اللغـــة وعاء للفكر ومرآة للنفس هي " قاعـدة الثقافة " ولا يمكن إيجاد ثقافــة راقية بلغــة منحطـّــة
بقلم: علي السّعداوي *
إنّ شأن اللغة – لو ندري حقّا – شأن كبير، فالتأمّل والتدبّر والاطّلاع والمدارسة ، كلّ هذا كفيل بأن يوقفنا على حقيقة اللغة ، إطلاقا، الكلام البشري، اللسان الإنساني ، البيان والتبيين والقول والخطاب. والتونسيون الذين أشرت إليهم في المقال الأول ، بشتّى اختصاصاتهم والذين يقفون موقفا إيجابيا من اللغة وحذقها والمحافظة على سلامتها والحرص على نشرها واستعمالها على نطاق واسع، لابدّ أنّهم على وعي بقيمة اللغة، واللغات في حياة الفرد والمجموعة، وفي مختلف المياديــن و"الصّناعات" على حدّ العبارة الخلدونيـة.
وقد أتيحت لي فرصة الحديث إلى عدد منهم من ذوي الرتب العالية. وعلى نقيضـهم فئات أخرى عريضـة من أبناء بلدنا وبناتــه. اتخذت من هذه القضية أعنــي اللغة واستعمالها في المشافهــة والكتابة، موقفا سلبيا، قوامــه الاستهانة والتجاسر على الكلام كما جاء بعبارات سقيمة وسدّ للثغرات بمفردات دخيلة معرّبة تعريبا صوتيا لا صلة له باحترام الذات والهوية الجماعيّـة والذوق السليم، إنما هو يُخفي ضحالة في التكوين وفقرا مدقعا في المعجم وعدم وعي بتاتا بقيمة اللغة ودورها في حياة الفرد والمجتمع وصنع الحضارة.
والحال أنه بإمكاننا أن نزيل عن قولنا الغشاوة ونراجع ما يحتاج إلى المراجعة من مواقفنا من اللغة وتصرفنا في استعمالها بالنظر في ما قاله أهل الذكر واتخاذه حجــة ووسيلة في ترغيب الناشئــة في حذق لغــة أو أكثر، وفي إثناء بعض المتحدّثين عن المضيّ في الخلط اللغوي. وسأحصر مجال الدفاع والصدّ في الحجج التالية:
I- منــزلة اللغة ووظيفتها :
الإنسان من أبرز سماتــه النطق بالكلام . واللغة عنده أداة تعبير وتواصل، تعكس نفسيتــه وعقليته ونظرته إلى الكون من حوله.
وهي الطريق إلى المعرفة والتعارف الإنساني. بل اللغة ضرورية لبقاء النوع الإنساني حسب فخر الدين الرّازي وإنّ الاجتماع الإنساني بأكمله قائم على اللغــة، التي ترتبط قوّتــها بقوّة أهلــها وارتباط إشعاعــها بإشعاع الأمـّــة التي تتداولــها وقد وفـّـــق بن خلدون في تحليل هذه الوظيفـــة الحضاريــة للغــة ( انظر ص 19-20 من كتاب النظريــة اللسانيـة والشعرية في التراث العربي لأصحابــه الأعلام عبد القادر المهيري وحمادي صمود وعبد السلام المسدّي).
واللغـــة- بعــد هذا- وعند كبار المفكّــريــن- وعاء للفكر ومرآة للنفس هي " قاعـدة الثقافة" كما جاء في كتاب "ماهي النـّـــهـــضـــة" لسلامـة موسى، ولا يمكن إيجاد ثقافــة راقية بلغــة منحطـّــة ولا ثقافـة متحرّكة بلغة جامدة. ويقرب من هذا الرأي السديد قول جورج بومبيدو– وهو مـَن هو تضلعا ورهافـــة حــسّ " إنّ الثقافـة هي القراءة ، ولا تكون قراءة بلا لغــة" والقراءة كما نعلم "صانعـــة الأمم". لــذا يُسـتحب اكتساب ملكة التعبير في اللسان القومي وحذق لغــة ثانيــة أو ثالثـــة لأنّ كلّ لسان بإنسان حسب ميخائيــل نعيمــة وكل لغـــة جديدة هي نافذة مفتوحـــة على العالم على حدّ عبارة هشام بوقمرة.
