حسب النظرية الخلدونية للنشوء والارتقاء، ثم تراجع وأفول الحضارات، فإنّ عناصر القوة الطاغية المهيمنة، هي التي تحمل فيها بذور الانهيار والاندثار
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
أظهر الاستعمال المفرط والظالم لحق الفيتو، ثلاث مرات في ظرف وجير من طرف أمريكا، مدى السقوط الأخلاقي للغرب ، المتحكم في المنتظم الأممي، العاجز مؤسساتيا وعملياتيا وأخلاقيا عن منع محرقة وهُولُوكُوسْت يتعرض له الشعب الفلسطيني، أمام أعين الجميع.
كما بينت الأحداث في هذه الحرب وخلال السنوات القليلة الماضية ، أن الغرب الصناعي المهيمن، سائر نحو حتفه ونهايته في المستقبل المنظور. وهي نهاية ستأتي من الداخل بثورات وحروب أهلية ودعوات انفصالية في دوله، شاهدنا مظاهرها العنيفة في الولاية الأولى للرئيس الشعبوي الأمريكي دونالد ترامب، من رفض تسليم السلطة سلميّا واحتلال برلمان الكونجرس من الأتباع المتعصبين. وهو أمر قد يتفاقم مع الولاية الثانية المرتقبة لترامب. وقد يتفاقم الأمر في كلتا الحالتين، في صورة إعادة انتخاب الرئيس المباشر "جو بايدن" المتقدم في السن حد خرف الشيخوخة والعجز عن الحكم الناجز لقوة عظمى في العالم، مما يحوّل أمريكا إلى "رجل مريض" في المعترك الدولي، بعد أن ظلت مهيمنة على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثم سقوط الاتحاد السوفياتي .
نفس الوضع المتهالك تعيشه القوة الثانية العجوز وهي أوروبا التي تمزقها الخلافات داخل لجنة بروكسال وداخل البرلمان الأوروبي. وقد ظهر عجزها الكبير وهروبها إلى الأمام في الحرب التي نشبت في قلب أوروبا، وهي الأزمة الأوكرانية التي أظهرت هشاشة البناء الأوروبي وتبعيته الكاملة لقوة أمريكا. كما أظهر النزاع مع روسيا ضعف المؤسسات الأمنية والعسكرية لدول الاتحاد، العاجزة عن مواجهة حروب داخلية مرتقبة أو مواجهة هجوم من الخارج، حيث تبين أن ميزانيات الدفاع في دولها، هي دون المطلوب لدفاع كل بلد عن ترابه . ولكن أوروبا تبدو عاجزة عن زيادة نفقاتها العسكرية، وهي المتعوّدة علي اقتصاد السلم والتجارة. بل إن مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بمئات مليارات "اليوروهات" في مواجهة روسيا قد أضرت اقتصادياتها، وفاقمت مستوى عيش السكان لديها بسبب التضخم واتساع الفقر إلى الطبقات المتوسطة، عمود الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.
الهزيمة المتوقعة
في كتابه الأخير "هزيمة الغرب" للمفكر والكاتب الفرنسي إيمانويل تُودْ، الصادر هذه السنة، يتحدث المؤرخ فيه عن "هزيمة" الحلف الأطلسي في أوكرانيا، مؤكّدا أنّ هذه الهزيمة العسكرية تشي بهزيمة القيم الاعتبارية والفكرية والأخلاقية التي مثلت السلاح الأساسي للغرب الذي حكم به العالم على مدى القرون الخمسة الأخيرة، والتي بدأها بفكر العقل اليوناني والإنسانية في حركة النهضة التي خرج بها من غياهب القرون الوسطي الإنحطاطية ، وذلك منذ اكتشاف أمريكا وسقوط الحضارة الإسلامية المهيمنة وقتها بسقوط غرناطة في نفس العام 1492.
