السيّد العلاّني
طَوَى سي بكّار الجريدةَ وَوَضَعها على يساره. ليس فيها ما يُغْري على اِسْتِعْجال مطالعتها. عناوينُ الصفحة الأولى لا تُنْبِئُ بفرحٍ قادمٍ... "شهائدُ علميّةٌ مُدَلّسة."..."شاحناتُ الموتِ تواصلُ نقْلَ العاملاتِ إلى ضيعاتِ كِبارِ مُلاّكِ الأراضي"...."غزّةُ تتعرّض إلى دمارٍ مقصودٍ"...."هِجْرةُ الكفاءاتِ العلميّةِ جرحٌ نازفٌ في جَسَدِ الوطن".... "ثَمَانِيَةُ عشر حاَرِقا مفقودا وعائلاتُ الضحايا ملتاعةٌ."..."مراكبُ الغَرَقِ تكثر في هذا الفصل"...."المِجْبري" يَرْفُضُ اللّعبَ في صفوف الفريق الوطني"....مَاذا يجري في عقولِ الناس هَذِهِ الأيّام؟...تفكيرِهم ...انفعالاتِهم ...آمالِهم... لاَ أَحدَ يعرف...عجزَأساتذةُ الجامعاتِ المُبَشِّرونَ بحياةٍ أَهْدأَ وَأَكْثَرَ رَخاءً وأوْفَرَ سعادةً عن تقديم الحُلول....اِحْصائيّاتُ الغَرْقَى والمفقودين تتزايد أرقامُها كلَّ يوم... بالأمس غرق أرْبعةٌ وعشرون شابّا على بعد أميالٍ من شواطئِ قرقنةَ...قبلها بيومين هَوَى قَارِبٌ بكلِّ مَنْ فِيه إلى قعر البحرِ... مأدبةً شهيّةً لحيتان تطلب المزيدَ مِنْ لَحْمٍ طَرِيٍّ.
ظلّ سي بكّار بائعُ الأحذيةِ في رأْسِ المَمَرّ الأعْلى مهمومًا بهذا ورُبّما بغيره أيضا...ليس في ما يرى فسحةٌ مِنْ طُمأنينة. لماذا اِسْتبدّت به الحيرةُ اليوم بالذات ؟ الصُّحُفُ السيّارةُ والأخبارُ اليوميّةُ في القنوات الإذاعيّة والتلفزيونِيّة العموميّة والخاصّة لا تنفكّ منذ أشهرٍ تُخْبِرُ عن حوادثِ الغرقِ والحَرْقةِ والتسفير...دُوَلُ ضَفَّتَيْ المتوسّط عاجزةٌ عن الوصول إلى حلولٍ لهذه المعضلة. فما الذي تغيّر بالنسبة إلى سي بكّار حتّى يهتمَّ كلَّ هذا الهمِّ اليوم ! لقدْ عايشَ آخِرَ أحداثِ معركةِ التحريرِ وبدايات بناء الدولة الوطنيّة في أوائل ستّينات القرن العشرين وَعَانى الفقرَ والجوعَ والجهلَ والمرضَ ولم يفكّرْ لا هُوَ و لا أخوه ولا أحدٌ من أبناء عمومته في الهجرة.... وَإِلاّ لِمَاذَا قاومْنا الاِسْتعمارَ واسْتَشْهد منّا مَنِ اِسْتَشْهَدَ واسترجعنا وطنَنَا...أَلِنَتَخَلّى عنه! لِمَنْ كلُّ هذهِ المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ التي ضحّت أجْيالُ مَا بَعْدَ الاستقلال من أجل تشييدها؟ رَوَاتِبُ للمدرّسين... مِنحٌ للطلبةِ... مُسَاعَدَاتٌ لِذَوي الهِمَمِ...إعاناتٌ للمعوزين...عَجَزَ عَقْلُ سي بكّار عن حلّ لغز الهجرة والتخلّي عن الوطن.... رَشَقَ مَنْكِبَهُ على سطح المنضدة التي أمامه وجعل ذِقْنَهُ بين سبّابته وإبهامهِ...هذهِ وَضْعِيّةٌ غيرُ مُرِيحَةٍ...بَسَطَ كَفَّه وأسْند إليه رأْسَهُ وفتح عَيْنيْه كأنّه يُرَكِّز في شيءٍ لايُبْصِرُهُ..."الزِّي" في رُكْنِه المَعرٌوفِ يُردِّدُ إحْدَى حِكَمِهِ الكثيرةِ..."اِحْمِدْ رَبِّي يَا لْمِتْعِدِّي ...غُدْوَى لاَ عَنْدِكْ لاَ عَنْدي"
"الزِّي"شخصيّةٌ بسيطةٌ، يعرفه الجميعُ بلا اسْتِثْنَاء، مَنْ لا يعرفُ "الزِّي" غريبٌ عن القيروان حتّى وإنْ كان مِنْ ساكنيها...علامةٌ مميّزةٌ ...لاَ لِأَنَّ لَهُ في الأدبِ بَاعًا أوْ في الصناعةِ ذِراعًا أوْ في التجارةِ سَعَةً. هُوَ رَجُلٌ عاديٌّ يَنْتَصِبُ كلّ يومٍ في ركنٍ من أركانِ تقاطع الممرّيْن الأعلى والأسفل مع السوقِ أَعْرَضِ شوارعِ المدينة العتيقةِ...فجرَ كلِّ يومٍ يدفع أمامه عربةً خشبيّةً مَطْليةً باللون الأزرق نصفُها الأسفلُ صندوقٌ خشبيٌّ مُعَمّى مُغْلقٌ لاَ يَفْتَحُ بابَه غيرُهُ ولا يَعْرِفُ أحدٌ ما بداخِلِهِ سواه أمّا نِصْفُها الأَعْلى فصندوقٌ من مربّعاتٍ بِلّوْريّةٍ تفصل بينها عوارضُ خشبيّة زرقاء اللون أيْضًا رتّب "الزِّي" داخلَه جِفَانًا بلّوْريَّةً هي الأخرى مَلَأَ أُولَاها بمعجون الجَزَرِ المطبوخِ المُتَبَّلِ بخليطٍ من فُلْفُلٍ أحمرَ حارٍّ وتَوَابِلَ لا يعرفُ مقاديرَها ونِسَبَها وأنواعَها إلاّ هُوَ وَمَلَأَ الثانيةَ بِقِطَعٍ من البطاطا المسلوقةِ أمّا التي تَلِيهَا فَبِمُقَطّعاتِ الخُضَارِ الفَصْلِيَّةِ والتي بعدها بمربّعات المُخلّلاتِ وحبّات الزيتون وأخرى بِلحْمِ التُّونَةِ المُصَبَّر أمّا الأخيرةَ فَبِزَيْتِ الزيتون. إنّه يبيع اللُّمْجَةَ الصباحيّةَ بأسعارٍ تلائمُ إمكانيّات العمّالِ الذين يَسْتَعْجِلُهم العملُ ويَحْرِمُهم الواجبُ من التمتّعِ بنوْمَةِ الفجرِ الدافئةِ فيَجِدُونَ عند "الزِّي" الكلمةَ الطيّبةَ واللُّمْجَةَ المُنَاسِبَةَ يلُفّها لهم في وَرَقٍ أبْيضَ نظيفٍ ويَنْصَرِفُونَ إلى أشغالهم....لاَ يَقْبِضُ منهم ثمنا مُحَدّدًا بل يدفعون ما يقْدِرون عليه من مالٍ يَدُسُّونه في حُقَّةٍ أفْرَغَها" الزِّي" ممّا كَانَ فيها مِن لحم التونة لهذا الغرض بالذات واسْتَنْبَطَ لهاغِطَاءًهوَ لَوْحٌ خشبيّ جَعَل في وسطه ثقبًا تُدَسُّ مِنْ خِلاله النقُودُ فَتَسَّاقَطُ إلى قعر الحقّة ويسمعُ لها رنينٌ يَعْرِفُ "الزّي" من صداه مقدارَها ويسمّيها "حكّةَ البركة".