وهذا الاكتساب لا حدّ له للصّغار والكبار بمعنــى أنّ أناسا كثيريــن قادرون على امتلاك أكثر من لغــة .
II- اللّغـــة والفــكــر
حجـّــة أخرى علميــة نسوقــها لتبيان شأن اللغــة وضرورة تملّكــها لازدهار الكيان، كيان الفرد والمجموعة واستقامــة التواصل وسمــوّ المعرفة والثقافــة، هي المتعلقة بصلة اللغــة بالفكر وصلة الفكر باللغــة. وهي مسألة مطروحــة منذ القديم في علم اللغـــة وفلسفــة اللغة خاصــة منذ بدايات القرن العشرين على أيدي أفذاذ من المفكّرين والعلماء والباحثين من أمثال عالم النفس الرّوس Vitgotski في كتابه "الفكر واللغــة"pensée et langage (1933) ، والمفكّر النمساوي Wittgensten (1951-1889)،ورائد اللسانيات العرفانيـّــة (( La linguistique Cognitive هذا التيار الذي ظهر في السبعينات من القرن الماضي وبلغ ذروتــه في السنوات الثمانين (انظر الأعداد الثرية التي نشرتها مجلة العلوم الإنسانية (الفرنسية) مارس 2013، سبتمبر 2020 وماي 2023 وأكتوبر 2023 ) وهي أعداد ممتازة تعتبر مراجع نفيســـة تعلقت بآراء كبار الفلاسفــة وبالنظريات اللغويـة وإن غضّــت الطرف إلا قليلا عن مدد الفلاسفــة المسلميــن وآراء علماء العربية. ومن حسن الحظّ أن سَـــدّ هذه الثغــرة علماء تونسيون في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه وهو أعنـي" النظرية اللسانيــة في التراث العربي" الجدير بالترجمـة إلى لغات أخرى تعريفا بحصافــة الرأي في هذا التراث الماجد.
والناظر المدقق في هذه المراجع وغيرها يجد كثيرا من الآراء التي تكاد تستقرّ بشأن العلاقة المتبادلة بين اللغـــة والفكر وقد استحسنّا العرض المبسّــط الموفـّــق بشأن هذه المسألة في العدد الصادر من مجلة الهلال جوان 2012 وبالتحديد من المقال الموجز " غموض اللغــة وغموض الفكر" لمحمد داود من ص 138 إلى ص 139.
من الواضح وكما قال بلاز باسكال (Blaise pascal) في كتابه خواطر " Pensées (1670) "إنّ الإنسان جُعل ليفكّر، وفّي هذا كل كرامته وكلّ قيمته، وأن يُحسن التفكير وفذلك تمام واجبه " فآية الانسان التفكير وحرية التفكير، والتفكير في حديثنا هذا هو اللغة، وهو ما تبسّط فيه العلماء والمفكرون شرقا وغربا وخلاصتــه أنّ الفكر شديد الارتباط باللغــة وحتـّـــى الطفل يتعلّم الأشياء من خلال أسمائها إذ يولــد لديــه حسب E.BENVENISTE الوعي بالوسط الاجتماعي الذي يسبح فيه والذي يشكّل تدريجيا فكره بواسطــة اللغــة. والفكر ثمرة اللغــة فنحن لا نستطيع أن نفكر في ما حولنــا خارج اللغة (Langage) أو الكلام ، وإنـما جعلت الألفاظ علامات على المعاني حسب قول الفارابي. صحيح أن الفكر يقوم على الكلام، و"أن اللغــة هي القالب الذي يصبّ فيه التفكير (الهلال، محمد داود ) لكنّ الكلام العادي يرتكز على خطاطات عرفانية تسبق الكلمات أو يمرّ بصور ذهنيــة زيادة على الكلمات. فالعلاقة بين الطرفين تبادلية أو قل جدليـة: اللغة تصوغ الفكر والفكر يصوغ اللغة. فالتفكير يتألّف من عناصر لغوية والعقل البشري يكتسب إلادراكات الأولية عن طريق اللغة التي يتلقّاها الانسان منذ سنواته الأولى من حياته.