ويعتقد تودْ، في كتابه أن "الغرب قد استقر مسيطرا إلى اليوم، حتّى أصبح عاجزا عن رؤية أية فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته"، لذلك كان عاجزا ، كما يقول، حتى عن قراءة الأرقام والتحاليل العلمية التي تنتجها مؤسساته البحثية. وهذا هو العمى الحضاري الذي تصاب به الحضارات في أواخر أيامها، كما بينه العلامة بن خلدون في مقدمته، يجعل نهاية الدول والممالك تكون عادة بانشغال مركز الحكم النرجسي باللذات والبذخ وترهل عصبية الحكم فيه حتى الاضمحلال والتردي، ولا يعطي بالتالي أهمية لمؤشرات حيوية الأطراف ذات العصبية القوية والشكيمة والبأس الشديد حتى تجاسُر الهجوم الصاعق على المركز وإسقاط الدولة المترنحة . وهذا الأمر لوحظ في كل الحضارات، ويلاحظ اليوم في القوى الصاعدة لأطراف المركز الأورو/ أمريكي، في الوقت الذي توجد فيه أوروبا في وضع "الرجل المريض في بروكسال" الشبيه بوضع تركيا العثمانية في القرن الماضي ، ذلك " الرجل المريض في الآستانة" الذي طالما تندّرت به الصحافة والكتابات التاريخية الأوروبية . وهذه الأيام خصص تلفزيون "بي بي سي" عربي الحكومي البريطاني، ملفّا موقوتا عن ذكرى مرور مائة عام على سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، متحدثة بإسهاب تهكمي توثيقي عن ما تسميه الصحافة الغربية وكتّابُها ب"الرجل المريض في الآستانة" . ونسيت تلك الصحافة الأوروبية كلها رجلها المريض الجديد الراقد في سرير الإنعاش في بروكسال والخاضع لكل الابتزازات من الشرق والغرب، مع صيرورة أمريكا التدريجية نحو الحتف المنتظر، وقد فقدت أخيرا مرتبة الريّادة في اقتصاد العالم وتجارته منذ قرن، لفائدة القوة العظمي الأولي اقتصاديا وهي الصين الهادئة وغير المستعجلة لحكم العالم بحكمة واعتدال، بعيدا عن النزعة العسكرانية الحربية للغرب الموروثة عن إمبراطورية روما قديما وحديثا .
وعموما، وحسب النظرية الخلدونية لنشوء وارتقاء، ثم تراجع وأفول الحضارات، فإنّ عناصر القوة الطاغية المهيمنة، هي التي تحمل فيها بذور الانهيار والاندثار. وهكذا كان الأمر في الحضارات الرومانية والقرطاجية والإسلامية : فالولايات المتحدة الأمريكية تنفق حاليا بسخاء على قوتها العسكرية الضاربة التي تمثل ميزانيتها لعام 2024 ثمانمائة مليار دولار، نصف نفقات التسلح في العالم ، وهو الأمر الذي ينهك القوة العظمى، إذا لم يكن لها قصب الريادة في الاقتصاد والتجارة ونهب ثروات الآخرين وهو واقع الحال اليوم عام 2024 وما يتلوها بظهور القوى الإقليمية الناهضة لدول البريكس ( الصين والهند وروسيا وإفريقيا الجنوبية ومصر والسعودية والبرازيل والإمارات وإيران)، إضافة إلى عشرين دولة أخري مترشحة للانضمام للنادي الجديد. وهي دول كلها دول تسيطر علي مصادر الطاقة النفطية والغازية والشمسية وباقي المواد الأولية، وتسعى إلى توظيفها لفائدة قوّتها ومصالح شعوبها وهي تبيعها ليس بالدولار أو الاورو، بل بالعملات الوطنية الناشئة، وهي الروبل الروسي واليَانْ الصيني ، في سبيل ظهور عالم متعدد الأقطاب.
الهزيمة الأخلاقية
لقد هُزم الغرب أخلاقيا في كل الحروب التي شنها خلال القرن الماضي، ويسعي جاهدا الآن عبر أداة الحلف الأطلسي إلى إحيائها ، كما كان في السابق حلفا أوروبيّا ضد الخلافة العثمانية منذ قرون. وها هو اليوم يساند أعْتى الأنظمة الديكتاتورية والفاشية وهي إسرائيل حيث ماتت الإنسانية في ضمير المجموعة الدولية وعجزت الدول الكبرى والمنظمات الأممية عن لجم الكيان الصهيوني عن مواصلة مجازره البشعة في فلسطين غزة والضفة الغربية على حد السواء، التي تحوّلت إلى محتشد مفتوح كما في محتشد أوْشْفِيتْيسْ النازي لليهود القتلى في بولونيا خلال الحرب العالمية الثانية .