قَبْلَ الظُّهْر بقليل يتوقّف عن العمل ويصدحُ بصوتٍ عَالٍ يسمعه كلُّ مَنْ في السوقِ" بَاتِ الرِّزْق" ثمّ ينعطف بعربته في الاتّجاه المعاكسِ يقطع بها نفسَ الطريقِ التي سَلَكَها عندَ الفجرِ..."الزَّرَارْعِيّة" فــ"باب تونس" فـــ"الرحيبة" فـــ"باب الرّكاب" فــ"ربط الزاوية" حيث يَغِيبُ هو وعَرَبَتُه عن الأبصار...حينها تبدأُ راحتُه اليوميّةُ بينما تدبّ في السوق حركةٌ أَلِفَهَا النّاسُ...يَنْهَضُ الصنّاعُ والتجّارُ عن مقاعدهم... فهذا يَرْمِي على مِشْغَلِهِ قطعةً من قماشٍ يغطّي بها أدواتِ عَمَلِه وذاك يُثَبِّتُ عُودًا خشبيّا يشدُّ به دفّتيْ بابِ دكُّانِه علامةً على أنّه سيعود بعد قليل والآخر يُوصِي صَبِيَّه بأنْ لا يغادر المحَلَّ قبل رجوعِه ويتوزّعُ جميعُهم على مساجد لا تفصل بينها إلاّ أمتارٌ قليلة " مسجد أبي ميْسرة" "مسجد السهيلي" " مسجد الحُصْري" مسجد المدرسة العَوَانِيّة" "مسجد الحَبَل" المسجد المُعَلّق". بَعْدَ صلاة الظُّهْر يعودون إلى ما كانوا فيه من شغلٍ في انتظار أذان العصر فيتكرّرُ المشهدُ ذاتُه.
أمّا "الزِّي" فبمجرّدِ أنْ يصلَ إلى مَسْكنه في الربض يُوثِقُ عَجَلَتَيْ عربته بسلسلةٍ حديديّةٍ اِقْتناها مع قُفْلِهَا لهذا الغرضِ بالذات وَيرصِّفُ جِفانَه الواحدةَ في قلبِ الأُخرى ويدخُلُ بها إلى البيت فلا يخرجُ منه إلاّ بعد المغرِبِ حين تكاد حركةُ السوق أنْ تنعدِمَ فلا يراه إلاّ القليلُ من الناس. مَا الغريبُ في كلِّ ذلك؟ فهذه مَشَاهِدُ مأْلوفةٌ تتكرّرُ كلّ يومٍ. نَفْسُ الأشخاص نَفْسُ الحركاتِ نفس الكلماتِ يردّدونها في نفس التوقيت تقريبا. فما الذِّي شدّ اليوم سي بكّار إلى شخصيّة "الزّي"! فــَـ"زِي" اليوم هو نفسُه "زِي" البارحة وكلّ الأيّام السابقة. حركاتٌ رتيبةٌ يُكَرِّرُهَا مئات المرّات في اليومِ الواحدِ. سكّينٌ حادٌّ يشْطُر به الخبزةَ إلى نصفين متساويَيْن ثمّ يغرسُ ذُبَابَتَهُ في قلبِ أحدِهما ويجرّه مُحْدِثًا فيه خَرْقًا عَميقًا وبملعقةٍ وَحِيدةٍ يطوفُ بها على جميع جِفانِه الواحِدةِ تلْوَ الأُخْرى يَنْقُلُ بعْضَ حَشْوَةِ اللُّمْجةِ التي يلُفّها ويُسلّمها لطالبها مردّدا حكمته المعهودةَ "القَلْب الحَيْ مَا يُصعب عليه شَيْ". في الأمر سرّ. حيْرةُ سي بكّار اليوم ليست عاديّة....أنْ يعجزَ عنْ فهم ما يجْرِي في عقولِ شبابِ اليوم أمرٌ لا ينْفرد به دون خَلْقِ اللّه أمّا لماذا انشدَّ إلى شخصيّةِ "الزِّي" فهذا مَا لَمْ يَقْبَلْهُ من نفسه.... السُّؤالُ أُولى عَتَبَاتِ الفهم. هذا ما كان يلِحُّ عليه أستاذُ الفلسفةِ بالحي الزيتوني الذي أصبح يُسَمّى المعهدَ المختلطَ ابن رشيق ورغم أنّه يكره الفلسفةَ لأنّها حالت دونه والنجاحَ في شهادة الباكالوريا إلاّ أنّه اليوم يَرْغَب في اختِبَار منهجِها...تساءلَ ما السرّ الذي تُخْفِيه شخْصيّةُ "الزِّي"؟ لاَ شيْءَ على ما يعلم...هو أكبرُ أبناءِ " الزّيلاني عزّام" فالجيم يَنْطِقُها زايًا والشين سِينًا وبسببِ ذلك يناديه الناسُ بــِ"الزِّي" الحرفِ الأوّلِ من اِسْمِ والدِه كما ينطقه هو.... وما من مارّ أمام عربته إلاّ ويترحّمُ على والِدِه بصوتٍ عالٍ "يرحم "الزِّي" فيردّ هو بلهجةٍ مشحونةٍ عاطفةً وصدقا " يرحم علي" "يرحم مختار" "يرحم الصادق" "يرحم يِحْيَى". إنّه يعرفُ أسماءَ أباءِ كلِّ من يترحّم على" الزِّي" أبيه...فَـعَادَةُ أهْلِ القيروان أنْ يترحّموا على آباء بعضِهم البعضِ بمناسبة وبغيْر مناسبة. وبطول المعاشرة يتعرّف الجميعُ على أسماء أباء الجميع بل وأسماء أمّهاتهم أيضا..."الزِّيلاني" أبو "الزِّي" رجلٌ رقيقُ الحال...عاملٌ يوميّ يتنقّل بين حضائر البناء...قد تمرّ أيّامٌ دون عملٍ ودون أُجرةٍ فلا يَمُدُّ يدًا ولا يُطَأْطِئُ رأْسًا...يتّصلُ بأصحاب البساتين الفلاحيّةِ التي تحيط بمدينة القيروان يستأْذِنهم في قَطْعِ بعضِ البَقْدونس والسَّلْقِ والسَّبَانِخِ ... يجمعه في حِزَمٍ متساويةٍ... يَرْصُفُهَا فوق "بِرْويطة" من حديدٍ ذاتِ عجلةٍ وحيدةٍ... يجول بها في الأسواق وداخِلِ الأحياء... يبيع الحِزَمَ بملاليمَ معدودةٍ يقدِّمُها آخِرَ الصباح إلى صاحب البستان فيدْفَعُ له منها نصيبًا ويسمح له برفع بعضِ حِزمٍ يعود بها إلى أهْلِ بيته يطبخونها طعام يومهم.