وتترتّب عن هذه العلاقة بين الفكر واللغة أمور كبيرة عرض لها باختصار محمد داود في مقاله المذكور آنفا من حيث درجــة النضج والوضوح والفساد أو الخطل. فكلما كانت الأفكار ناضجــة في الذهن واضحــة المعالم كان التعبير عنها واضحا. فإذا أفسد الفكرُ اللغــةَ فاللغــةُ يمكنها أن تفسد الفكرَ. ولا شكّ أن التفكير العميق يستلزم ثراء لغويا إذ تقوم اللغـــة بدور كبير في تكوين المفاهيم والعمليات العقلية. وإن تنمية الثروة اللغوية يسهم في تحسين استراتيجيات التفكير.
وهكذا يمكن أن يستبيــن لنا – من خلال ما عرضنا بآختصار شديد أن أمر الاستهانــة باللغـــة لا يليق ولا مبرّر له إلا من باب الخديعـــة والمخاتلــة وخطل الرأي مع حبـّـــي و تقديري لمن يزلّ بهم اللّسان وحان أن نقول للمعنييــن وخاصة معالي أصحاب المؤسسات الإعلاميــة أو قل بعضــهم: اتـّــــقوا الله في لغتــنا ولا تساهموا في هـــدم ما تبنيـــه المدرســـة ويقرّه العلم ولا تساعدوا على قطع الصلــة بتراثنا.
وتحيـــّـــة ، تحيــّـــة إلى من يغار على سلامــة اللغـــة ويحرص على إحاطتــها بما يلزم من مراجعــة وتدقيق لما وضحنا في هذا المقال بقسمـــيه. وأضيف إلى هذا تنويــــها بجهـــود الكتاب والمحلليـــن الذيـــن يحسنون التبليــغ ويجيدون الكتابة بأية لغــة كانت. فهؤلاء وأضرابهم أو أمثالهم كنوزنا التي ينبغــي أن نحافظ عليها مثلما نحافظ على معالمنـــا الحضارية .
وخير ما نختم به هذه الخواطر ومصداقا للعنوان، قول أستاذنا القدير المرحوم توفيق بكار في تقديمه لرواية " مانعـــة" لمصطفى الفيلالي التي صدرت عام 2004 : " ولا يحكي كيانك مِثـل لسانك، وإذا تفسـّـخ لسانُ قوم مُسخـوا ..." (المرجع المذكور ص 25 بتاريخ 10/نوفمبر/2003).
*متفقد تعليم
متقاعد
صفاقس
اللغـــة وعاء للفكر ومرآة للنفس هي " قاعـدة الثقافة " ولا يمكن إيجاد ثقافــة راقية بلغــة منحطـّــة
بقلم: علي السّعداوي *
إنّ شأن اللغة – لو ندري حقّا – شأن كبير، فالتأمّل والتدبّر والاطّلاع والمدارسة ، كلّ هذا كفيل بأن يوقفنا على حقيقة اللغة ، إطلاقا، الكلام البشري، اللسان الإنساني ، البيان والتبيين والقول والخطاب. والتونسيون الذين أشرت إليهم في المقال الأول ، بشتّى اختصاصاتهم والذين يقفون موقفا إيجابيا من اللغة وحذقها والمحافظة على سلامتها والحرص على نشرها واستعمالها على نطاق واسع، لابدّ أنّهم على وعي بقيمة اللغة، واللغات في حياة الفرد والمجموعة، وفي مختلف المياديــن و"الصّناعات" على حدّ العبارة الخلدونيـة.
وقد أتيحت لي فرصة الحديث إلى عدد منهم من ذوي الرتب العالية. وعلى نقيضـهم فئات أخرى عريضـة من أبناء بلدنا وبناتــه. اتخذت من هذه القضية أعنــي اللغة واستعمالها في المشافهــة والكتابة، موقفا سلبيا، قوامــه الاستهانة والتجاسر على الكلام كما جاء بعبارات سقيمة وسدّ للثغرات بمفردات دخيلة معرّبة تعريبا صوتيا لا صلة له باحترام الذات والهوية الجماعيّـة والذوق السليم، إنما هو يُخفي ضحالة في التكوين وفقرا مدقعا في المعجم وعدم وعي بتاتا بقيمة اللغة ودورها في حياة الفرد والمجتمع وصنع الحضارة.
