إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أعلام من جزيرة الأحــلام... وبدايات المسرح التونسي

بقلم: فاخــر الرويســـي

جميل ان نذكّر من حين لآخر بأمجادنا الذين لعبوا أدوارا تاريخية اثّرت في مجريات الاحداث التي مرت بها تونس في شتى المجالات. والأجمل ان ننبش في دقائقها وجزئياتها التي غفلت عنها بعض السرديات او اهملتها وتغاضت عنها على الرغم من أهميتها. ولعلّ وقع تلك الجزئيات المهملة هو الذي صنع في عديد الأحيان التاريخ، وربما ان تمعنّا فيهاو اوليناها التمحيص والاهتمام فإننا ندرك مدى تأثيرها وصياغتها للحداث. يدعونا الواجب من حين لآخر للتذكير.

ولان الواجب يدعونا من حين لآخر للتذكير بأمجادنا فاني استسمح القارئ الكريم بان أذكر بالبعض من اللذين لعبوا أدوارا متقدّمة في بعث مسرح تونسي، وان أشيد بدورهم الريادي والتعريف بهم وبمساهماتهم وطنيا وجهويا من اجل تقريب هذا الفن للجماهير العريضة وتوعيتها وتضحياتها بغية بث حس وطني تحرري في زمن عسير عملت القوى الاستعمارية وأذنابها على طمس الهوية التونسية وتواجدها والقضاء على مقوماتها. لذلك يعتبر النبش في مسيرة اصحاب هذه المبادرات امرا ملحا خاصة للدور التي لعبه هؤلاء لبث الوعي الجماعي وتغذية الحماسة وتربية العقول التونسية.

ولعلّ التنويه بالبعض من اعلام جزيرة جربة الذين شكّلوا النواة الاولى والركيزة الاساسية في تأسيس مسرح تونسي في بداية القرن الماضي بالعاصمة ثم بجربة يتنزّل في هذا الاطار، خاصة وأنّه لا تفصلنا عن الذكرى الـ 90 على انبعاث فرقة " الترقّي الجربي" بجزيرة الأحلام سوى بضعة أشهر.

لم تكن بدايات المسرح بالربوع التونسية منذ قرون خلت بمعزل عن موقعها الجغرافي وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية ببلدان الحوض المتوسطي والتحولات التي عاشها مجتمعنا في القرنين التاسع عشرة والعشرين الماضيين.

فما ان قدمت من مدينة البندقية في مطلع القرن التاسع عشر بعض الفرق المسرحية الإيطالية في عديد المناسبات الى بلدنا وتولت عرض مسرحياتها التي لاقت اقبال الطبقة البورجوازية والنخبة المثقفة للجالية الإيطالية ومن الطائفة اليهودية "اللّيفورنية" وجزء من المثقفين وأعيان ووجهاء التونسيين حتى خامرت اليهودي التونسي "طابيا" Tapia فكرة بعث مسرح خشبي وفّر له أبسط التجهيزات، واختار ان يقيمه في بنهج زرقون القلب النابض لمدينة تونس، مطلقا عليه اسمه Théâtre Tapia وجلب له أشهر الفرق المسرحية الإيطالية، ثم غيّر تسميته سنة 1860، ليصبح "المسرح القرطاجي" Théâtre Carthaginois محققا بذلك شهرة وأرباحا محترمين.                                                                                                       وتتالت مشاريع ثقافية ومسرحية أخرى شكلت منعرجا حاسما ومنطلقا لتجارب مسرحية مماثلة اعتبرت النواة الحقيقية الأولى في التاريخ الرسمي للمسرح العربي ثم التونسي تخللته محاولات منعزلة لم يكتب لها الدوام والاستمرارية لكننا نعتبرها هامة لدلالاتها ومراميها الجدلية.

ولئن سلمنا رسميا انه تاريخيا تعدّ جمعيتي "الشهامة" و"الآداب"  أولى الجمعيات المسرحية التونسية التي بعثت للوجود خلال سنة 1910و1911، فان الوثائق والارشيفات تتحدث كذلك عن فرق هاوية عرضت البعض من مسرحياتها بالعاصمة وببعض جهات الايالة التونسية عرّفت بالمسرح وشدت اليه الجماهير مثل العروض المسرحية الخفيفة التي كان يقدمها مثلا التونسي اليهودي كيكي ڨتة "ولد ڨويتة" في مناسبات معيّنة بحلق الوادي وبفضاءات أخرى بالعاصمة الى جانب الفرق او الأجواق المصرية التي حطّت الرحال بربوعنا في مناسبات متتالية لتقديم عروضها.

