إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر يوسف رزوقة لـ"الصباح": في تونس اليوم نعيش ثقافة طائر حالم بمدينة فاضلة لا مجال لتحققها

حوار : محسن بن احمد 

تونس- الصباح

واحد من القامات الإبداعية الباسقة في سماء المدوّنة الشعرية التونسية والعربية.. متفرد في لغته ومفرداته وصوره الإبداعية .. "يوسف رزوقة" مبدع استثنائي رافض للجمود غزير في إنتاجه الذي تجاوز الخمسون كتابا بين شعر وقصص ومؤلفات نقدية، منها: "أمتاز عليك بأحزاني" و"برنامج وردة" و"إسطرلاب يوسف المسافر" و"الذئب في العبارة" و"بلاد ما بين اليدين" و"أزهار ثاني أوكسيد التاريخ" و"إعلان حالة الطوارئ" و"يوغانا" و"أرض الصفر" و"الفراشة والديناميت"...

 كما أصدر روايات: "الأرخبيل" و"مسمار تشيخوف" و"وداعا براءة العالم" و"ريمامو" وغيرها...

هذا الشاعر الهادئ اختار أخيرا العودة إلى ارض النشأة والصبا ليعيش حياته كما يريد هو دون التخلي أو التملص من طقوسه في الكتابة والتأليف..

**يوسف رزوقة، أين هو اليوم؟

-منذ 2017، تاريخ تقاعدي من الوظيفة الصحفية، أوجدت نفسي في مثلث مكاني بين تونس العاصمة، سلقطة حيث أقيم وأكتب وزردة قريتي حيث عائلتي وزياتيني.

** منذ باكورتك الشعرية "أمتاز عليك بأحزاني" 1978 والحزن يتبعك كظلك.. ألم يزايلك بعد؟ 

"أمتاز عليك بأحزاني" 1978 والحزن يتبعك كظلك.. ألم يزايلك بعد؟ - منذ البداية، لازمني الحزن كهاجس متواتر بوصفه حزنا إيجابيا يؤسس لبدائل شعورية ورؤيوية تبني في المتلقي ما به يستوي مستطيعا بالسلبيات.. ولعل في عنوان ديواني الأول "أمتاز عليك بأحزاني" الصادر سنة 1978، وكنت طالبا وقتها في سنتي الأولى بكلية الآداب، خير دليل على تباشير الحزن الأولى والتي تواصلت معي ولم تزايلني إلى الآن، على خلفية أن الحزن لا يصدر دائما عن مزاج سوداوي، قاتم بل هو إحساس عارم شبيه بالاندهاش الفلسفي يجعل الذات المبدعة تتمثل هما بنائيا هو الحزن المؤسس والذي بدونه، ينتفي رؤيويا معنى الانشغال وتحل محله الدعة واللا اهتمام بسؤال الوجود في شتى تلاوينه. ويحضرني هنا رأي لأديبنا التونسي الكبير محمود المسعدي، صاحب "السد"، "مولد النسيان" و"حدث أبو هريرة، قال.." إن "الأدب مأساة أو لا يكون".. وما الحزن في بعده المتعدد إلا تلاوين مأساوية، تنهض بدواخل الإنسان سيزيفيا... في روايتي "وداعا براءة العالم" مثلا والتي صدرت سنة 2014، عن دار العين، مصر توصيف لدراما الدمار في إنسان إلهنا والآن.. أردتها رِوَايَة عَصْرٍ تَعَفَّنَ. حَدَّ الوَبَاء! استهللتها بالتالي: "آه يا إدجار آلان بو! الآن. سأستغلّ "غرابـك مضمونا لكتابي. ولمرحلة لا تسرّ إلاّ غرابا". فى هذه الرّواية تتلاحق الأحداث، في رحلات بدفع من الحزن الكامن والمعلن، بحثا ونبشا فى واقع لا يسرّ إلاّ عدوا 

**أين قارئ اليوم من قارئ الأمس؟ 

-وهل من قارئ أصلا والعالم في مهب الافتراضي الغاشم والميتافرس الداهم حتى نورطه في مجرد موجة من بحر المبدع، هذا الذي لم ينقرض بعد وظل قلما نازفا وحالما. يكتب أحزانه ومدينته القادمة.. للمبدع قارئه المتخيل.. قد يوجد في جمهور مستهدف، حاشد، متى كان شكل المنتوج أو محتواه لافتا حد الصدمة كما لاحظناه سابقا وكما نلحظه حتى هذه الأيام في أعمال سردية، لاقت بجرأتها المعلنة والمتعمدة.. وقد لا يوجد هذا القارئ أصلا لأكثر من سبب.. منها أنه لا جدوى من القراءة وإن من كان في وضع القارئ قد انقلب مبدعا هو الآخر كما تزينه له ذاته.. ولذلك، أصبح هو نفسه منتجا ومستهلكا ومروجا، عبر منصات التواصل الاجتماعي، لمنتوجه اللحظي والعابر للقارات حسب زعمه. 