والحال أنه بإمكاننا أن نزيل عن قولنا الغشاوة ونراجع ما يحتاج إلى المراجعة من مواقفنا من اللغة وتصرفنا في استعمالها بالنظر في ما قاله أهل الذكر واتخاذه حجــة ووسيلة في ترغيب الناشئــة في حذق لغــة أو أكثر، وفي إثناء بعض المتحدّثين عن المضيّ في الخلط اللغوي. وسأحصر مجال الدفاع والصدّ في الحجج التالية:
I- منــزلة اللغة ووظيفتها :
الإنسان من أبرز سماتــه النطق بالكلام . واللغة عنده أداة تعبير وتواصل، تعكس نفسيتــه وعقليته ونظرته إلى الكون من حوله.
وهي الطريق إلى المعرفة والتعارف الإنساني. بل اللغة ضرورية لبقاء النوع الإنساني حسب فخر الدين الرّازي وإنّ الاجتماع الإنساني بأكمله قائم على اللغــة، التي ترتبط قوّتــها بقوّة أهلــها وارتباط إشعاعــها بإشعاع الأمـّــة التي تتداولــها وقد وفـّـــق بن خلدون في تحليل هذه الوظيفـــة الحضاريــة للغــة ( انظر ص 19-20 من كتاب النظريــة اللسانيـة والشعرية في التراث العربي لأصحابــه الأعلام عبد القادر المهيري وحمادي صمود وعبد السلام المسدّي).
واللغـــة- بعــد هذا- وعند كبار المفكّــريــن- وعاء للفكر ومرآة للنفس هي " قاعـدة الثقافة" كما جاء في كتاب "ماهي النـّـــهـــضـــة" لسلامـة موسى، ولا يمكن إيجاد ثقافــة راقية بلغــة منحطـّــة ولا ثقافـة متحرّكة بلغة جامدة. ويقرب من هذا الرأي السديد قول جورج بومبيدو– وهو مـَن هو تضلعا ورهافـــة حــسّ " إنّ الثقافـة هي القراءة ، ولا تكون قراءة بلا لغــة" والقراءة كما نعلم "صانعـــة الأمم". لــذا يُسـتحب اكتساب ملكة التعبير في اللسان القومي وحذق لغــة ثانيــة أو ثالثـــة لأنّ كلّ لسان بإنسان حسب ميخائيــل نعيمــة وكل لغـــة جديدة هي نافذة مفتوحـــة على العالم على حدّ عبارة هشام بوقمرة.
وهذا الاكتساب لا حدّ له للصّغار والكبار بمعنــى أنّ أناسا كثيريــن قادرون على امتلاك أكثر من لغــة .
II- اللّغـــة والفــكــر
حجـّــة أخرى علميــة نسوقــها لتبيان شأن اللغــة وضرورة تملّكــها لازدهار الكيان، كيان الفرد والمجموعة واستقامــة التواصل وسمــوّ المعرفة والثقافــة، هي المتعلقة بصلة اللغــة بالفكر وصلة الفكر باللغــة. وهي مسألة مطروحــة منذ القديم في علم اللغـــة وفلسفــة اللغة خاصــة منذ بدايات القرن العشرين على أيدي أفذاذ من المفكّرين والعلماء والباحثين من أمثال عالم النفس الرّوس Vitgotski في كتابه "الفكر واللغــة"pensée et langage (1933) ، والمفكّر النمساوي Wittgensten (1951-1889)،ورائد اللسانيات العرفانيـّــة (( La linguistique Cognitive هذا التيار الذي ظهر في السبعينات من القرن الماضي وبلغ ذروتــه في السنوات الثمانين (انظر الأعداد الثرية التي نشرتها مجلة العلوم الإنسانية (الفرنسية) مارس 2013، سبتمبر 2020 وماي 2023 وأكتوبر 2023 ) وهي أعداد ممتازة تعتبر مراجع نفيســـة تعلقت بآراء كبار الفلاسفــة وبالنظريات اللغويـة وإن غضّــت الطرف إلا قليلا عن مدد الفلاسفــة المسلميــن وآراء علماء العربية. ومن حسن الحظّ أن سَـــدّ هذه الثغــرة علماء تونسيون في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه وهو أعنـي" النظرية اللسانيــة في التراث العربي" الجدير بالترجمـة إلى لغات أخرى تعريفا بحصافــة الرأي في هذا التراث الماجد.
والناظر المدقق في هذه المراجع وغيرها يجد كثيرا من الآراء التي تكاد تستقرّ بشأن العلاقة المتبادلة بين اللغـــة والفكر وقد استحسنّا العرض المبسّــط الموفـّــق بشأن هذه المسألة في العدد الصادر من مجلة الهلال جوان 2012 وبالتحديد من المقال الموجز " غموض اللغــة وغموض الفكر" لمحمد داود من ص 138 إلى ص 139.