ظلّتْ عَيْنَا سي بكّار تُرَاوِحُ بين الجريدة الملقاةِ على المنضدة و "الزِّي" الذي تتحرّك ملعقتُه اللَمّاعةُ بين جفانه كراقصةِ بَالِي تؤَدّي على قدَمٍ واحدةٍ رقصةً موقّعةً...عَيْنَاهُ من الجريدةِ إلى "الزِّي" لكنّه لاَ يبصِرُ شيئا...هو الآن ليس هنا...هو في أوائلِ ستّينات القرنِ الماضي هناك في مقهى "روك" مع صديقه عمُرْ.
_ آشْ فمّا يا بكّار...عَفْس و رَفْس قدّام حانوت يوسف المصوّر
_ إِحَظّرُو في جوازات السفرْ ياعمرْ...باش إِهزّوهم يِخْدمُو في أوربّا
_ باللّهِ باللّهْ
_ واللّهِ واللّهْ
من خلال بلّوْرِ النافذةِ المطِلَّةِ على الشارع الكبير شاهد عمر صفًّا طويلاً من شبابٍ قَدِمُوا مِنْ كلِّ جهات الولاية يتزاحمون أَمَامَ دكّانِ المصوّر الوحيدِ في القيروان... دكّانٌ آلَ بكلِّ مافيه إلى "سي يوسف" بعْدَ الاستقلالِ إثْر عَوْدَةِ صاحِبِه "شارل" إلى فرنسا الذي تخلّى عنه لفائدة صانعه" يوسف"...وقف "بكّار" أمام النافذةِ إلى جانب عمر يتأمّلُ المشهدَ...جمعٌ غفيرٌ مِنْ شبابِ لا تهدأ لهم حركةٌ يتدافعون... البعضُ يَسْتَعْجِل المثولَ أمام عدسة التصوير والبعضُ في شغفٍ يترقّبُ تَسَلُّمَ صُوَرِهِ التي وعد "سي يوسف أنّها تكونُ حاضرة بعد يوميْن على الأقلّ من التقاطِ الصورةِ... كان من بين الواقفين شابٌّ في مقتبل العمر، مكتملُ الجسم، مديدُ القامة يحظى عند الجميع بحظوةٍ خاصّةٍ...الكلّ يُحيّيه ويُكلّمه فيردّ هو مبتسما...يُصافح القريبَ منه ويلوّح بِيُمْنَاهُ لِمَن حال الزِّحامُ مِنَ الوصول إليه....اِستخراجُ جوازِ سفرٍ يتطلّبُ كثيرا من الصبر وَسعةِ البال...صُوَرٌ فوتوغرافيّة بمعاييرَ محدّدةٍ...مَضْمُونُ وِلادةٍ لم يمضِ على استخراجه إلاّ كذا من الوقت...بطاقةُ سوابقَ عدليّةٌ حديثةٌ ...بِطاقةُ تعريفٍ وطنيّةٍ...شَهادَةٌ في ثُبُوتِ الجِنْسِيّةِ...وَكَيْ يكتملَ ملفُّ الهجرة لابدَّ من إضافة شهادةٍ طبيّةٍ مسلّمة من مؤسّسةٍ عموميّةٍ من الأفضلِ أنْ تكونَ محرّرةً بلغة البلد الأورُبّي المقصود.
اِستغرق الاستعدادُ للسفر إلى الضفّة الشماليّة للبحْرِ المتوسّطِ أسابيعَ متتاليةً لا حديثَ فيها إلاّ على الهجرةِ والمهاجرين والحياةِ الرّخيّةِ التي تنتظرهم...والحرّيّةِ المرتقبةِ التي سَتَفُكّ عنهم قُيُودَ الرّقابةِ الاجتماعيّةِ الصارمةِ...سيكون بإمكانهم اِحْتِسَاءُ قنّينةِ خمرٍ أو قارورةِ بيرّةٍ أصْليّة بلا خَوْفٍ ولاَ تَخَفٍّ...ستتحرّر أجسادهُم مِنْ كَبْتٍ قاهرٍ...ستتبدّلُ هذه الوجوهُ السمراءُ الكاَلِحَةُ بوجوهٍ بَيْضاءَ ناعمةٍ ذاتِ عيونٍ زرقاء زرقةَ شَاطِئٍ هادئٍ يُغْرِي على العَوْمِ...ستمتلئ أيْديهم بالأموالِ وَ سَيَشْترونَ ملابسَ جديدةً... وَسَيَسْتَعِيضُون عن برانِسِهم الرثّةِ بمعاطفَ من صوفٍ ليّنٍ...وسَيَلْبَسُون بُدْلاتٍ تحتها أَقْمِصةٌ كَامِلةُ الأزْرارِ يُزَيّنُونَ ياقاتِها البيضَ بِـرَبْطاتِ عُنُقٍ...بذلَ الآباءُ جُهْدًا غيرَ قليل لتوفير ما يلزم للغُربةِ وَ تفنّنت الأمّهاتُ في إعدادِ مؤونةٍ تلائمُ الخَزْنَ..."بسيسة... حَلَالم...ملوخيّة...قدّيد...بنادق من لحم العُجولِ...وخُبْزَاتٌ صغيراتٌ جَوَّدْنَ عَجْنَها وعَرْكَها وأَوْصَينَ خبّازَ الحيِّ بِإِنضاجها كما يُنْضَجُ خبزُ الحجيجِ...
