الخيارات الاقتصادية لنويرة قائمة على جدلية بين النموذجين الإشتراكي والرأسمالي، والذي أطلق عليه فيما بعد بمبدأ "الطريق الثالث"
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة
بعد عشرية كاملة من التجريب الديمقراطي وغلبة السياسة على الاقتصاد حد الركود وتراجع كل مؤشرات التنمية منذ 2011، يجدر بتونس اليوم الاستئناس بتجربة الوزير الأول الهادي نويرة الملقب ب"أب الاقتصاد التونسي الحديث" في عشرية السبعينات، التي حقق فيها "معجزة اقتصادية"، بشهادة الخبراء والصحفيين الأجانب والتونسيين .
وقد تمكن من مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة في بداية السبعينات، بفضل واقعيته وجديته من خلال حفز النمو ودفع التشغيل وجلب الاستثمارات الأجنبية ومضاعفة مجهود خلق الثروة الوطنية، وتمكين الاقتصاد التونسي من الاندراج في الاقتصاد العالمي .
الواقعية السياسية والاقتصادية
كان الهادي نويرة الذي توفي منذ 31 سنة في 25 جانفي 1993، حاضرا في كل المحطات التاريخية للكفاح الوطني ومساهما كقوة هادئة في كل المعارك التي خاضتها تونس من أجل التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني، ثم فيما بعد ، بناء مقومات الدولة العصرية الفتية "ذات السيادة والاحترام من قبل الدول الشقيقة والصديقة" ، كما كان يشدد عليه في خطبه وتصريحاته الصحفية.
وكان له تصور واقعي للحكم وللسياسية أبانَه في المقالات الصحفية التي كان ينشرها في صحافة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم أو في الجريدة التي بعثها وهي جريدة "ميسيون" بالفرنسية عام 1949. وكان يكتب افتتاحياتها ويساهم في تأثيثها صحفيا وتحليليا عدد من المناضلين السياسيين والنقابيين يتقدمهم الزعيم النقابي فرحات حشاد الذي كان ينشر فيها المقالات السياسية والاجتماعية . وكان نويرة يكتب أيضا المقالات التحليلية للأوضاع السياسية والاقتصادية في جريدتي "العمل" و"لاكسيون" لساني الحزب الدستوري الحر. وهي مقالات فيها مواكبة لأنشطة الحزب ومسيرة الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال .
ومنذ بداية الاستقلال ودخول البلاد في تجربة اشتراكية تعاضدية سجلت مناظرات فكرية وإيديولوجية بين كل من أحمد بن صالح منظر الاشتراكية التعاضدية القسرية في ذلك الوقت، والهادي نويرة منظر الواقعية الاقتصادية وتشجيع المبادرة الخاصة . وقد نشر نويرة افتتاحية في جريدة "لاكسيون" انتقد فيها التسرع في بعث المشاريع دون دراسة مسبقة وبدافع ايديولوجي قبل النجاعة الاقتصادية. وكتب يقول في هذه الافتتاحية الصادرة في 21 نوفمبر 1965 :" إن الربح هو المقياس الأساسي للعمل الاقتصادي والنجاح. وعلى المؤسسة أن تكون تنافسية، حتى وإن كانت تتمتع بالاحتكار الفعلي أو القانوني، وإلّا فإنّ المواطن والمستهلك هو الذي سيدفع الضريبة. وهناك احتمال تكبد المجموعة الوطنية خسارة تبذير القوى العاملة وأدوات الإنتاج التي يمكن أن تعطل تطور النشاط العام وتدخل العملية الاقتصادية في حلقة مفرغة تتحول فيها القروض المسندة من الدولة إلى تعويضات، تتحول بدورها إلى مِنح. وفي الأخير تتحمل الدولة كل الأعباء".
وهذا واقع حال الاقتصاد التونسي اليوم عام 2024.
وعند توليه الحكم في عام 1970 بعد فشل سياسة الاشتراكية التعاضدية ودخول البلاد غمار سياسة الانفتاح الرأسمالي، حافظت حكومة الإنقاذ للهادي نويرة على تواجد القطاعات الثلاث في الاقتصاد وهي القطاع العمومي والقطاع الخاص والقطاع المشترك، في محاولة لتوظيف فترة الاشتراكية وإنجازاتها الإيجابية، خاصة لفائدة البنية التحتية وفي سبيل إعطاء طابع اجتماعي لعملها التنموي الليبرالي. وبفضل ذلك نزلت نسبة الفقر من 70 في المائة من السكان عند الاستقلال إلى نسبة 13 بالمائة عام 1980، حسب إحصائيات كتابة الدولة للأخبار والبنك الدولي .