** وماذا بعد ؟ 

- ما لم أبح به بعد هو الأهم على خلفية أن لضمير المتكلم مشروعا إبداعيا خاضه ذات وعي ومنذ خمسين سنة.. خاضه بأكثر من لغة، سردا، شعرا ورسما وكتابة للأطفال لليافعين وعليه أن يواصله بنفس الحماس وكأنه في أول المشوار.. لي في الأفق رواية بصدد الاعتمال تنشد اكتمالها ولن تكتمل ولي ديوانان سيصدران في قادم الأيام: الأول عنوانه: اللّا مفكّر فيه كوجيتو الوجود والثاني: أُسْطُقُسّات الأَسَاسِ | نَحْوَ المُفَارَقَة: ادْخُلُوها راقِصين! *

**إلى جانب الكتابة الأدبية، أنت ترسم أيضا ؟ 

- لكل فن، بعد عذابات شتى وعذوبة ما.. باللغة وفي اللغة، بيت الكينونة، بتعبير هايدجر، يلعب المبدع لعبته المفضلة.. كل إبداع هو في النهاية لعب وظيفي، بالمعنى الغاداميري للعب.. وبعنفوان اللغة، يتسنى إبداع حتى المحال.. ولأني خِرِّيج معهد الفنون الجميلة، كان لي وقت لأرسم مائياتي بانسيابية فرشاة مجنونة.. ولأني خِرِّيج كليات: الآداب، العلوم السياسية، الصحافة والإعلام فضلا عن غرقي في لجة اللغات الأجنبية، وطنت قلمي على الإفادة منها جميعا وتلك كانت غايتي الأولى من التحصيل المعرفي لغاية التحليق بأكثر من جناح وفي كل هذا الزخم المتلاطم، تعددت العذابات، الهموم وحرائق الأسئلة.. لكنها عذبة في تجاورها وتنافرها.. فهي النهر والجسر معا وتبقى اللغة مجداف اللاعب بالكلمات .

**ماذا تمثل لك روايتك "وداعا براءة العالم" التي صدرت بالقاهرة؟ 

-"وداعا براءة العالم" صدرت عن "دار العين" المصريّة، 2014، فى 608 صفحات، أردتها رِوَايَة عَصْرٍ تَعَفَّنَ. حَدَّ الوَبَاء! استهللتها بالتالي: "آه يا إدجار آلان بو! الآن. سأستغلّ غرابـك مضمونا لكتابي. ولمرحلة لا تسرّ إلاّ غرابا". فى هذه الرّواية تتلاحق الأحداث، في رحلات بحث ونبش في واقع لا يسرّ إلاّ عدوّا. وقد رشّحتها الجهة الناشرة، لجائزة البوكر العربية 2015 مع روايات: "شوق الدرويش" للسّودانيّ حمور زيادة، و"جنة البرابرة" للسوريّ خليل صويلح.

** وماذا عن روايتك "مسمار تشيخوف"؟ وما مدى تأثير الآخر عليك كمبدع عربي؟ ولماذا اخترت "تشيخوف"؟ 

-هذه الرواية نُشرِت في بريطانيا، ضمن سلسلة روايات تونسية معاصرة، في طبعتين، ورقية ورقمية، صدرت في 110 صفحات من القطع الوسط، وازدان غلافها برسم لي، وبتصميم للفنان ّش. وانليّ، هذه الرواية تدور أحداثها في زمنين: ما قبل الرئيس الروسي "غورباتشوف"، حيث كانت موسكو، لينينغراد أو أماكن أخرى، بؤرة ما تداعى من أحداث، وبقية الأحداث، أملتها تداعيات الحقبة الثانية ما بعد غورباتشوف، في "تو" بلد المؤلّف أو في سواها، وعنونتها بـ"مسمار تشيخوف" احتكامًا إلى مقولة الكاتب الروسي "أنطوان تشيخوف" مفادها أنّ ذكر مسمار في أول أيّ قصة سيكون له وظيفة معينة في ختامها، من هنا جاء عنوان الرواية سببا بل مسوّغ مضمونيّ لأحداثها. هذه الرّواية، برغم أحداثها التي تتناول وقائع عيشت بالكامل على أرض الواقع، فإنها لم تأخذ من السّيرة الذّاتيّة إلاّ ما يخدم أهدافها، فهي ترجمة لمرحلة عشتها في موسكو ما بين 1984 و1987 .

