بقطع النظر عمّا سيتم تحصيله أو عمّن سينخرطون في الصلح الجزائي فهو لن يمثّل حلّا جذريا لتمويل المالية العمومية
بقلم: ريم بالخذيري
تعدّ ملفات الأملاك المصادرة والأموال المنهوبة والفساد من أكثر المطبّات التي عرقلت الانتقال الديمقراطي وتحقيق الرخاء الاقتصادي اللذين نادت بهما الثورة التونسية. وقد فشلت كل الحكومات السابقة منذ 2011 في حلحلة أي من هذه الملفات لاعتبارات ذاتية تمثلها حسابات سياسية ومصالح شخصية ولاعتبارات موضوعية وهي صعوبة تتبع هذه الأموال والتفويت المنصف في الأملاك المصادرة .
وهي ذاتها الملفات التي مثّلت أولوية للرئيس قيس سعيد منذ انتخابه في 2019 وقبلها وتحوّلت الى سياسة واضحة للدولة منذ 25 جويلية 2021. فكان أول مرسوم يصدر في هذا الاتجاه يوم 21 مارس 2022 وهو المرسوم الرئاسي عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ يوم 20 مارس والمتعلق بالصلح الجزائي الهادف إلى تحقيق الصلح في الجرائم الاقتصادية والأفعال والأعمال والممارسات التي ترتبت عنها منافع غير شرعية أو غير مشروعة .
وشكّلت لجنة للغرض لم توفّق في القيام بمهامها فوقع تنقيح المرسوم في جانفي 2024 وتم تنصيب لجنة جديدة تسلمت مهامها يوم الثلاثاء 12 مارس 2024. وفي موكب حلف اليمين لأعضائها وجّه الرئيس تحذيرا أخيرا لمن يعتبرهم معنيون بالصلح الجزائي للانخراط الطوعي فيه كما شدّد على أعضاء اللجنة بضرورة الحرص الشديد على إعادة كل مليم من أموال الشعب المنهوبة للشعب .
ومن المؤكّد أن العمل هذه المرة سيكون أكثر دقة لأن الآمال معلّقة كثيرا على تحصيل هذه الأموال والتي سيوجّه أغلبها للتنمية المحلية وما يكسبها الأهمية القصوى هو اضطلاع مجلس الأمن القومي بالموافقة النهائية على الأرقام المقدمة من قبل طالبي الصلح وكذلك التكفل بمهمة اختيار المشاريع المنجزة بهذه الأموال.
فكرة جيدة لمشروع أشمل
بقطع النظر عمّا سيتم تحصيله أو عمّن سينخرطون في الصلح الجزائي فهو لن يمثّل حلّا جذريا لتمويل المالية العمومية رغم أهمية فكرة الصلح في حدّ ذاتها بعدما مرّت به بلادنا من عشرية تميزت بالفساد والاختلاس والتهرب الضريبي والاحتقان السياسي والاجتماعي هي بحاجة الى الصلح بمفهوم شامل .
ونجاح هذا الصلح الجزائي يجب أن يتبعه أو يوزايه صلح آخر نصطلح على تسميته بالصلح المالي الشامل . لا يقتصر فقط على رجال الأعمال المتهمين بالاستيلاء على الأموال أو الذين لديهم قضايا جارية في المحاكمة أو من ستثار ضدهم قضايا مالية انمّا كل من له جرائم مالية أو ديون مثقلة أو حجوزات ديوانية وخطايا جبائية.
• الشركات التي لديها ديونا مثقلة في الجباية والصناديق الاجتماعية .
• الشركات العمومية المثقلة بالديون لمؤسسات الدولة وللخواص.
• الشركات الصغرى الغارقة في الديون وفي الشيكات دون رصيد.
هذه المؤسسات لو منحت حق التمتع بهذا الصلح المالي المقترح فستكون الفائدة مضاعفة لها وللدولة . بمعنى ستتمكن من مواصلة نشاطها (عدد كبير منها متوقفة عن النشاط أو نشاطها متعثر) في ظروف طيبة ويمكنها الاستفادة مجددا من الحوافز الممنوحة في مجلة الاستثمارات.
هذا الصلح نقترح أن يتمثل في دفع بين 30 و 40 بالمائة من الديون المثقلة على أن تطرح بقية النسبة وخطايا التأخير وأن تدفع النسبة الواجب دفعها على أقساط شهرية .مع التشديد على ضرورة اسقاط هذا التعهد في حال التخلف عن سداد قسطين متتاليين.
وعلي سبيل الذكر لا الحصر فالاتحاد التونسي للشغل مطالب بدفع حوالي 18مليون دينار للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وديون ثلاث شركات عمومية للنقل لدى صناديق الضمان الاجتماعي تناهز حوالي 600 مليون دينار أمّا ديون "الستاغ" لدى الحرفاء (شركات عمومية وخاصة) حوالي 300 مليون دينار. ومثلها عديد الشركات والمؤسسات الأخرى.
