احتياطي وظرفي نحو العودة الى السلطة ،هم أيضاً روجوا لخطابات هامشية إنبنت على شعارات الشرعية والمشروعية وكيفية الحفاظ على الحكم عوض المراجعة الذاتية المعمقة وتقديم النقد الذاتي والاعتراف بكل الأخطاء الحاصلة في فترة حكمهم ونكران الذات والتعامل مع التحدي الديمقراطي بذهنية ديمقراطية وتقييم موضوعي وجرد مفصل في النجاحات والإخفاقات .
هذا الخطاب الذي يشكو من مظلومية التخوين والإقصاء عمد هو بدوره الى مصادرة حق المعارضة الحقيقية ومساحات التفكير الحر خاصة لدى الشباب المهتم والمعني بالشأن العام رغم عزوف الأغلبية المطلقة بل وصادروا حقهم في ترويج أفكارهم عبر صياغة خطاب ضدي يتحوز غصباً على شرعية الدفاع عن الديمقراطية وتحويل جوهر المعركة الوطنية الى ثنائية الدكتاتورية والوطنية وحجب حق فئة سياسية شبابية واسعة في أن تعبر عن تصورها وخياراتها وبديلها.
ثنائية الخطابين يتأسسان على شطب الأخر كلاهما يحارب الرأي المغاير والحر خاصة في تغييب واضح لكل صوت شبابي سياسي يدعو الى التفكير العميق في الوضعية الحالية لتونس وكيفية الخروج من أزمتها بعيداً عن من يريد العودة الى السلطة وأحتل من جديد مساحات المعارضة معتبراً إياها دكة بدلاء الى حين استعادة الحكم وأيضاً من يريد الحفاظ على السلطة بإعطاء الضوء الأخضر لخطابات الفرقة والتخوين وعدم التصدي لها .
نحن نعيش سنة سياسية استثنائية بكل المقاييس ستشهد في موفاها الانتخابات الرئاسية وما قد تحمله من استمرارية أو مفاجآت ،نعيش لحظة تاريخية فارقة نحتاج فيها إلى بعضنا البعض، نحتاج إلى أن نستعيد ثقتنا في بعضنا البعض بعيدا عن كل الأمراض الإيديولوجية التي تمكنت من العديد وتحولت إلى أحقاد إجتثاثية تصفوية، هذه المرحلة السياسية بمختلف تشكلاتها وصراعاتها وأطرافها ومكوناتها ونتائجها، بحكومتها ومدعي معارضتها ليست أفضل مرحلة عرفتها تونس ولكن علينا أن لا نجعلها الأسوء والأحلك في مسارنا التاريخي الوطني،ستمضي كل هذه الصراعات لكن بأي ثمن ؟ وأية نتائج ؟ من هم ضحاياها؟
هي لحظة فارقة بإمكاننا أن نمضي بها إلى المستقبل دون شوائب أو تصفية حسابات، ألا يكفي كل التونسيين الذين ماتوا واستشهدوا سواء بالغدر والإرهاب أو الذين ضحوا من أجل تجربة ديمقراطية وطنية خالصة نستعيد فيها كرامتنا ومعها سيادتنا؟ ألا يكفي كل الذين فتك بهم الوباء جراء الاستهتار وتصفية الحسابات؟ ألا يكفي ما يعيشه التونسيون اليوم من انهيار المقدرة الشرائية ونقصٍ في قوتهم اليومي؟
ليست هي أفضل المراحل التاريخية التي نعيشها لكن لا يجب أن نجعلها الأسوء والأحلك في تاريخنا، كي لا نلعق سكيناً ونظن أننا نتلذذ بدماء أعدائنا والحق أننا نتلذذ بدماء ألسنتنا.
