إذا كانت الحرب في أوكرانيا مثلت فرصة لفرض عقوبات على روسيا، فإن الوجه الأخر للعملة أظهر عجز الدول الديمقراطية والأمم المتحدة عن الوقوف في وجه إسرائيل
بقلم الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
تتعالى الإنتقادات والتنديدات والاحتجاجات داخل المجتمع المدني والأحزاب والجمعيات والمنظمات المواطنية، وكذلك في رحاب البرلمانات والمؤسسات الرسمية في الدول الغربية في كل من أوروبا وأمريكا، للتساؤل العنيف أحيانا، حول ماهية ومصداقية الديمقراطية ومؤسساتها العاجزة عن التصدي لمظاهر الظلم والإبادة التي تتعرض لها شعوب عدة ،أبرزها حاليا الشعب الفلسطيني في غزة.
وفي هذه البلدان يقف الإعلام التقليدي عاجزا عن خفض الاشتباك المؤسسي وكشف الحقيقة عن المجازر التي تشهدها تلك الحرب الإسرائيلية التي قتلت وأصابت فيها أكثر من مائة ألف مدني فلسطيني، مقابل مقتل ألف من الاسرائيليين في الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من اكتوبر 2023.
وفي نظر كثير من مواطني الدول الغربية الذين يتابعون الأخبار من نوافذ الإعلام البديل ،فقد أصيبت المؤسسات الديمقراطية في بلدانهم بالشلل والوهن، وهي البلدان التي تعتبر أيقونات ونماذج للتصدير في مجال الديمقراطية وبشائر العالم المتحضر واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة . كما تبين لهم أن قادة دولهم الغربية الصناعية الذين يملكون القوة والمال والسلاح النووي، هم غير قادرين على الوقوف في وجه آلة الحرب والدعاية الصهيونية ورئيس وزرائها الدموي بنيامين نتنياهو . وقد عجز كرنفال هؤلاء القادة عن تحريك أي من أدوات الضغط، بل وظّفوا آليات الأمم المتحدة لمساندة نتنياهو وإعطائه الضوء الأخضر لمزيد ارتكاب المجازر، بعد استعمال أمريكا الفيتو ثلاث مرات ضد قرار لمجلس الأمن يدعو لوقف مؤقت وإنساني لإطلاق النار .
وبان للجميع أن أمريكا التي تزود إسرائيل يوميا بالأسلحة والذخيرة والجنود المرتزقة والقناصة تقول لنتنياهو، الذي يتحداها ويتحدي رئيسها ومؤسساتها الديمقراطية :" أقتل بيبي المزيد فنحن معك ونحن لا نعارضك. فنحن نخاف من منظمة "أيْبَاك" الصهيونية التي لها أذرع طويلة إعلامية وحقوقية واقتصادية تستطيع بها أن تطيح بأي رئيس أو نائب برلماني أو رئيس جمعية أو رجل أعمال يتجرأ على معاكسة مصالح إسرائيل". وهي المنظمة التي تطبخ سيناريوهات الحياة السياسية الأمريكية على نار هادئة منذ نشأة إسرائيل.
بين أوكرانيا وغزة :المصالح الأطلسية
إذا كانت الحرب الأوروبية في أوكرانيا مثلت فرصة لفرض عقوبات على روسيا ومحاصرتها بكل الوسائل بسبب غزوها التراب الأوكراني، فإن الوجه الأخر للعملة أظهر عجز مؤسسات الدول الديمقراطية وكذلك مؤسسات الأمم المتحدة عن الوقوف في وجه إسرائيل وفرض عقوبات عليها حتى تتوقف عن المجازر وتحترم القوانين الدولية .
