لا حديث هذه الأيام في الأوساط الشعبية والرسمية سوى على الشركات الأهلية التي بدت وكأنها منوال تنموي جديد ووسيلة للاستقرار المادي وحلم بخلق الثروة لفئات من الشعب لم تتوفّر لهم هذه الفرصة من قبل.ويرون في هذا المشروع طريقا إلى ذلك.
ويبدو أن هذا المشروع الرئاسي بدأ يجد التفاعل والحماس الواسع للاستفادة منه خاصة مع انخراط أكثر من جهة تمويل فيه وسعي الحكومة لإنجاحه عبر توفير كل شروط ذلك.
لكن في المقابل يوجد الكثيرون الذين لا يزالون يجهلون تفاصيل و امتيازات هذا المشروع ويكتفون بما يكتب عنه من نقد أو إطراء .
فما هي الشركات الأهلية في تونس و في التجارب المقارنة؟وما هي آليات نجاحها ومعوقاتها؟وهل يمكن أن تكون منوالا تنمويا جديدا؟
الشركات الأهلية ؟
يعرّف المرسوم 15 لسنة 2022 الشركات الأهلية على أنها "تعتبر شركة أهلية على معنى أحكام هذا المرسوم كلّ شخص معنوي تحدثه مجموعة من أهالي الجهة يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية لنشاط اقتصادي انطلاقا من المنطقة الترابية المستقرين بها."
وتهدف الشركات الأهلية إلى تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتها.وهي كثيرة مثلما ورد في المرسوم المذكور من قبيل (مشاركة المواطنين في تنمية الجهات المستقرين بها. و أولوية الإنسان وقيمة العمل الجماعي على الربح الفردي.وتحقيق المصالح الفردية من خلال المصلحة المشتركة.والانخراط الحر والانسحاب الإرادي ومنع كافة أشكال الإقصاء الاجتماعي.والتصرف وفق قواعد الشفافية والنزاهة والمسؤولية والحوكمة الرشيدة القائمة على مبادئ الشفافية والنجاعة والمسؤولية بما يضمن الجدوى الاقتصادية والمنفعة الاجتماعية والإنصاف من حيث مساهمة المشاركين في رأس مال الشركة).
ومن شروطها هي أنه لا يجوز للمشارك أن يكون له أكثر من سهم واحد والذي يساوي صوتا واحدا عند التصويت على القرارات الإدارية أيا كانت قيمة مساهمته في رأس المال عند اتخاذ القرارات.
والأهم أن هذه الشركة هي ملكية جماعية غير قابلة للتقسيم. ولا يجب أن تمارس نشاطها خارج المعتمدية التي أنشأت فيها أو المعتمديات المجاورة لها .وألا يقلّ عدد المساهمين فيها عن 50 شخصا .ويجب ألا يقل رأسمالها عن 10آلاف دينار إذا كانت محلية و20ألف دينار أذا كانت جهوية. وتتكون من مجلس إدارة ومن 6 أو 12عضوا.
ودون الانغماس أكثر في التفاصيل القانونية يلاحظ أن الدولة متبنية في جزء كبير لهذه الشركات وقد خصص لها خط تمويل بـ 20مليون دينار وتخصيص نسبة من مداخيل الصلح الجزائي لتمويلها.
من جهته التزم البنك الوطني للتضامن بتمويل 100شركة في 2024 بقروض تبلغ 300ألف دينار بنسبة فائدة منخفضة تبلغ 5بالمائة و سنة إمهال.وكذلك ستفعل بعض البنوك الأخرى .
وإلى حد اليوم بلغ عدد الشركات المنتصبة 40 شركة بالتوازي مع 60 أخرى طور التأسيس.
العقلية...
لاشك أن أي مشروع ليضمن نجاحه لابد أن تكون هناك قوانين قوية ومرنة تدعمه كما أن عقلية إدارته لاتقل قيمة عن الاعتمادات المالية المرصودة له.
