إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

حرب غزة.. حطّمت جيلا كاملا من الأطفال

الوجه الآخر من الحرب على غزة هم الأطفال المحطمون نفسيا والذين تعايشوا مع الحرب والرعب منذ ولادتهم

 

بقلم: ريم بالخذيري(*)

الحرب على غزة التي انطلقت في 7أكتوبر 2023 ماهي سوى حلقة من حلقات المخطّط الإسرائيلي الدموي الذي يهدف الى قتل ما أمكن من الأطفال والنساء تنفيذا لمخطط إجهاض التكاثر الفلسطيني الذي يعتبرونه الخطر الحقيقي على الوجود اليهودي فلسطين المحتلة.أو حرب الأرحام كما أسميها.

غير أن هذه الحرب تعدّ الأعنف. ولغاية اليوم خلّفت عشرات الالاف من الضحايا الأطفال بين قتيل وجريح وفاقد للسند. ووفقا لإحصائيات غير نهائية فقد قتل ما لا يقل عن 11 ألفا و500 طفل الكثير منهم قضوا وهم نيام في أسرتهم أو في خيام اللجوء. وأمثالهم من المصابين واليتامى. ويعتبر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي أنّه لا مبرّر لهذه الجرائم ولا تفسير لذلك سوى وجود جيش وحكومة في إسرائيل لا يتقيدان بأي قانون ولا أخلاق.

الوجه الآخر من الحرب على غزة هم هؤلاء الأطفال المحطمون نفسيا والذين تعايشوا مع الحرب والرعب منذ ولادتهم.هم جيل محطّم في حاجة لمعجزة لإعادة التوازن النفسي اليهم وما يزيد في معاناتهم ومأساتهم الصمت الدولي الرهيب وكأن هؤلاء الضحايا مجرّد صور وأرقام تتواتر في نشرات الأخبار.

القليل من وسائل الاعلام تحدّثت الى هؤلاء عن قرب وتركت لهم المجال ليحكوا عن احساسهم وتصورهم للحياة في ظل الحرب وفقد الأحبة. 

يقول يشير جوناثان كريكس، رئيس اتصالات وكالة الأمم المتحدة في فلسطين، أنه لا يوجد مكان في قطاع غزة يمكن اعتباره آمنا. لا ترى سوى مشاهد أطفال يبكون، وآخرون يرقدون على أسرة المستشفيات، وآخرون ماتوا بين أحضان والديهم. الصور التي أصبحت لا تطاق مع تفاقم الوضع كل يوم. الغذاء شحيح، والماء شحيح. ويلخص الوضع أنّ "غزة أصبحت مقبرة للأطفال".

شهادات مؤلمة تناقلتها عدد من وسائل الإعلام الجادّة والمحايدة لأطفال ولدوا زمن الحرب وتعايشوا معها وطبّعوا يروون رؤيتهم للحياة وعن براءتهم التي انتزعت و عن ذويهم الذين فقدوهم.

نوران 13 عاماً: "لا أذكر عاماً دون تفجيرات"

استهلّت الفتاة بالحديث عن أحلامها المغتالة بالقول: “أود أن أصبح شاعرة عندما أكبر”. أمّا اليوم فلا ترغب سوى رؤية جدتها مرة أخرى، والتي ليس لديها أخبار عنها.

نورهان محمد معروف. كانت تعيش مع أبويها وأخواتها الثلاثة وشقيقها الأصغر، في منزل جميل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة. وكانت هناك أيضًا حديقة اعتادوا اللعب فيها. لكن كل شيء انهار في لمح البصر.

تضيف نورهان "لقد مررنا بالعديد من الحروب ولا أتذكر عامًا لم نشهد فيه التفجيرات. الأمر أصبح روتينيًا بالنسبة لنا نحن الأطفال. لكن هذه الحرب مختلفة. لقد فهمنا هذا منذ اليوم الأول. كانت الضوضاء أكثر رعبا والدمار أكثر كثافة من ذي قبل. كل شيء مستهدف".

كانت نورهان وعائلتها، بسبب قربهم من الحدود الإسرائيلية، من أوائل النازحين. ليس مرة واحدة، ولا مرتين، ولكن باستمرار. وتقول إنهم، في الأيام الأولى من الحرب، اضطروا إلى الرحيل إلى منزل جدها في مخيم للاجئين. ظنا منهم أنه مكان آمن لكن بعد أيام قليلة لم يعد من الممكن البقاء حيث تكرر قصف المخيم.