موت الإنسانية الغربية
يأتي هذا الفشل التاريخي المتجدد في مجال احترام القيم الإنسانية التي أقام عليها الغرب حضارته الحالية ، ليدق مسمارا إضافيا في نعش الغرب المريض في مجال احترام القيم الإنسانية منذ القرن الخامس عشر مع الفيلسوفين إيراسْموس وتوماس مُور. وهي القيم التي ظلت تقوم عليها أدبيات الإنسانية وفكر الأنوار لاحقا في أوروبا ثم أمريكا . ولكن قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية بشكلها الكوني الأوروبي الأمريكي، أصبحت مبتذلة ولا قيمة اعتبارية لها. وكانت تستعملها بلدان الغرب لإسقاط الأنظمة السلطوية أو الديكتاتورية المناوئة لها . ولكن صعود القوى الشعبوية والقوي المتطرفة والعنصرية في الغرب الديمقراطي الإنساني، جعل الشعوب تبحث عن نموذجها الخاص في إدارة شؤون الحكم، بعيدا عن الديمقراطية المحنّطة في أوروبا وأمريكا، التي تواجه نفسها سكرات الموت والاحتضار الديمقراطي، كما يبينه صعود التيارات اليمينية المتطرفة والعنصرية القاتلة لها ولروح الديمقراطية، في كامل أرجاء أوروبا الشرقية والغربية علي حد السواء، وذلك في كل من ايطاليا وهولندا والنمسا والمجر وبولونيا والسويد، في حين يتهدد فرنسا وألمانيا خطر صعود مرتقب لليمين المتطرف، بعد فشل قوى اليمين واليسار التقليدي في الوصول إلى الحكم أو الحفاظ عليه. وهي كلها حكومات متطرفة في معاقل الديمقراطية سابقا ، تنادي بطرد المهاجرين والعودة إلي نموذج مجتمعي محافظ رافض لحقوق المرأة والمساواة وحق الإجهاض والطلاق واحترام الأقليات. وهو نموذج يحاكي تلك المجتمعات الأوروبية التي كانت قائمة طوال القرون الوسطي، وكانت أحد مظاهر الانحطاط الأوروبي في مجتمعات كانت تسيطر عليها الكنيسة وقوى الإقطاع الاقتصادي والتخلف الفكري والمادي. في تلك القرون التي كانت فيها الحضارة العربية الإسلامية هي المسيطرة والمهيمنة والمزدهرة بالعلوم والطب والفلسفة وعلوم الفلك والحريات العامة والخاصة وحرية الفكر والعقل والإبداع، قبل أن تداهمها سُنّة التداول الحتمي التاريخي للحضارات، كما أبانها العلامة عبد الرحمان بن خلدون، باعث علم التاريخ والاجتماع والعمران البشري.
حسب النظرية الخلدونية للنشوء والارتقاء، ثم تراجع وأفول الحضارات، فإنّ عناصر القوة الطاغية المهيمنة، هي التي تحمل فيها بذور الانهيار والاندثار
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
أظهر الاستعمال المفرط والظالم لحق الفيتو، ثلاث مرات في ظرف وجير من طرف أمريكا، مدى السقوط الأخلاقي للغرب ، المتحكم في المنتظم الأممي، العاجز مؤسساتيا وعملياتيا وأخلاقيا عن منع محرقة وهُولُوكُوسْت يتعرض له الشعب الفلسطيني، أمام أعين الجميع.
كما بينت الأحداث في هذه الحرب وخلال السنوات القليلة الماضية ، أن الغرب الصناعي المهيمن، سائر نحو حتفه ونهايته في المستقبل المنظور. وهي نهاية ستأتي من الداخل بثورات وحروب أهلية ودعوات انفصالية في دوله، شاهدنا مظاهرها العنيفة في الولاية الأولى للرئيس الشعبوي الأمريكي دونالد ترامب، من رفض تسليم السلطة سلميّا واحتلال برلمان الكونجرس من الأتباع المتعصبين. وهو أمر قد يتفاقم مع الولاية الثانية المرتقبة لترامب. وقد يتفاقم الأمر في كلتا الحالتين، في صورة إعادة انتخاب الرئيس المباشر "جو بايدن" المتقدم في السن حد خرف الشيخوخة والعجز عن الحكم الناجز لقوة عظمى في العالم، مما يحوّل أمريكا إلى "رجل مريض" في المعترك الدولي، بعد أن ظلت مهيمنة على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثم سقوط الاتحاد السوفياتي .
