أصيب الرأي العام الدولي بالوجوم والعجز أمام الوحشية الإسرائيلية التي تذكر الجميع بوحشية الجنود النازيين في الحرب العالمية الثانية
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
أظهرت الحرب الشرسة في غزة مشاهد القصف الإسرائيلي العشوائي على المدارس التي تديرها وكالة الأمم المتحدة للاجئين "أونْرْوَا"، وعلى المستشفيات التي تديرها وكالات متخصصة تابعة لمنظمة الصحة العالمية، مدى بشاعة جرائم إسرائيل، والتي تجاوزت فيها بكثير محرقة الفلسطينيين درجة محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية والمسماة في السردية الإسرائيلية "هولوكوست".
وأعلنت الأمم المتحدة عن تنديدها وعجزها أمام إسرائيل المدعومة دائما بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن . وفي ندوة صحفية عقدها في جانفي 2024 مدير منظمة الصحة العالمية تدروس أذانوم، قال فيها "إن الوضع الصحي في غزة كارثي يتجاوز الكلمات ولا يمكن وصفه. وإني غير قادر على الكلام"، وغلبه البكاء في تلك الندوة الصحفية، قبل أن يقطع اللقاء ويعتذر للصحافيين، في مشهد تداولته فيديوهات الشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، عن مرارة الأوضاع وعنجهية المعتدين الذين ينفذون مجزرة فظيعة يتفرج عليها العالم كشكل متجدد للإبادة الجماعية على المكشوف.
وحشية إسرائيلية
لقد أصيب الرأي العام الدولي بالوجوم والعجز أمام تلك الوحشية الإسرائيلية التي تذكر الجميع بصفة صارخة بوحشية الجنود النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود المعذبين والمشتتين في أنحاء أوروبا، التي هربوا منها خوفا من الوحشية النازية. ومثّل ذلك انعطافا في موقف الرأي العام الدولي .
كانت العملية التي شنتها حماس بسرعة خاطفة في السابع من اكتوبر الماضي، عملية مقاومة تقليدية تقوم بها أية حركة تحرير وطنية عبر مباغتة العدو وشل حركته وإلحاق الهزيمة به من أجل تحسين شروط التفاوض على السلام . وهي عمليات قامت بها كل حركات التحرير الوطنية في العالم الثالث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور مبادئ حرية تقرير مصير الشعوب . وهي عمليات مقاومة شبيهة حصلت بفضلها الدول المستعمرة على استقلالها في ستينات القرن الماضي . بل هي عملية لطالما قامت بها المنظمات الصهيونية مثل الإرغون أو شتارن، في بدايات تكوين إسرائيل وتمكنت بفضلها من ترويع الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن الرد الإسرائيلي الوحشي والهستيري وغير المتكافئ على هجوم غزة ، جعل العالم كله يندد بالوحشية الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود وأسقطت ورقة التوت لسردية إسرائيل الضحية، بعد أن طغت وتجبرت ضد العالم كله، بما فيها أمريكا حاميتها ظالمة أو مظلومة، فاقدة بذلك تعاطف العالم معها واعترافه بخصوصية مسارها التكويني.
لقد راجعت بعض وسائل الإعلام الغربية مواقفها بعد تواصل القصف الإسرائيلي العبثي لعدة أشهر وتشريد السكان من الشمال إلى الجنوب من غزة، في محاولة لتهجيرهم القسري نحو سيناء المصرية ، كما وقع لأجدادهم عام 1948، وكما وقع لليهود عام 1940 بألمانيا وبلدان أوروبا التي لاحقت اليهود خوفا من هتلر ومن بطش الجيش النازي الذي كانت له عقيدة اجتثاث اليهود من ألمانيا ومن دول أوروبا التي اكتسحها الجيش الألماني واحتلها ومنها فرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي الحالي ولم يبق فيها غير سويسرا والبلدان الاسكندينافية التي لجأ إليها اليهود من النخبة، ومنها انتقلوا إلى أمريكا، مواصلين حياة الشتات التي جبلوا عليها عبر التاريخ . ومن بقي منهم في التراب الأوروبي تم سوقه إلى معسكرات الإبادة الجماعية في محتشدات بدول أوروبا الشرقية، كان أكبرها محتشد أوْشفيتْس، في بولونيا الذي تحول منذ نهاية الحرب عام 1945 إلى متحف مفتوح يزوره اليوم الملايين من الحجيج الأوروبيين السواح ليروْا فظاعة الهُولُوكُوسْتْ والبُوغْرُومْ والمِحْرَقة "الشُّوَّاءْ"، التي هي كلمة عبرية تشبه كلمة "الشِّوَاء" باللغة العربية المنتمية إلى نفس اللغة السامية وتعني "الأجساد المحترقة" .