**بدأت مبكرًا كتابة القصة والرواية. ثم تفرغت للشعر لسنوات كثيرة، ما الذي دفعك للعودة للرواية مرة أخرى؟

-نعم، فقد كانت أول قصة نُشرِت لي "شيء اسمه الحرمان" ولم يتجاوز عمري آنذاك الـ13 سنة، تلتها عشرات القصص القصيرة، وبالتحاقي بالجامعة كتبت أول عمل سرديّ لي "الأرخبيل" وكنت أراوح في الآن نفسه بين السّرد والشّعر، ثم انصرفت نهائيّا عن السرد إلى الشعر، لتكون لي فيه مدونة زاخرة أفرزتها مسيرة امتدّت أربعين عامًا، إلى أن جاءت الثورات العربية فعاودني الحنين إلى السرد، فهو في نظري الأكثر استجابة لرصد دراما الدّمار ومتغيّرات المرحلة. والشعر والسرد كلاهما ملتحم بي، يضاف إليهما الرسم، فهو الآخر مرآة عاكسة لثورة الروح وللقارئ مرآة نفسه التي لا تكذب.

** كثر الحديث هذه الأيام عن مستشرقة ومترجمة ألمانية هي "كلاوديا أوت" وكيف ترجمت الشعر العربي إلى الألمانية مع المحافظة على بحور الشعر العربي بتطبيق الوزن نفسه في اللغة الألمانية.. وأنت أيضا كنت سباقا ومنذ الثمانينات في تطبيق العروض العربيّ على القصيدة الفرنسية. أليس كذلك؟ -

-حاولت تطويع القصيدة الفرنسية لتنتظم داخل الإيقاع العربيّ، كسوتها أوزان الخليل، طبقتها فى 15 قصيدة من مجموعتي الشعريّة "ابن العنكبوت أو هلوسات مرآوية" 33 قصيدة باللغة الفرنسية، لتحقق انسيابية إيقاعيّة غير تلك الّتي اعتادها الشّعر الفرنسيّ، بموسيقي جديدة وإيقاع محسوس تلتقطه الأذن الغربية ويلتبس عليها المصدر، قصيدة موقّعة، لا حسب الأوزان المألوفة في الشعر اللاتيني عبر التقسيم المعهود للمقاطع، ولكنه الوزن الخليليّ أرسلته في العبارة الفرنسية .

**وماذا عن حكايتك مع اللغات التي تكتب بها وفيها؟ 

- إلى جانب لغتي الأمّ العربيّة، دأبت على الكتابة بالفرنسيّة، والإنجليزيّة، والإسبانيّة، لكنّ العربية والإسبانية تبدوان أكثر استئثارا بزمام الكتابة لديّ، بنفس التّواتر الذي أكتب به عربيّا، أكتب بالإسبانيّة، لتأتي بعدهما الفرنسيّة، وأخاف ترجمة أعمالي الشعرية أو السردية، وأحبّذ كتابة شيء أدبيّ مستقلّ في لغة الآخر، ولم أرد لي دورا مزدوجا، للمترجم دوره الوظيفي، ولي دوري الواضح. 

** صدرت لك أعمال إبداعية في شكل كتب رقمية. فهل في رأيك سيؤثر هذا على الكتاب الورقيّ؟ 

-أقدمت على نشر سبعين كتابا إلكترونيّا (عبر منشورات بوكريكس الإنجليزية) فى اللّغات ذات النّظام الحروفيّ اللاّتيني، كالإنجليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والكتالونيّة والبرتغالّية والسّويديّة والرومانيّة والإيطالية، بعضها نصوص شعريّة، سرديّة أو نقديّة من تأليفي، والبعض تأليف آخرين: نقديّة أو بيوغرافية عني، أو ترجمات لبعض أعمالي الأدبيّة برؤية مجموعة من رفاق الدرب من الشعراء أو النقّاد، والكتاب الرقمي والورقي لكليهما سوق وقرّاء مستهدفون، إن وجد في المستقبل قارئ أصلا.

**كنت من أوائل من احتفوا بالانترنات من خلال موقع يوغاتري بثلاث لغات ثم جد واقعي افتراضي داهم كالفايسبوك  وتويتر وما إليهما. فأين أنت من هذا الوافد الذي انتهى أمرا واقعا؟ 