نفس الوضع المتهالك تعيشه القوة الثانية العجوز وهي أوروبا التي تمزقها الخلافات داخل لجنة بروكسال وداخل البرلمان الأوروبي. وقد ظهر عجزها الكبير وهروبها إلى الأمام في الحرب التي نشبت في قلب أوروبا، وهي الأزمة الأوكرانية التي أظهرت هشاشة البناء الأوروبي وتبعيته الكاملة لقوة أمريكا. كما أظهر النزاع مع روسيا ضعف المؤسسات الأمنية والعسكرية لدول الاتحاد، العاجزة عن مواجهة حروب داخلية مرتقبة أو مواجهة هجوم من الخارج، حيث تبين أن ميزانيات الدفاع في دولها، هي دون المطلوب لدفاع كل بلد عن ترابه . ولكن أوروبا تبدو عاجزة عن زيادة نفقاتها العسكرية، وهي المتعوّدة علي اقتصاد السلم والتجارة. بل إن مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بمئات مليارات "اليوروهات" في مواجهة روسيا قد أضرت اقتصادياتها، وفاقمت مستوى عيش السكان لديها بسبب التضخم واتساع الفقر إلى الطبقات المتوسطة، عمود الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.
الهزيمة المتوقعة
في كتابه الأخير "هزيمة الغرب" للمفكر والكاتب الفرنسي إيمانويل تُودْ، الصادر هذه السنة، يتحدث المؤرخ فيه عن "هزيمة" الحلف الأطلسي في أوكرانيا، مؤكّدا أنّ هذه الهزيمة العسكرية تشي بهزيمة القيم الاعتبارية والفكرية والأخلاقية التي مثلت السلاح الأساسي للغرب الذي حكم به العالم على مدى القرون الخمسة الأخيرة، والتي بدأها بفكر العقل اليوناني والإنسانية في حركة النهضة التي خرج بها من غياهب القرون الوسطي الإنحطاطية ، وذلك منذ اكتشاف أمريكا وسقوط الحضارة الإسلامية المهيمنة وقتها بسقوط غرناطة في نفس العام 1492.
ويعتقد تودْ، في كتابه أن "الغرب قد استقر مسيطرا إلى اليوم، حتّى أصبح عاجزا عن رؤية أية فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته"، لذلك كان عاجزا ، كما يقول، حتى عن قراءة الأرقام والتحاليل العلمية التي تنتجها مؤسساته البحثية. وهذا هو العمى الحضاري الذي تصاب به الحضارات في أواخر أيامها، كما بينه العلامة بن خلدون في مقدمته، يجعل نهاية الدول والممالك تكون عادة بانشغال مركز الحكم النرجسي باللذات والبذخ وترهل عصبية الحكم فيه حتى الاضمحلال والتردي، ولا يعطي بالتالي أهمية لمؤشرات حيوية الأطراف ذات العصبية القوية والشكيمة والبأس الشديد حتى تجاسُر الهجوم الصاعق على المركز وإسقاط الدولة المترنحة . وهذا الأمر لوحظ في كل الحضارات، ويلاحظ اليوم في القوى الصاعدة لأطراف المركز الأورو/ أمريكي، في الوقت الذي توجد فيه أوروبا في وضع "الرجل المريض في بروكسال" الشبيه بوضع تركيا العثمانية في القرن الماضي ، ذلك " الرجل المريض في الآستانة" الذي طالما تندّرت به الصحافة والكتابات التاريخية الأوروبية . وهذه الأيام خصص تلفزيون "بي بي سي" عربي الحكومي البريطاني، ملفّا موقوتا عن ذكرى مرور مائة عام على سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، متحدثة بإسهاب تهكمي توثيقي عن ما تسميه الصحافة الغربية وكتّابُها ب"الرجل المريض في الآستانة" . ونسيت تلك الصحافة الأوروبية كلها رجلها المريض الجديد الراقد في سرير الإنعاش في بروكسال والخاضع لكل الابتزازات من الشرق والغرب، مع صيرورة أمريكا التدريجية نحو الحتف المنتظر، وقد فقدت أخيرا مرتبة الريّادة في اقتصاد العالم وتجارته منذ قرن، لفائدة القوة العظمي الأولي اقتصاديا وهي الصين الهادئة وغير المستعجلة لحكم العالم بحكمة واعتدال، بعيدا عن النزعة العسكرانية الحربية للغرب الموروثة عن إمبراطورية روما قديما وحديثا .
