إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

المواطن النّمطيّ خطر جسيم يُنبئ بخلق شعب لا فكر له ولا عقل

لو فتحتنا كلّ الإذاعات والقنوات التلفزيونية في بلادنا واتخذنا أمامها مقعدا لوجدنا أنفسنا نسمع ونشاهد الشيء نفسه الذي نسمعه ونشاهده تقريبا منذ سنوات خلت. فعند بداية شهر أوت من كلّ عام، لا حديث إلاّ عن مساعي وزارة التربية إلى توفير الأدوات المدرسيّة وشكوى الأولياء من أسعارها الباهظة ودعوتهم إلى مدّ يد المساعدة للعائلات المعوزة. ومنذ سنة 1947 مرورا بسنة 1967 وصولا إلى معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، سمعنا وشاهدنا ردود الفعل نفسها على إثر تعرّض الأراضي الفلسطينيّة لاعتداءات وحشيّة غاشمة. لاحظنا حضور كمّيات هائلة من الأغاني الثورية والوطنية واستدعاء الخبراء في الشؤون الحربيّة والسياسية للتقييم والتحليل على مدار الساعة. وخرجت الجماهير الشعبية من كلّ حدب وصوب لتندّد بالكيان الصهيوني والمجازر التي يقترفها. نعيد أيضا كلّ سنة طقوس شهر رمضان ذاتها: توفير قفة رمضان، وصفات سحريّة تسلب الألباب، برامج دينيّة سمجة، ابتهالات، صحة الصائم وكيفيّة تعاطي المرضى وخاصة منهم مرضى السكري مع شهر رمضان، منوعات وألعاب تعلّل النّفس بأرباح خياليّة ومسلسلات. ولا ننس عمليات الإشهار لكلّ ما يتعلّق بملء البطون على مدار اليوم في كلّ القنوات والإذاعات.

وبعد أيام قليلة من مرور هذا الحدث أو ذاك، سرعان ما تخبو مهجة العواطف القائمة على ردود الفعل الارتجالية وغير المدروسة. ويعود المواطنون إلى حياتهم الرّتيبة ووسائل الإعلام إلى برمجتها التّقليديّة وكأنّ شيئا لم يكن. فتغيب نصائح تغذية الفكر وتحضر بقوة وإصرار الإعلانات التي تدفع إلى مزيد الاستهلاك ولو أدّى ذلك إلى عواقب صحية واجتماعية وخيمة.

قد يسألنا بعضهم هل تريد أن تمرّ الاستعدادات للمواسم الدّينيّة والاجتماعيّة وغيرها من المسائل دون أن يتفاعل معها الإعلام والمواطن؟ نقول إنّ التفاعل مع الأحداث والتوقف عند مستجدّاتها وتطوّراتها ضروريّ بالطّبع. ولكن دون أن تكون ردود الفعل مكرّرة بالطريقة نفسها وكأنّ عقولنا قد تجمدت وتوقفت عن التفكير والسؤال وتناول الأحداث بالتّحاليل المعمّقة لإنتاج تفاسير جديدة وردود أفعال متطوّرة تنمّ عن تقدّم وعينا وقدرتنا على تنقية الغثّ من السّمين. ما عدا هذا فإنّنا سنبقى، في اعتقادنا، في مستوى عقليّ وذهنيّ متدنّ. وهو ما تسعى إليه جهات عديدة لا تريد لنا أن نتقدّم أو نتطوّر في فهم ضروب الحياة.

لقد نجحت أطراف عديدة في بلادنا في دفع الإعلام إلى خلق مواطن نمطيّ ومجموعة مواطنين أمرهم واحد وإلزام النّمطيّ على التفكير الواحد حتى أصبح هناك مذهب مشترك بين أغلبيّة المواطنين لا يقبل التغيير أو الخروج عن نهجه وكأنّه أمر منزّل من السماء. والهدف هو خلق مواطن لا يميل يمنة ولا يسرة بل يسير في حياته وسط القطيع. وهكذا تعلف الماشية في زريبة السّلطان تطبّق ما حدّد لها وتمارس دون وعي قول "لبّيك لبيّك! السّمع والطاعة". ولا يتوقف المواطن ولو ساعة من الزمن ليتساءل عمّا هو مقدم عليه فكرا وممارسة لتدبير شؤونه اليوميّة والمستقبليّة. لقد نُزع من هذا المواطن النّمطيّ الجنوح إلى التأمل وتدبّر ما يقوم به. ونجحت جهات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة في جعله تحت قبضتها كي لا يتمرّد عليها أو يثور في يوم من الأيام. فهو مجرّد آلة تُؤمر فتطبّق.