سيدي بوسعيد

وقد علمنا من خلال استنطاق مقالات بعض الجرائد القليلة التي كانت تصدر في تلك الفترة أي في بدايات القرن العشرين انه سبق وان بعض من شباب جربة المسلم الذين استهوتهم الحياة المسرحية خاضوا مغامرة هذه المحاولات، إذ ورد بالصفحة الثالثة من جريدة "الحاضرة"   الصادرة بتاريخ 9 اوت 1904 ما يلي:

" جاءنا من مكاتبنا بجبل المنار أنّ جماعة الجرابة قدموا في الأسبوع الفارط أفواجا على تلك البلدة لإحياء موسهم السنوي الصيفي بزاوية عماد البلد سيدي ابي سعيد الباجي رضي الله عنه حيث أقاموا في أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس احتفالهم المعروف على طنين الدف وعزف المزمار وسط جموع الوافدين من الصبيان والنسوة ومن انظمّ لهم من أهل البطانة وفي آخر ليلة من اقامتهم بالجبل خلعوا العذار بقهوة الناظور فمثّلوا بواسطة واحد من جماعتهم قاضيا شرعيا نصّبوه هنالك للقضاء بين متناصفين بكيفية مضحكة هي القصد الوحيد من تمثيل روايتهم الدنيئة وقد انكر بعض الفضلاء صنيعهم هذا لان أبواب الهزء وضروب المساخر كثيرة سيما ما يتناسب اذواقهم منها ولذلك طلب منا مكاتبنا ان نستدعي أنظار جناب عامل الاحواز الحريص على الآداب العامة وعلى راحة سكان عمله لمنع حصول مثل تلك التمثيلات الهزلية في المستقبل حتى لا تنجرح عواطف اهل اليقين الثابت والايمان الصحيح سيما وان تلك الاجتماعات بمحل عمومي لا يسوغ اجراءها من دون رخصة وبدون حضور أحد".

كما ان عددا من الوثائق والارشيفات المتوفرة تدعونا للأخذ بالاعتبار بمعلومات اخرى ابرزت الدور الذي لعبه العديد من أبناء جزيرة جربة ومساهماتهم في بدايات المسرح التونسي ومن ابرزهم الاخوين ساسي ومحمد الحجام وصديقهم سليمان بن جمعة  الذي لعب هو الآخر دورا هاما في بدايات المسرح التونسي الى جانب خوضه ملحمة حركة التحرر الليبي في بداية القرن العشرين ودعمه للمقاومة الطرابلسية الذي لم ينقطع رغم المضايقات التي تعرض لها جراء مده بالمال والأسلحة للوطنيين الثوار حتى يتمكّنوا من مقارعته الاستعمار الإيطالي والبريطاني والفرنسي واذنابهم وهو الذي اكتشفناه من خلال التقارير الأمنية التي بين أيدينا  والتي تبين مدى الامعان والتعمد في تشويه لتلفيق التهم لهذا الوطني ومحاولة النيل من مصداقيته  لدى أقاربه ومعارفه من الذين يكنون له التقدير والاحترام.

 

أعلام من جزيرة الأحــلام... وبدايات المسرح التونسي

بقلم: فاخــر الرويســـي

جميل ان نذكّر من حين لآخر بأمجادنا الذين لعبوا أدوارا تاريخية اثّرت في مجريات الاحداث التي مرت بها تونس في شتى المجالات. والأجمل ان ننبش في دقائقها وجزئياتها التي غفلت عنها بعض السرديات او اهملتها وتغاضت عنها على الرغم من أهميتها. ولعلّ وقع تلك الجزئيات المهملة هو الذي صنع في عديد الأحيان التاريخ، وربما ان تمعنّا فيهاو اوليناها التمحيص والاهتمام فإننا ندرك مدى تأثيرها وصياغتها للحداث. يدعونا الواجب من حين لآخر للتذكير.

ولان الواجب يدعونا من حين لآخر للتذكير بأمجادنا فاني استسمح القارئ الكريم بان أذكر بالبعض من اللذين لعبوا أدوارا متقدّمة في بعث مسرح تونسي، وان أشيد بدورهم الريادي والتعريف بهم وبمساهماتهم وطنيا وجهويا من اجل تقريب هذا الفن للجماهير العريضة وتوعيتها وتضحياتها بغية بث حس وطني تحرري في زمن عسير عملت القوى الاستعمارية وأذنابها على طمس الهوية التونسية وتواجدها والقضاء على مقوماتها. لذلك يعتبر النبش في مسيرة اصحاب هذه المبادرات امرا ملحا خاصة للدور التي لعبه هؤلاء لبث الوعي الجماعي وتغذية الحماسة وتربية العقول التونسية.

ولعلّ التنويه بالبعض من اعلام جزيرة جربة الذين شكّلوا النواة الاولى والركيزة الاساسية في تأسيس مسرح تونسي في بداية القرن الماضي بالعاصمة ثم بجربة يتنزّل في هذا الاطار، خاصة وأنّه لا تفصلنا عن الذكرى الـ 90 على انبعاث فرقة " الترقّي الجربي" بجزيرة الأحلام سوى بضعة أشهر.

لم تكن بدايات المسرح بالربوع التونسية منذ قرون خلت بمعزل عن موقعها الجغرافي وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية ببلدان الحوض المتوسطي والتحولات التي عاشها مجتمعنا في القرنين التاسع عشرة والعشرين الماضيين.