هذه السردية انطلقت من ذلك التاريخ، وظلت تعززها الكتابات الروائية الخيالية والمسرحيات والكتابات الصحفية التاريخية المسنودة بعشرات ومئات الأفلام التي انتجتها هوليوود خلال السبعين سنة الماضية، ورسّخت لدى أجيال من المتلقين للمحتوى المسرحي أو السينمائي أو الروائي "كختام لملحمة العذاب الإسرائيلي الذي لن ينتهي طيلة التاريخ إلاّ ببناء دولة إسرائيل الحامية لكل يهود العالم " ، كما تردد السردية الإسرائيلية للأحداث التاريخية لتبرير افتكاك أرض فلسطين بقوة النار والحديد لإقامة "الوطن القومي لليهود" كما وعدهم بذلك عام 1917 وزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور.
سردية متهالكة
لقد ظل الإعلام العالمي بمختلف وسائله من الصحافة المكتوبة إلى المسموعة، إلى المرئية إلى الالكترونية، يروج لهذه السردية ضمن جوقة إعلامية، رأس حربتها الإعلام الإسرائيلي والإعلام الأمريكي والأوروبي، الذي يروج لترّهات هذه السردية التي يتفنن أساطين علوم الإعلام والاتصال في إشاعتها بالفايْك نْيوز، ومهاجمة كل من يتعرض لها بالتعرية أو النفي أو النقد .
هكذا هي السردية الإسرائيلية التي تقبّلها العالم بكل سهولة، وظلت السلاح الفتاك أكثرَ فتْكا وردْعًا من ألمائتي قنبلة نووية التي تملكها إسرائيل في ترسانتها والتي بها تخدّر العقول وتبث الرعب.
فجأة سقطت السردية الأسطورية في لمح البصر في أقل من شهر من القصف الوحشي العشوائي للمدن الفلسطينية في غزة وتشريد السكان، في مشاهد ذكّرت الجميع بالغارات الألمانية الكثيفة على لندن عامي 1940 و1941، والتي لم تؤثر على معنويات المقاومة للبريطانيين . كما ذكّرت عملية تشريد مدنيّي غزة بمشاهد الهجرة القسرية لليهود التي يطلق عليها عبارة "إكْسُودُوسْ"، التي تعرضوا لها في تلك الحرب العالمية الثانية .
وكان من نتائج استمرار القصف الإسرائيلي على غزة ظهور تضامن دولي تلقائي غير مسبوق مع مأساة الشعب الفلسطيني، أعاد للإنسان إنسانيته في هذا العالم وسط "وحوش وحيوانات" في إسرائيل، وهي العبارات التي يرددها ناتنياهو، ووزراؤه من اليمين المتطرف عند الحديث عن سكان غزة ومقاتلي حماس ضد احتلال بلادهم. وهو قتال مشروع ودفاع شرعي عن النفس والأرض، كما تحدده الشرائع السماوية والقوانين الدولية.
والحقيقة أن بعض مؤرخي ما بعد الحرب العالمية الثانية اتّهِموا بالمبالغة في الحديث عن فصول تلك الحرب العالمية وخاصة ما تعرّض له اليهود فيها من تنكيل، على غرار شعوب أوروبية أخرى شرق ووسط أوروبا مثل أقليات الغَجَر في رومانيا وكذلك الشيوعيين الذين لاحقهم الجيش النازي وساقهم إلى محتشدات بولونيا مع اليهود . بل إن معاداة السامية لحقت أيضا بعض العرب باعتبارهم ساميين مثل اليهود أشقاءهم في الجينات الوراثية.