وبالنسبة للشركات الأهلية فلسفة إدارتها والأهداف المرجوة منها هي الأهم، ففي تجارب مقارنة، مؤسسوا مثل هذه الشركات، مع اختلاف التسميات، هم عادة أقل من الخمسين مساهما كحد أدنى كما هو في تونس، كما أن المساهمين فيها ليسوا طلاب شغل ولا يطلبون ربحا سريعا .بمعنى أن دخلهم المادي ليس مرتبطا بمداخيل هذه الشركة وما سيجنونه من أرباحها يدخل في باب الرفاهية وليس الحاجة. عكس فلسفة الشركات الأهلية في تونس التي أريد لها أن تحل جزء من البطالة وأن تكون منوالا تنمويا جزئيا وهذا ما سيعوق نجاح أغلب هذه الشركات التي هي بحاجة إلى سنوات لتصبح مربحة خاصة و أنها ستجد نفسها مضطرة لخلاص أقساط القرض فضلا عن المصاريف اليومية وغيرها.وبالتالي فيخشى على هذه الشركات من استنزاف مواردها المالية فيما ذكرنا وسيزيد استنزافها اذا ما تم تقسيم الأرباح القليلة (إن وجدت) سنويا.
أما عقلية التضامن والتكتل ونكران الذات من أجل المجموعة فتبقى المحرك الرئيسي لهذه الشركات وبدونها لا يمكن أن تحقق النجاح والاستقرار. فصبغة هذه الشركات اجتماعية أولا و ربحية ثانيا وهدفها تسهيل حياة الناس في منطقة تواجدها و تساهم في تنميتها، وهذا ما يجب أن يدركه أصحاب هذه المشاريع أوالذين يفكرون في بعث مشروع من هذا النوع.
تجارب مقارنة
الشركات الأهلية كما أسلفنا القول ليست اختراعا تونسيا بل إنها وجدت في دول أخرى تحت مسميات مختلفة تختزل فيما يسمّى بالاقتصاد الخاص أو الاقتصاد العائلي.
ووجدت التجربة في اسبانيا و اندونيسيا. وهذه التجارب بالتأكيد لم تكن مثالية جدا وتطورت مع الزمن و الكثير من هذه الشركات تحول إلى شركات عامة .
أبرز التجارب كانت في الصين حيث تعد الشركات الأهلية العمود الفقري للاقتصاد الصيني ضمن ما يعرف بالاقتصاد الخاص كما قلنا.
كتاب "الشركات الأهلية في الصين" لأستاذ علم الاقتصاد والخبير بمجلس الدولة الصيني "ليوينغ تشيو" يشرح بالتفصيل طبيعة هذه الشركات والمشاكل التي اعترضتها. كما أنّ لها خصوصيتها المتناسقة مع الواقع الصيني ويوجد مئات الآلاف من هذه الشركات في كل إقليم بحسب طبيعة الاقتصاد و الصناعة والفلاحة فيه. غير أنها تشهد العديد من المشاكل والتحديات، منها اعتمادها على العمالة الكثيفة مع عدم الإنفاق على رأس المال البشري من تكوين وتحسين وضعية. وصعوبة التمويل ومنافسة الشركات المتوسطة و الكبرى .
الكتاب يناقش أيضا مختلف المجالات المعنية بالشركات الأهلية، ويطرح سبل تطويرها وأهمها :
- ضرورة إنفاق الشركات الأهلية على تدريب العمال والموظفين. فيعد تنظيم الدورات التدريبية للعمال والموظفين استثمارًا مهمًا في رأس المال البشري وطريقة تحفيزية فعالة.
- يجب المضيّ قدمًا في تخفيف صعوبات تمويل الشركات الأهلية. وتحسين نظام ضمانات التمويل للشركات التي تعمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا..
ويفسر اقتصاديو الصين المشاركون في الكتاب أيضًا نماذج الحوكمة المختلفة للشركات الأهلية، وهي نموذج الشركات العائلية الكلاسيكية، والشركات العائلية الحديثة، والشركات غير العائلية.
ما يجب أن يكون
فكرة الشركات الأهلية في حد ذاتها يمكن أن تشكّل حلولا بديلة للتنمية المحلية والجهوية، والقانون الصادر لتأسيسها يعدّ إجمالا جيدا ومشجعا لكنه يبقى في حاجة إلى تطوير حتى تستطيع هذه الشركات الدخول في سوق المنافسة. كما وجب توسيع نطاق هذه الشركات لتشمل المدن أيضا وقطاعات واعدة في التكنولوجيا و الذكاء الاصطناعي حتى لا يرتبط اسم هذه الشركات بالقطاعات الكلاسيكية و المهمشة .
فهذه الشركات يجب أن تكون مصدرا لخلق الثروة لا ملجأ لمن طالت بطالته والحالمين بالربح السهل و السريع. فمجرد الحماس والإغراءات لتأسيس هذه الشركات لا يكفي .
نجاح هذه الشركات في فهم فلسفتها ومن لا يفهم فلسفتها لا يجب أن يغامر بتأسيسها.