لقد عملت السياسة الغربيّة الأمريكيّة سنوات طوالا لتصيّر مواطنيها حسب هواها لكنّها لم تنجح. فقد ثار الملايين مثلا ضدّ العدوان على غزّة وندّدوا بسياسة بلدانهم المساندة للكيان الصّهيونيّ الغاشم الذي يقتل شعبا أعزل في وضح النّهار. إنّ هذه السياسات الاستعماريّة المهيمنة لم تستطع أن تجعل من مواطنيها وغيرهم من أبناء الشعوب الحرّة أشخاصا مقولبين كما تريد. بل إنّهم تمرّدوا عليها وفضحوها في المنابر والساحات العموميّة وحتّى داخل برلماناتها وسفاراتها. ولعلّ ما قام به الطّيار الأمريكي من إقدام على انتحار إيثاريّ، حسب تصنيف علماء الاجتماع، أمام سفارة إسرائيل بواشنطن لأكبر دليل على فشل سياسة خلق المواطن النّمطي.

وعلى العموم، فإنّ ما يجري في بلادنا من خلق مواطن لا تحرّكه إلاّ العاطفة المؤقّتة التي سرعان ما تخبو أو ما يشبع بطنه وغرائزه ولو على حساب هويته خطر جسيم يُنبئ بخلق شعب لا فكر له ولا عقل ولا يعدو أن يكون مجموعة كتل بشريّة تعيش يومها بأسلوب ساذج رتيب.

مصدّق الشّريف

 

 

 

المواطن النّمطيّ خطر جسيم يُنبئ بخلق شعب لا فكر له ولا عقل

لو فتحتنا كلّ الإذاعات والقنوات التلفزيونية في بلادنا واتخذنا أمامها مقعدا لوجدنا أنفسنا نسمع ونشاهد الشيء نفسه الذي نسمعه ونشاهده تقريبا منذ سنوات خلت. فعند بداية شهر أوت من كلّ عام، لا حديث إلاّ عن مساعي وزارة التربية إلى توفير الأدوات المدرسيّة وشكوى الأولياء من أسعارها الباهظة ودعوتهم إلى مدّ يد المساعدة للعائلات المعوزة. ومنذ سنة 1947 مرورا بسنة 1967 وصولا إلى معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، سمعنا وشاهدنا ردود الفعل نفسها على إثر تعرّض الأراضي الفلسطينيّة لاعتداءات وحشيّة غاشمة. لاحظنا حضور كمّيات هائلة من الأغاني الثورية والوطنية واستدعاء الخبراء في الشؤون الحربيّة والسياسية للتقييم والتحليل على مدار الساعة. وخرجت الجماهير الشعبية من كلّ حدب وصوب لتندّد بالكيان الصهيوني والمجازر التي يقترفها. نعيد أيضا كلّ سنة طقوس شهر رمضان ذاتها: توفير قفة رمضان، وصفات سحريّة تسلب الألباب، برامج دينيّة سمجة، ابتهالات، صحة الصائم وكيفيّة تعاطي المرضى وخاصة منهم مرضى السكري مع شهر رمضان، منوعات وألعاب تعلّل النّفس بأرباح خياليّة ومسلسلات. ولا ننس عمليات الإشهار لكلّ ما يتعلّق بملء البطون على مدار اليوم في كلّ القنوات والإذاعات.