ليعاودوا الرحلة على الطرق غير الآمنة، ويستقرون بمدرسة الفاخورة. ولكن بعد يومين من استهداف المدرسة، كان من الضروري إخلاءها إلى مؤسسة أخرى، حيث لجأ مئات الأشخاص. وهنا مرة أخرى، ومع انعدام الأمن بشكل كامل، اتجهت نورهان وعائلتها جنوبًا، إلى الغرب من محافظة خان يونس. وأخيراً عثروا على خيمة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً.

تتذكر نورهان لحظات الهدوء التي كانوا يعيشونها عندما كانوا يجتمعون أمام جهاز التلفزيون لمشاهدة الأفلام والمسلسلات. وتتذكر باعتزاز قائلة: "بعد أن قمنا بواجباتنا المنزلية بالطبع". "لقد رأينا ممثلين في مشاهد الحرب، لكنني لم أتخيل أبدًا أن أعيش مشاهد مماثلة بنفسي".

ثم تتحدث عن هذا النزوح الذي عانت منه منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والأهوال التي شاهدتها على الطريق، وكيف تغمض أعين أخواتها الصغيرات حتى لا تقع أعينهن على الجثث المتناثرة على الأرض.

الفتاة كانت تتكلم بلباقة وثقة فتحدثت عن نقص الحليب والحفاضات للأطفال الصغار، والخوف من رؤية والدهم يغادر للعثور على الماء أو الخبز دون معرفة ما إذا كان سيعود أم لا؟ لكن تغالبها شخصيتها الطفولية وتبدأ في البكاء متلعثمة: «لدينا حياة بائسة. » نورهان، مثل أي طفلة في عمرها، تريد أن تكون سعيدة. وهي تريد أن تنتهي الحرب وأن تتمكن من العثور على جدتها التي ليس لديها أخبار عنها.

 “بين الموتى رأيت أمي

بعد أن فقد والدته في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، نزح محمد اليازجي، 13 عاماً، بمفرده مع شقيقاته الأصغر سناً – أصغرهن عمرها شهر واحد فقط – إلى رفح.

كان يعيش حتى 7 أكتوبر مع والديه في بيت حانون شمال قطاع غزة. في منزل متواضع، لكنه، كما يؤكد، كان يشعر "بالدفء والمحبة طوال الوقت". كان والده يعمل في مواقع البناء وكانت والدته تعتني بالمنزل. كان يذهب إلى المدرسة كل صباح، مثل الأطفال الآخرين في الحي الذي يسكن فيه. وكان عاشقا لكرة القدم. لكن الحرب التي قادتها إسرائيل غيرت مجرى حياته.

وتحت وطأة القصف العنيف، اضطر جزء كبير من سكان بيت حانون إلى مغادرة المنطقة. التقى محمد عائلته في مستشفى الشفاء بمدينة غزة. وكان الآلاف من الناس مزدحمين محاولين التأقلم والتعايش. ووجد هو وأخواته أنفسهم في خيمة. ويتذكر قائلاً: "كنا نسمع صوت الدبابات الإسرائيلية دون أن نعرف مكانها بالضبط".

المنعرج في حياته بدأ حين غادرتهم والدته لمحاولة إحضار أجداده وحدث ذلك في غياب والده. وبعد ساعات قليلة، وصلت العديد من الجثث إلى المستشفى. وينهار محمد وهو يتحدث عما جرى بالقول:"بين الموتى رأيت والدتي. لم أكن أريد أن أصدق ذلك. بدأت بالصراخ والبكاء. أردت أن أرى والدي، لأخبره بما حدث للتو، لكنني لم أتمكن من العثور عليه. لقد ماتت والدتي التي أحبتنا كثيرًا. لقد رحلت، ولن نراها مرة أخرى. لماذا علينا تجربة شيء كهذا؟ "وتساءل محمد عمّا سيصبح عليه هو وأخواته – أصغرهم يبلغ من العمر شهرًا واحدًا فقط.

ومع انقطاع الاتصالات، لم يتمكن محمد من العثور على والده ليصل واخوته رفح وحدهم.