- في هذا الزمن الديجيتالي، المعقد والمخيف، لا منجاة من نيوب الفوبيا - وفوبيا التواصل إحداها- ولا عزاء للمبتلى بها إلا التَّأَسِّي بالاحتياطيّ فيه من رباطة جَأْشِ محتملة. ما نحن فيه هو الشّكل العاكس للمضمون: الشّكل، كما يبدو، في واجهة البازار، أنا متضخّمة في آلاف النّسخ المكرورة.. تمعن في لفت الأنظار بأبشع أسلوب تسويقيّ واستعراضيّ فجّ.. الوضع العامّ: "أنا" للبيع بمضمون عفن.. ما نحن فيه هو الشّكل العاكس للمضمون ولا مضمون جميل يجعل حامله حيوانا يرقى بالإنسان إلى علياء طبيعته الأولى، حيث الينبوع دم يجري في أوردة الأشجار وحيث اللّه جميل لا يستعبده أحد منّا تأويلا أو فتوى. ما نحن فيه مناعة مفقودة. المخّ آخر قلعة تنهار. لا مخّ. جن ولم يعد. لا نوح في الأفق القريب أو البعيد ولا جناح سفينة ولوحده الطّوفان، يهدر في اتجاه اليابسة النّاجي الأوحد من هذا الزّلزال هو الزّلزال ولا زلزال سوى اللاّ معنى والفوضى

**آخر إصداراتك رواية "بنت الفراهيدي"، صدرت عن "زينب للنشر" انطوت على مسح لثلاثة أجيال وعولجت بأسلوب مختلف هو التسريد الشعري..

بنت الفراهيديّ": شطح في مربع سرعة البرق" رواية الإيقاع المتعدد.. ولم ير مؤلفها مانعا من تسويغ ما يخدم حقلها الثيميّ فضلا عن طقسها الإيقاعيّ، الباطنيّ منه والظاهريّ عبر استدعاء الخليل بن أحمد الفراهيديّ أبا للإيقاع العروضيّ في رواية تستدعي في بنائها التركيبيّ 'فوندو' الجدود لمدينة الهنا والآن والعملية ذاتها في الأثر الأدبي تهدف، من جملة ما تهدف إليه، عبر الفعل التذويبي، إلى تحقيق بنية إيقاعيّة، ضمنية، مخاتلة ومضللة. على خلفية أن المؤلف أراد وبسابقية إضمار فنية، وهو يبني روايته بخلاف ما هو معمول به، أن يخفي سر ما أقدم عليه ومفاتيح لعبته السردية حتى لا تغمط أحقية انكتابها بالشكل الذي انكتبت به.. بمنأى عن حشر جنسها في خانة الرواية الشعرية والتي هي في حل من كونها كذلك... ما الوزن فيها إلا وجه إيقاعيّ تم استثماره، بلا تكلف، على نحو أكوستيكيّ، قصد تحقيق " أدبيّة" ما، منسابة في نص سرديّ، متراكب المستويات الإيقاعية، المتفاوتة. بمعنى آخر، هي رواية المدينة في مراوحة بين إيقاعين، قديم وحديث.. وما استعار مؤلفها من الشاعر فيه إلا ما يخدمها سردا، لا شعرا حتى أنه أخفى ما يشي بالصنعة الشكلية في مستوى البناء أو بما يمكن أن يرى على أنه 'لزوم ما لا يلزم' فيها، أخفاه بـ"اللِّيقَة" الفنية [ وما الليقة إلا المِلاَط تمرره يد البَنَّاء على حجر الحائط أو آجُرّه لتغطية ما تضرَّس منه ] وكذا الشأن بالنسبة إلى صانع الأثر الأدبي، يخفي مفردات صنعته بتذويبها فيه حتى لا أثر.. وهو ما تمثله المؤلف في "بنت الفراهيدي" عبر تعويم القوالب الوزنية وصهرها في تعبيرات مُدوَّرة ومرسلة، وهي من تقنيات الشعر الحر، على نحو يحقق سيولة الإيقاع عبر تلافيف النسيج السردي وينأى بهذا الأخير، في الآن نفسه، عما يمكن أن يعد تجربة لعبية، مبتسرة فيها من الحذلقة والتكلف ما قد يجعلها تشذ عن أجناسية مظانها فلا تحقق هدفها الأسمى.. 

**إلى أي مدى أنت راض بصفة الكاتب أو الشاعر فيك؟ ألم تندم في يوم كونك خضت بحر الكتابة رواية وشعرا؟

الكتابة قدر الأشقياء أما السعداء فلا يجدون وقتا للكتابة.." هكذا قال بيراندللو ... والكتابة بهذا المعنى فلسفة الكائن الشقي وهي من ثمة لا ترهق إلا من كان سعيدا ولا يحتمل الشقاء الفلسفي: كتابة وحياة.. غالبا ما أتمنى أن لا أكون كاتبا في بلاد قراؤها أشباح.

