سجلت في أعرق الديمقراطيات الغربية عمليات طرد صحفيين تجرؤا على نقد إسرائيل وحكومتها وتم الاستغناء عن رسامي كاريكاتور جسدوا نتنياهو في صورة شخص دموي
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
تبدو حرية التعبير، كما الديمقراطية، من ثوابت المجتمعات الغربية سواء في أوروبا أو أمريكا . ولكن تبقى لها حدود مرسومة عرفيا أو كتابيا، خاصة زمن الأزمات وحالات الطوارئ والحروب، حيث تتحول التعددية إلى أحادية، تتشابه مع ما هو سائد في بلدان العالم الثالث سواء السلطوية منها أو الإستبداية، حسب ظروف كل بلد وخصوصياته.
وجاءت حرب غزة الأخيرة الجارية فصولها لتقيم الدليل مرة أخرى منذ تضليل حرب الخليج ، على مدى نسبية تلك الحرية في الممارسة، خاصة إذا تعلق الأمر بقضية مقدسة ذات صلة بتقاليد معاداة السامية التي تسير على هديها المجتمعات الغربية بصحفيّيها ومبدعيها ويمينها ويسارها ومحافظيها وليبراليّيها.
مقص الرقابة في بريطانيا وكندا
وقد وقف الجميع مشدوهين أمام حدة مقص الرقابة وسرعة تدخله لمنع التفكير في موضوع ما، ومنع التعبير عنه، وهو موضوع معاداة السامية. فخلال أيام قلائل سجلت في أعرق الديمقراطيات الغربية عمليات طرد صحفيين تجرؤا على نقد إسرائيل وحكومتها. وتم في هذا الصدد الاستغناء عن رسامي كاريكاتور قاموا بتصوير رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو في صورة تظهره شخصا دمويا. وقد قامت صحيفة "غارديان" البريطانية العريقة والقريبة من اليسار التقدمي، في بداية حرب غزة منتصف أكتوبر 2023 بالتخلي عن رسام الكاريكاتور الشهير لديها وهو ستيف بيل، بعد أن عمل في الصحيفة لمدة أربعين عاما، وذلك لقيامه برسم كاريكاتور اعتبر مسيئا لنتنياهو حيث شبهه بالمرابي اليهودي شاتلوك بطل مسرحية تاجر البندقية لشكسبير. واكتفى متحدث باسم صحيفة "غارديان" بالقول ان كاريكاتورات ستيف بيل ظلت جزءا مهما من تاريخ الجريدة على مدى أربعين سنة ونحن نشكره ونتمني له التوفيق".
ومن جانبها نشرت صحيفة "لابراس" الكندية الناطقة بالفرنسية كاريكاتورا في مارس 2024 يظهر فيه رئيس وزراء إسرائيل في شكل مصاص دماء وهو يستعد لشن عملية عسكرية دموية في رفح. ويظهر الرسم نتنياهو بأذنين مسنّنتين ومخالب وهو يقف مرتديا معطفا على ظهر مركب شراعي، في صورة تعيد للأذهان في الذاكرة الأوروبية مصاص الدماء في شريط "نُوسْفيرَاتو" لعام 1922 وما فيه من وحشية ورعب . ونشر الكاريكاتور تحت عنوان " نُوسْفينْيَاهُو". وتعرضت الصحفية الكندية لانتقادات حادة من رجال سياسة كنديين بمن فيهم رئيس الوزراء جيستان ترودو، ومن جمعيات يهودية نافذة وجهت لها اتهامات بمعادة السامية، مما اضطرها إلى سحب الكاريكاتور وتقديمها اعتذارا. وكتبت رئيسة تحرير الصحيفة ستيفاني غرامون، أن الرسم كان يهدف إلى نقد الحكومة الإسرائيلية وليس الشعب اليهودي، مضيفة أن رسام الكاريكاتور سارج شابلو، لم تكن له مطلقا نية الترويج لمعاداة السامية .