في رفح كان محمد يحاول إيواء أخواته في خيمة ممزقة، وأجبر على الاعتناء بأخواته والتصرف مثل رب الأسرة. يذهب كل يوم يطرق أبواب الجيران ليأتي لإخوته بفتات من الطعام وقليل من الحليب لأخته الرضيعة.

يريد محمد أن تنتهي الحرب ويتمنى العثور على والده الذي لا يعرف إن كان حياّ أو ميّتا. ويستعيد طفولته.

أبي مسعفي وطبيبي..

محمد أبو دقة، 15 عاماً، لم  يغادر المستشفى بعد. وبعد إصابته، خضع لعملية جراحية، لكن سيتعين عليه مغادرة قطاع غزة لإجراء عملية جراحية جديدة في الخارج.

عندما ولد أحمد، كان قطاع غزة بالفعل تحت الحصار الذي فرضته إسرائيل. وفي الخامسة عشرة من عمره، لم يعرف سوى الخوف والخطر الدائم والحروب. ورغم ذلك استمر في تحقيق أحلامه وطموحاته. وحلمه أن يكون طبيبا ليخفف من معاناة الناس.

أحمد مفعم بالحياة، حتى في سريره بالمستشفى حيث يرقد منذ أسابيع، منذ أن أصيب في قدمه أثناء القصف حينما كان في السوق مع والدته وبدأت القذائف تنهال على المدنيين.

يقول "وصلت سيارة إسعاف وانتهى بي الأمر في المستشفى. كانت قدمي تؤلمني جدا. ووالدي هو من أجرى العملية الجراحية لي".

ولكي يحصل على العلاج الكامل، يجب أن يكون قادراً على مغادرة الأراضي الفلسطينية وإجراء عملية جراحية جديدة في الخارج لأن المعدات المتوفرة ليست كافية. ويشير بشجاعة: "وبعد ذلك، هناك الكثير من الجرحى الذين ينبغي أن يتمكنوا من الخروج".

يضيف"أنا من قرية عبسان جنوب قطاع غزة بالقرب من خان يونس. ولكن، وبسرعة كبيرة، اضطررنا إلى الفرار من المنزل، لأننا كنا معرضين للقصف. ثم وجدنا أنفسنا في مدرسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، بالقرب من مستشفى ناصر حيث يعمل والداه. يتنهد قائلاً: "اضطررت إلى مغادرة منزلي الكبير والجميل ذي الواجهة المزخرفة وحديقة مليئة بالزهور وأشجار الفاكهة". "نحن الآن مزدحمون في الفصول الدراسية وعلينا أن نقف في طابور للاغتسال، عندما يكون هناك ماء".

شهادات مختزلة تلخص معاناة جيل كامل ترغب إسرائيل في محوه من الوجود لكن هذا الجيل وما تبقى منه رضع أبجديات المقاومة ولقّح بالإيمان بالقضية العادلة.

ولهذا فمقاومة الاحتلال عند الفلسطينيين تحوّلت الى فكرة لن تموت.

فيض من غيض..

ما يعيشه الأطفال في غزة زمن الحرب ما هو سوى عيّنة من مأساة هذه الفئة الهشة الأكثر تأثرا بمشاهد الرعب والخوف وحتى التجنيد القسري والإجبار على خوض الحروب. حيث تم إحصاء ما لا يقل عن 5 ملايين ضحية بين قتيل ومصاب ومعوق وفاقد للسند طفل جراء الحروب والنزاعات المسلحة في العالم.

وقد ارتفع عدد الأطفال الذين أصيبوا أو قُتلوا بنسبة 300 في المائة على مدى العقد الماضي.

لكن رغم كل شيء يقول خبراء علم النفس أنه نادرا ما يفقد الأطفال إحساسهم بالأمل ولا ينبغي الاستهانة بقدرتهم على الصمود. ويمكن أن تساعد الرعاية الموجهة بشكل جيد الأطفال على التعافي وإعادة الإدماج في بيئة يمكنهم فيها استعادة صحتهم وتوازنهم النفسي وإيجاد بيئات عائلية لمن فقدوا اوليائهم.

وهذه المهمة الأساسية والأولوية القصوى التي على المجتمع الدولي الاضطلاع بها وتحمل مسؤوليته كاملة تجاه أطفال غزة فمأساة هؤلاء الحقيقية ستبدأ حين تحط الحرب أوزارها.