وقد نشأ في سبعينات القرن الماضي تيار من المؤرخين أطلق عليهم " التحريفيون" وهم المؤرخون والصحافيون الذي يحرّفون وقائع المحرقة اليهودية، تبعه تيّار أخر أكثر جرأة وبحثا عن الموضوعية التاريخية يسمى " الإنْكاريّون" وهم الذين ينكرون المحرقة اليهودية وغرف الغاز وكذلك رقم الملايين الستة من اليهود ضحايا المحرقة المذكورة. وكان على رأس هذا التيار المؤرخ الفرنسي هنري أوسّو. وتتعرض كتابات ذلك التيار وكتبهم للمعارضة أو المقاطعة والمطاردة أو التعتيم والحصار من وسائل الإعلام في أوروبا وأمريكا التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني هناك.
والواقع أن هذا التحريف في السرديات التاريخية هو قديم، لأن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ الجديد على هواهم، كما أبان ذلك المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته الشهيرة ، باعتبار "المغلوب مولع بتقليد الغالب" والانصياع لإرادته. وهذا ما عرفته أحداث العالم، حيث كتب المنتصرون في الحرب العالمية الثانية وهم القوى الاستعمارية الأوروبية وأمريكا، صفحات التاريخ الجديد ، وزيّفوا كما أرادوا وقائع تلك الحرب الكونية وشيْطَنوا ألمانيا وزعيمها هتلر، والحال أن ما قام به هذا الأخير لا يختلف في شيء عن كل ما قام به قبله بقرن إمبراطور فرنسا نابليون بونابارت، الذي اجتاح كامل بلدان اوروبا وزحف على روسيا حيث سقط عند أسوار موسكو. وهو نفس الأمر الذي حدث لهتلر فيما بعد بنفس السيناريو. وقديما كتب الرومان المنتصرون على قرطاج التاريخ الذي أرادوه والذي نتداوله اليوم بفعل سيطرة تلك السردية على كتب التاريخ ومناهج الدراسة في المدارس والجامعات التي يزيدها تحريفا سيطرة الغالبين على مصادر المعرفة والثقافة والتعليم إلى اليوم، رغم ظهور آليات ووسائط الميديا الجديدة التي فتحت أبوابا كانت موصدة، ومنعت التحريف واسع النطاق، حد الإجرام التاريخي، وجعلت المحرّفين المحترفين يتحركون في هامش تأثير محدود بفضل ذلك .
أصيب الرأي العام الدولي بالوجوم والعجز أمام الوحشية الإسرائيلية التي تذكر الجميع بوحشية الجنود النازيين في الحرب العالمية الثانية
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
أظهرت الحرب الشرسة في غزة مشاهد القصف الإسرائيلي العشوائي على المدارس التي تديرها وكالة الأمم المتحدة للاجئين "أونْرْوَا"، وعلى المستشفيات التي تديرها وكالات متخصصة تابعة لمنظمة الصحة العالمية، مدى بشاعة جرائم إسرائيل، والتي تجاوزت فيها بكثير محرقة الفلسطينيين درجة محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية والمسماة في السردية الإسرائيلية "هولوكوست".
وأعلنت الأمم المتحدة عن تنديدها وعجزها أمام إسرائيل المدعومة دائما بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن . وفي ندوة صحفية عقدها في جانفي 2024 مدير منظمة الصحة العالمية تدروس أذانوم، قال فيها "إن الوضع الصحي في غزة كارثي يتجاوز الكلمات ولا يمكن وصفه. وإني غير قادر على الكلام"، وغلبه البكاء في تلك الندوة الصحفية، قبل أن يقطع اللقاء ويعتذر للصحافيين، في مشهد تداولته فيديوهات الشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، عن مرارة الأوضاع وعنجهية المعتدين الذين ينفذون مجزرة فظيعة يتفرج عليها العالم كشكل متجدد للإبادة الجماعية على المكشوف.
وحشية إسرائيلية
لقد أصيب الرأي العام الدولي بالوجوم والعجز أمام تلك الوحشية الإسرائيلية التي تذكر الجميع بصفة صارخة بوحشية الجنود النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود المعذبين والمشتتين في أنحاء أوروبا، التي هربوا منها خوفا من الوحشية النازية. ومثّل ذلك انعطافا في موقف الرأي العام الدولي .