وقد لخص نويرة توجهه الليبرالي الاجتماعي في جدلية التنمية بالقول في كلمة افتتاحية خلال مؤتمر اقتصادي في 24 مارس 1977:"إن الغاية المنشودة هي تحقيق المعادلة الصعبة للتوسع الاقتصادي والتطور الاجتماعي مع ضمان الحريات. وإن المطلوب هو إيجاد تحالف بين الأطراف الاجتماعية حول عملية التنمية المشتركة، ولإحْلال جدلية الحوار محل الصراع، ليعترف الجميع بترابط المصالح، وبأن التوسّع الاقتصادي مربوط بالتقدم الاجتماعي".
لقد كانت هذه الخيارات الاقتصادية لنويرة قائمة على إجراء خلاصة جدلية بين النموذجين الاشتراكي والرأسمالي، والذي أطلقت عليه فيما بعد في العشريات اللاحقة عبر العالم بمبدأ "الطريق الثالث". وهذا الخيار العالمي كان له منظروه في دول الغرب الصناعي على غرار المستشار الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية كونراد أديناور، ووزير ماليته لودفيش إرهارد، اللذين حققا المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل المزج بين فضائل النموذجين، الاجتماعي الأوروبي والرأسمالي الأمريكي . وقد مكن ذلك من إنقاذ ألمانيا بعد الدمار الذي لحقها إثر الحرب العالمية الثانية . وقد تجدد الاهتمام بهذه المنهجية التنموية مع تحول الأحزاب الاشتراكية في أوروبا إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية، بدفع من زعماء تاريخيين على غرار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وهو في الحكم أو رئيس وزراء بريطانيا العمالي توني بلير.
وقد حرص الهادي نويرة على الاستلهام من هذه الخلاصة العالمية بإدراجها في الإطار التونسي الخصوصي بتجربته الناجحة أو الفاشلة المتمثلة في النظام التعاضدي.
وخلال عشرية حكمه تمكن نويرة من تحقيق نتائج اقتصادية وصفتها الصحافة الفرنسية والعالمية بالمعجزة الاقتصادية، التي أخرجت الاقتصاد التونسي من غياهب النشاط التقليدي للقرون الغابرة إلى الاندراج في الاقتصاد العالمي. وقد تجسم ذلك من خلال استمرار التوجهات العقلانية والتحررية للهادي نويرة في التنفيذ خلال عشريتي التسعينات والألفية الجديدة حيث كان الاقتصاديون المنتمون إلى المدرسة "النويرية" في الاقتصاد هم الذين واصلوا تسيير دفة الاقتصاد المزدهر نموا ورخاء اجتماعيا، على رأسهم السيد محمد عنيمة تلميذ الهادي نويرة في البنك المركزي والاقتصاد، حيث كان مستشار الرئيس بن علي لعقدين من الزمن ومهندس الإصلاحات الواقعية التي باشرها خلال العقدين المذكورين وتأكيدا لصواب الخيارات الواقعية التي استنبطها ونفذها هو أو مُريدُو مدرسته النقدية الصارمة، أسندت للهادي نويرة جائزة "إنريكو ماتِيي" الدولية للاقتصاد والمالية والصناعة، وذلك "تقديرا لمساهمته في العمل الاقتصادي والاجتماعي باعتباره شخصية مرموقة حققت انجازات في بلادها" . وقد سلمت له خلال حفل بهيج أقيم على شرفه في ديسمبر 1987 . وقال نويرة بتلك المناسبة :" أريد أن أُذكِّر بما كنتُ كتبتُه في صحيفة (ميسيون) منذ حوالي أربعين سنة بأنه لا سبيل إلى النجاح في النشاط الاقتصادي دون اعتبار الإنسان كوسيلة وغاية في نفس الوقت، إذْ أنّ خلق الثروة والرفع من الانتاج بأقصى سرعة، لابدَّ أن يكونا في مقدمة الأولويات للعمل التنموي، وإلاّ فإنّ مفهوم العدالة الإنتاجية والتوزيع العادل للخيرات يفقدان كل مدلول".