حرب غزة.. حطّمت جيلا كاملا من الأطفال

الوجه الآخر من الحرب على غزة هم الأطفال المحطمون نفسيا والذين تعايشوا مع الحرب والرعب منذ ولادتهم

 

بقلم: ريم بالخذيري(*)

الحرب على غزة التي انطلقت في 7أكتوبر 2023 ماهي سوى حلقة من حلقات المخطّط الإسرائيلي الدموي الذي يهدف الى قتل ما أمكن من الأطفال والنساء تنفيذا لمخطط إجهاض التكاثر الفلسطيني الذي يعتبرونه الخطر الحقيقي على الوجود اليهودي فلسطين المحتلة.أو حرب الأرحام كما أسميها.

غير أن هذه الحرب تعدّ الأعنف. ولغاية اليوم خلّفت عشرات الالاف من الضحايا الأطفال بين قتيل وجريح وفاقد للسند. ووفقا لإحصائيات غير نهائية فقد قتل ما لا يقل عن 11 ألفا و500 طفل الكثير منهم قضوا وهم نيام في أسرتهم أو في خيام اللجوء. وأمثالهم من المصابين واليتامى. ويعتبر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي أنّه لا مبرّر لهذه الجرائم ولا تفسير لذلك سوى وجود جيش وحكومة في إسرائيل لا يتقيدان بأي قانون ولا أخلاق.

الوجه الآخر من الحرب على غزة هم هؤلاء الأطفال المحطمون نفسيا والذين تعايشوا مع الحرب والرعب منذ ولادتهم.هم جيل محطّم في حاجة لمعجزة لإعادة التوازن النفسي اليهم وما يزيد في معاناتهم ومأساتهم الصمت الدولي الرهيب وكأن هؤلاء الضحايا مجرّد صور وأرقام تتواتر في نشرات الأخبار.

القليل من وسائل الاعلام تحدّثت الى هؤلاء عن قرب وتركت لهم المجال ليحكوا عن احساسهم وتصورهم للحياة في ظل الحرب وفقد الأحبة. 

يقول يشير جوناثان كريكس، رئيس اتصالات وكالة الأمم المتحدة في فلسطين، أنه لا يوجد مكان في قطاع غزة يمكن اعتباره آمنا. لا ترى سوى مشاهد أطفال يبكون، وآخرون يرقدون على أسرة المستشفيات، وآخرون ماتوا بين أحضان والديهم. الصور التي أصبحت لا تطاق مع تفاقم الوضع كل يوم. الغذاء شحيح، والماء شحيح. ويلخص الوضع أنّ "غزة أصبحت مقبرة للأطفال".

شهادات مؤلمة تناقلتها عدد من وسائل الإعلام الجادّة والمحايدة لأطفال ولدوا زمن الحرب وتعايشوا معها وطبّعوا يروون رؤيتهم للحياة وعن براءتهم التي انتزعت و عن ذويهم الذين فقدوهم.

نوران 13 عاماً: "لا أذكر عاماً دون تفجيرات"

استهلّت الفتاة بالحديث عن أحلامها المغتالة بالقول: “أود أن أصبح شاعرة عندما أكبر”. أمّا اليوم فلا ترغب سوى رؤية جدتها مرة أخرى، والتي ليس لديها أخبار عنها.

نورهان محمد معروف. كانت تعيش مع أبويها وأخواتها الثلاثة وشقيقها الأصغر، في منزل جميل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة. وكانت هناك أيضًا حديقة اعتادوا اللعب فيها. لكن كل شيء انهار في لمح البصر.

تضيف نورهان "لقد مررنا بالعديد من الحروب ولا أتذكر عامًا لم نشهد فيه التفجيرات. الأمر أصبح روتينيًا بالنسبة لنا نحن الأطفال. لكن هذه الحرب مختلفة. لقد فهمنا هذا منذ اليوم الأول. كانت الضوضاء أكثر رعبا والدمار أكثر كثافة من ذي قبل. كل شيء مستهدف".

كانت نورهان وعائلتها، بسبب قربهم من الحدود الإسرائيلية، من أوائل النازحين. ليس مرة واحدة، ولا مرتين، ولكن باستمرار. وتقول إنهم، في الأيام الأولى من الحرب، اضطروا إلى الرحيل إلى منزل جدها في مخيم للاجئين. ظنا منهم أنه مكان آمن لكن بعد أيام قليلة لم يعد من الممكن البقاء حيث تكرر قصف المخيم.