حلّ يومُ السفر... الحافلةُ التي سَتُقِلُّهُم إلى مِيناء العَاصِمَةِ متوقّفةٌ في ساحة باب الجلاّدين...حضر لِتوْديعهم خَلْقٌ كثيرٌ...جلبة وضوضاء غير عاديَيْن وَعَلَا على كلّ الأصواتِ صوتٌ "لِـسْم والأدْريسة بالسوري علْ الفاليجة بكْتِيبَة واضحة"...عِنَاقٌ وَقبلاتٌ ودموعٌ... الجميعُ يودّع الجميعَ إلاّ ذلك الشابُّ مكتملُ الجسم مديدُ القامة الذي يتمتّعُ عند الجميع بحظْوةٍ خاصّةٍ فلم يودّعه أحدٌ من أهله. فأبوه مات منذ سنتين وأمّا أمُّه فقد ألحّ عليها شبابُ الحيّ بأن تبقى في بيتها صحبة ابْنَتَيْها وسيقومون هم بواجب مرافقةِ صديقِهم إلى الحافلة والاطمئنان عليه ولن يتخَلّوا عنه قبل أنْ يمتطيَ الحافلةَ وَسيعودون لطمأنتها هيَ أيضًا. فَاكْتفت الأمُّ بِدَفْقِ سَطْلِ ماءٍ عَقِبَهُ فالماءُ أمانٌ وسلام وَ دَعَت له بالتوفيق...
أطلقت الحافلةُ صافراتٍ ثَلاثًا لتُخْليَ الطريقَ أمامَها ثمّ تحرّكت إلى الأمام فارْتَفعت أيدي المُوَدّعين تلوِّحُ بمناديل بيضاء جاءوا بها خِصّيصًا لهذه اللحظة الفارقة ومَنْ سَهَا عَن احْضَارِ منديلٍ خَلَعَ شاشيتَه وَلَوّحَ بها في الفضاء فَعَمَّ ساحةَ بابِ الجلاّدين لَوْنَانِ أحمرُ وأبيضُ مثلما كانا يعُمّانها أيّام الحركةِ الوطنيّةِ...تاقت العيونُ إلى البكاءِ لولا عاداتُ مجتمعٍ ذُكُوريٍّ تقضي بِتَصنُّعِ جَلَدٍ رُجُوليٍّ زائفٍ....سادَ المكانَ سُكُونٌ ثقيلٌ...مَأْتمٌ بِلَا مَيّتٍ وَلاَ عزاءٍ...تسلَّلَ الناسُ إلى داخلِ المدينةِ في تثاقلٍ وَصَمْتٍ مُفْزِعيْن...شَبَابٌ في عِزِّ العَطَاءِ تركوا عائلاتِهم وغادروا مواطنَهم وفارقوا أحبابَهم إلى بلدانٍ لا يعرفون عنها شيئا سوى معلوماتٍ ضئيلةٍ حَصَلُوا عليها أثناء حصصِ التاْ هيل التي نظّمتها لهم الإدارةُ التونسيّةُ في الأسبوع الأخير قبل الرحيل..هلْ وصلت الحافلةُ إلى ميناء تونس في الموعد المضبوط ؟ هل انطلقت الباخرةُ في ساعتها المحدّدةِ ؟ متى ترسو في مرافئِ أَروبّا ؟ ومَتَى سَيتقاضون أوّلَ أُجورِهم ؟ وكيف سينامون؟ وأين سَيَسْكُنون؟ وَهَلْ؟ وَلماذا؟ وَلِمَ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تنوّعت صِيَغُها أَقَضّتْ ليلَتَها مضاجعَ عائلات المهاجرين.
من الغدِ في الصباح الباكرِ اِسْتَيْقَظَت القيروانُ كعادتها على رائحة الفطائر المَقْلِيّة والخبزِ الناضجِ وَتَوَافد الشيّالون على ساحة باب الجلاّدين في انتظار وصول الحافلة من تونس...فقد كانَ حِرَفِيّو القيروان يُتقنون صناعة "الكنترة" و"البلغة" والغرابيل ومقابضِ الأدوات الفلاحيّة يَنْحَتُونَها من حَطَبِ الزيتون كَمَا كانوا يبدعون في نسج الأغطية الصوفيّة ويلفّونها في أكياسٍ يرصفها الشيّالون بعنايةٍ فوق سطح الحافلة ليتسلّمها تجّارُ العاصمة لِبَيْعِها في أسواقهم المسقوفةِ حيث لا تنقطعُ حركةٌ ولا تَكْسِدُ تجارةٌ...وصلت الحافلةُ وأطلقت صفّاراتِها لإخْلاءِ مَكانِ رُكونِها... ثمّ توقّفت تماما وسكنَ محرّكُها و اِنْفَتَحَ بابُها الأماميُّ وَبَدَأَ ركُّابُها في النزول وَاحدًا فَوَاحدًا وإذَا من بينهم ذلك الشابُّ مكتملُ الجسمِ مديدُ القامةِ الذي ودَّعَهُ أصدقاؤه عشيّةَ البارحةِ وبيده نفسُ الحقيبةِ كما أَعَدّتْها له أمُّهُ...بمجرّدِ أنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ الأرضَ وانْتَبَه إ لِوُجُودِهِ الناسُ حتّى تَحَلَّقَ حوله خلقٌ كثيرٌ...سُؤالٌ وحيدٌ دَارَ في أذهانهم ونطقت به ألسنتهم.
_ لاَ باسْ...لا باسْ... مِشْك البارح سَافِرْت لَلْمَانِيا!؟
_ عَزَايِبْ...توَّ هَذَا يِزِي مِنُّو... باللهِ عَلِيكْ في ألمانيا أَسْكُون بَاسْ يُقُلّي يَرْحمْ الزّي.
حَيْرَةُ سي بكّار لَمْ تَنْقَطِعْ...لِمَاذا تَذكّر اليوم بالذّات هَذِهِ الحادثةَ التي مرّت عليها عُقُودٌ ؟ ما الذي شَدَّهُ اليوم إلى شخصيّةِ"الزّي"؟ اِسْتَعَاذ مِنَ الشيطان وَحَوّلَ عَيْنَيْهِ عَنِ "الزِّي" فَوَقَعَتا عَلَى عُنْوانٍ مِنْ عناوين الجريدةِ التي طواها منذ حين مكتوبٌ بخطٍّ أحْمَرَ غليظٍ" ثمانيةُ عشرَ "حارقا" مَفْقُودًا وعائلاتُ مُلْتَاعةٌ".
