على الرغم من تعدد الأطراف التي تقف وراء إطالة عمر حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، إلا أنها تختلف فيما بينها على مستويي التأثير والأهداف المرجو تحقيقها، وأن هذا الاختلاف هو ما قد يعجل بوضع حد لهذه المأساة وربما حتى على نحو مفاجئ وسريع.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن هناك نحو ثلاثة أطراف أساسية شكل عدم تحقيق أي منها لأهدافه بيئة مناسبة لإطالة أمد هذه الحرب وتدمير المزيد مما تبقى من بنية القطاع وقتل أكبر عدد من الأطفال والنساء وإعدام مقومات آخر فرص للوجود الاجتماعي، وأن تحقيق أي طرف لأهدافه يمكن أن يطيح بتحالف أطراف الحرب ويضع حدا لها.
وعموما فان المتفحص لشبكة تفاعلات المؤثرين في الحرب على غزة، يخرج بنتيجتين أولاهما أن الأطراف التي تلعب بمسارات الحرب أكثر من أن تعد باعتبار أنها تتجاوز الحدود الجغرافية لميدان القتال كما تتجاوز حدوده الإقليمية لتصل إلى العالم بأسره، وثانيهما أن قرار وقفها هو قرار أمريكي إلى حد بعيد.
ولكن في خضم هذا التداخل بين الفاعلين، يمكن التوقف أمام أهم ثلاثة لاعبين أساسيين، أولهما رئيس الحكومة نتنياهو الذي لا يرى باستمرار هذه الحرب والتصعيد بها بحثا عن انتصار يسوقه للإسرائيليين إلا أنها طوق النجاة الأخير الذي من شأنه أن يعيده لسدة الحكم في انتخابات مبكرة ستكون مؤكدة بعد انتهاء الحرب وأخيرا الهروب من القضاء الذي تشير كل التوقعات بأنه سيدينه بعدة تهم تجعله نزيل سجن طوال ما تبقى له من عمر .
أما اللاعب الثاني فهو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بمختلف أفرعها وعلى رأسها الجيش الذي تنتظره لجان تحقيق للوقوف على أسباب الإخفاق الأمني الذي أدى إلى هجوم السابع من أكتوبر، وهو في هذا السياق يعد- أي الجيش- احد أكثر الأطراف حرصا على تحقيق انتصار حاسم يرمم به ما تبقى له من هيبة ويخفف من أعباء نتائج تحقيقات لجان التحقيق اللاحقة والإدانات التي ستلحق عددا من قادته، وأن كان هناك ما يشير إلى نوع من الغطاء الأمريكي للجيش من شأنه تخفيف حدة الانتقادات التي تنتظره وذلك لتحفيز الجيش لخلق مسار للخروج من الحرب بثمن اسمه رأس نتنياهو بدلًا من رأس إسرائيل.
وأما اللاعب الثالث والأهم فهو الولايات المتحدة التي بقدر ما جاء هجوم السابع من أكتوبر مفاجئا لها، بقدر ما دفعها لتحويله إلى فرصة لإحياء الدور الوظيفي للشرق الأوسط في إطار رؤية جيوسياسية متكاملة، لاحتواء التوجهات الروسية الصينية وإفراغ مبادرة الحزام والطريق من فاعليتها والالتفاف عليها من جهة ولربط الإتحاد الأوروبي طاقويا وعلى نحو نهائي بالشرق الأوسط واحتواء كل محاولات بوتين لأحداث اختراق على الجبهة الأوروبية من جهة ثانية.
والحقيقة إن إدارة بايدن ومنذ وصولها للبيت الأبيض كانت تحمل تصورا مبكرا لهذه الرؤية تمثلت في سحب واشنطن دعمها لمشروع خط الغاز الإسرائيلي "إيست ميد" لنقل الغاز من حيفا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط الذي لا تتوفر له شبكة أمان كافية، واستبدلت ذلك بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي من شأنه أن يوفر شبكة الأمان تلك التي يفتقدها المشروع الإسرائيلي من خلال تنويع وتوسيع عضويته التي شملت إلى جانبها كلًا من إسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية واليونان وقبرص والإمارات العربية المتحدة.
وحسب عديد المصادر فان واشنطن لم تكن على يقين تام في قدرة شبكة الأمان هذه على القيام بحماية هذا المشروع دون إنهاء حالة الاستثناء التي كانت تمثله غزة ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية خاصة وأن كما كبيرا من غاز هذا المشروع هو غاز فلسطيني، يوفر ولاية قانونية للفلسطينيين للاعتراض أو الرفض .