وعموما، وحسب النظرية الخلدونية لنشوء وارتقاء، ثم تراجع وأفول الحضارات، فإنّ عناصر القوة الطاغية المهيمنة، هي التي تحمل فيها بذور الانهيار والاندثار. وهكذا كان الأمر في الحضارات الرومانية والقرطاجية والإسلامية : فالولايات المتحدة الأمريكية تنفق حاليا بسخاء على قوتها العسكرية الضاربة التي تمثل ميزانيتها لعام 2024 ثمانمائة مليار دولار، نصف نفقات التسلح في العالم ، وهو الأمر الذي ينهك القوة العظمى، إذا لم يكن لها قصب الريادة في الاقتصاد والتجارة ونهب ثروات الآخرين وهو واقع الحال اليوم عام 2024 وما يتلوها بظهور القوى الإقليمية الناهضة لدول البريكس ( الصين والهند وروسيا وإفريقيا الجنوبية ومصر والسعودية والبرازيل والإمارات وإيران)، إضافة إلى عشرين دولة أخري مترشحة للانضمام للنادي الجديد. وهي دول كلها دول تسيطر علي مصادر الطاقة النفطية والغازية والشمسية وباقي المواد الأولية، وتسعى إلى توظيفها لفائدة قوّتها ومصالح شعوبها وهي تبيعها ليس بالدولار أو الاورو، بل بالعملات الوطنية الناشئة، وهي الروبل الروسي واليَانْ الصيني ، في سبيل ظهور عالم متعدد الأقطاب.
الهزيمة الأخلاقية
لقد هُزم الغرب أخلاقيا في كل الحروب التي شنها خلال القرن الماضي، ويسعي جاهدا الآن عبر أداة الحلف الأطلسي إلى إحيائها ، كما كان في السابق حلفا أوروبيّا ضد الخلافة العثمانية منذ قرون. وها هو اليوم يساند أعْتى الأنظمة الديكتاتورية والفاشية وهي إسرائيل حيث ماتت الإنسانية في ضمير المجموعة الدولية وعجزت الدول الكبرى والمنظمات الأممية عن لجم الكيان الصهيوني عن مواصلة مجازره البشعة في فلسطين غزة والضفة الغربية على حد السواء، التي تحوّلت إلى محتشد مفتوح كما في محتشد أوْشْفِيتْيسْ النازي لليهود القتلى في بولونيا خلال الحرب العالمية الثانية .
موت الإنسانية الغربية
يأتي هذا الفشل التاريخي المتجدد في مجال احترام القيم الإنسانية التي أقام عليها الغرب حضارته الحالية ، ليدق مسمارا إضافيا في نعش الغرب المريض في مجال احترام القيم الإنسانية منذ القرن الخامس عشر مع الفيلسوفين إيراسْموس وتوماس مُور. وهي القيم التي ظلت تقوم عليها أدبيات الإنسانية وفكر الأنوار لاحقا في أوروبا ثم أمريكا . ولكن قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية بشكلها الكوني الأوروبي الأمريكي، أصبحت مبتذلة ولا قيمة اعتبارية لها. وكانت تستعملها بلدان الغرب لإسقاط الأنظمة السلطوية أو الديكتاتورية المناوئة لها . ولكن صعود القوى الشعبوية والقوي المتطرفة والعنصرية في الغرب الديمقراطي الإنساني، جعل الشعوب تبحث عن نموذجها الخاص في إدارة شؤون الحكم، بعيدا عن الديمقراطية المحنّطة في أوروبا وأمريكا، التي تواجه نفسها سكرات الموت والاحتضار الديمقراطي، كما يبينه صعود التيارات اليمينية المتطرفة والعنصرية القاتلة لها ولروح الديمقراطية، في كامل أرجاء أوروبا الشرقية والغربية علي حد السواء، وذلك في كل من ايطاليا وهولندا والنمسا والمجر وبولونيا والسويد، في حين يتهدد فرنسا وألمانيا خطر صعود مرتقب لليمين المتطرف، بعد فشل قوى اليمين واليسار التقليدي في الوصول إلى الحكم أو الحفاظ عليه. وهي كلها حكومات متطرفة في معاقل الديمقراطية سابقا ، تنادي بطرد المهاجرين والعودة إلي نموذج مجتمعي محافظ رافض لحقوق المرأة والمساواة وحق الإجهاض والطلاق واحترام الأقليات. وهو نموذج يحاكي تلك المجتمعات الأوروبية التي كانت قائمة طوال القرون الوسطي، وكانت أحد مظاهر الانحطاط الأوروبي في مجتمعات كانت تسيطر عليها الكنيسة وقوى الإقطاع الاقتصادي والتخلف الفكري والمادي. في تلك القرون التي كانت فيها الحضارة العربية الإسلامية هي المسيطرة والمهيمنة والمزدهرة بالعلوم والطب والفلسفة وعلوم الفلك والحريات العامة والخاصة وحرية الفكر والعقل والإبداع، قبل أن تداهمها سُنّة التداول الحتمي التاريخي للحضارات، كما أبانها العلامة عبد الرحمان بن خلدون، باعث علم التاريخ والاجتماع والعمران البشري.