الصلح المالي سيكون ذا فائدة وتحصيل هذه الديون سينقذ هذه المؤسسات وسيمول المالية العمومية فهي ديون تكاد تكون معدومة وهي بألاف المليارات.
وتبقى المؤسسات الصغرى والناشئة والتي تمثل عماد الاقتصاد في أي بلد أكبر من يمكنه الاستفادة من هذا الصلح حيث تشير أخر الأرقام الى اعلان أكثر من 200 ألف مؤسسة افلاسها إلى حدود 2021 بالإضافة إلى 42 ألف مؤسسة تخضع للتسوية القضائية.
ونتج عن ذلك أكثر من 280 ألفا من الأشخاص الطبيعيين ممنوعين من التعامل مع البنوك في تونس وحوالي 195 ألفا من الأشخاص المعنويين (شركات ومؤسسات) وبالتالي هؤلاء لا يمكنهم الحصول على خطوط تمويل وقروض وتسهيلات بنكية وبالتالي لا يمكنهم سداد ديونهم المستحقة عليهم والنتيجة أن الكلّ معطّل وجزء كبير من الاقتصاد مشلول .
صلح وإصلاح مالي
كما أسلفنا الذكر فان الصلح المالي مهمّ جدا لتعافي الاقتصاد وسيخلق ديناميكية جديدة فيه لكنّ ذلك مرتبط أيضا بإصلاح شامل للمنظومة المالية في تونس بداية من تكريس استقلالية البنك المركزي وتوضيح علاقته بالحكومة مرورا بالقطاع البنكي فنظام التحويلات المالية من والى تونس .
والأهم من هذا كله التخلي عن المجلة التجارية الحالية وليس مجرّد تنقيح فصول منها مثلما ينادي بذلك بعض الخبراء الاقتصاديون والحقوقيون .فهذه المجلة تم إصدارها في 5 أكتوبر 1959 وتم تنقيحها عديد المرات آخرها سنة 2020 لكن الأسلوب الترقيعي لها لم يعد مجديا والأفضل اصدار قانون تجاري جديد . وكذلك الحال لمجلة الالتزامات والعقود ومجلة الاستثمار.
هذا الصلح و الإصلاح المالي أصبح ضرورة وهو بداية إرساء ملامح اقتصاد جديد قادر على المنافسة و الصمود ومحصّن من الهزات.
بقطع النظر عمّا سيتم تحصيله أو عمّن سينخرطون في الصلح الجزائي فهو لن يمثّل حلّا جذريا لتمويل المالية العمومية
بقلم: ريم بالخذيري
تعدّ ملفات الأملاك المصادرة والأموال المنهوبة والفساد من أكثر المطبّات التي عرقلت الانتقال الديمقراطي وتحقيق الرخاء الاقتصادي اللذين نادت بهما الثورة التونسية. وقد فشلت كل الحكومات السابقة منذ 2011 في حلحلة أي من هذه الملفات لاعتبارات ذاتية تمثلها حسابات سياسية ومصالح شخصية ولاعتبارات موضوعية وهي صعوبة تتبع هذه الأموال والتفويت المنصف في الأملاك المصادرة .
وهي ذاتها الملفات التي مثّلت أولوية للرئيس قيس سعيد منذ انتخابه في 2019 وقبلها وتحوّلت الى سياسة واضحة للدولة منذ 25 جويلية 2021. فكان أول مرسوم يصدر في هذا الاتجاه يوم 21 مارس 2022 وهو المرسوم الرئاسي عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ يوم 20 مارس والمتعلق بالصلح الجزائي الهادف إلى تحقيق الصلح في الجرائم الاقتصادية والأفعال والأعمال والممارسات التي ترتبت عنها منافع غير شرعية أو غير مشروعة .
وشكّلت لجنة للغرض لم توفّق في القيام بمهامها فوقع تنقيح المرسوم في جانفي 2024 وتم تنصيب لجنة جديدة تسلمت مهامها يوم الثلاثاء 12 مارس 2024. وفي موكب حلف اليمين لأعضائها وجّه الرئيس تحذيرا أخيرا لمن يعتبرهم معنيون بالصلح الجزائي للانخراط الطوعي فيه كما شدّد على أعضاء اللجنة بضرورة الحرص الشديد على إعادة كل مليم من أموال الشعب المنهوبة للشعب .
ومن المؤكّد أن العمل هذه المرة سيكون أكثر دقة لأن الآمال معلّقة كثيرا على تحصيل هذه الأموال والتي سيوجّه أغلبها للتنمية المحلية وما يكسبها الأهمية القصوى هو اضطلاع مجلس الأمن القومي بالموافقة النهائية على الأرقام المقدمة من قبل طالبي الصلح وكذلك التكفل بمهمة اختيار المشاريع المنجزة بهذه الأموال.