صحافة فرنسية مهادنة
وفي فرنسا ، حيث تجد حرية التعبير منذ الثورة الفرنسية عام 1789 تعبيرات لا حدود حدود لها في كل المواضيع، بما فيها المواضيع المسيئة للحضارات والأديان الأخرى خاصة في صحيفتي "شارلي هبدو" و"لو كانار أنشيني" . ولكن الحرية تقف عند حدود معاداة السامية المقدسة، وهو أمر يظهر في معالجتها المتحيزة للأخبار القادمة من إسرائيل ومجازر غزة ، حيث يكون الصمت المطبق والتعتيم الكامل واختلاق مواضيع نقدية سفسطائية للتلهية والمنافقة، بعيدا عن صولات مقص الرقابة المؤسسية وخضوعها للرقابة الذاتية العظمى التي تصيب الكثير من نجوم الصحافة في فرنسا . ويظهر ذلك التحيز في المرونة التحريرية للخط العام للجريدة ولمصوري الكاريكاتور في صحيفة قائمة على الرسوم السياسية الناقدة بحرية وهو جوهر الحرية والصحافة. وتعتمد الصحيفتان الهزليتان خطا غير تصعيدي مع تطورات حرب إسرائيل علي الشعب الفلسطيني . ويظهر النفاق على أشده حين يتابع المرء الصحف الفرنسية ودرجة المهادنة مع السلطات الإسرائيلية تحت يافطة "الابتعاد عن الابتذال المباشراتي". ولكن هذا الابتذال يصبح جيدا وروح حرية التعبير حين يمس من اعتقادات دينية لحضارة أخرى منافسة للحضارة اليهودية المسيحية السائدة اليوم . حينها تنتفي حدود حرية التعبير. والأمثلة على ذلك عديدة في الصحيفتين الفرنسيتين وخاصة "شارلي هيبدو" التي دأبت على نشر صور مسيئة للعرب والمسلمين وللرسول محمد تحت يافطة "حرية التعبير" . وأدت تجاوزاتها الاستفزازية المدروسة في ذلك إلى حصول هجوم مسلح على مقرها في جانفي 2015.
وتم إثر ذلك الهجوم تحشيد الرأي العام الدولي للتضامن مع حرية التعبير وتنظيم مظاهرة في باريس شارك فيها عشرات من رؤساء دول العالم، ممن قدموا إلى مدينة فكر الأنوار للتظاهر في الشارع والتنديد بالإرهاب الإسلامي "خانق حرية التعبير" ، حيث حمل الجميع في ذلك الوقت شعار "كلّنا شارلي" . وكان من بين الرؤساء المشاركين بنيامين نتنياهو الذي كان في الصف الأمامي للمظاهرة التي قادها الرئيس فرانسوا هولاند، كما تبينه الصور المنشورة في الانترنات.
وفي ألمانيا التي تقر بالذنب في قضية معاداة السامية بعد المحرقة والهولوكوست الذي نفذته في اليهود في الحرب العالمية الثانية، فقد جعلت من قمع عمليات معاداة السامية إيديولوجيا جديدة لها لا يجوز تجاوز خطوطها الحمراء . وهو أمر تجلي في الحرب الحالية على غزة حيث أظهرت الصحافة الألمانية انضباطا طيعا منقطع النظير في مراقبة الوضع ومنع أي انفلات إعلامي قد يسيء لإسرائيل التي تُقدّم على أنها تهاجم غزة في إطار "الدفاع الشرعي" عن وجودها كقوة عسكرية نووية هاجمتها مجموعة من الميليشيات المسلحة ببنادق صيد وأسلحة خفيفة ومناطيد سياحية.
وطوال أشهر الحرب الإسرائيلية الدامية، ظلت الصحافة الألمانية المختلفة تردد كل تفاصيل السردية الإسرائيلية للأحداث دون تثبت في المصدر إلى جانب إعلاء سردية الهولوكوست حيث تتكرر أدبياتها في افتتاحيات الصحف والإذاعات والتلفزيون بالقول "إن الشعب الألماني يجب أن يتّعظ من الماضي ويسدّ الطريق أمام كل دعاوى معاداة السامية" حتى لا تتكرر الجرائم التي قام بها أباؤهم وأجدادهم خلال الحرب العالمية الأخيرة .
إبداع ثقافي محاصر في ألمانيا
وإضافة الي التضييقات على حرية التعبير الصحفي، يشمل هذا الإغراق الذهاني المرضي وعقدة الذنب من الهولوكوست، كل ما تشهده أيضا الحياة الثقافية في ألمانيا ومدى التضييق علي الإبداع الحر فيها، إذا تعلق الأمر بمعاداة السامية خاصة في زمن الأزمات حيث تتعالى الدعوات إلى محاصرة "النازيين الجدد" ومراقبة الأعمال الفكرية والأدبية ومنع أي تجاوز أو ترديد للسردية المعادية لإسرائيل في التظاهرات الثقافية التي تشهدها البلاد .