كانت العملية التي شنتها حماس بسرعة خاطفة في السابع من اكتوبر الماضي، عملية مقاومة تقليدية تقوم بها أية حركة تحرير وطنية عبر مباغتة العدو وشل حركته وإلحاق الهزيمة به من أجل تحسين شروط التفاوض على السلام . وهي عمليات قامت بها كل حركات التحرير الوطنية في العالم الثالث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور مبادئ حرية تقرير مصير الشعوب . وهي عمليات مقاومة شبيهة حصلت بفضلها الدول المستعمرة على استقلالها في ستينات القرن الماضي . بل هي عملية لطالما قامت بها المنظمات الصهيونية مثل الإرغون أو شتارن، في بدايات تكوين إسرائيل وتمكنت بفضلها من ترويع الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن الرد الإسرائيلي الوحشي والهستيري وغير المتكافئ على هجوم غزة ، جعل العالم كله يندد بالوحشية الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود وأسقطت ورقة التوت لسردية إسرائيل الضحية، بعد أن طغت وتجبرت ضد العالم كله، بما فيها أمريكا حاميتها ظالمة أو مظلومة، فاقدة بذلك تعاطف العالم معها واعترافه بخصوصية مسارها التكويني.
لقد راجعت بعض وسائل الإعلام الغربية مواقفها بعد تواصل القصف الإسرائيلي العبثي لعدة أشهر وتشريد السكان من الشمال إلى الجنوب من غزة، في محاولة لتهجيرهم القسري نحو سيناء المصرية ، كما وقع لأجدادهم عام 1948، وكما وقع لليهود عام 1940 بألمانيا وبلدان أوروبا التي لاحقت اليهود خوفا من هتلر ومن بطش الجيش النازي الذي كانت له عقيدة اجتثاث اليهود من ألمانيا ومن دول أوروبا التي اكتسحها الجيش الألماني واحتلها ومنها فرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي الحالي ولم يبق فيها غير سويسرا والبلدان الاسكندينافية التي لجأ إليها اليهود من النخبة، ومنها انتقلوا إلى أمريكا، مواصلين حياة الشتات التي جبلوا عليها عبر التاريخ . ومن بقي منهم في التراب الأوروبي تم سوقه إلى معسكرات الإبادة الجماعية في محتشدات بدول أوروبا الشرقية، كان أكبرها محتشد أوْشفيتْس، في بولونيا الذي تحول منذ نهاية الحرب عام 1945 إلى متحف مفتوح يزوره اليوم الملايين من الحجيج الأوروبيين السواح ليروْا فظاعة الهُولُوكُوسْتْ والبُوغْرُومْ والمِحْرَقة "الشُّوَّاءْ"، التي هي كلمة عبرية تشبه كلمة "الشِّوَاء" باللغة العربية المنتمية إلى نفس اللغة السامية وتعني "الأجساد المحترقة" .
هذه السردية انطلقت من ذلك التاريخ، وظلت تعززها الكتابات الروائية الخيالية والمسرحيات والكتابات الصحفية التاريخية المسنودة بعشرات ومئات الأفلام التي انتجتها هوليوود خلال السبعين سنة الماضية، ورسّخت لدى أجيال من المتلقين للمحتوى المسرحي أو السينمائي أو الروائي "كختام لملحمة العذاب الإسرائيلي الذي لن ينتهي طيلة التاريخ إلاّ ببناء دولة إسرائيل الحامية لكل يهود العالم " ، كما تردد السردية الإسرائيلية للأحداث التاريخية لتبرير افتكاك أرض فلسطين بقوة النار والحديد لإقامة "الوطن القومي لليهود" كما وعدهم بذلك عام 1917 وزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور.
سردية متهالكة
لقد ظل الإعلام العالمي بمختلف وسائله من الصحافة المكتوبة إلى المسموعة، إلى المرئية إلى الالكترونية، يروج لهذه السردية ضمن جوقة إعلامية، رأس حربتها الإعلام الإسرائيلي والإعلام الأمريكي والأوروبي، الذي يروج لترّهات هذه السردية التي يتفنن أساطين علوم الإعلام والاتصال في إشاعتها بالفايْك نْيوز، ومهاجمة كل من يتعرض لها بالتعرية أو النفي أو النقد .
هكذا هي السردية الإسرائيلية التي تقبّلها العالم بكل سهولة، وظلت السلاح الفتاك أكثرَ فتْكا وردْعًا من ألمائتي قنبلة نووية التي تملكها إسرائيل في ترسانتها والتي بها تخدّر العقول وتبث الرعب.