وقد لوحظ خلال الأشهر الماضية التدرج الأمريكي بالإعلان عن النوايا الحقيقية من وراء استمرار الحرب وتدمير غزة تكللت مؤخرا بالإعلان عن عزمها إقامة ميناء بحري قبالة سواحل غزّة، وعن ممر بحري من قبرص إلى الكيان الصهيوني، ظاهره دوافع إنسانية أما حقيقته فهي أحياء مشروع منتدى غاز شرق المتوسط ورديفه التحالف الإقليمي للدفاع الجوي لبناء الناتو العربي وربطه كنظام أمني إقليمي بالاتحاد الأوروبي لتطويق واحتواء محاولات التمدد الصين وروسيا داخل الإقليم وربطه بآسيا وتحديدًا الهند عبر الممر الهندي الأوروبي لمواجهة الصين بشكل خاص.
والحقيقة أن الواقع يشي ببعض النجاحات الأمريكية على هذا الصعيد حيث لوحظ في الآونة الأخيرة نجاحها بالدفع بالمصالحة التركية المصرية إلى مستوى القمة بين اردوغان والسيسي - اللذان قالا ببعضهما ما لم يقله مالك بالخمر- التي من شأنها أن تمهد لبناء شراكة بحرية طاقوية إسرائيلية تركية مصرية، وغير بعيد عن ذلك جاء التوقيع المفاجئ لوثيقة الشراكة الإستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي والتي تشمل التعاون في العلاقات السياسية، واستقرار الاقتصاد الكلي، والاستثمار المستدام والتجارة، والطاقة والمياه والأمن الغذائي، وتغير المناخ والهجرة.
هذه التطورات المتلاحقة التي أعلنت وغيرها من تلك التي لم تعلن بعد على جبهة الأهداف الأمريكية الإستراتيجية من شأن تثبيتها وتحولها لإمكانية واقعية أن تدفع واشنطن لوضع حد للحرب على غزة ولو على نحو قسري ومفاجئ للاستثمار بدورها ''الإنساني'' في وقف الحرب وإغاثة سكان غزة لما يوفره لها ذلك من أجواء من الهدوء الايجابي لاستكمال بناء مشروعها الأمني في الإقليم الذي يعني نجاحه احتواء الشرق الأوسط وحماية أوروبا أو منعها من أي تطلعات محتملة لإعادة أحياء شراكاتها مع روسيا، كما يشكل إضافة إستراتيجية لمقاربة احتواء النفوذ الصيني التي بدأت فعليا مع اتفاقية "اوكوس" للتحالف الثلاثي الأمريكي البريطاني الأسترالي لحصار المحيطين الهندي والهادي وتضييق سبل الحركة الصينية فيهما.
*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة
بقلم: هاني مبارك(*)
على الرغم من تعدد الأطراف التي تقف وراء إطالة عمر حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، إلا أنها تختلف فيما بينها على مستويي التأثير والأهداف المرجو تحقيقها، وأن هذا الاختلاف هو ما قد يعجل بوضع حد لهذه المأساة وربما حتى على نحو مفاجئ وسريع.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن هناك نحو ثلاثة أطراف أساسية شكل عدم تحقيق أي منها لأهدافه بيئة مناسبة لإطالة أمد هذه الحرب وتدمير المزيد مما تبقى من بنية القطاع وقتل أكبر عدد من الأطفال والنساء وإعدام مقومات آخر فرص للوجود الاجتماعي، وأن تحقيق أي طرف لأهدافه يمكن أن يطيح بتحالف أطراف الحرب ويضع حدا لها.
وعموما فان المتفحص لشبكة تفاعلات المؤثرين في الحرب على غزة، يخرج بنتيجتين أولاهما أن الأطراف التي تلعب بمسارات الحرب أكثر من أن تعد باعتبار أنها تتجاوز الحدود الجغرافية لميدان القتال كما تتجاوز حدوده الإقليمية لتصل إلى العالم بأسره، وثانيهما أن قرار وقفها هو قرار أمريكي إلى حد بعيد.
ولكن في خضم هذا التداخل بين الفاعلين، يمكن التوقف أمام أهم ثلاثة لاعبين أساسيين، أولهما رئيس الحكومة نتنياهو الذي لا يرى باستمرار هذه الحرب والتصعيد بها بحثا عن انتصار يسوقه للإسرائيليين إلا أنها طوق النجاة الأخير الذي من شأنه أن يعيده لسدة الحكم في انتخابات مبكرة ستكون مؤكدة بعد انتهاء الحرب وأخيرا الهروب من القضاء الذي تشير كل التوقعات بأنه سيدينه بعدة تهم تجعله نزيل سجن طوال ما تبقى له من عمر .
أما اللاعب الثاني فهو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بمختلف أفرعها وعلى رأسها الجيش الذي تنتظره لجان تحقيق للوقوف على أسباب الإخفاق الأمني الذي أدى إلى هجوم السابع من أكتوبر، وهو في هذا السياق يعد- أي الجيش- احد أكثر الأطراف حرصا على تحقيق انتصار حاسم يرمم به ما تبقى له من هيبة ويخفف من أعباء نتائج تحقيقات لجان التحقيق اللاحقة والإدانات التي ستلحق عددا من قادته، وأن كان هناك ما يشير إلى نوع من الغطاء الأمريكي للجيش من شأنه تخفيف حدة الانتقادات التي تنتظره وذلك لتحفيز الجيش لخلق مسار للخروج من الحرب بثمن اسمه رأس نتنياهو بدلًا من رأس إسرائيل.