فكرة جيدة لمشروع أشمل
بقطع النظر عمّا سيتم تحصيله أو عمّن سينخرطون في الصلح الجزائي فهو لن يمثّل حلّا جذريا لتمويل المالية العمومية رغم أهمية فكرة الصلح في حدّ ذاتها بعدما مرّت به بلادنا من عشرية تميزت بالفساد والاختلاس والتهرب الضريبي والاحتقان السياسي والاجتماعي هي بحاجة الى الصلح بمفهوم شامل .
ونجاح هذا الصلح الجزائي يجب أن يتبعه أو يوزايه صلح آخر نصطلح على تسميته بالصلح المالي الشامل . لا يقتصر فقط على رجال الأعمال المتهمين بالاستيلاء على الأموال أو الذين لديهم قضايا جارية في المحاكمة أو من ستثار ضدهم قضايا مالية انمّا كل من له جرائم مالية أو ديون مثقلة أو حجوزات ديوانية وخطايا جبائية.
• الشركات التي لديها ديونا مثقلة في الجباية والصناديق الاجتماعية .
• الشركات العمومية المثقلة بالديون لمؤسسات الدولة وللخواص.
• الشركات الصغرى الغارقة في الديون وفي الشيكات دون رصيد.
هذه المؤسسات لو منحت حق التمتع بهذا الصلح المالي المقترح فستكون الفائدة مضاعفة لها وللدولة . بمعنى ستتمكن من مواصلة نشاطها (عدد كبير منها متوقفة عن النشاط أو نشاطها متعثر) في ظروف طيبة ويمكنها الاستفادة مجددا من الحوافز الممنوحة في مجلة الاستثمارات.
هذا الصلح نقترح أن يتمثل في دفع بين 30 و 40 بالمائة من الديون المثقلة على أن تطرح بقية النسبة وخطايا التأخير وأن تدفع النسبة الواجب دفعها على أقساط شهرية .مع التشديد على ضرورة اسقاط هذا التعهد في حال التخلف عن سداد قسطين متتاليين.
وعلي سبيل الذكر لا الحصر فالاتحاد التونسي للشغل مطالب بدفع حوالي 18مليون دينار للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وديون ثلاث شركات عمومية للنقل لدى صناديق الضمان الاجتماعي تناهز حوالي 600 مليون دينار أمّا ديون "الستاغ" لدى الحرفاء (شركات عمومية وخاصة) حوالي 300 مليون دينار. ومثلها عديد الشركات والمؤسسات الأخرى.
الصلح المالي سيكون ذا فائدة وتحصيل هذه الديون سينقذ هذه المؤسسات وسيمول المالية العمومية فهي ديون تكاد تكون معدومة وهي بألاف المليارات.
وتبقى المؤسسات الصغرى والناشئة والتي تمثل عماد الاقتصاد في أي بلد أكبر من يمكنه الاستفادة من هذا الصلح حيث تشير أخر الأرقام الى اعلان أكثر من 200 ألف مؤسسة افلاسها إلى حدود 2021 بالإضافة إلى 42 ألف مؤسسة تخضع للتسوية القضائية.
ونتج عن ذلك أكثر من 280 ألفا من الأشخاص الطبيعيين ممنوعين من التعامل مع البنوك في تونس وحوالي 195 ألفا من الأشخاص المعنويين (شركات ومؤسسات) وبالتالي هؤلاء لا يمكنهم الحصول على خطوط تمويل وقروض وتسهيلات بنكية وبالتالي لا يمكنهم سداد ديونهم المستحقة عليهم والنتيجة أن الكلّ معطّل وجزء كبير من الاقتصاد مشلول .
صلح وإصلاح مالي
كما أسلفنا الذكر فان الصلح المالي مهمّ جدا لتعافي الاقتصاد وسيخلق ديناميكية جديدة فيه لكنّ ذلك مرتبط أيضا بإصلاح شامل للمنظومة المالية في تونس بداية من تكريس استقلالية البنك المركزي وتوضيح علاقته بالحكومة مرورا بالقطاع البنكي فنظام التحويلات المالية من والى تونس .
والأهم من هذا كله التخلي عن المجلة التجارية الحالية وليس مجرّد تنقيح فصول منها مثلما ينادي بذلك بعض الخبراء الاقتصاديون والحقوقيون .فهذه المجلة تم إصدارها في 5 أكتوبر 1959 وتم تنقيحها عديد المرات آخرها سنة 2020 لكن الأسلوب الترقيعي لها لم يعد مجديا والأفضل اصدار قانون تجاري جديد . وكذلك الحال لمجلة الالتزامات والعقود ومجلة الاستثمار.
هذا الصلح و الإصلاح المالي أصبح ضرورة وهو بداية إرساء ملامح اقتصاد جديد قادر على المنافسة و الصمود ومحصّن من الهزات.