ولعل أحد مظاهر هذه السياسات ما شهدته الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي الذي دارت فعالياته من 15 إلى 25 فيفري 2024 في أوج حرب غزة . وقد طفت على السطح تجاذبات وإكراهات من قبل ممثلي بلدية المدينة التي ترعي اللقاء وتموله، عبرت فيها عن عدم رضاها من مواقف السينمائيين المساندين لفلسطين والمندّدين بالإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد المدنيين . وكتب رئيس البلدية كاي فاغنر، في تدوينة " إن معاداة السامية لا مكان لها في برلين. وهذا يشمل أيضا الفنانين وهي سياسة تنتهجها البلدية في إطار سياسة الدولة الألمانية في قمع الأعمال المعادية للسامية في كل القطاعات". وخلال حفل الختام صعد المخرج الأمريكي بَان روسال، إلى المنصة لتلقي تتويج فيلمه "عمل مباشر" مع الفرنسي غيوم كايو. وحصل الفلسطيني باس أندرا ، على جائزة لشريطه " لا أرض أخرى" عن الهوية والأرض ، مع مجموعة من المخرجين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين صفق الحضور لتصريحاتهم المنددة بالإبادة الجماعية للفلسطينيين . وقد حدا ذلك بنائب برلماني عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم للتعبير عن صدمته لهذا التصفيق المساند لفلسطين. وقال في تصريح لصحيفة "دي فالْت" المحافظة والموالية لإسرائيل :"إني أشعر بالإهانة وأنا أسمع مثل هذه المواقف المعادية لإسرائيل". ولكن نائبا بالبرلمان عن حزب الخضر المشارك في الحكومة الائتلافية صرح أنه " يشعر بالعار أمام الانقلاب المخادع لليهود من حالة الضحية إلى حالة الجلاد ". وفي النهاية أصدرت إدارة المهرجان الثقافي في بلد الحرية الثقافية والديمقراطية السياسية بيانا، قالت فيه إن التصريحات التي أدلى بها المشاركون لا تلزم إلا أصحابها" ، وذلك خوفا من عقاب اللوبي الموالي لإسرائيل.
سجلت في أعرق الديمقراطيات الغربية عمليات طرد صحفيين تجرؤا على نقد إسرائيل وحكومتها وتم الاستغناء عن رسامي كاريكاتور جسدوا نتنياهو في صورة شخص دموي
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
تبدو حرية التعبير، كما الديمقراطية، من ثوابت المجتمعات الغربية سواء في أوروبا أو أمريكا . ولكن تبقى لها حدود مرسومة عرفيا أو كتابيا، خاصة زمن الأزمات وحالات الطوارئ والحروب، حيث تتحول التعددية إلى أحادية، تتشابه مع ما هو سائد في بلدان العالم الثالث سواء السلطوية منها أو الإستبداية، حسب ظروف كل بلد وخصوصياته.
وجاءت حرب غزة الأخيرة الجارية فصولها لتقيم الدليل مرة أخرى منذ تضليل حرب الخليج ، على مدى نسبية تلك الحرية في الممارسة، خاصة إذا تعلق الأمر بقضية مقدسة ذات صلة بتقاليد معاداة السامية التي تسير على هديها المجتمعات الغربية بصحفيّيها ومبدعيها ويمينها ويسارها ومحافظيها وليبراليّيها.
مقص الرقابة في بريطانيا وكندا
وقد وقف الجميع مشدوهين أمام حدة مقص الرقابة وسرعة تدخله لمنع التفكير في موضوع ما، ومنع التعبير عنه، وهو موضوع معاداة السامية. فخلال أيام قلائل سجلت في أعرق الديمقراطيات الغربية عمليات طرد صحفيين تجرؤا على نقد إسرائيل وحكومتها. وتم في هذا الصدد الاستغناء عن رسامي كاريكاتور قاموا بتصوير رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو في صورة تظهره شخصا دمويا. وقد قامت صحيفة "غارديان" البريطانية العريقة والقريبة من اليسار التقدمي، في بداية حرب غزة منتصف أكتوبر 2023 بالتخلي عن رسام الكاريكاتور الشهير لديها وهو ستيف بيل، بعد أن عمل في الصحيفة لمدة أربعين عاما، وذلك لقيامه برسم كاريكاتور اعتبر مسيئا لنتنياهو حيث شبهه بالمرابي اليهودي شاتلوك بطل مسرحية تاجر البندقية لشكسبير. واكتفى متحدث باسم صحيفة "غارديان" بالقول ان كاريكاتورات ستيف بيل ظلت جزءا مهما من تاريخ الجريدة على مدى أربعين سنة ونحن نشكره ونتمني له التوفيق".