وأضاف في محاضرته بتلك المناسبة التكريمية يقول:" إن الاقتصاد الحر ليس معناه الارتجال أو الفوضى. كما أنه لا ينازَعُ في ضرورة إقرار العدالة الاجتماعية التي تقام على التضامن الوطني والتوزيع المتوازن للجهود والخيرات على السواء، بين مختلف الأصناف الاجتماعية، وكافة الجهات، وحتى الأجيال المتعاقبة ."
ويمكن القول في هذا الصدد، أن الهادي نويرة قد حقق معجزة وثورة اقتصادية في فترة حكمه في السبعينات . كما طبعت توجهاتُه العقلانية الحصيفةُ في الاقتصاد والسياسة، كل عشريات الاستقلال تقريبا، من 1970 إلى 2010، تضاف إليها عشرية الستينات التي كان فيها محافظا ومؤسسا للبنك المركزي التونسي. وهو من جهة أخرى ، ساهم أيضا في تحقيق ثورة اجتماعية، في نظر المحللين السوسيولوجيين، من خلال القانون الذي أصدره في أفريل 1972 حول تشجيع الاستثمارات الاجنبية وحفز انتصاب معامل النسيج والخياطة التي تشغل البنات كَيَدٍ عاملة مختصة في ذلك. وقد سمح هذا القانون الثوري مبكّرا بخروج المرأة التونسية لسوق الشغل والانتاج وتحقيق تحررها المالي والاقتصادي والاجتماعي، واضعا بذلك موضع التنفيذ الأفكار التي دعا إليها في كتابه "الزهريات" وكافح من أجلها
صهره الفيلسوف المفكر الإصلاحي سالم بن حميدة، نصير وأستاذ الطاهر الحداد الذي درسه في المدرسة العرفانية في باب سويقة .
وقد سمح ذلك القانون، بأن يتم بيسر ومقبولية تطبيق مجلة الأحوال الشخصية التي كان الزعيم الحبيب بورقيبة، أول ما بادر بإصداره أشهرا عدة فقط، بعد الاستقلال لتظل نموذجا مطبقا فريدا من نوعه إلى اليوم في العالمين العربي والاسلامي.
الخيارات الاقتصادية لنويرة قائمة على جدلية بين النموذجين الإشتراكي والرأسمالي، والذي أطلق عليه فيما بعد بمبدأ "الطريق الثالث"
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة
بعد عشرية كاملة من التجريب الديمقراطي وغلبة السياسة على الاقتصاد حد الركود وتراجع كل مؤشرات التنمية منذ 2011، يجدر بتونس اليوم الاستئناس بتجربة الوزير الأول الهادي نويرة الملقب ب"أب الاقتصاد التونسي الحديث" في عشرية السبعينات، التي حقق فيها "معجزة اقتصادية"، بشهادة الخبراء والصحفيين الأجانب والتونسيين .
وقد تمكن من مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة في بداية السبعينات، بفضل واقعيته وجديته من خلال حفز النمو ودفع التشغيل وجلب الاستثمارات الأجنبية ومضاعفة مجهود خلق الثروة الوطنية، وتمكين الاقتصاد التونسي من الاندراج في الاقتصاد العالمي .
الواقعية السياسية والاقتصادية
كان الهادي نويرة الذي توفي منذ 31 سنة في 25 جانفي 1993، حاضرا في كل المحطات التاريخية للكفاح الوطني ومساهما كقوة هادئة في كل المعارك التي خاضتها تونس من أجل التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني، ثم فيما بعد ، بناء مقومات الدولة العصرية الفتية "ذات السيادة والاحترام من قبل الدول الشقيقة والصديقة" ، كما كان يشدد عليه في خطبه وتصريحاته الصحفية.
وكان له تصور واقعي للحكم وللسياسية أبانَه في المقالات الصحفية التي كان ينشرها في صحافة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم أو في الجريدة التي بعثها وهي جريدة "ميسيون" بالفرنسية عام 1949. وكان يكتب افتتاحياتها ويساهم في تأثيثها صحفيا وتحليليا عدد من المناضلين السياسيين والنقابيين يتقدمهم الزعيم النقابي فرحات حشاد الذي كان ينشر فيها المقالات السياسية والاجتماعية . وكان نويرة يكتب أيضا المقالات التحليلية للأوضاع السياسية والاقتصادية في جريدتي "العمل" و"لاكسيون" لساني الحزب الدستوري الحر. وهي مقالات فيها مواكبة لأنشطة الحزب ومسيرة الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال .
ومنذ بداية الاستقلال ودخول البلاد في تجربة اشتراكية تعاضدية سجلت مناظرات فكرية وإيديولوجية بين كل من أحمد بن صالح منظر الاشتراكية التعاضدية القسرية في ذلك الوقت، والهادي نويرة منظر الواقعية الاقتصادية وتشجيع المبادرة الخاصة . وقد نشر نويرة افتتاحية في جريدة "لاكسيون" انتقد فيها التسرع في بعث المشاريع دون دراسة مسبقة وبدافع ايديولوجي قبل النجاعة الاقتصادية. وكتب يقول في هذه الافتتاحية الصادرة في 21 نوفمبر 1965 :" إن الربح هو المقياس الأساسي للعمل الاقتصادي والنجاح. وعلى المؤسسة أن تكون تنافسية، حتى وإن كانت تتمتع بالاحتكار الفعلي أو القانوني، وإلّا فإنّ المواطن والمستهلك هو الذي سيدفع الضريبة. وهناك احتمال تكبد المجموعة الوطنية خسارة تبذير القوى العاملة وأدوات الإنتاج التي يمكن أن تعطل تطور النشاط العام وتدخل العملية الاقتصادية في حلقة مفرغة تتحول فيها القروض المسندة من الدولة إلى تعويضات، تتحول بدورها إلى مِنح. وفي الأخير تتحمل الدولة كل الأعباء".
وهذا واقع حال الاقتصاد التونسي اليوم عام 2024.
وعند توليه الحكم في عام 1970 بعد فشل سياسة الاشتراكية التعاضدية ودخول البلاد غمار سياسة الانفتاح الرأسمالي، حافظت حكومة الإنقاذ للهادي نويرة على تواجد القطاعات الثلاث في الاقتصاد وهي القطاع العمومي والقطاع الخاص والقطاع المشترك، في محاولة لتوظيف فترة الاشتراكية وإنجازاتها الإيجابية، خاصة لفائدة البنية التحتية وفي سبيل إعطاء طابع اجتماعي لعملها التنموي الليبرالي. وبفضل ذلك نزلت نسبة الفقر من 70 في المائة من السكان عند الاستقلال إلى نسبة 13 بالمائة عام 1980، حسب إحصائيات كتابة الدولة للأخبار والبنك الدولي .
وقد لخص نويرة توجهه الليبرالي الاجتماعي في جدلية التنمية بالقول في كلمة افتتاحية خلال مؤتمر اقتصادي في 24 مارس 1977:"إن الغاية المنشودة هي تحقيق المعادلة الصعبة للتوسع الاقتصادي والتطور الاجتماعي مع ضمان الحريات. وإن المطلوب هو إيجاد تحالف بين الأطراف الاجتماعية حول عملية التنمية المشتركة، ولإحْلال جدلية الحوار محل الصراع، ليعترف الجميع بترابط المصالح، وبأن التوسّع الاقتصادي مربوط بالتقدم الاجتماعي".
لقد كانت هذه الخيارات الاقتصادية لنويرة قائمة على إجراء خلاصة جدلية بين النموذجين الاشتراكي والرأسمالي، والذي أطلقت عليه فيما بعد في العشريات اللاحقة عبر العالم بمبدأ "الطريق الثالث". وهذا الخيار العالمي كان له منظروه في دول الغرب الصناعي على غرار المستشار الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية كونراد أديناور، ووزير ماليته لودفيش إرهارد، اللذين حققا المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية بفضل المزج بين فضائل النموذجين، الاجتماعي الأوروبي والرأسمالي الأمريكي . وقد مكن ذلك من إنقاذ ألمانيا بعد الدمار الذي لحقها إثر الحرب العالمية الثانية . وقد تجدد الاهتمام بهذه المنهجية التنموية مع تحول الأحزاب الاشتراكية في أوروبا إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية، بدفع من زعماء تاريخيين على غرار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وهو في الحكم أو رئيس وزراء بريطانيا العمالي توني بلير.
وقد حرص الهادي نويرة على الاستلهام من هذه الخلاصة العالمية بإدراجها في الإطار التونسي الخصوصي بتجربته الناجحة أو الفاشلة المتمثلة في النظام التعاضدي.