**كيف تشخص حال الثقافة في تونس اليوم ؟ 》

هي ثقافة الطائر إذ يغني وجناحه يرد عليه.. طائر حر، مهيض الجناحين وحالم بمدينة فاضلة لا مجال لتحققها على أرض الواقع، في حياته.. حال الثقافة من حال البلاد: سوق ودلال وإكسسوارات براقة، والتعويم الافتراضي لأذنابها في المستنقع التواصلي، الأزرق هو المهيمن ولكن. أية هيمنة؟

 

 

 

 

الشاعر يوسف رزوقة لـ"الصباح":   في تونس اليوم نعيش ثقافة طائر حالم بمدينة فاضلة لا مجال لتحققها

حوار : محسن بن احمد 

تونس- الصباح

واحد من القامات الإبداعية الباسقة في سماء المدوّنة الشعرية التونسية والعربية.. متفرد في لغته ومفرداته وصوره الإبداعية .. "يوسف رزوقة" مبدع استثنائي رافض للجمود غزير في إنتاجه الذي تجاوز الخمسون كتابا بين شعر وقصص ومؤلفات نقدية، منها: "أمتاز عليك بأحزاني" و"برنامج وردة" و"إسطرلاب يوسف المسافر" و"الذئب في العبارة" و"بلاد ما بين اليدين" و"أزهار ثاني أوكسيد التاريخ" و"إعلان حالة الطوارئ" و"يوغانا" و"أرض الصفر" و"الفراشة والديناميت"...

 كما أصدر روايات: "الأرخبيل" و"مسمار تشيخوف" و"وداعا براءة العالم" و"ريمامو" وغيرها...

هذا الشاعر الهادئ اختار أخيرا العودة إلى ارض النشأة والصبا ليعيش حياته كما يريد هو دون التخلي أو التملص من طقوسه في الكتابة والتأليف..

**يوسف رزوقة، أين هو اليوم؟

-منذ 2017، تاريخ تقاعدي من الوظيفة الصحفية، أوجدت نفسي في مثلث مكاني بين تونس العاصمة، سلقطة حيث أقيم وأكتب وزردة قريتي حيث عائلتي وزياتيني.

** منذ باكورتك الشعرية "أمتاز عليك بأحزاني" 1978 والحزن يتبعك كظلك.. ألم يزايلك بعد؟ 

"أمتاز عليك بأحزاني" 1978 والحزن يتبعك كظلك.. ألم يزايلك بعد؟ - منذ البداية، لازمني الحزن كهاجس متواتر بوصفه حزنا إيجابيا يؤسس لبدائل شعورية ورؤيوية تبني في المتلقي ما به يستوي مستطيعا بالسلبيات.. ولعل في عنوان ديواني الأول "أمتاز عليك بأحزاني" الصادر سنة 1978، وكنت طالبا وقتها في سنتي الأولى بكلية الآداب، خير دليل على تباشير الحزن الأولى والتي تواصلت معي ولم تزايلني إلى الآن، على خلفية أن الحزن لا يصدر دائما عن مزاج سوداوي، قاتم بل هو إحساس عارم شبيه بالاندهاش الفلسفي يجعل الذات المبدعة تتمثل هما بنائيا هو الحزن المؤسس والذي بدونه، ينتفي رؤيويا معنى الانشغال وتحل محله الدعة واللا اهتمام بسؤال الوجود في شتى تلاوينه. ويحضرني هنا رأي لأديبنا التونسي الكبير محمود المسعدي، صاحب "السد"، "مولد النسيان" و"حدث أبو هريرة، قال.." إن "الأدب مأساة أو لا يكون".. وما الحزن في بعده المتعدد إلا تلاوين مأساوية، تنهض بدواخل الإنسان سيزيفيا... في روايتي "وداعا براءة العالم" مثلا والتي صدرت سنة 2014، عن دار العين، مصر توصيف لدراما الدمار في إنسان إلهنا والآن.. أردتها رِوَايَة عَصْرٍ تَعَفَّنَ. حَدَّ الوَبَاء! استهللتها بالتالي: "آه يا إدجار آلان بو! الآن. سأستغلّ "غرابـك مضمونا لكتابي. ولمرحلة لا تسرّ إلاّ غرابا". فى هذه الرّواية تتلاحق الأحداث، في رحلات بدفع من الحزن الكامن والمعلن، بحثا ونبشا فى واقع لا يسرّ إلاّ عدوا 

**أين قارئ اليوم من قارئ الأمس؟ 

-وهل من قارئ أصلا والعالم في مهب الافتراضي الغاشم والميتافرس الداهم حتى نورطه في مجرد موجة من بحر المبدع، هذا الذي لم ينقرض بعد وظل قلما نازفا وحالما. يكتب أحزانه ومدينته القادمة.. للمبدع قارئه المتخيل.. قد يوجد في جمهور مستهدف، حاشد، متى كان شكل المنتوج أو محتواه لافتا حد الصدمة كما لاحظناه سابقا وكما نلحظه حتى هذه الأيام في أعمال سردية، لاقت بجرأتها المعلنة والمتعمدة.. وقد لا يوجد هذا القارئ أصلا لأكثر من سبب.. منها أنه لا جدوى من القراءة وإن من كان في وضع القارئ قد انقلب مبدعا هو الآخر كما تزينه له ذاته.. ولذلك، أصبح هو نفسه منتجا ومستهلكا ومروجا، عبر منصات التواصل الاجتماعي، لمنتوجه اللحظي والعابر للقارات حسب زعمه. 