بقلم: ريم بالخذيري
لا حديث هذه الأيام في الأوساط الشعبية والرسمية سوى على الشركات الأهلية التي بدت وكأنها منوال تنموي جديد ووسيلة للاستقرار المادي وحلم بخلق الثروة لفئات من الشعب لم تتوفّر لهم هذه الفرصة من قبل.ويرون في هذا المشروع طريقا إلى ذلك.
ويبدو أن هذا المشروع الرئاسي بدأ يجد التفاعل والحماس الواسع للاستفادة منه خاصة مع انخراط أكثر من جهة تمويل فيه وسعي الحكومة لإنجاحه عبر توفير كل شروط ذلك.
لكن في المقابل يوجد الكثيرون الذين لا يزالون يجهلون تفاصيل و امتيازات هذا المشروع ويكتفون بما يكتب عنه من نقد أو إطراء .
فما هي الشركات الأهلية في تونس و في التجارب المقارنة؟وما هي آليات نجاحها ومعوقاتها؟وهل يمكن أن تكون منوالا تنمويا جديدا؟
الشركات الأهلية ؟
يعرّف المرسوم 15 لسنة 2022 الشركات الأهلية على أنها "تعتبر شركة أهلية على معنى أحكام هذا المرسوم كلّ شخص معنوي تحدثه مجموعة من أهالي الجهة يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية لنشاط اقتصادي انطلاقا من المنطقة الترابية المستقرين بها."
وتهدف الشركات الأهلية إلى تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتها.وهي كثيرة مثلما ورد في المرسوم المذكور من قبيل (مشاركة المواطنين في تنمية الجهات المستقرين بها. و أولوية الإنسان وقيمة العمل الجماعي على الربح الفردي.وتحقيق المصالح الفردية من خلال المصلحة المشتركة.والانخراط الحر والانسحاب الإرادي ومنع كافة أشكال الإقصاء الاجتماعي.والتصرف وفق قواعد الشفافية والنزاهة والمسؤولية والحوكمة الرشيدة القائمة على مبادئ الشفافية والنجاعة والمسؤولية بما يضمن الجدوى الاقتصادية والمنفعة الاجتماعية والإنصاف من حيث مساهمة المشاركين في رأس مال الشركة).
ومن شروطها هي أنه لا يجوز للمشارك أن يكون له أكثر من سهم واحد والذي يساوي صوتا واحدا عند التصويت على القرارات الإدارية أيا كانت قيمة مساهمته في رأس المال عند اتخاذ القرارات.
والأهم أن هذه الشركة هي ملكية جماعية غير قابلة للتقسيم. ولا يجب أن تمارس نشاطها خارج المعتمدية التي أنشأت فيها أو المعتمديات المجاورة لها .وألا يقلّ عدد المساهمين فيها عن 50 شخصا .ويجب ألا يقل رأسمالها عن 10آلاف دينار إذا كانت محلية و20ألف دينار أذا كانت جهوية. وتتكون من مجلس إدارة ومن 6 أو 12عضوا.
ودون الانغماس أكثر في التفاصيل القانونية يلاحظ أن الدولة متبنية في جزء كبير لهذه الشركات وقد خصص لها خط تمويل بـ 20مليون دينار وتخصيص نسبة من مداخيل الصلح الجزائي لتمويلها.
من جهته التزم البنك الوطني للتضامن بتمويل 100شركة في 2024 بقروض تبلغ 300ألف دينار بنسبة فائدة منخفضة تبلغ 5بالمائة و سنة إمهال.وكذلك ستفعل بعض البنوك الأخرى .
وإلى حد اليوم بلغ عدد الشركات المنتصبة 40 شركة بالتوازي مع 60 أخرى طور التأسيس.
العقلية...
لاشك أن أي مشروع ليضمن نجاحه لابد أن تكون هناك قوانين قوية ومرنة تدعمه كما أن عقلية إدارته لاتقل قيمة عن الاعتمادات المالية المرصودة له.