فما ان قدمت من مدينة البندقية في مطلع القرن التاسع عشر بعض الفرق المسرحية الإيطالية في عديد المناسبات الى بلدنا وتولت عرض مسرحياتها التي لاقت اقبال الطبقة البورجوازية والنخبة المثقفة للجالية الإيطالية ومن الطائفة اليهودية "اللّيفورنية" وجزء من المثقفين وأعيان ووجهاء التونسيين حتى خامرت اليهودي التونسي "طابيا" Tapia فكرة بعث مسرح خشبي وفّر له أبسط التجهيزات، واختار ان يقيمه في بنهج زرقون القلب النابض لمدينة تونس، مطلقا عليه اسمه Théâtre Tapia وجلب له أشهر الفرق المسرحية الإيطالية، ثم غيّر تسميته سنة 1860، ليصبح "المسرح القرطاجي" Théâtre Carthaginois محققا بذلك شهرة وأرباحا محترمين.                                                                                                       وتتالت مشاريع ثقافية ومسرحية أخرى شكلت منعرجا حاسما ومنطلقا لتجارب مسرحية مماثلة اعتبرت النواة الحقيقية الأولى في التاريخ الرسمي للمسرح العربي ثم التونسي تخللته محاولات منعزلة لم يكتب لها الدوام والاستمرارية لكننا نعتبرها هامة لدلالاتها ومراميها الجدلية.

ولئن سلمنا رسميا انه تاريخيا تعدّ جمعيتي "الشهامة" و"الآداب"  أولى الجمعيات المسرحية التونسية التي بعثت للوجود خلال سنة 1910و1911، فان الوثائق والارشيفات تتحدث كذلك عن فرق هاوية عرضت البعض من مسرحياتها بالعاصمة وببعض جهات الايالة التونسية عرّفت بالمسرح وشدت اليه الجماهير مثل العروض المسرحية الخفيفة التي كان يقدمها مثلا التونسي اليهودي كيكي ڨتة "ولد ڨويتة" في مناسبات معيّنة بحلق الوادي وبفضاءات أخرى بالعاصمة الى جانب الفرق او الأجواق المصرية التي حطّت الرحال بربوعنا في مناسبات متتالية لتقديم عروضها.

سيدي بوسعيد

وقد علمنا من خلال استنطاق مقالات بعض الجرائد القليلة التي كانت تصدر في تلك الفترة أي في بدايات القرن العشرين انه سبق وان بعض من شباب جربة المسلم الذين استهوتهم الحياة المسرحية خاضوا مغامرة هذه المحاولات، إذ ورد بالصفحة الثالثة من جريدة "الحاضرة"   الصادرة بتاريخ 9 اوت 1904 ما يلي:

" جاءنا من مكاتبنا بجبل المنار أنّ جماعة الجرابة قدموا في الأسبوع الفارط أفواجا على تلك البلدة لإحياء موسهم السنوي الصيفي بزاوية عماد البلد سيدي ابي سعيد الباجي رضي الله عنه حيث أقاموا في أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس احتفالهم المعروف على طنين الدف وعزف المزمار وسط جموع الوافدين من الصبيان والنسوة ومن انظمّ لهم من أهل البطانة وفي آخر ليلة من اقامتهم بالجبل خلعوا العذار بقهوة الناظور فمثّلوا بواسطة واحد من جماعتهم قاضيا شرعيا نصّبوه هنالك للقضاء بين متناصفين بكيفية مضحكة هي القصد الوحيد من تمثيل روايتهم الدنيئة وقد انكر بعض الفضلاء صنيعهم هذا لان أبواب الهزء وضروب المساخر كثيرة سيما ما يتناسب اذواقهم منها ولذلك طلب منا مكاتبنا ان نستدعي أنظار جناب عامل الاحواز الحريص على الآداب العامة وعلى راحة سكان عمله لمنع حصول مثل تلك التمثيلات الهزلية في المستقبل حتى لا تنجرح عواطف اهل اليقين الثابت والايمان الصحيح سيما وان تلك الاجتماعات بمحل عمومي لا يسوغ اجراءها من دون رخصة وبدون حضور أحد".

كما ان عددا من الوثائق والارشيفات المتوفرة تدعونا للأخذ بالاعتبار بمعلومات اخرى ابرزت الدور الذي لعبه العديد من أبناء جزيرة جربة ومساهماتهم في بدايات المسرح التونسي ومن ابرزهم الاخوين ساسي ومحمد الحجام وصديقهم سليمان بن جمعة  الذي لعب هو الآخر دورا هاما في بدايات المسرح التونسي الى جانب خوضه ملحمة حركة التحرر الليبي في بداية القرن العشرين ودعمه للمقاومة الطرابلسية الذي لم ينقطع رغم المضايقات التي تعرض لها جراء مده بالمال والأسلحة للوطنيين الثوار حتى يتمكّنوا من مقارعته الاستعمار الإيطالي والبريطاني والفرنسي واذنابهم وهو الذي اكتشفناه من خلال التقارير الأمنية التي بين أيدينا  والتي تبين مدى الامعان والتعمد في تشويه لتلفيق التهم لهذا الوطني ومحاولة النيل من مصداقيته  لدى أقاربه ومعارفه من الذين يكنون له التقدير والاحترام.