لقد جاءت حرب غزة الأخيرة لتكشف القناع عن حالة الوهن والتردي التي أصيبت بها المؤسسات الديمقراطية في الأنظمة الغربية ، وعجزها عن إحقاق الحق، وهي الأنظمة التي قامت على مبادئ الإنسانية وإغاثة الملهوف وإسعاف اللاجئين، وهي تقدم نفسها على أنها المثال والقدوة . وقد فقد المسؤولون السياسيون في الغرب المصداقية: فهم يعربدون بسياساتهم وتصريحاتهم العنترية ضد دكتاتوريات العالم الثالث ويبدون معهم كالأسود ، لكنهم يتحولون "أسد حديقة الحيوانات" وأرانب في ساحات الوغى الإسرائيلية. بل هم يتلقون التوبيخ والتخويف من طرف بنيامين نتنياهو الذي ينادونه في تصريحاتهم عند مقابلته بتسمية "بِيبِي" التي تناديه بها سارة قرينته والمتزلفون له من أزلامه المحليين أو الإقليميين أو الدوليين.
زخم الميديا الجديدة
في خضم الزخم الإعلامي للميديا الجديدة والإعلام البديل الذي أصبح لا يخفى شيئا ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وسمح بنشرها، وهو تعددي المنحى بعد أن أصبح يضم "تيك توك" الصيني و"تيليغرام" الروسي، متجاوزا بذلك أحادية الإعلام البديل الأميركي مع "فايسبوك" و"إكس تويتر" الذي يسيطر بقبضة دكتاتورية من حديد على المحتوى، حسب خوارزمية وحيدة وهي الولاء لإسرائيل ومعاداة من يعاديها.
وهكذا أصبحت ساحة الإعلام التعددي المفتوحة، تحفل بكمّ هائل من الفيديوهات التي ينشرها أصحابها في شبكات التواصل الاجتماعي العالمية سواء الأمريكية المراقبة، أو الحرة في الشبكات الصينية والروسية . وهو انقلاب أوضاع ومقاييس، يحدث لأول مرة في الغرب مهد الصحافة والانترنات. وفي هذه الفيديوهات الصادمة، يتحدث المحرومون من حرية الكلمة من مختلف الأعمار والاتجاهات . وتظهر الفيديوهات كل المظاهرات واسعة النطاق المتواصلة كل سبت وأحد في العواصم الغربية الخاضعة لحالة حصار فكري وتعتيم إعلامي يتم فيه تغييب أو الحد من تلك الفعاليات أمنيا وإعلاميا باعتبارها معادية لإسرائيل. كما تظهر الفيديوهات المتاحة التي يصورها هواة بهواتفهم الجوالة، كيف أن اجتماعات المسؤولين في الدول الغربية الديمقراطية ومنهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، أصبحت تتعرض للتشويش من الجمهور الحاضر، مما يضطر الرئيس إلى قطع كلمته وتتدخل عناصر الأمن في ذلك الاجتماع لجر المحتج إلى خارج القاعة كما يجري في أعتى الديكتاتوريات وفي بلدان توجد فيها قطيعة بين المواطنين ومسؤوليهم السياسيين.
نسق التدهور المؤسساتي من حرب أوكرانيا إلى حرب غزة
لقد جاءت حرب أوكرانيا منذ سنتين، ثم حرب غزة منذ نصف عام، لتحدث القطيعة بين المؤسسات الديمقراطية ومواطنيها ومنتخبيهم وتحوِّلها إلى مؤسسات "ديمقراطية الديكور" التي تتحكم فيها اللوبيات من وراء الستار. والمتابع للقنوات الفضائية الإخبارية الفرنسية وكذلك الإذاعات والصحف الفرنسية يصاب بالغثيان من درجة النمطية الفكرية السائدة في شيطنة روسيا والدفاع عن أوكرانيا، وفي نفس الوقت الدفاع عن إسرائيل ومحاولة إيجاد مبررات لمجازرها، عبر تكرار السردية الإسرائيلية القائمة على أضغاث الهولوكوست والمحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية.