وبالنسبة للشركات الأهلية فلسفة إدارتها والأهداف المرجوة منها هي الأهم، ففي تجارب مقارنة، مؤسسوا مثل هذه الشركات، مع اختلاف التسميات، هم عادة أقل من الخمسين مساهما كحد أدنى كما هو في تونس، كما أن المساهمين فيها ليسوا طلاب شغل ولا يطلبون ربحا سريعا .بمعنى أن دخلهم المادي ليس مرتبطا بمداخيل هذه الشركة وما سيجنونه من أرباحها يدخل في باب الرفاهية وليس الحاجة. عكس فلسفة الشركات الأهلية في تونس التي أريد لها أن تحل جزء من البطالة وأن تكون منوالا تنمويا جزئيا وهذا ما سيعوق نجاح أغلب هذه الشركات التي هي بحاجة إلى سنوات لتصبح مربحة خاصة و أنها ستجد نفسها مضطرة لخلاص أقساط القرض فضلا عن المصاريف اليومية وغيرها.وبالتالي فيخشى على هذه الشركات من استنزاف مواردها المالية فيما ذكرنا وسيزيد استنزافها اذا ما تم تقسيم الأرباح القليلة (إن وجدت) سنويا.
أما عقلية التضامن والتكتل ونكران الذات من أجل المجموعة فتبقى المحرك الرئيسي لهذه الشركات وبدونها لا يمكن أن تحقق النجاح والاستقرار. فصبغة هذه الشركات اجتماعية أولا و ربحية ثانيا وهدفها تسهيل حياة الناس في منطقة تواجدها و تساهم في تنميتها، وهذا ما يجب أن يدركه أصحاب هذه المشاريع أوالذين يفكرون في بعث مشروع من هذا النوع.
تجارب مقارنة
الشركات الأهلية كما أسلفنا القول ليست اختراعا تونسيا بل إنها وجدت في دول أخرى تحت مسميات مختلفة تختزل فيما يسمّى بالاقتصاد الخاص أو الاقتصاد العائلي.
ووجدت التجربة في اسبانيا و اندونيسيا. وهذه التجارب بالتأكيد لم تكن مثالية جدا وتطورت مع الزمن و الكثير من هذه الشركات تحول إلى شركات عامة .
أبرز التجارب كانت في الصين حيث تعد الشركات الأهلية العمود الفقري للاقتصاد الصيني ضمن ما يعرف بالاقتصاد الخاص كما قلنا.
كتاب "الشركات الأهلية في الصين" لأستاذ علم الاقتصاد والخبير بمجلس الدولة الصيني "ليوينغ تشيو" يشرح بالتفصيل طبيعة هذه الشركات والمشاكل التي اعترضتها. كما أنّ لها خصوصيتها المتناسقة مع الواقع الصيني ويوجد مئات الآلاف من هذه الشركات في كل إقليم بحسب طبيعة الاقتصاد و الصناعة والفلاحة فيه. غير أنها تشهد العديد من المشاكل والتحديات، منها اعتمادها على العمالة الكثيفة مع عدم الإنفاق على رأس المال البشري من تكوين وتحسين وضعية. وصعوبة التمويل ومنافسة الشركات المتوسطة و الكبرى .
الكتاب يناقش أيضا مختلف المجالات المعنية بالشركات الأهلية، ويطرح سبل تطويرها وأهمها :
- ضرورة إنفاق الشركات الأهلية على تدريب العمال والموظفين. فيعد تنظيم الدورات التدريبية للعمال والموظفين استثمارًا مهمًا في رأس المال البشري وطريقة تحفيزية فعالة.
- يجب المضيّ قدمًا في تخفيف صعوبات تمويل الشركات الأهلية. وتحسين نظام ضمانات التمويل للشركات التي تعمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا..
ويفسر اقتصاديو الصين المشاركون في الكتاب أيضًا نماذج الحوكمة المختلفة للشركات الأهلية، وهي نموذج الشركات العائلية الكلاسيكية، والشركات العائلية الحديثة، والشركات غير العائلية.
ما يجب أن يكون
فكرة الشركات الأهلية في حد ذاتها يمكن أن تشكّل حلولا بديلة للتنمية المحلية والجهوية، والقانون الصادر لتأسيسها يعدّ إجمالا جيدا ومشجعا لكنه يبقى في حاجة إلى تطوير حتى تستطيع هذه الشركات الدخول في سوق المنافسة. كما وجب توسيع نطاق هذه الشركات لتشمل المدن أيضا وقطاعات واعدة في التكنولوجيا و الذكاء الاصطناعي حتى لا يرتبط اسم هذه الشركات بالقطاعات الكلاسيكية و المهمشة .
فهذه الشركات يجب أن تكون مصدرا لخلق الثروة لا ملجأ لمن طالت بطالته والحالمين بالربح السهل و السريع. فمجرد الحماس والإغراءات لتأسيس هذه الشركات لا يكفي .
نجاح هذه الشركات في فهم فلسفتها ومن لا يفهم فلسفتها لا يجب أن يغامر بتأسيسها.