وبعد أيام قليلة من مرور هذا الحدث أو ذاك، سرعان ما تخبو مهجة العواطف القائمة على ردود الفعل الارتجالية وغير المدروسة. ويعود المواطنون إلى حياتهم الرّتيبة ووسائل الإعلام إلى برمجتها التّقليديّة وكأنّ شيئا لم يكن. فتغيب نصائح تغذية الفكر وتحضر بقوة وإصرار الإعلانات التي تدفع إلى مزيد الاستهلاك ولو أدّى ذلك إلى عواقب صحية واجتماعية وخيمة.

قد يسألنا بعضهم هل تريد أن تمرّ الاستعدادات للمواسم الدّينيّة والاجتماعيّة وغيرها من المسائل دون أن يتفاعل معها الإعلام والمواطن؟ نقول إنّ التفاعل مع الأحداث والتوقف عند مستجدّاتها وتطوّراتها ضروريّ بالطّبع. ولكن دون أن تكون ردود الفعل مكرّرة بالطريقة نفسها وكأنّ عقولنا قد تجمدت وتوقفت عن التفكير والسؤال وتناول الأحداث بالتّحاليل المعمّقة لإنتاج تفاسير جديدة وردود أفعال متطوّرة تنمّ عن تقدّم وعينا وقدرتنا على تنقية الغثّ من السّمين. ما عدا هذا فإنّنا سنبقى، في اعتقادنا، في مستوى عقليّ وذهنيّ متدنّ. وهو ما تسعى إليه جهات عديدة لا تريد لنا أن نتقدّم أو نتطوّر في فهم ضروب الحياة.

لقد نجحت أطراف عديدة في بلادنا في دفع الإعلام إلى خلق مواطن نمطيّ ومجموعة مواطنين أمرهم واحد وإلزام النّمطيّ على التفكير الواحد حتى أصبح هناك مذهب مشترك بين أغلبيّة المواطنين لا يقبل التغيير أو الخروج عن نهجه وكأنّه أمر منزّل من السماء. والهدف هو خلق مواطن لا يميل يمنة ولا يسرة بل يسير في حياته وسط القطيع. وهكذا تعلف الماشية في زريبة السّلطان تطبّق ما حدّد لها وتمارس دون وعي قول "لبّيك لبيّك! السّمع والطاعة". ولا يتوقف المواطن ولو ساعة من الزمن ليتساءل عمّا هو مقدم عليه فكرا وممارسة لتدبير شؤونه اليوميّة والمستقبليّة. لقد نُزع من هذا المواطن النّمطيّ الجنوح إلى التأمل وتدبّر ما يقوم به. ونجحت جهات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة في جعله تحت قبضتها كي لا يتمرّد عليها أو يثور في يوم من الأيام. فهو مجرّد آلة تُؤمر فتطبّق.

لقد عملت السياسة الغربيّة الأمريكيّة سنوات طوالا لتصيّر مواطنيها حسب هواها لكنّها لم تنجح. فقد ثار الملايين مثلا ضدّ العدوان على غزّة وندّدوا بسياسة بلدانهم المساندة للكيان الصّهيونيّ الغاشم الذي يقتل شعبا أعزل في وضح النّهار. إنّ هذه السياسات الاستعماريّة المهيمنة لم تستطع أن تجعل من مواطنيها وغيرهم من أبناء الشعوب الحرّة أشخاصا مقولبين كما تريد. بل إنّهم تمرّدوا عليها وفضحوها في المنابر والساحات العموميّة وحتّى داخل برلماناتها وسفاراتها. ولعلّ ما قام به الطّيار الأمريكي من إقدام على انتحار إيثاريّ، حسب تصنيف علماء الاجتماع، أمام سفارة إسرائيل بواشنطن لأكبر دليل على فشل سياسة خلق المواطن النّمطي.

وعلى العموم، فإنّ ما يجري في بلادنا من خلق مواطن لا تحرّكه إلاّ العاطفة المؤقّتة التي سرعان ما تخبو أو ما يشبع بطنه وغرائزه ولو على حساب هويته خطر جسيم يُنبئ بخلق شعب لا فكر له ولا عقل ولا يعدو أن يكون مجموعة كتل بشريّة تعيش يومها بأسلوب ساذج رتيب.

مصدّق الشّريف