ومن جانبها نشرت صحيفة "لابراس" الكندية الناطقة بالفرنسية كاريكاتورا في مارس 2024 يظهر فيه رئيس وزراء إسرائيل في شكل مصاص دماء وهو يستعد لشن عملية عسكرية دموية في رفح. ويظهر الرسم نتنياهو بأذنين مسنّنتين ومخالب وهو يقف مرتديا معطفا على ظهر مركب شراعي، في صورة تعيد للأذهان في الذاكرة الأوروبية مصاص الدماء في شريط "نُوسْفيرَاتو" لعام 1922 وما فيه من وحشية ورعب . ونشر الكاريكاتور تحت عنوان " نُوسْفينْيَاهُو". وتعرضت الصحفية الكندية لانتقادات حادة من رجال سياسة كنديين بمن فيهم رئيس الوزراء جيستان ترودو، ومن جمعيات يهودية نافذة وجهت لها اتهامات بمعادة السامية، مما اضطرها إلى سحب الكاريكاتور وتقديمها اعتذارا. وكتبت رئيسة تحرير الصحيفة ستيفاني غرامون، أن الرسم كان يهدف إلى نقد الحكومة الإسرائيلية وليس الشعب اليهودي، مضيفة أن رسام الكاريكاتور سارج شابلو، لم تكن له مطلقا نية الترويج لمعاداة السامية .
صحافة فرنسية مهادنة
وفي فرنسا ، حيث تجد حرية التعبير منذ الثورة الفرنسية عام 1789 تعبيرات لا حدود حدود لها في كل المواضيع، بما فيها المواضيع المسيئة للحضارات والأديان الأخرى خاصة في صحيفتي "شارلي هبدو" و"لو كانار أنشيني" . ولكن الحرية تقف عند حدود معاداة السامية المقدسة، وهو أمر يظهر في معالجتها المتحيزة للأخبار القادمة من إسرائيل ومجازر غزة ، حيث يكون الصمت المطبق والتعتيم الكامل واختلاق مواضيع نقدية سفسطائية للتلهية والمنافقة، بعيدا عن صولات مقص الرقابة المؤسسية وخضوعها للرقابة الذاتية العظمى التي تصيب الكثير من نجوم الصحافة في فرنسا . ويظهر ذلك التحيز في المرونة التحريرية للخط العام للجريدة ولمصوري الكاريكاتور في صحيفة قائمة على الرسوم السياسية الناقدة بحرية وهو جوهر الحرية والصحافة. وتعتمد الصحيفتان الهزليتان خطا غير تصعيدي مع تطورات حرب إسرائيل علي الشعب الفلسطيني . ويظهر النفاق على أشده حين يتابع المرء الصحف الفرنسية ودرجة المهادنة مع السلطات الإسرائيلية تحت يافطة "الابتعاد عن الابتذال المباشراتي". ولكن هذا الابتذال يصبح جيدا وروح حرية التعبير حين يمس من اعتقادات دينية لحضارة أخرى منافسة للحضارة اليهودية المسيحية السائدة اليوم . حينها تنتفي حدود حرية التعبير. والأمثلة على ذلك عديدة في الصحيفتين الفرنسيتين وخاصة "شارلي هيبدو" التي دأبت على نشر صور مسيئة للعرب والمسلمين وللرسول محمد تحت يافطة "حرية التعبير" . وأدت تجاوزاتها الاستفزازية المدروسة في ذلك إلى حصول هجوم مسلح على مقرها في جانفي 2015.
وتم إثر ذلك الهجوم تحشيد الرأي العام الدولي للتضامن مع حرية التعبير وتنظيم مظاهرة في باريس شارك فيها عشرات من رؤساء دول العالم، ممن قدموا إلى مدينة فكر الأنوار للتظاهر في الشارع والتنديد بالإرهاب الإسلامي "خانق حرية التعبير" ، حيث حمل الجميع في ذلك الوقت شعار "كلّنا شارلي" . وكان من بين الرؤساء المشاركين بنيامين نتنياهو الذي كان في الصف الأمامي للمظاهرة التي قادها الرئيس فرانسوا هولاند، كما تبينه الصور المنشورة في الانترنات.