السيّد العلاّني
السيّد العلاّني
طَوَى سي بكّار الجريدةَ وَوَضَعها على يساره. ليس فيها ما يُغْري على اِسْتِعْجال مطالعتها. عناوينُ الصفحة الأولى لا تُنْبِئُ بفرحٍ قادمٍ... "شهائدُ علميّةٌ مُدَلّسة."..."شاحناتُ الموتِ تواصلُ نقْلَ العاملاتِ إلى ضيعاتِ كِبارِ مُلاّكِ الأراضي"...."غزّةُ تتعرّض إلى دمارٍ مقصودٍ"...."هِجْرةُ الكفاءاتِ العلميّةِ جرحٌ نازفٌ في جَسَدِ الوطن".... "ثَمَانِيَةُ عشر حاَرِقا مفقودا وعائلاتُ الضحايا ملتاعةٌ."..."مراكبُ الغَرَقِ تكثر في هذا الفصل"...."المِجْبري" يَرْفُضُ اللّعبَ في صفوف الفريق الوطني"....مَاذا يجري في عقولِ الناس هَذِهِ الأيّام؟...تفكيرِهم ...انفعالاتِهم ...آمالِهم... لاَ أَحدَ يعرف...عجزَأساتذةُ الجامعاتِ المُبَشِّرونَ بحياةٍ أَهْدأَ وَأَكْثَرَ رَخاءً وأوْفَرَ سعادةً عن تقديم الحُلول....اِحْصائيّاتُ الغَرْقَى والمفقودين تتزايد أرقامُها كلَّ يوم... بالأمس غرق أرْبعةٌ وعشرون شابّا على بعد أميالٍ من شواطئِ قرقنةَ...قبلها بيومين هَوَى قَارِبٌ بكلِّ مَنْ فِيه إلى قعر البحرِ... مأدبةً شهيّةً لحيتان تطلب المزيدَ مِنْ لَحْمٍ طَرِيٍّ.
ظلّ سي بكّار بائعُ الأحذيةِ في رأْسِ المَمَرّ الأعْلى مهمومًا بهذا ورُبّما بغيره أيضا...ليس في ما يرى فسحةٌ مِنْ طُمأنينة. لماذا اِسْتبدّت به الحيرةُ اليوم بالذات ؟ الصُّحُفُ السيّارةُ والأخبارُ اليوميّةُ في القنوات الإذاعيّة والتلفزيونِيّة العموميّة والخاصّة لا تنفكّ منذ أشهرٍ تُخْبِرُ عن حوادثِ الغرقِ والحَرْقةِ والتسفير...دُوَلُ ضَفَّتَيْ المتوسّط عاجزةٌ عن الوصول إلى حلولٍ لهذه المعضلة. فما الذي تغيّر بالنسبة إلى سي بكّار حتّى يهتمَّ كلَّ هذا الهمِّ اليوم ! لقدْ عايشَ آخِرَ أحداثِ معركةِ التحريرِ وبدايات بناء الدولة الوطنيّة في أوائل ستّينات القرن العشرين وَعَانى الفقرَ والجوعَ والجهلَ والمرضَ ولم يفكّرْ لا هُوَ و لا أخوه ولا أحدٌ من أبناء عمومته في الهجرة.... وَإِلاّ لِمَاذَا قاومْنا الاِسْتعمارَ واسْتَشْهد منّا مَنِ اِسْتَشْهَدَ واسترجعنا وطنَنَا...أَلِنَتَخَلّى عنه! لِمَنْ كلُّ هذهِ المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ التي ضحّت أجْيالُ مَا بَعْدَ الاستقلال من أجل تشييدها؟ رَوَاتِبُ للمدرّسين... مِنحٌ للطلبةِ... مُسَاعَدَاتٌ لِذَوي الهِمَمِ...إعاناتٌ للمعوزين...عَجَزَ عَقْلُ سي بكّار عن حلّ لغز الهجرة والتخلّي عن الوطن.... رَشَقَ مَنْكِبَهُ على سطح المنضدة التي أمامه وجعل ذِقْنَهُ بين سبّابته وإبهامهِ...هذهِ وَضْعِيّةٌ غيرُ مُرِيحَةٍ...بَسَطَ كَفَّه وأسْند إليه رأْسَهُ وفتح عَيْنيْه كأنّه يُرَكِّز في شيءٍ لايُبْصِرُهُ..."الزِّي" في رُكْنِه المَعرٌوفِ يُردِّدُ إحْدَى حِكَمِهِ الكثيرةِ..."اِحْمِدْ رَبِّي يَا لْمِتْعِدِّي ...غُدْوَى لاَ عَنْدِكْ لاَ عَنْدي"
"الزِّي"شخصيّةٌ بسيطةٌ، يعرفه الجميعُ بلا اسْتِثْنَاء، مَنْ لا يعرفُ "الزِّي" غريبٌ عن القيروان حتّى وإنْ كان مِنْ ساكنيها...علامةٌ مميّزةٌ ...لاَ لِأَنَّ لَهُ في الأدبِ بَاعًا أوْ في الصناعةِ ذِراعًا أوْ في التجارةِ سَعَةً. هُوَ رَجُلٌ عاديٌّ يَنْتَصِبُ كلّ يومٍ في ركنٍ من أركانِ تقاطع الممرّيْن الأعلى والأسفل مع السوقِ أَعْرَضِ شوارعِ المدينة العتيقةِ...فجرَ كلِّ يومٍ يدفع أمامه عربةً خشبيّةً مَطْليةً باللون الأزرق نصفُها الأسفلُ صندوقٌ خشبيٌّ مُعَمّى مُغْلقٌ لاَ يَفْتَحُ بابَه غيرُهُ ولا يَعْرِفُ أحدٌ ما بداخِلِهِ سواه أمّا نِصْفُها الأَعْلى فصندوقٌ من مربّعاتٍ بِلّوْريّةٍ تفصل بينها عوارضُ خشبيّة زرقاء اللون أيْضًا رتّب "الزِّي" داخلَه جِفَانًا بلّوْريَّةً هي الأخرى مَلَأَ أُولَاها بمعجون الجَزَرِ المطبوخِ المُتَبَّلِ بخليطٍ من فُلْفُلٍ أحمرَ حارٍّ وتَوَابِلَ لا يعرفُ مقاديرَها ونِسَبَها وأنواعَها إلاّ هُوَ وَمَلَأَ الثانيةَ بِقِطَعٍ من البطاطا المسلوقةِ أمّا التي تَلِيهَا فَبِمُقَطّعاتِ الخُضَارِ الفَصْلِيَّةِ والتي بعدها بمربّعات المُخلّلاتِ وحبّات الزيتون وأخرى بِلحْمِ التُّونَةِ المُصَبَّر أمّا الأخيرةَ فَبِزَيْتِ الزيتون. إنّه يبيع اللُّمْجَةَ الصباحيّةَ بأسعارٍ تلائمُ إمكانيّات العمّالِ الذين يَسْتَعْجِلُهم العملُ ويَحْرِمُهم الواجبُ من التمتّعِ بنوْمَةِ الفجرِ الدافئةِ فيَجِدُونَ عند "الزِّي" الكلمةَ الطيّبةَ واللُّمْجَةَ المُنَاسِبَةَ يلُفّها لهم في وَرَقٍ أبْيضَ نظيفٍ ويَنْصَرِفُونَ إلى أشغالهم....لاَ يَقْبِضُ منهم ثمنا مُحَدّدًا بل يدفعون ما يقْدِرون عليه من مالٍ يَدُسُّونه في حُقَّةٍ أفْرَغَها" الزِّي" ممّا كَانَ فيها مِن لحم التونة لهذا الغرض بالذات واسْتَنْبَطَ لهاغِطَاءًهوَ لَوْحٌ خشبيّ جَعَل في وسطه ثقبًا تُدَسُّ مِنْ خِلاله النقُودُ فَتَسَّاقَطُ إلى قعر الحقّة ويسمعُ لها رنينٌ يَعْرِفُ "الزّي" من صداه مقدارَها ويسمّيها "حكّةَ البركة".