وأما اللاعب الثالث والأهم فهو الولايات المتحدة التي بقدر ما جاء هجوم السابع من أكتوبر مفاجئا لها، بقدر ما دفعها لتحويله إلى فرصة لإحياء الدور الوظيفي للشرق الأوسط في إطار رؤية جيوسياسية متكاملة، لاحتواء التوجهات الروسية الصينية وإفراغ مبادرة الحزام والطريق من فاعليتها والالتفاف عليها من جهة ولربط الإتحاد الأوروبي طاقويا وعلى نحو نهائي بالشرق الأوسط واحتواء كل محاولات بوتين لأحداث اختراق على الجبهة الأوروبية من جهة ثانية.
والحقيقة إن إدارة بايدن ومنذ وصولها للبيت الأبيض كانت تحمل تصورا مبكرا لهذه الرؤية تمثلت في سحب واشنطن دعمها لمشروع خط الغاز الإسرائيلي "إيست ميد" لنقل الغاز من حيفا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط الذي لا تتوفر له شبكة أمان كافية، واستبدلت ذلك بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط الذي من شأنه أن يوفر شبكة الأمان تلك التي يفتقدها المشروع الإسرائيلي من خلال تنويع وتوسيع عضويته التي شملت إلى جانبها كلًا من إسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية واليونان وقبرص والإمارات العربية المتحدة.
وحسب عديد المصادر فان واشنطن لم تكن على يقين تام في قدرة شبكة الأمان هذه على القيام بحماية هذا المشروع دون إنهاء حالة الاستثناء التي كانت تمثله غزة ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية خاصة وأن كما كبيرا من غاز هذا المشروع هو غاز فلسطيني، يوفر ولاية قانونية للفلسطينيين للاعتراض أو الرفض .
وقد لوحظ خلال الأشهر الماضية التدرج الأمريكي بالإعلان عن النوايا الحقيقية من وراء استمرار الحرب وتدمير غزة تكللت مؤخرا بالإعلان عن عزمها إقامة ميناء بحري قبالة سواحل غزّة، وعن ممر بحري من قبرص إلى الكيان الصهيوني، ظاهره دوافع إنسانية أما حقيقته فهي أحياء مشروع منتدى غاز شرق المتوسط ورديفه التحالف الإقليمي للدفاع الجوي لبناء الناتو العربي وربطه كنظام أمني إقليمي بالاتحاد الأوروبي لتطويق واحتواء محاولات التمدد الصين وروسيا داخل الإقليم وربطه بآسيا وتحديدًا الهند عبر الممر الهندي الأوروبي لمواجهة الصين بشكل خاص.
والحقيقة أن الواقع يشي ببعض النجاحات الأمريكية على هذا الصعيد حيث لوحظ في الآونة الأخيرة نجاحها بالدفع بالمصالحة التركية المصرية إلى مستوى القمة بين اردوغان والسيسي - اللذان قالا ببعضهما ما لم يقله مالك بالخمر- التي من شأنها أن تمهد لبناء شراكة بحرية طاقوية إسرائيلية تركية مصرية، وغير بعيد عن ذلك جاء التوقيع المفاجئ لوثيقة الشراكة الإستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي والتي تشمل التعاون في العلاقات السياسية، واستقرار الاقتصاد الكلي، والاستثمار المستدام والتجارة، والطاقة والمياه والأمن الغذائي، وتغير المناخ والهجرة.
هذه التطورات المتلاحقة التي أعلنت وغيرها من تلك التي لم تعلن بعد على جبهة الأهداف الأمريكية الإستراتيجية من شأن تثبيتها وتحولها لإمكانية واقعية أن تدفع واشنطن لوضع حد للحرب على غزة ولو على نحو قسري ومفاجئ للاستثمار بدورها ''الإنساني'' في وقف الحرب وإغاثة سكان غزة لما يوفره لها ذلك من أجواء من الهدوء الايجابي لاستكمال بناء مشروعها الأمني في الإقليم الذي يعني نجاحه احتواء الشرق الأوسط وحماية أوروبا أو منعها من أي تطلعات محتملة لإعادة أحياء شراكاتها مع روسيا، كما يشكل إضافة إستراتيجية لمقاربة احتواء النفوذ الصيني التي بدأت فعليا مع اتفاقية "اوكوس" للتحالف الثلاثي الأمريكي البريطاني الأسترالي لحصار المحيطين الهندي والهادي وتضييق سبل الحركة الصينية فيهما.