من الواضح وكما قال بلاز باسكال (Blaise pascal) في كتابه خواطر " Pensées (1670) "إنّ الإنسان جُعل ليفكّر، وفّي هذا كل كرامته وكلّ قيمته، وأن يُحسن التفكير وفذلك تمام واجبه " فآية الانسان التفكير وحرية التفكير، والتفكير في حديثنا هذا هو اللغة، وهو ما تبسّط فيه العلماء والمفكرون شرقا وغربا وخلاصتــه أنّ الفكر شديد الارتباط باللغــة وحتـّـــى الطفل يتعلّم الأشياء من خلال أسمائها إذ يولــد لديــه حسب E.BENVENISTE الوعي بالوسط الاجتماعي الذي يسبح فيه والذي يشكّل تدريجيا فكره بواسطــة اللغــة. والفكر ثمرة اللغــة فنحن لا نستطيع أن نفكر في ما حولنــا خارج اللغة (Langage) أو الكلام ، وإنـما جعلت الألفاظ علامات على المعاني حسب قول الفارابي. صحيح أن الفكر يقوم على الكلام، و"أن اللغــة هي القالب الذي يصبّ فيه التفكير (الهلال، محمد داود ) لكنّ الكلام العادي يرتكز على خطاطات عرفانية تسبق الكلمات أو يمرّ بصور ذهنيــة زيادة على الكلمات. فالعلاقة بين الطرفين تبادلية أو قل جدليـة: اللغة تصوغ الفكر والفكر يصوغ اللغة. فالتفكير يتألّف من عناصر لغوية والعقل البشري يكتسب إلادراكات الأولية عن طريق اللغة التي يتلقّاها الانسان منذ سنواته الأولى من حياته.
وتترتّب عن هذه العلاقة بين الفكر واللغة أمور كبيرة عرض لها باختصار محمد داود في مقاله المذكور آنفا من حيث درجــة النضج والوضوح والفساد أو الخطل. فكلما كانت الأفكار ناضجــة في الذهن واضحــة المعالم كان التعبير عنها واضحا. فإذا أفسد الفكرُ اللغــةَ فاللغــةُ يمكنها أن تفسد الفكرَ. ولا شكّ أن التفكير العميق يستلزم ثراء لغويا إذ تقوم اللغـــة بدور كبير في تكوين المفاهيم والعمليات العقلية. وإن تنمية الثروة اللغوية يسهم في تحسين استراتيجيات التفكير.
وهكذا يمكن أن يستبيــن لنا – من خلال ما عرضنا بآختصار شديد أن أمر الاستهانــة باللغـــة لا يليق ولا مبرّر له إلا من باب الخديعـــة والمخاتلــة وخطل الرأي مع حبـّـــي و تقديري لمن يزلّ بهم اللّسان وحان أن نقول للمعنييــن وخاصة معالي أصحاب المؤسسات الإعلاميــة أو قل بعضــهم: اتـّــــقوا الله في لغتــنا ولا تساهموا في هـــدم ما تبنيـــه المدرســـة ويقرّه العلم ولا تساعدوا على قطع الصلــة بتراثنا.
وتحيـــّـــة ، تحيــّـــة إلى من يغار على سلامــة اللغـــة ويحرص على إحاطتــها بما يلزم من مراجعــة وتدقيق لما وضحنا في هذا المقال بقسمـــيه. وأضيف إلى هذا تنويــــها بجهـــود الكتاب والمحلليـــن الذيـــن يحسنون التبليــغ ويجيدون الكتابة بأية لغــة كانت. فهؤلاء وأضرابهم أو أمثالهم كنوزنا التي ينبغــي أن نحافظ عليها مثلما نحافظ على معالمنـــا الحضارية .
وخير ما نختم به هذه الخواطر ومصداقا للعنوان، قول أستاذنا القدير المرحوم توفيق بكار في تقديمه لرواية " مانعـــة" لمصطفى الفيلالي التي صدرت عام 2004 : " ولا يحكي كيانك مِثـل لسانك، وإذا تفسـّـخ لسانُ قوم مُسخـوا ..." (المرجع المذكور ص 25 بتاريخ 10/نوفمبر/2003).