وفي ألمانيا التي تقر بالذنب في قضية معاداة السامية بعد المحرقة والهولوكوست الذي نفذته في اليهود في الحرب العالمية الثانية، فقد جعلت من قمع عمليات معاداة السامية إيديولوجيا جديدة لها لا يجوز تجاوز خطوطها الحمراء . وهو أمر تجلي في الحرب الحالية على غزة حيث أظهرت الصحافة الألمانية انضباطا طيعا منقطع النظير في مراقبة الوضع ومنع أي انفلات إعلامي قد يسيء لإسرائيل التي تُقدّم على أنها تهاجم غزة في إطار "الدفاع الشرعي" عن وجودها كقوة عسكرية نووية هاجمتها مجموعة من الميليشيات المسلحة ببنادق صيد وأسلحة خفيفة ومناطيد سياحية.
وطوال أشهر الحرب الإسرائيلية الدامية، ظلت الصحافة الألمانية المختلفة تردد كل تفاصيل السردية الإسرائيلية للأحداث دون تثبت في المصدر إلى جانب إعلاء سردية الهولوكوست حيث تتكرر أدبياتها في افتتاحيات الصحف والإذاعات والتلفزيون بالقول "إن الشعب الألماني يجب أن يتّعظ من الماضي ويسدّ الطريق أمام كل دعاوى معاداة السامية" حتى لا تتكرر الجرائم التي قام بها أباؤهم وأجدادهم خلال الحرب العالمية الأخيرة .
إبداع ثقافي محاصر في ألمانيا
وإضافة الي التضييقات على حرية التعبير الصحفي، يشمل هذا الإغراق الذهاني المرضي وعقدة الذنب من الهولوكوست، كل ما تشهده أيضا الحياة الثقافية في ألمانيا ومدى التضييق علي الإبداع الحر فيها، إذا تعلق الأمر بمعاداة السامية خاصة في زمن الأزمات حيث تتعالى الدعوات إلى محاصرة "النازيين الجدد" ومراقبة الأعمال الفكرية والأدبية ومنع أي تجاوز أو ترديد للسردية المعادية لإسرائيل في التظاهرات الثقافية التي تشهدها البلاد .
ولعل أحد مظاهر هذه السياسات ما شهدته الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي الذي دارت فعالياته من 15 إلى 25 فيفري 2024 في أوج حرب غزة . وقد طفت على السطح تجاذبات وإكراهات من قبل ممثلي بلدية المدينة التي ترعي اللقاء وتموله، عبرت فيها عن عدم رضاها من مواقف السينمائيين المساندين لفلسطين والمندّدين بالإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد المدنيين . وكتب رئيس البلدية كاي فاغنر، في تدوينة " إن معاداة السامية لا مكان لها في برلين. وهذا يشمل أيضا الفنانين وهي سياسة تنتهجها البلدية في إطار سياسة الدولة الألمانية في قمع الأعمال المعادية للسامية في كل القطاعات". وخلال حفل الختام صعد المخرج الأمريكي بَان روسال، إلى المنصة لتلقي تتويج فيلمه "عمل مباشر" مع الفرنسي غيوم كايو. وحصل الفلسطيني باس أندرا ، على جائزة لشريطه " لا أرض أخرى" عن الهوية والأرض ، مع مجموعة من المخرجين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين صفق الحضور لتصريحاتهم المنددة بالإبادة الجماعية للفلسطينيين . وقد حدا ذلك بنائب برلماني عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم للتعبير عن صدمته لهذا التصفيق المساند لفلسطين. وقال في تصريح لصحيفة "دي فالْت" المحافظة والموالية لإسرائيل :"إني أشعر بالإهانة وأنا أسمع مثل هذه المواقف المعادية لإسرائيل". ولكن نائبا بالبرلمان عن حزب الخضر المشارك في الحكومة الائتلافية صرح أنه " يشعر بالعار أمام الانقلاب المخادع لليهود من حالة الضحية إلى حالة الجلاد ". وفي النهاية أصدرت إدارة المهرجان الثقافي في بلد الحرية الثقافية والديمقراطية السياسية بيانا، قالت فيه إن التصريحات التي أدلى بها المشاركون لا تلزم إلا أصحابها" ، وذلك خوفا من عقاب اللوبي الموالي لإسرائيل.