ليعاودوا الرحلة على الطرق غير الآمنة، ويستقرون بمدرسة الفاخورة. ولكن بعد يومين من استهداف المدرسة، كان من الضروري إخلاءها إلى مؤسسة أخرى، حيث لجأ مئات الأشخاص. وهنا مرة أخرى، ومع انعدام الأمن بشكل كامل، اتجهت نورهان وعائلتها جنوبًا، إلى الغرب من محافظة خان يونس. وأخيراً عثروا على خيمة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً.

تتذكر نورهان لحظات الهدوء التي كانوا يعيشونها عندما كانوا يجتمعون أمام جهاز التلفزيون لمشاهدة الأفلام والمسلسلات. وتتذكر باعتزاز قائلة: "بعد أن قمنا بواجباتنا المنزلية بالطبع". "لقد رأينا ممثلين في مشاهد الحرب، لكنني لم أتخيل أبدًا أن أعيش مشاهد مماثلة بنفسي".

ثم تتحدث عن هذا النزوح الذي عانت منه منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والأهوال التي شاهدتها على الطريق، وكيف تغمض أعين أخواتها الصغيرات حتى لا تقع أعينهن على الجثث المتناثرة على الأرض.

الفتاة كانت تتكلم بلباقة وثقة فتحدثت عن نقص الحليب والحفاضات للأطفال الصغار، والخوف من رؤية والدهم يغادر للعثور على الماء أو الخبز دون معرفة ما إذا كان سيعود أم لا؟ لكن تغالبها شخصيتها الطفولية وتبدأ في البكاء متلعثمة: «لدينا حياة بائسة. » نورهان، مثل أي طفلة في عمرها، تريد أن تكون سعيدة. وهي تريد أن تنتهي الحرب وأن تتمكن من العثور على جدتها التي ليس لديها أخبار عنها.

 “بين الموتى رأيت أمي

بعد أن فقد والدته في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، نزح محمد اليازجي، 13 عاماً، بمفرده مع شقيقاته الأصغر سناً – أصغرهن عمرها شهر واحد فقط – إلى رفح.

كان يعيش حتى 7 أكتوبر مع والديه في بيت حانون شمال قطاع غزة. في منزل متواضع، لكنه، كما يؤكد، كان يشعر "بالدفء والمحبة طوال الوقت". كان والده يعمل في مواقع البناء وكانت والدته تعتني بالمنزل. كان يذهب إلى المدرسة كل صباح، مثل الأطفال الآخرين في الحي الذي يسكن فيه. وكان عاشقا لكرة القدم. لكن الحرب التي قادتها إسرائيل غيرت مجرى حياته.

وتحت وطأة القصف العنيف، اضطر جزء كبير من سكان بيت حانون إلى مغادرة المنطقة. التقى محمد عائلته في مستشفى الشفاء بمدينة غزة. وكان الآلاف من الناس مزدحمين محاولين التأقلم والتعايش. ووجد هو وأخواته أنفسهم في خيمة. ويتذكر قائلاً: "كنا نسمع صوت الدبابات الإسرائيلية دون أن نعرف مكانها بالضبط".

المنعرج في حياته بدأ حين غادرتهم والدته لمحاولة إحضار أجداده وحدث ذلك في غياب والده. وبعد ساعات قليلة، وصلت العديد من الجثث إلى المستشفى. وينهار محمد وهو يتحدث عما جرى بالقول:"بين الموتى رأيت والدتي. لم أكن أريد أن أصدق ذلك. بدأت بالصراخ والبكاء. أردت أن أرى والدي، لأخبره بما حدث للتو، لكنني لم أتمكن من العثور عليه. لقد ماتت والدتي التي أحبتنا كثيرًا. لقد رحلت، ولن نراها مرة أخرى. لماذا علينا تجربة شيء كهذا؟ "وتساءل محمد عمّا سيصبح عليه هو وأخواته – أصغرهم يبلغ من العمر شهرًا واحدًا فقط.

ومع انقطاع الاتصالات، لم يتمكن محمد من العثور على والده ليصل واخوته رفح وحدهم.