قَبْلَ الظُّهْر بقليل يتوقّف عن العمل ويصدحُ بصوتٍ عَالٍ يسمعه كلُّ مَنْ في السوقِ" بَاتِ الرِّزْق" ثمّ ينعطف بعربته في الاتّجاه المعاكسِ يقطع بها نفسَ الطريقِ التي سَلَكَها عندَ الفجرِ..."الزَّرَارْعِيّة" فــ"باب تونس" فـــ"الرحيبة" فـــ"باب الرّكاب" فــ"ربط الزاوية" حيث يَغِيبُ هو وعَرَبَتُه عن الأبصار...حينها تبدأُ راحتُه اليوميّةُ بينما تدبّ في السوق حركةٌ أَلِفَهَا النّاسُ...يَنْهَضُ الصنّاعُ والتجّارُ عن مقاعدهم... فهذا يَرْمِي على مِشْغَلِهِ قطعةً من قماشٍ يغطّي بها أدواتِ عَمَلِه وذاك يُثَبِّتُ عُودًا خشبيّا يشدُّ به دفّتيْ بابِ دكُّانِه علامةً على أنّه سيعود بعد قليل والآخر يُوصِي صَبِيَّه بأنْ لا يغادر المحَلَّ قبل رجوعِه ويتوزّعُ جميعُهم على مساجد لا تفصل بينها إلاّ أمتارٌ قليلة " مسجد أبي ميْسرة" "مسجد السهيلي" " مسجد الحُصْري" مسجد المدرسة العَوَانِيّة" "مسجد الحَبَل" المسجد المُعَلّق". بَعْدَ صلاة الظُّهْر يعودون إلى ما كانوا فيه من شغلٍ في انتظار أذان العصر فيتكرّرُ المشهدُ ذاتُه.
أمّا "الزِّي" فبمجرّدِ أنْ يصلَ إلى مَسْكنه في الربض يُوثِقُ عَجَلَتَيْ عربته بسلسلةٍ حديديّةٍ اِقْتناها مع قُفْلِهَا لهذا الغرضِ بالذات وَيرصِّفُ جِفانَه الواحدةَ في قلبِ الأُخرى ويدخُلُ بها إلى البيت فلا يخرجُ منه إلاّ بعد المغرِبِ حين تكاد حركةُ السوق أنْ تنعدِمَ فلا يراه إلاّ القليلُ من الناس. مَا الغريبُ في كلِّ ذلك؟ فهذه مَشَاهِدُ مأْلوفةٌ تتكرّرُ كلّ يومٍ. نَفْسُ الأشخاص نَفْسُ الحركاتِ نفس الكلماتِ يردّدونها في نفس التوقيت تقريبا. فما الذِّي شدّ اليوم سي بكّار إلى شخصيّة "الزّي"! فــَـ"زِي" اليوم هو نفسُه "زِي" البارحة وكلّ الأيّام السابقة. حركاتٌ رتيبةٌ يُكَرِّرُهَا مئات المرّات في اليومِ الواحدِ. سكّينٌ حادٌّ يشْطُر به الخبزةَ إلى نصفين متساويَيْن ثمّ يغرسُ ذُبَابَتَهُ في قلبِ أحدِهما ويجرّه مُحْدِثًا فيه خَرْقًا عَميقًا وبملعقةٍ وَحِيدةٍ يطوفُ بها على جميع جِفانِه الواحِدةِ تلْوَ الأُخْرى يَنْقُلُ بعْضَ حَشْوَةِ اللُّمْجةِ التي يلُفّها ويُسلّمها لطالبها مردّدا حكمته المعهودةَ "القَلْب الحَيْ مَا يُصعب عليه شَيْ". في الأمر سرّ. حيْرةُ سي بكّار اليوم ليست عاديّة....أنْ يعجزَ عنْ فهم ما يجْرِي في عقولِ شبابِ اليوم أمرٌ لا ينْفرد به دون خَلْقِ اللّه أمّا لماذا انشدَّ إلى شخصيّةِ "الزِّي" فهذا مَا لَمْ يَقْبَلْهُ من نفسه.... السُّؤالُ أُولى عَتَبَاتِ الفهم. هذا ما كان يلِحُّ عليه أستاذُ الفلسفةِ بالحي الزيتوني الذي أصبح يُسَمّى المعهدَ المختلطَ ابن رشيق ورغم أنّه يكره الفلسفةَ لأنّها حالت دونه والنجاحَ في شهادة الباكالوريا إلاّ أنّه اليوم يَرْغَب في اختِبَار منهجِها...تساءلَ ما السرّ الذي تُخْفِيه شخْصيّةُ "الزِّي"؟ لاَ شيْءَ على ما يعلم...هو أكبرُ أبناءِ " الزّيلاني عزّام" فالجيم يَنْطِقُها زايًا والشين سِينًا وبسببِ ذلك يناديه الناسُ بــِ"الزِّي" الحرفِ الأوّلِ من اِسْمِ والدِه كما ينطقه هو.... وما من مارّ أمام عربته إلاّ ويترحّمُ على والِدِه بصوتٍ عالٍ "يرحم "الزِّي" فيردّ هو بلهجةٍ مشحونةٍ عاطفةً وصدقا " يرحم علي" "يرحم مختار" "يرحم الصادق" "يرحم يِحْيَى". إنّه يعرفُ أسماءَ أباءِ كلِّ من يترحّم على" الزِّي" أبيه...فَـعَادَةُ أهْلِ القيروان أنْ يترحّموا على آباء بعضِهم البعضِ بمناسبة وبغيْر مناسبة. وبطول المعاشرة يتعرّف الجميعُ على أسماء أباء الجميع بل وأسماء أمّهاتهم أيضا..."الزِّيلاني" أبو "الزِّي" رجلٌ رقيقُ الحال...عاملٌ يوميّ يتنقّل بين حضائر البناء...قد تمرّ أيّامٌ دون عملٍ ودون أُجرةٍ فلا يَمُدُّ يدًا ولا يُطَأْطِئُ رأْسًا...يتّصلُ بأصحاب البساتين الفلاحيّةِ التي تحيط بمدينة القيروان يستأْذِنهم في قَطْعِ بعضِ البَقْدونس والسَّلْقِ والسَّبَانِخِ ... يجمعه في حِزَمٍ متساويةٍ... يَرْصُفُهَا فوق "بِرْويطة" من حديدٍ ذاتِ عجلةٍ وحيدةٍ... يجول بها في الأسواق وداخِلِ الأحياء... يبيع الحِزَمَ بملاليمَ معدودةٍ يقدِّمُها آخِرَ الصباح إلى صاحب البستان فيدْفَعُ له منها نصيبًا ويسمح له برفع بعضِ حِزمٍ يعود بها إلى أهْلِ بيته يطبخونها طعام يومهم.