هكذا تجد نفسها في أتون شعور الذنب، كل الساحة السياسية والإعلامية في دول أوروبا وألمانيا بالخصوص التي تعاني بشدة مرضية من تلك العقدة تجاه اليهود بسبب اضطهادها الهولوكوستي لليهود. وفي خضم ذلك تشهد ألمانيا حاليا عودة قوية للتنميط الفكري الذي يتم من خلاله محاربة الأفكار المعارضة للنظام القائم . ويتم هذا التنميط والتدجين والمحاصرة للأفكار بدعوى حماية الديمقراطية من أعدائها من أقصي اليمين المتطرف ذي التوجهات النازية ، في حين يقول آخرون إنها ليست حماية للديمقراطية بل قتلا لها، حيث يصبح الفكر السائد المرتعش من ذكرى الهولوكوست وابتزازاته الماكيافيلية، هو المسيطر على الساحة الفكرية والصحفية . وينطبق ذلك على محاربة أفكار معاداة السامية المقدّسة التي تجعل محتوى الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية صورة مستنسخة من بعضها، تردد نفس المقولات في جلبة إعلامية وصخب تسمع فيه جعجعة ولا ترى طحينا، بل تزلّفا وتذيّلا فاخرا لإسرائيل وسرديتها، حيث يقف "حرّاس بوّابة نْيُوزْروم" الإخبارية على أتم الاستعداد لمراقبة وحذف ومنع كل محتوى معاد للسامية مهما كانت نوعيته الفكرية ودرجة إبداعه. وتنتفي في تلك الصحافة الهجينة كل مظاهر التعددية، التي هي روح حرية الصحافة، كما أرساها منظرو علوم الإعلام والاجتماع لمدرسة فرانكفورت، من هربارت مركوز إلى هوركهايمر، وصولا إلى يورغن هابرماس.
هكذا تأتي الأحداث السياسية في العالم مثل حرب أوكرانيا في قلب أوروبا الأطلسية وحرب غزة في أطراف أوروبا الأطلسية وتفرعاتها الإستراتيجية ، لتلقي بظلالها على مبدإ وواقع حرية الصحافة وتعددية الإعلام ، وتحوّل الساحة الفكرية والإعلامية إلى صحراء قاحلة من الأفكار ترتع فيها الاتهامات بالمؤامراتية والفاشية والنازية ومعاداة السامية. وفيها تتعالي الأبواق "الغُوبْلَزِيَّة" الجديدة الداعية دون رحمة أو تأخير إلى لجم تلك الأصوات المعارضة وإرسالها إلى الغُولاقْ السّيبِيرِي السيبَرْنِي الجديد. بل وتطالب بعض تلك التيارات الليبرالية الحقوقية بمزيد من دكتاتورية الدولة في مواجهة فاشية أصحاب القلم والمصدح والكاميرا ، وتحْريفيُّو معاداة السامية .
بين باماكو وكياف
في خضم هذا الإنحدار الأخلاقي والتصعيد العسكري، الذي يذكر المراقبين ومؤرخي اللحظة من الصحافيين، بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية وصعود هتلر الصاخب والدموي للحكم بصندوق الاقتراع الديمقراطي مثل نتنياهو الدموي، تزداد النزعات الشعبوية استفحالا وجنونا في أمريكا وأوروبا حيث انضمت مؤخرا فرنسا، وهي القوة النووية الوحيدة في الإتحاد الاوروبي ، إلى جوقة التصعيد ضد روسيا وبوتين بعقدها في باريس اجتماعا لمجموعة "أصدقاء أوكرانيا" لإرسال قوات إلى أوكرانيا لتحارب هناك قوات الدب الروسي الذي افتك منها خلال عام 2023 ثلاث بلدان من مستعمراتها السابقة وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو وطرد قوات فرنسا منها وأغلق قواعدها وعوضها بقواعد ومستشارين روس، مدعومين بأموال علي بابا الصيني، مما شكل هزيمة قاسية وصفعة مدوية لوجود فرنسا الاستعماري ومصالها الحيوية في إفريقيا. وهي بلدان افريقية حيوية استراتيجيا ، توجد في نفس خط الحلف الأطلسي في الشطر الجنوبي من الكرة الأرضية التي يريد الحلف استعمارها من جديد عبر أحلاف أطلسية إقليمية تارة عربية من المناذرة والغساسنة، وتارة افريقية الأبارتهيد وطورا أسيوية ، في محاولة لإحياء مجد إمبراطورية روما وفرض السلام الروماني على العالم الملقب باللاتينية "بَاكْسْ رُومَانَا".