وخلال عشرية حكمه تمكن نويرة من تحقيق نتائج اقتصادية وصفتها الصحافة الفرنسية والعالمية بالمعجزة الاقتصادية، التي أخرجت الاقتصاد التونسي من غياهب النشاط التقليدي للقرون الغابرة إلى الاندراج في الاقتصاد العالمي. وقد تجسم ذلك من خلال استمرار التوجهات العقلانية والتحررية للهادي نويرة في التنفيذ خلال عشريتي التسعينات والألفية الجديدة حيث كان الاقتصاديون المنتمون إلى المدرسة "النويرية" في الاقتصاد هم الذين واصلوا تسيير دفة الاقتصاد المزدهر نموا ورخاء اجتماعيا، على رأسهم السيد محمد عنيمة تلميذ الهادي نويرة في البنك المركزي والاقتصاد، حيث كان مستشار الرئيس بن علي لعقدين من الزمن ومهندس الإصلاحات الواقعية التي باشرها خلال العقدين المذكورين وتأكيدا لصواب الخيارات الواقعية التي استنبطها ونفذها هو أو مُريدُو مدرسته النقدية الصارمة، أسندت للهادي نويرة جائزة "إنريكو ماتِيي" الدولية للاقتصاد والمالية والصناعة، وذلك "تقديرا لمساهمته في العمل الاقتصادي والاجتماعي باعتباره شخصية مرموقة حققت انجازات في بلادها" . وقد سلمت له خلال حفل بهيج أقيم على شرفه في ديسمبر 1987 . وقال نويرة بتلك المناسبة :" أريد أن أُذكِّر بما كنتُ كتبتُه في صحيفة (ميسيون) منذ حوالي أربعين سنة بأنه لا سبيل إلى النجاح في النشاط الاقتصادي دون اعتبار الإنسان كوسيلة وغاية في نفس الوقت، إذْ أنّ خلق الثروة والرفع من الانتاج بأقصى سرعة، لابدَّ أن يكونا في مقدمة الأولويات للعمل التنموي، وإلاّ فإنّ مفهوم العدالة الإنتاجية والتوزيع العادل للخيرات يفقدان كل مدلول".
وأضاف في محاضرته بتلك المناسبة التكريمية يقول:" إن الاقتصاد الحر ليس معناه الارتجال أو الفوضى. كما أنه لا ينازَعُ في ضرورة إقرار العدالة الاجتماعية التي تقام على التضامن الوطني والتوزيع المتوازن للجهود والخيرات على السواء، بين مختلف الأصناف الاجتماعية، وكافة الجهات، وحتى الأجيال المتعاقبة ."
ويمكن القول في هذا الصدد، أن الهادي نويرة قد حقق معجزة وثورة اقتصادية في فترة حكمه في السبعينات . كما طبعت توجهاتُه العقلانية الحصيفةُ في الاقتصاد والسياسة، كل عشريات الاستقلال تقريبا، من 1970 إلى 2010، تضاف إليها عشرية الستينات التي كان فيها محافظا ومؤسسا للبنك المركزي التونسي. وهو من جهة أخرى ، ساهم أيضا في تحقيق ثورة اجتماعية، في نظر المحللين السوسيولوجيين، من خلال القانون الذي أصدره في أفريل 1972 حول تشجيع الاستثمارات الاجنبية وحفز انتصاب معامل النسيج والخياطة التي تشغل البنات كَيَدٍ عاملة مختصة في ذلك. وقد سمح هذا القانون الثوري مبكّرا بخروج المرأة التونسية لسوق الشغل والانتاج وتحقيق تحررها المالي والاقتصادي والاجتماعي، واضعا بذلك موضع التنفيذ الأفكار التي دعا إليها في كتابه "الزهريات" وكافح من أجلها
صهره الفيلسوف المفكر الإصلاحي سالم بن حميدة، نصير وأستاذ الطاهر الحداد الذي درسه في المدرسة العرفانية في باب سويقة .
وقد سمح ذلك القانون، بأن يتم بيسر ومقبولية تطبيق مجلة الأحوال الشخصية التي كان الزعيم الحبيب بورقيبة، أول ما بادر بإصداره أشهرا عدة فقط، بعد الاستقلال لتظل نموذجا مطبقا فريدا من نوعه إلى اليوم في العالمين العربي والاسلامي.