ظلّتْ عَيْنَا سي بكّار تُرَاوِحُ بين الجريدة الملقاةِ على المنضدة و "الزِّي" الذي تتحرّك ملعقتُه اللَمّاعةُ بين جفانه كراقصةِ بَالِي تؤَدّي على قدَمٍ واحدةٍ رقصةً موقّعةً...عَيْنَاهُ من الجريدةِ إلى "الزِّي" لكنّه لاَ يبصِرُ شيئا...هو الآن ليس هنا...هو في أوائلِ ستّينات القرنِ الماضي هناك في مقهى "روك" مع صديقه عمُرْ.
_ آشْ فمّا يا بكّار...عَفْس و رَفْس قدّام حانوت يوسف المصوّر
_ إِحَظّرُو في جوازات السفرْ ياعمرْ...باش إِهزّوهم يِخْدمُو في أوربّا
_ باللّهِ باللّهْ
_ واللّهِ واللّهْ
من خلال بلّوْرِ النافذةِ المطِلَّةِ على الشارع الكبير شاهد عمر صفًّا طويلاً من شبابٍ قَدِمُوا مِنْ كلِّ جهات الولاية يتزاحمون أَمَامَ دكّانِ المصوّر الوحيدِ في القيروان... دكّانٌ آلَ بكلِّ مافيه إلى "سي يوسف" بعْدَ الاستقلالِ إثْر عَوْدَةِ صاحِبِه "شارل" إلى فرنسا الذي تخلّى عنه لفائدة صانعه" يوسف"...وقف "بكّار" أمام النافذةِ إلى جانب عمر يتأمّلُ المشهدَ...جمعٌ غفيرٌ مِنْ شبابِ لا تهدأ لهم حركةٌ يتدافعون... البعضُ يَسْتَعْجِل المثولَ أمام عدسة التصوير والبعضُ في شغفٍ يترقّبُ تَسَلُّمَ صُوَرِهِ التي وعد "سي يوسف أنّها تكونُ حاضرة بعد يوميْن على الأقلّ من التقاطِ الصورةِ... كان من بين الواقفين شابٌّ في مقتبل العمر، مكتملُ الجسم، مديدُ القامة يحظى عند الجميع بحظوةٍ خاصّةٍ...الكلّ يُحيّيه ويُكلّمه فيردّ هو مبتسما...يُصافح القريبَ منه ويلوّح بِيُمْنَاهُ لِمَن حال الزِّحامُ مِنَ الوصول إليه....اِستخراجُ جوازِ سفرٍ يتطلّبُ كثيرا من الصبر وَسعةِ البال...صُوَرٌ فوتوغرافيّة بمعاييرَ محدّدةٍ...مَضْمُونُ وِلادةٍ لم يمضِ على استخراجه إلاّ كذا من الوقت...بطاقةُ سوابقَ عدليّةٌ حديثةٌ ...بِطاقةُ تعريفٍ وطنيّةٍ...شَهادَةٌ في ثُبُوتِ الجِنْسِيّةِ...وَكَيْ يكتملَ ملفُّ الهجرة لابدَّ من إضافة شهادةٍ طبيّةٍ مسلّمة من مؤسّسةٍ عموميّةٍ من الأفضلِ أنْ تكونَ محرّرةً بلغة البلد الأورُبّي المقصود.
اِستغرق الاستعدادُ للسفر إلى الضفّة الشماليّة للبحْرِ المتوسّطِ أسابيعَ متتاليةً لا حديثَ فيها إلاّ على الهجرةِ والمهاجرين والحياةِ الرّخيّةِ التي تنتظرهم...والحرّيّةِ المرتقبةِ التي سَتَفُكّ عنهم قُيُودَ الرّقابةِ الاجتماعيّةِ الصارمةِ...سيكون بإمكانهم اِحْتِسَاءُ قنّينةِ خمرٍ أو قارورةِ بيرّةٍ أصْليّة بلا خَوْفٍ ولاَ تَخَفٍّ...ستتحرّر أجسادهُم مِنْ كَبْتٍ قاهرٍ...ستتبدّلُ هذه الوجوهُ السمراءُ الكاَلِحَةُ بوجوهٍ بَيْضاءَ ناعمةٍ ذاتِ عيونٍ زرقاء زرقةَ شَاطِئٍ هادئٍ يُغْرِي على العَوْمِ...ستمتلئ أيْديهم بالأموالِ وَ سَيَشْترونَ ملابسَ جديدةً... وَسَيَسْتَعِيضُون عن برانِسِهم الرثّةِ بمعاطفَ من صوفٍ ليّنٍ...وسَيَلْبَسُون بُدْلاتٍ تحتها أَقْمِصةٌ كَامِلةُ الأزْرارِ يُزَيّنُونَ ياقاتِها البيضَ بِـرَبْطاتِ عُنُقٍ...بذلَ الآباءُ جُهْدًا غيرَ قليل لتوفير ما يلزم للغُربةِ وَ تفنّنت الأمّهاتُ في إعدادِ مؤونةٍ تلائمُ الخَزْنَ..."بسيسة... حَلَالم...ملوخيّة...قدّيد...بنادق من لحم العُجولِ...وخُبْزَاتٌ صغيراتٌ جَوَّدْنَ عَجْنَها وعَرْكَها وأَوْصَينَ خبّازَ الحيِّ بِإِنضاجها كما يُنْضَجُ خبزُ الحجيجِ...