إذا كانت الحرب في أوكرانيا مثلت فرصة لفرض عقوبات على روسيا، فإن الوجه الأخر للعملة أظهر عجز الدول الديمقراطية والأمم المتحدة عن الوقوف في وجه إسرائيل
بقلم الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
تتعالى الإنتقادات والتنديدات والاحتجاجات داخل المجتمع المدني والأحزاب والجمعيات والمنظمات المواطنية، وكذلك في رحاب البرلمانات والمؤسسات الرسمية في الدول الغربية في كل من أوروبا وأمريكا، للتساؤل العنيف أحيانا، حول ماهية ومصداقية الديمقراطية ومؤسساتها العاجزة عن التصدي لمظاهر الظلم والإبادة التي تتعرض لها شعوب عدة ،أبرزها حاليا الشعب الفلسطيني في غزة.
وفي هذه البلدان يقف الإعلام التقليدي عاجزا عن خفض الاشتباك المؤسسي وكشف الحقيقة عن المجازر التي تشهدها تلك الحرب الإسرائيلية التي قتلت وأصابت فيها أكثر من مائة ألف مدني فلسطيني، مقابل مقتل ألف من الاسرائيليين في الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من اكتوبر 2023.
وفي نظر كثير من مواطني الدول الغربية الذين يتابعون الأخبار من نوافذ الإعلام البديل ،فقد أصيبت المؤسسات الديمقراطية في بلدانهم بالشلل والوهن، وهي البلدان التي تعتبر أيقونات ونماذج للتصدير في مجال الديمقراطية وبشائر العالم المتحضر واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة . كما تبين لهم أن قادة دولهم الغربية الصناعية الذين يملكون القوة والمال والسلاح النووي، هم غير قادرين على الوقوف في وجه آلة الحرب والدعاية الصهيونية ورئيس وزرائها الدموي بنيامين نتنياهو . وقد عجز كرنفال هؤلاء القادة عن تحريك أي من أدوات الضغط، بل وظّفوا آليات الأمم المتحدة لمساندة نتنياهو وإعطائه الضوء الأخضر لمزيد ارتكاب المجازر، بعد استعمال أمريكا الفيتو ثلاث مرات ضد قرار لمجلس الأمن يدعو لوقف مؤقت وإنساني لإطلاق النار .
وبان للجميع أن أمريكا التي تزود إسرائيل يوميا بالأسلحة والذخيرة والجنود المرتزقة والقناصة تقول لنتنياهو، الذي يتحداها ويتحدي رئيسها ومؤسساتها الديمقراطية :" أقتل بيبي المزيد فنحن معك ونحن لا نعارضك. فنحن نخاف من منظمة "أيْبَاك" الصهيونية التي لها أذرع طويلة إعلامية وحقوقية واقتصادية تستطيع بها أن تطيح بأي رئيس أو نائب برلماني أو رئيس جمعية أو رجل أعمال يتجرأ على معاكسة مصالح إسرائيل". وهي المنظمة التي تطبخ سيناريوهات الحياة السياسية الأمريكية على نار هادئة منذ نشأة إسرائيل.
بين أوكرانيا وغزة :المصالح الأطلسية
إذا كانت الحرب الأوروبية في أوكرانيا مثلت فرصة لفرض عقوبات على روسيا ومحاصرتها بكل الوسائل بسبب غزوها التراب الأوكراني، فإن الوجه الأخر للعملة أظهر عجز مؤسسات الدول الديمقراطية وكذلك مؤسسات الأمم المتحدة عن الوقوف في وجه إسرائيل وفرض عقوبات عليها حتى تتوقف عن المجازر وتحترم القوانين الدولية .