** وماذا بعد ؟ 

- ما لم أبح به بعد هو الأهم على خلفية أن لضمير المتكلم مشروعا إبداعيا خاضه ذات وعي ومنذ خمسين سنة.. خاضه بأكثر من لغة، سردا، شعرا ورسما وكتابة للأطفال لليافعين وعليه أن يواصله بنفس الحماس وكأنه في أول المشوار.. لي في الأفق رواية بصدد الاعتمال تنشد اكتمالها ولن تكتمل ولي ديوانان سيصدران في قادم الأيام: الأول عنوانه: اللّا مفكّر فيه كوجيتو الوجود والثاني: أُسْطُقُسّات الأَسَاسِ | نَحْوَ المُفَارَقَة: ادْخُلُوها راقِصين! *

**إلى جانب الكتابة الأدبية، أنت ترسم أيضا ؟ 

- لكل فن، بعد عذابات شتى وعذوبة ما.. باللغة وفي اللغة، بيت الكينونة، بتعبير هايدجر، يلعب المبدع لعبته المفضلة.. كل إبداع هو في النهاية لعب وظيفي، بالمعنى الغاداميري للعب.. وبعنفوان اللغة، يتسنى إبداع حتى المحال.. ولأني خِرِّيج معهد الفنون الجميلة، كان لي وقت لأرسم مائياتي بانسيابية فرشاة مجنونة.. ولأني خِرِّيج كليات: الآداب، العلوم السياسية، الصحافة والإعلام فضلا عن غرقي في لجة اللغات الأجنبية، وطنت قلمي على الإفادة منها جميعا وتلك كانت غايتي الأولى من التحصيل المعرفي لغاية التحليق بأكثر من جناح وفي كل هذا الزخم المتلاطم، تعددت العذابات، الهموم وحرائق الأسئلة.. لكنها عذبة في تجاورها وتنافرها.. فهي النهر والجسر معا وتبقى اللغة مجداف اللاعب بالكلمات .

**ماذا تمثل لك روايتك "وداعا براءة العالم" التي صدرت بالقاهرة؟ 

-"وداعا براءة العالم" صدرت عن "دار العين" المصريّة، 2014، فى 608 صفحات، أردتها رِوَايَة عَصْرٍ تَعَفَّنَ. حَدَّ الوَبَاء! استهللتها بالتالي: "آه يا إدجار آلان بو! الآن. سأستغلّ غرابـك مضمونا لكتابي. ولمرحلة لا تسرّ إلاّ غرابا". فى هذه الرّواية تتلاحق الأحداث، في رحلات بحث ونبش في واقع لا يسرّ إلاّ عدوّا. وقد رشّحتها الجهة الناشرة، لجائزة البوكر العربية 2015 مع روايات: "شوق الدرويش" للسّودانيّ حمور زيادة، و"جنة البرابرة" للسوريّ خليل صويلح.

** وماذا عن روايتك "مسمار تشيخوف"؟ وما مدى تأثير الآخر عليك كمبدع عربي؟ ولماذا اخترت "تشيخوف"؟ 

-هذه الرواية نُشرِت في بريطانيا، ضمن سلسلة روايات تونسية معاصرة، في طبعتين، ورقية ورقمية، صدرت في 110 صفحات من القطع الوسط، وازدان غلافها برسم لي، وبتصميم للفنان ّش. وانليّ، هذه الرواية تدور أحداثها في زمنين: ما قبل الرئيس الروسي "غورباتشوف"، حيث كانت موسكو، لينينغراد أو أماكن أخرى، بؤرة ما تداعى من أحداث، وبقية الأحداث، أملتها تداعيات الحقبة الثانية ما بعد غورباتشوف، في "تو" بلد المؤلّف أو في سواها، وعنونتها بـ"مسمار تشيخوف" احتكامًا إلى مقولة الكاتب الروسي "أنطوان تشيخوف" مفادها أنّ ذكر مسمار في أول أيّ قصة سيكون له وظيفة معينة في ختامها، من هنا جاء عنوان الرواية سببا بل مسوّغ مضمونيّ لأحداثها. هذه الرّواية، برغم أحداثها التي تتناول وقائع عيشت بالكامل على أرض الواقع، فإنها لم تأخذ من السّيرة الذّاتيّة إلاّ ما يخدم أهدافها، فهي ترجمة لمرحلة عشتها في موسكو ما بين 1984 و1987 .