حلّ يومُ السفر... الحافلةُ التي سَتُقِلُّهُم إلى مِيناء العَاصِمَةِ متوقّفةٌ في ساحة باب الجلاّدين...حضر لِتوْديعهم خَلْقٌ كثيرٌ...جلبة وضوضاء غير عاديَيْن وَعَلَا على كلّ الأصواتِ صوتٌ "لِـسْم والأدْريسة بالسوري علْ الفاليجة بكْتِيبَة واضحة"...عِنَاقٌ وَقبلاتٌ ودموعٌ... الجميعُ يودّع الجميعَ إلاّ ذلك الشابُّ مكتملُ الجسم مديدُ القامة الذي يتمتّعُ عند الجميع بحظْوةٍ خاصّةٍ فلم يودّعه أحدٌ من أهله. فأبوه مات منذ سنتين وأمّا أمُّه فقد ألحّ عليها شبابُ الحيّ بأن تبقى في بيتها صحبة ابْنَتَيْها وسيقومون هم بواجب مرافقةِ صديقِهم إلى الحافلة والاطمئنان عليه ولن يتخَلّوا عنه قبل أنْ يمتطيَ الحافلةَ وَسيعودون لطمأنتها هيَ أيضًا. فَاكْتفت الأمُّ بِدَفْقِ سَطْلِ ماءٍ عَقِبَهُ فالماءُ أمانٌ وسلام وَ دَعَت له بالتوفيق...
أطلقت الحافلةُ صافراتٍ ثَلاثًا لتُخْليَ الطريقَ أمامَها ثمّ تحرّكت إلى الأمام فارْتَفعت أيدي المُوَدّعين تلوِّحُ بمناديل بيضاء جاءوا بها خِصّيصًا لهذه اللحظة الفارقة ومَنْ سَهَا عَن احْضَارِ منديلٍ خَلَعَ شاشيتَه وَلَوّحَ بها في الفضاء فَعَمَّ ساحةَ بابِ الجلاّدين لَوْنَانِ أحمرُ وأبيضُ مثلما كانا يعُمّانها أيّام الحركةِ الوطنيّةِ...تاقت العيونُ إلى البكاءِ لولا عاداتُ مجتمعٍ ذُكُوريٍّ تقضي بِتَصنُّعِ جَلَدٍ رُجُوليٍّ زائفٍ....سادَ المكانَ سُكُونٌ ثقيلٌ...مَأْتمٌ بِلَا مَيّتٍ وَلاَ عزاءٍ...تسلَّلَ الناسُ إلى داخلِ المدينةِ في تثاقلٍ وَصَمْتٍ مُفْزِعيْن...شَبَابٌ في عِزِّ العَطَاءِ تركوا عائلاتِهم وغادروا مواطنَهم وفارقوا أحبابَهم إلى بلدانٍ لا يعرفون عنها شيئا سوى معلوماتٍ ضئيلةٍ حَصَلُوا عليها أثناء حصصِ التاْ هيل التي نظّمتها لهم الإدارةُ التونسيّةُ في الأسبوع الأخير قبل الرحيل..هلْ وصلت الحافلةُ إلى ميناء تونس في الموعد المضبوط ؟ هل انطلقت الباخرةُ في ساعتها المحدّدةِ ؟ متى ترسو في مرافئِ أَروبّا ؟ ومَتَى سَيتقاضون أوّلَ أُجورِهم ؟ وكيف سينامون؟ وأين سَيَسْكُنون؟ وَهَلْ؟ وَلماذا؟ وَلِمَ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تنوّعت صِيَغُها أَقَضّتْ ليلَتَها مضاجعَ عائلات المهاجرين.
من الغدِ في الصباح الباكرِ اِسْتَيْقَظَت القيروانُ كعادتها على رائحة الفطائر المَقْلِيّة والخبزِ الناضجِ وَتَوَافد الشيّالون على ساحة باب الجلاّدين في انتظار وصول الحافلة من تونس...فقد كانَ حِرَفِيّو القيروان يُتقنون صناعة "الكنترة" و"البلغة" والغرابيل ومقابضِ الأدوات الفلاحيّة يَنْحَتُونَها من حَطَبِ الزيتون كَمَا كانوا يبدعون في نسج الأغطية الصوفيّة ويلفّونها في أكياسٍ يرصفها الشيّالون بعنايةٍ فوق سطح الحافلة ليتسلّمها تجّارُ العاصمة لِبَيْعِها في أسواقهم المسقوفةِ حيث لا تنقطعُ حركةٌ ولا تَكْسِدُ تجارةٌ...وصلت الحافلةُ وأطلقت صفّاراتِها لإخْلاءِ مَكانِ رُكونِها... ثمّ توقّفت تماما وسكنَ محرّكُها و اِنْفَتَحَ بابُها الأماميُّ وَبَدَأَ ركُّابُها في النزول وَاحدًا فَوَاحدًا وإذَا من بينهم ذلك الشابُّ مكتملُ الجسمِ مديدُ القامةِ الذي ودَّعَهُ أصدقاؤه عشيّةَ البارحةِ وبيده نفسُ الحقيبةِ كما أَعَدّتْها له أمُّهُ...بمجرّدِ أنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ الأرضَ وانْتَبَه إ لِوُجُودِهِ الناسُ حتّى تَحَلَّقَ حوله خلقٌ كثيرٌ...سُؤالٌ وحيدٌ دَارَ في أذهانهم ونطقت به ألسنتهم.
_ لاَ باسْ...لا باسْ... مِشْك البارح سَافِرْت لَلْمَانِيا!؟
_ عَزَايِبْ...توَّ هَذَا يِزِي مِنُّو... باللهِ عَلِيكْ في ألمانيا أَسْكُون بَاسْ يُقُلّي يَرْحمْ الزّي.
حَيْرَةُ سي بكّار لَمْ تَنْقَطِعْ...لِمَاذا تَذكّر اليوم بالذّات هَذِهِ الحادثةَ التي مرّت عليها عُقُودٌ ؟ ما الذي شَدَّهُ اليوم إلى شخصيّةِ"الزّي"؟ اِسْتَعَاذ مِنَ الشيطان وَحَوّلَ عَيْنَيْهِ عَنِ "الزِّي" فَوَقَعَتا عَلَى عُنْوانٍ مِنْ عناوين الجريدةِ التي طواها منذ حين مكتوبٌ بخطٍّ أحْمَرَ غليظٍ" ثمانيةُ عشرَ "حارقا" مَفْقُودًا وعائلاتُ مُلْتَاعةٌ".
السيّد العلاّني