لقد جاءت حرب غزة الأخيرة لتكشف القناع عن حالة الوهن والتردي التي أصيبت بها المؤسسات الديمقراطية في الأنظمة الغربية ، وعجزها عن إحقاق الحق، وهي الأنظمة التي قامت على مبادئ الإنسانية وإغاثة الملهوف وإسعاف اللاجئين، وهي تقدم نفسها على أنها المثال والقدوة . وقد فقد المسؤولون السياسيون في الغرب المصداقية: فهم يعربدون بسياساتهم وتصريحاتهم العنترية ضد دكتاتوريات العالم الثالث ويبدون معهم كالأسود ، لكنهم يتحولون "أسد حديقة الحيوانات" وأرانب في ساحات الوغى الإسرائيلية. بل هم يتلقون التوبيخ والتخويف من طرف بنيامين نتنياهو الذي ينادونه في تصريحاتهم عند مقابلته بتسمية "بِيبِي" التي تناديه بها سارة قرينته والمتزلفون له من أزلامه المحليين أو الإقليميين أو الدوليين.
زخم الميديا الجديدة
في خضم الزخم الإعلامي للميديا الجديدة والإعلام البديل الذي أصبح لا يخفى شيئا ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وسمح بنشرها، وهو تعددي المنحى بعد أن أصبح يضم "تيك توك" الصيني و"تيليغرام" الروسي، متجاوزا بذلك أحادية الإعلام البديل الأميركي مع "فايسبوك" و"إكس تويتر" الذي يسيطر بقبضة دكتاتورية من حديد على المحتوى، حسب خوارزمية وحيدة وهي الولاء لإسرائيل ومعاداة من يعاديها.
وهكذا أصبحت ساحة الإعلام التعددي المفتوحة، تحفل بكمّ هائل من الفيديوهات التي ينشرها أصحابها في شبكات التواصل الاجتماعي العالمية سواء الأمريكية المراقبة، أو الحرة في الشبكات الصينية والروسية . وهو انقلاب أوضاع ومقاييس، يحدث لأول مرة في الغرب مهد الصحافة والانترنات. وفي هذه الفيديوهات الصادمة، يتحدث المحرومون من حرية الكلمة من مختلف الأعمار والاتجاهات . وتظهر الفيديوهات كل المظاهرات واسعة النطاق المتواصلة كل سبت وأحد في العواصم الغربية الخاضعة لحالة حصار فكري وتعتيم إعلامي يتم فيه تغييب أو الحد من تلك الفعاليات أمنيا وإعلاميا باعتبارها معادية لإسرائيل. كما تظهر الفيديوهات المتاحة التي يصورها هواة بهواتفهم الجوالة، كيف أن اجتماعات المسؤولين في الدول الغربية الديمقراطية ومنهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، أصبحت تتعرض للتشويش من الجمهور الحاضر، مما يضطر الرئيس إلى قطع كلمته وتتدخل عناصر الأمن في ذلك الاجتماع لجر المحتج إلى خارج القاعة كما يجري في أعتى الديكتاتوريات وفي بلدان توجد فيها قطيعة بين المواطنين ومسؤوليهم السياسيين.
نسق التدهور المؤسساتي من حرب أوكرانيا إلى حرب غزة
لقد جاءت حرب أوكرانيا منذ سنتين، ثم حرب غزة منذ نصف عام، لتحدث القطيعة بين المؤسسات الديمقراطية ومواطنيها ومنتخبيهم وتحوِّلها إلى مؤسسات "ديمقراطية الديكور" التي تتحكم فيها اللوبيات من وراء الستار. والمتابع للقنوات الفضائية الإخبارية الفرنسية وكذلك الإذاعات والصحف الفرنسية يصاب بالغثيان من درجة النمطية الفكرية السائدة في شيطنة روسيا والدفاع عن أوكرانيا، وفي نفس الوقت الدفاع عن إسرائيل ومحاولة إيجاد مبررات لمجازرها، عبر تكرار السردية الإسرائيلية القائمة على أضغاث الهولوكوست والمحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية.