**بدأت مبكرًا كتابة القصة والرواية. ثم تفرغت للشعر لسنوات كثيرة، ما الذي دفعك للعودة للرواية مرة أخرى؟

-نعم، فقد كانت أول قصة نُشرِت لي "شيء اسمه الحرمان" ولم يتجاوز عمري آنذاك الـ13 سنة، تلتها عشرات القصص القصيرة، وبالتحاقي بالجامعة كتبت أول عمل سرديّ لي "الأرخبيل" وكنت أراوح في الآن نفسه بين السّرد والشّعر، ثم انصرفت نهائيّا عن السرد إلى الشعر، لتكون لي فيه مدونة زاخرة أفرزتها مسيرة امتدّت أربعين عامًا، إلى أن جاءت الثورات العربية فعاودني الحنين إلى السرد، فهو في نظري الأكثر استجابة لرصد دراما الدّمار ومتغيّرات المرحلة. والشعر والسرد كلاهما ملتحم بي، يضاف إليهما الرسم، فهو الآخر مرآة عاكسة لثورة الروح وللقارئ مرآة نفسه التي لا تكذب.

** كثر الحديث هذه الأيام عن مستشرقة ومترجمة ألمانية هي "كلاوديا أوت" وكيف ترجمت الشعر العربي إلى الألمانية مع المحافظة على بحور الشعر العربي بتطبيق الوزن نفسه في اللغة الألمانية.. وأنت أيضا كنت سباقا ومنذ الثمانينات في تطبيق العروض العربيّ على القصيدة الفرنسية. أليس كذلك؟ -

-حاولت تطويع القصيدة الفرنسية لتنتظم داخل الإيقاع العربيّ، كسوتها أوزان الخليل، طبقتها فى 15 قصيدة من مجموعتي الشعريّة "ابن العنكبوت أو هلوسات مرآوية" 33 قصيدة باللغة الفرنسية، لتحقق انسيابية إيقاعيّة غير تلك الّتي اعتادها الشّعر الفرنسيّ، بموسيقي جديدة وإيقاع محسوس تلتقطه الأذن الغربية ويلتبس عليها المصدر، قصيدة موقّعة، لا حسب الأوزان المألوفة في الشعر اللاتيني عبر التقسيم المعهود للمقاطع، ولكنه الوزن الخليليّ أرسلته في العبارة الفرنسية .

**وماذا عن حكايتك مع اللغات التي تكتب بها وفيها؟ 

- إلى جانب لغتي الأمّ العربيّة، دأبت على الكتابة بالفرنسيّة، والإنجليزيّة، والإسبانيّة، لكنّ العربية والإسبانية تبدوان أكثر استئثارا بزمام الكتابة لديّ، بنفس التّواتر الذي أكتب به عربيّا، أكتب بالإسبانيّة، لتأتي بعدهما الفرنسيّة، وأخاف ترجمة أعمالي الشعرية أو السردية، وأحبّذ كتابة شيء أدبيّ مستقلّ في لغة الآخر، ولم أرد لي دورا مزدوجا، للمترجم دوره الوظيفي، ولي دوري الواضح. 

** صدرت لك أعمال إبداعية في شكل كتب رقمية. فهل في رأيك سيؤثر هذا على الكتاب الورقيّ؟ 

-أقدمت على نشر سبعين كتابا إلكترونيّا (عبر منشورات بوكريكس الإنجليزية) فى اللّغات ذات النّظام الحروفيّ اللاّتيني، كالإنجليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والكتالونيّة والبرتغالّية والسّويديّة والرومانيّة والإيطالية، بعضها نصوص شعريّة، سرديّة أو نقديّة من تأليفي، والبعض تأليف آخرين: نقديّة أو بيوغرافية عني، أو ترجمات لبعض أعمالي الأدبيّة برؤية مجموعة من رفاق الدرب من الشعراء أو النقّاد، والكتاب الرقمي والورقي لكليهما سوق وقرّاء مستهدفون، إن وجد في المستقبل قارئ أصلا.

**كنت من أوائل من احتفوا بالانترنات من خلال موقع يوغاتري بثلاث لغات ثم جد واقعي افتراضي داهم كالفايسبوك  وتويتر وما إليهما. فأين أنت من هذا الوافد الذي انتهى أمرا واقعا؟ 