احمد الجديدي
باحث وناشط سياسي
"هل صُودرٓ التفكير الشبابي بين الخطابين ؟"
حوالي عقد ونيف يمر على تونس منذ الظهور العلني للخطابات السياسية والفكرية التي تبنتها مختلف القوى السياسية والاجتماعية اليمينية واليسارية إلى القومية إلى الليبرالية إلى غيرها، اصطلح على وضعها جميعا تحت اسم واحد هو "القوى الوطنية" ووصف خطابها بأنه "خطاب وطني " يتفاعل مع كل مرحلة سياسية ويتطور بتطور مطالبه حسب مقتضياتها ،خاصة مع حداثة رهانات دمقرطة النظام السياسي منذ سنة 2011 وتصادمه في بعض الأحيان مع خطابات عشوائية أو طارئة على الإجماع الوطني كالخطاب التكفيري الذي شهد ذروته بين سنتي 2012 و2013 وإنتهى بعواقب سيئة على وحدة النسيج المجتمعي والوطني وخلف رواسب سوداء في صيرورة التجربة التونسية من أحداث عنف وتكسير الاجتماعات السياسية والثقافية والتجمعات الحزبية والنقابية وأفرز الاغتيالات السياسية التي شارفت على إعلان الحرب الأهلية .
ورغم أن المكونين السياسي والحزبي في تونس قد مرا بخطورة الخطابات التقسيمية وما أنتجته من فرقة وتكلفة وطنية وشعبية ،نعيش اليوم ظهور خطابات جديدة لا تختلف كثيراً عن ما عشناه سابقاً ، فقد غزا الخطاب التخويني والتحريضي والتشفي والنكاية مواقع التواصل الاجتماعي على إعتبارها أكثر الوسائل والجسور متانة في الوصول والتفاعل مع المواطنين والأخطر من هذا تمكن هذا الخطاب من فرض تواجده في المنابر الإعلامية والإذاعية وفُرضَ حسب السياق السياسي الذي تعيشه البلاد كأطروحة فكرية تدافع عن نفسها بنفسها من خلال الاتهام وتحميل الآخر مسؤولية تعطل الحالة السياسية والتقدمية في تونس بموافقة تامة وضوء أخضر من أصحاب بعض المؤسسات الإذاعية والإعلامية وتبنيه من عدة وجوه ترويجية تغذي ثنائية "الوطني والعميل" وإتاحة الفرصة لتوزيع صكوك الوطنية .
وعوضاً عن بناء وصياغة خطاب يتأسس على العقلانية والفكر يسعى الى تجميع أغلب المدارس والتوجهات الإيديولوجية ويقرب وجهات التعارض والتنافر بين العائلات السياسية يستهدف نقطة التقاء حول رسم سياسة وطنية إستراتيجية في مختلف الأبعاد أهمها الاجتماعية والاقتصادية كأولوية مستعجلة ومُلحة من أجل مصلحة تونسية خالصة تطرح مركزية القضايا الوطنية كالصحة والنقل والتعليم وتوفير المواد الأساسية في الأسواق التونسية والتصدي لظاهرة التهريب والسوق السوداء والموازية والتضخم والمضاربة والاحتكار التي دمرت الاقتصاد الوطني والتفكير الجدي في التعامل مع ظاهرة الهجرة السرية ومعضلة تفجر البطالة في صفوف الحاملين لشهائد عليا وغيرهم ومكافحة الجريمة الكلاسيكية والطارئة والتصدي لقنوات الاتجار بالبشر والأعضاء والأدوية ، يعمد حاملو ومروجو هذا الخطاب الخطير الى تشتيت الذهنية العامة وإغراق السمع الشعبي بهوامش المسائل وتهميش أمهات القضايا التي تتطلب اليوم حلولا عاجلة بعيداً عن المزايدات ومحاولات شطب الأخر وتفسيخ تواجده السياسي وتحتاج الى كل من له القدرة على خدمة تونس للفائدة الوطنية بعيداً عن طمع الامتيازات الشخصية أو الحزبية أو السياسية أو العائلية.
الخطير في الأمر أن هذا الخطاب لم يتوقف عند حدود الثنائية الوطنية والتخوينية بل تعداه ليفرز بدوره نغمة إيقاعية أخرى من شماتة وتشفّ تعززه في الكثير من الأحيان وتثري انتشاره بين الناس وسرعان ما يتحول الى محاكم إدانات شعبية وفيسبوكية يعطي حق الخوض في سمعة وأعراض المخالفين وتعريضهم الى الوصم المجتمعي والهرسلة والإقصاء وكل ما قد ينتج عنه من تدمير الروابط العائلية والمهنية والمجتمعية والنفسية والأخطر من هذا هو تبنيه أيضاً كخطاب رسمي لشق كبير من السلطة التي كان الأجدر بها أن تعمل جاهدة على صياغة خطابات الوحدة والالتزام بالقانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء أو تمييز أو تشفّ والتصدي للمحاكم الفيسبوكية التي حلت محل المحاكم الجزائية وخطابات الكراهية التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي .
جزء هام من الذين يقدمون أنفسهم أيضا كمعارضة يتخفون هم الآخرون وراء خطاب المظلومية ويحاولون إعادة شحن شعبيتهم المتهاوية عبر استهداف التعاطف دون تقديم خطاب سياسي بديل قادر على مواجهة استشراء الوصم والتخوين ، هؤلاء رغم إخفاقهم سابقاً في تجارب حكم متعددة عادوا بدورهم ليحتلوا دور المعارضة للرجوع الى الحكم ،يعتبرون أن المعارضة فقط مكان احتياطي وظرفي نحو العودة الى السلطة ،هم أيضاً روجوا لخطابات هامشية إنبنت على شعارات الشرعية والمشروعية وكيفية الحفاظ على الحكم عوض المراجعة الذاتية المعمقة وتقديم النقد الذاتي والاعتراف بكل الأخطاء الحاصلة في فترة حكمهم ونكران الذات والتعامل مع التحدي الديمقراطي بذهنية ديمقراطية وتقييم موضوعي وجرد مفصل في النجاحات والإخفاقات .
هذا الخطاب الذي يشكو من مظلومية التخوين والإقصاء عمد هو بدوره الى مصادرة حق المعارضة الحقيقية ومساحات التفكير الحر خاصة لدى الشباب المهتم والمعني بالشأن العام رغم عزوف الأغلبية المطلقة بل وصادروا حقهم في ترويج أفكارهم عبر صياغة خطاب ضدي يتحوز غصباً على شرعية الدفاع عن الديمقراطية وتحويل جوهر المعركة الوطنية الى ثنائية الدكتاتورية والوطنية وحجب حق فئة سياسية شبابية واسعة في أن تعبر عن تصورها وخياراتها وبديلها.
ثنائية الخطابين يتأسسان على شطب الأخر كلاهما يحارب الرأي المغاير والحر خاصة في تغييب واضح لكل صوت شبابي سياسي يدعو الى التفكير العميق في الوضعية الحالية لتونس وكيفية الخروج من أزمتها بعيداً عن من يريد العودة الى السلطة وأحتل من جديد مساحات المعارضة معتبراً إياها دكة بدلاء الى حين استعادة الحكم وأيضاً من يريد الحفاظ على السلطة بإعطاء الضوء الأخضر لخطابات الفرقة والتخوين وعدم التصدي لها .
نحن نعيش سنة سياسية استثنائية بكل المقاييس ستشهد في موفاها الانتخابات الرئاسية وما قد تحمله من استمرارية أو مفاجآت ،نعيش لحظة تاريخية فارقة نحتاج فيها إلى بعضنا البعض، نحتاج إلى أن نستعيد ثقتنا في بعضنا البعض بعيدا عن كل الأمراض الإيديولوجية التي تمكنت من العديد وتحولت إلى أحقاد إجتثاثية تصفوية، هذه المرحلة السياسية بمختلف تشكلاتها وصراعاتها وأطرافها ومكوناتها ونتائجها، بحكومتها ومدعي معارضتها ليست أفضل مرحلة عرفتها تونس ولكن علينا أن لا نجعلها الأسوء والأحلك في مسارنا التاريخي الوطني،ستمضي كل هذه الصراعات لكن بأي ثمن ؟ وأية نتائج ؟ من هم ضحاياها؟
هي لحظة فارقة بإمكاننا أن نمضي بها إلى المستقبل دون شوائب أو تصفية حسابات، ألا يكفي كل التونسيين الذين ماتوا واستشهدوا سواء بالغدر والإرهاب أو الذين ضحوا من أجل تجربة ديمقراطية وطنية خالصة نستعيد فيها كرامتنا ومعها سيادتنا؟ ألا يكفي كل الذين فتك بهم الوباء جراء الاستهتار وتصفية الحسابات؟ ألا يكفي ما يعيشه التونسيون اليوم من انهيار المقدرة الشرائية ونقصٍ في قوتهم اليومي؟
ليست هي أفضل المراحل التاريخية التي نعيشها لكن لا يجب أن نجعلها الأسوء والأحلك في تاريخنا، كي لا نلعق سكيناً ونظن أننا نتلذذ بدماء أعدائنا والحق أننا نتلذذ بدماء ألسنتنا.