فجأة سقطت السردية الأسطورية في لمح البصر في أقل من شهر من القصف الوحشي العشوائي للمدن الفلسطينية في غزة وتشريد السكان، في مشاهد ذكّرت الجميع بالغارات الألمانية الكثيفة على لندن عامي 1940 و1941، والتي لم تؤثر على معنويات المقاومة للبريطانيين . كما ذكّرت عملية تشريد مدنيّي غزة بمشاهد الهجرة القسرية لليهود التي يطلق عليها عبارة "إكْسُودُوسْ"، التي تعرضوا لها في تلك الحرب العالمية الثانية .
وكان من نتائج استمرار القصف الإسرائيلي على غزة ظهور تضامن دولي تلقائي غير مسبوق مع مأساة الشعب الفلسطيني، أعاد للإنسان إنسانيته في هذا العالم وسط "وحوش وحيوانات" في إسرائيل، وهي العبارات التي يرددها ناتنياهو، ووزراؤه من اليمين المتطرف عند الحديث عن سكان غزة ومقاتلي حماس ضد احتلال بلادهم. وهو قتال مشروع ودفاع شرعي عن النفس والأرض، كما تحدده الشرائع السماوية والقوانين الدولية.
والحقيقة أن بعض مؤرخي ما بعد الحرب العالمية الثانية اتّهِموا بالمبالغة في الحديث عن فصول تلك الحرب العالمية وخاصة ما تعرّض له اليهود فيها من تنكيل، على غرار شعوب أوروبية أخرى شرق ووسط أوروبا مثل أقليات الغَجَر في رومانيا وكذلك الشيوعيين الذين لاحقهم الجيش النازي وساقهم إلى محتشدات بولونيا مع اليهود . بل إن معاداة السامية لحقت أيضا بعض العرب باعتبارهم ساميين مثل اليهود أشقاءهم في الجينات الوراثية.
وقد نشأ في سبعينات القرن الماضي تيار من المؤرخين أطلق عليهم " التحريفيون" وهم المؤرخون والصحافيون الذي يحرّفون وقائع المحرقة اليهودية، تبعه تيّار أخر أكثر جرأة وبحثا عن الموضوعية التاريخية يسمى " الإنْكاريّون" وهم الذين ينكرون المحرقة اليهودية وغرف الغاز وكذلك رقم الملايين الستة من اليهود ضحايا المحرقة المذكورة. وكان على رأس هذا التيار المؤرخ الفرنسي هنري أوسّو. وتتعرض كتابات ذلك التيار وكتبهم للمعارضة أو المقاطعة والمطاردة أو التعتيم والحصار من وسائل الإعلام في أوروبا وأمريكا التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني هناك.
والواقع أن هذا التحريف في السرديات التاريخية هو قديم، لأن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ الجديد على هواهم، كما أبان ذلك المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته الشهيرة ، باعتبار "المغلوب مولع بتقليد الغالب" والانصياع لإرادته. وهذا ما عرفته أحداث العالم، حيث كتب المنتصرون في الحرب العالمية الثانية وهم القوى الاستعمارية الأوروبية وأمريكا، صفحات التاريخ الجديد ، وزيّفوا كما أرادوا وقائع تلك الحرب الكونية وشيْطَنوا ألمانيا وزعيمها هتلر، والحال أن ما قام به هذا الأخير لا يختلف في شيء عن كل ما قام به قبله بقرن إمبراطور فرنسا نابليون بونابارت، الذي اجتاح كامل بلدان اوروبا وزحف على روسيا حيث سقط عند أسوار موسكو. وهو نفس الأمر الذي حدث لهتلر فيما بعد بنفس السيناريو. وقديما كتب الرومان المنتصرون على قرطاج التاريخ الذي أرادوه والذي نتداوله اليوم بفعل سيطرة تلك السردية على كتب التاريخ ومناهج الدراسة في المدارس والجامعات التي يزيدها تحريفا سيطرة الغالبين على مصادر المعرفة والثقافة والتعليم إلى اليوم، رغم ظهور آليات ووسائط الميديا الجديدة التي فتحت أبوابا كانت موصدة، ومنعت التحريف واسع النطاق، حد الإجرام التاريخي، وجعلت المحرّفين المحترفين يتحركون في هامش تأثير محدود بفضل ذلك .