- في هذا الزمن الديجيتالي، المعقد والمخيف، لا منجاة من نيوب الفوبيا - وفوبيا التواصل إحداها- ولا عزاء للمبتلى بها إلا التَّأَسِّي بالاحتياطيّ فيه من رباطة جَأْشِ محتملة. ما نحن فيه هو الشّكل العاكس للمضمون: الشّكل، كما يبدو، في واجهة البازار، أنا متضخّمة في آلاف النّسخ المكرورة.. تمعن في لفت الأنظار بأبشع أسلوب تسويقيّ واستعراضيّ فجّ.. الوضع العامّ: "أنا" للبيع بمضمون عفن.. ما نحن فيه هو الشّكل العاكس للمضمون ولا مضمون جميل يجعل حامله حيوانا يرقى بالإنسان إلى علياء طبيعته الأولى، حيث الينبوع دم يجري في أوردة الأشجار وحيث اللّه جميل لا يستعبده أحد منّا تأويلا أو فتوى. ما نحن فيه مناعة مفقودة. المخّ آخر قلعة تنهار. لا مخّ. جن ولم يعد. لا نوح في الأفق القريب أو البعيد ولا جناح سفينة ولوحده الطّوفان، يهدر في اتجاه اليابسة النّاجي الأوحد من هذا الزّلزال هو الزّلزال ولا زلزال سوى اللاّ معنى والفوضى

**آخر إصداراتك رواية "بنت الفراهيدي"، صدرت عن "زينب للنشر" انطوت على مسح لثلاثة أجيال وعولجت بأسلوب مختلف هو التسريد الشعري..

بنت الفراهيديّ": شطح في مربع سرعة البرق" رواية الإيقاع المتعدد.. ولم ير مؤلفها مانعا من تسويغ ما يخدم حقلها الثيميّ فضلا عن طقسها الإيقاعيّ، الباطنيّ منه والظاهريّ عبر استدعاء الخليل بن أحمد الفراهيديّ أبا للإيقاع العروضيّ في رواية تستدعي في بنائها التركيبيّ 'فوندو' الجدود لمدينة الهنا والآن والعملية ذاتها في الأثر الأدبي تهدف، من جملة ما تهدف إليه، عبر الفعل التذويبي، إلى تحقيق بنية إيقاعيّة، ضمنية، مخاتلة ومضللة. على خلفية أن المؤلف أراد وبسابقية إضمار فنية، وهو يبني روايته بخلاف ما هو معمول به، أن يخفي سر ما أقدم عليه ومفاتيح لعبته السردية حتى لا تغمط أحقية انكتابها بالشكل الذي انكتبت به.. بمنأى عن حشر جنسها في خانة الرواية الشعرية والتي هي في حل من كونها كذلك... ما الوزن فيها إلا وجه إيقاعيّ تم استثماره، بلا تكلف، على نحو أكوستيكيّ، قصد تحقيق " أدبيّة" ما، منسابة في نص سرديّ، متراكب المستويات الإيقاعية، المتفاوتة. بمعنى آخر، هي رواية المدينة في مراوحة بين إيقاعين، قديم وحديث.. وما استعار مؤلفها من الشاعر فيه إلا ما يخدمها سردا، لا شعرا حتى أنه أخفى ما يشي بالصنعة الشكلية في مستوى البناء أو بما يمكن أن يرى على أنه 'لزوم ما لا يلزم' فيها، أخفاه بـ"اللِّيقَة" الفنية [ وما الليقة إلا المِلاَط تمرره يد البَنَّاء على حجر الحائط أو آجُرّه لتغطية ما تضرَّس منه ] وكذا الشأن بالنسبة إلى صانع الأثر الأدبي، يخفي مفردات صنعته بتذويبها فيه حتى لا أثر.. وهو ما تمثله المؤلف في "بنت الفراهيدي" عبر تعويم القوالب الوزنية وصهرها في تعبيرات مُدوَّرة ومرسلة، وهي من تقنيات الشعر الحر، على نحو يحقق سيولة الإيقاع عبر تلافيف النسيج السردي وينأى بهذا الأخير، في الآن نفسه، عما يمكن أن يعد تجربة لعبية، مبتسرة فيها من الحذلقة والتكلف ما قد يجعلها تشذ عن أجناسية مظانها فلا تحقق هدفها الأسمى.. 

**إلى أي مدى أنت راض بصفة الكاتب أو الشاعر فيك؟ ألم تندم في يوم كونك خضت بحر الكتابة رواية وشعرا؟

الكتابة قدر الأشقياء أما السعداء فلا يجدون وقتا للكتابة.." هكذا قال بيراندللو ... والكتابة بهذا المعنى فلسفة الكائن الشقي وهي من ثمة لا ترهق إلا من كان سعيدا ولا يحتمل الشقاء الفلسفي: كتابة وحياة.. غالبا ما أتمنى أن لا أكون كاتبا في بلاد قراؤها أشباح.

**كيف تشخص حال الثقافة في تونس اليوم ؟ 》

هي ثقافة الطائر إذ يغني وجناحه يرد عليه.. طائر حر، مهيض الجناحين وحالم بمدينة فاضلة لا مجال لتحققها على أرض الواقع، في حياته.. حال الثقافة من حال البلاد: سوق ودلال وإكسسوارات براقة، والتعويم الافتراضي لأذنابها في المستنقع التواصلي، الأزرق هو المهيمن ولكن. أية هيمنة؟