هكذا تجد نفسها في أتون شعور الذنب، كل الساحة السياسية والإعلامية في دول أوروبا وألمانيا بالخصوص التي تعاني بشدة مرضية من تلك العقدة تجاه اليهود بسبب اضطهادها الهولوكوستي لليهود. وفي خضم ذلك تشهد ألمانيا حاليا عودة قوية للتنميط الفكري الذي يتم من خلاله محاربة الأفكار المعارضة للنظام القائم . ويتم هذا التنميط والتدجين والمحاصرة للأفكار بدعوى حماية الديمقراطية من أعدائها من أقصي اليمين المتطرف ذي التوجهات النازية ، في حين يقول آخرون إنها ليست حماية للديمقراطية بل قتلا لها، حيث يصبح الفكر السائد المرتعش من ذكرى الهولوكوست وابتزازاته الماكيافيلية، هو المسيطر على الساحة الفكرية والصحفية . وينطبق ذلك على محاربة أفكار معاداة السامية المقدّسة التي تجعل محتوى الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية صورة مستنسخة من بعضها، تردد نفس المقولات في جلبة إعلامية وصخب تسمع فيه جعجعة ولا ترى طحينا، بل تزلّفا وتذيّلا فاخرا لإسرائيل وسرديتها، حيث يقف "حرّاس بوّابة نْيُوزْروم" الإخبارية على أتم الاستعداد لمراقبة وحذف ومنع كل محتوى معاد للسامية مهما كانت نوعيته الفكرية ودرجة إبداعه. وتنتفي في تلك الصحافة الهجينة كل مظاهر التعددية، التي هي روح حرية الصحافة، كما أرساها منظرو علوم الإعلام والاجتماع لمدرسة فرانكفورت، من هربارت مركوز إلى هوركهايمر، وصولا إلى يورغن هابرماس.
هكذا تأتي الأحداث السياسية في العالم مثل حرب أوكرانيا في قلب أوروبا الأطلسية وحرب غزة في أطراف أوروبا الأطلسية وتفرعاتها الإستراتيجية ، لتلقي بظلالها على مبدإ وواقع حرية الصحافة وتعددية الإعلام ، وتحوّل الساحة الفكرية والإعلامية إلى صحراء قاحلة من الأفكار ترتع فيها الاتهامات بالمؤامراتية والفاشية والنازية ومعاداة السامية. وفيها تتعالي الأبواق "الغُوبْلَزِيَّة" الجديدة الداعية دون رحمة أو تأخير إلى لجم تلك الأصوات المعارضة وإرسالها إلى الغُولاقْ السّيبِيرِي السيبَرْنِي الجديد. بل وتطالب بعض تلك التيارات الليبرالية الحقوقية بمزيد من دكتاتورية الدولة في مواجهة فاشية أصحاب القلم والمصدح والكاميرا ، وتحْريفيُّو معاداة السامية .
بين باماكو وكياف
في خضم هذا الإنحدار الأخلاقي والتصعيد العسكري، الذي يذكر المراقبين ومؤرخي اللحظة من الصحافيين، بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية وصعود هتلر الصاخب والدموي للحكم بصندوق الاقتراع الديمقراطي مثل نتنياهو الدموي، تزداد النزعات الشعبوية استفحالا وجنونا في أمريكا وأوروبا حيث انضمت مؤخرا فرنسا، وهي القوة النووية الوحيدة في الإتحاد الاوروبي ، إلى جوقة التصعيد ضد روسيا وبوتين بعقدها في باريس اجتماعا لمجموعة "أصدقاء أوكرانيا" لإرسال قوات إلى أوكرانيا لتحارب هناك قوات الدب الروسي الذي افتك منها خلال عام 2023 ثلاث بلدان من مستعمراتها السابقة وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو وطرد قوات فرنسا منها وأغلق قواعدها وعوضها بقواعد ومستشارين روس، مدعومين بأموال علي بابا الصيني، مما شكل هزيمة قاسية وصفعة مدوية لوجود فرنسا الاستعماري ومصالها الحيوية في إفريقيا. وهي بلدان افريقية حيوية استراتيجيا ، توجد في نفس خط الحلف الأطلسي في الشطر الجنوبي من الكرة الأرضية التي يريد الحلف استعمارها من جديد عبر أحلاف أطلسية إقليمية تارة عربية من المناذرة والغساسنة، وتارة افريقية الأبارتهيد وطورا أسيوية ، في محاولة لإحياء مجد إمبراطورية روما وفرض السلام الروماني على العالم الملقب باللاتينية "بَاكْسْ رُومَانَا".