في رفح كان محمد يحاول إيواء أخواته في خيمة ممزقة، وأجبر على الاعتناء بأخواته والتصرف مثل رب الأسرة. يذهب كل يوم يطرق أبواب الجيران ليأتي لإخوته بفتات من الطعام وقليل من الحليب لأخته الرضيعة.

يريد محمد أن تنتهي الحرب ويتمنى العثور على والده الذي لا يعرف إن كان حياّ أو ميّتا. ويستعيد طفولته.

أبي مسعفي وطبيبي..

محمد أبو دقة، 15 عاماً، لم  يغادر المستشفى بعد. وبعد إصابته، خضع لعملية جراحية، لكن سيتعين عليه مغادرة قطاع غزة لإجراء عملية جراحية جديدة في الخارج.

عندما ولد أحمد، كان قطاع غزة بالفعل تحت الحصار الذي فرضته إسرائيل. وفي الخامسة عشرة من عمره، لم يعرف سوى الخوف والخطر الدائم والحروب. ورغم ذلك استمر في تحقيق أحلامه وطموحاته. وحلمه أن يكون طبيبا ليخفف من معاناة الناس.

أحمد مفعم بالحياة، حتى في سريره بالمستشفى حيث يرقد منذ أسابيع، منذ أن أصيب في قدمه أثناء القصف حينما كان في السوق مع والدته وبدأت القذائف تنهال على المدنيين.

يقول "وصلت سيارة إسعاف وانتهى بي الأمر في المستشفى. كانت قدمي تؤلمني جدا. ووالدي هو من أجرى العملية الجراحية لي".

ولكي يحصل على العلاج الكامل، يجب أن يكون قادراً على مغادرة الأراضي الفلسطينية وإجراء عملية جراحية جديدة في الخارج لأن المعدات المتوفرة ليست كافية. ويشير بشجاعة: "وبعد ذلك، هناك الكثير من الجرحى الذين ينبغي أن يتمكنوا من الخروج".

يضيف"أنا من قرية عبسان جنوب قطاع غزة بالقرب من خان يونس. ولكن، وبسرعة كبيرة، اضطررنا إلى الفرار من المنزل، لأننا كنا معرضين للقصف. ثم وجدنا أنفسنا في مدرسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، بالقرب من مستشفى ناصر حيث يعمل والداه. يتنهد قائلاً: "اضطررت إلى مغادرة منزلي الكبير والجميل ذي الواجهة المزخرفة وحديقة مليئة بالزهور وأشجار الفاكهة". "نحن الآن مزدحمون في الفصول الدراسية وعلينا أن نقف في طابور للاغتسال، عندما يكون هناك ماء".

شهادات مختزلة تلخص معاناة جيل كامل ترغب إسرائيل في محوه من الوجود لكن هذا الجيل وما تبقى منه رضع أبجديات المقاومة ولقّح بالإيمان بالقضية العادلة.

ولهذا فمقاومة الاحتلال عند الفلسطينيين تحوّلت الى فكرة لن تموت.

فيض من غيض..

ما يعيشه الأطفال في غزة زمن الحرب ما هو سوى عيّنة من مأساة هذه الفئة الهشة الأكثر تأثرا بمشاهد الرعب والخوف وحتى التجنيد القسري والإجبار على خوض الحروب. حيث تم إحصاء ما لا يقل عن 5 ملايين ضحية بين قتيل ومصاب ومعوق وفاقد للسند طفل جراء الحروب والنزاعات المسلحة في العالم.

وقد ارتفع عدد الأطفال الذين أصيبوا أو قُتلوا بنسبة 300 في المائة على مدى العقد الماضي.

لكن رغم كل شيء يقول خبراء علم النفس أنه نادرا ما يفقد الأطفال إحساسهم بالأمل ولا ينبغي الاستهانة بقدرتهم على الصمود. ويمكن أن تساعد الرعاية الموجهة بشكل جيد الأطفال على التعافي وإعادة الإدماج في بيئة يمكنهم فيها استعادة صحتهم وتوازنهم النفسي وإيجاد بيئات عائلية لمن فقدوا اوليائهم.

وهذه المهمة الأساسية والأولوية القصوى التي على المجتمع الدولي الاضطلاع بها وتحمل مسؤوليته كاملة تجاه أطفال غزة فمأساة هؤلاء الحقيقية ستبدأ حين تحط الحرب أوزارها.