إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ساهم في تأسيس مهرجان ربيع الفنون بالقيروان واستقدام نزار قباني.. الشًاعر الرًاحل محمد الغزًي .. مبادرات.. مواقف وأشعار

إعداد: محسن بن أحمد

تونس-الصباح

رحل في صمت...في غفلة من الجميع مساء يوم خميس كئيب حزين بعد ان استقبله صباحا مستبشرا بصدور ديوانه الشعري الجديد "الجبال أجدادي ...الانهار إخوتي " وكأنه يوصي بضرورة الاحتفاء بهذا الإصدار الجديد بعد رحيله

محمد الغزي رائداستثنائي في المدونة الشعرية والأدبية في تونس والوطن العربي شاعر أحب الحياة وأخلص للشعر ولمبادئه الفكرية التي اعتنقها عن ايمان ووعي بها.

كشف صديقه الكاتب الروائي حسونة المصباحي ان الراحل قال له في اخر نقاش تم بينهما "الشاعر الحقيقي يصنع حداثته بنفسه" ولعل من خلال هذه الشهادة عبر عن رؤيته للشعر وكيفية التعاطي معه ... وقال عنه الشاعر ادم فتحي "ان قصيدة الراحل محمد الغزي تشبهه كإنسان الى حد التماهي به حدّ التماهي. إنّها باسِمَةٌ بعمق ، حتى وهي تتوجّع أو وهي تحاور الموت" .

محمد الغزي صاحب مواقف صريحة واضحة في كل ماله علاقة بالشعر والثقافة في تونس فهو متمرد على الجميع في ابداعه الذي لايتقنه الا هو من خلال رفضه الالتزام بالقوالب من خلال البحث عن الجديد المبتكر الخاص به..

هكذا كان محمد الغزي وهكذا سيخلده التاريخ..

 محمد الغزي.. ندوة وكتاب

دأب منتدى الفكر التنويري بإدارة الباحث محمد المي على الاحتفاء شهريا بأحد رموز الادب والفكر في تونس من خلال تنظيم ندوة يشارك فيها مختصون في الادب والفكر لتقديم قراءاتهم المتعلقة بمسيرة المحتفى به شعرا كانت او سردا او نقدا وهو تقليد انفرد به المنتدى في الساحة الثقافية التونسية.

وشهد يوم 26 فيفري 2022 تخصيص ندوة بالشاعر محمد الغزي وقد اختار مدير المنتدى محمد المي ان تكون في القيروان في إطار اللامركزية الثقافية.

وشهدت هذه الندوة مشاركة عدد من الأكاديميين واهل الاختصاص في الشأن الادبي والشعري بمداخلات تناولت الخصوصيات الشعرية والفكرية للغزي وهم الدكاترة والأساتذة حمادي الوهايبي ومحمد محجوب والمنصف الوهايبي وعمر حفيظ ومحمود الغانمي والسيد التويوفتحي النصري وبسمة الشلغومي ومحمد الصالح البوعمراني وحاتم الفطناسي.

هذا النشاط الفكري والثقافي الرائد في بلادنا تحت اشراف المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية تابعه جمهور غفير تخلله توزيع كتاب توثيقي  مجانا تضمن مداخلات الندوة بعنوان " محمد الغزي الشاعر الساحر " وهو من التقاليد الرائدة التي أسس لها المنتدي وانفرد بها حيث يتم اصدار كتاب خاص بالمحتفى به في كل لقاء شهري يوزع مجانا

نزار قباني في القيروان لأول مرة 

كانت عاصمة الاغالبة على موعد في ربيع 1995 مع حدث ادبي ثقافي استثنائي هندست له علامات بارزة في الثقافة والشعر والفكر من خلال الإعلان عن تنظيم الدورة التأسيسية الأولى لمهرجان ربيع الفنون بالقيروان

كان الراحل محمد الغزي احد المهندسين لهذا الحدث الثقافي الادبي الفني الكبير الى جانب الشاعر الكبير المنصف الوهايبيبدرجة أولى وكان الموعد في هذه الدورة الا ولى مع شاعر الحب والوطن والحرية نزار قباني الذي لبى الدعوة لتكون زيارته للقيروان الأولى من نوعها لهذه المدينة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ

وقد مثلت هذه الزيارة الثالثة للشاعر الكبير الخالد نزار قباني لتونس فقد كانت أولى زياراته لبلادنا في ماي 1964 بدعوة رسمية من كتابة الدولة للثقافة والاخبار " قبل ان تصبح تسميتها وزارة الشؤون الثقافية "  تحت  اشراف الاستاذالخالد الشاذلي القليبي وكانت الزيارة الثانية لنزار قباني في ماي 1980 احتفالا بالذكرى 35 لتأسيس الجامعة العربية والقى نزار قباني بالمسرح البلدي بالعاصمة قصيده الشهير " يا تونس الخضراء جئتك عاشقا " والثالثة كانت القيروان

** يقول الشاعر المنصف الوهايبي عن مشاركة نزار قباني في الدورة التأسيسية الأولى لمهرجان ربيع الفنون بالقيروان سنة1995

"لقد بادر الشاعر ادونيس بالتنسيق معي والراحل محمد الغزي باقناع الشاعر نزار قباني بالحضور الى القيروان وعند قدومه الى القيروان كشف لنا نزار قباني انه استشار الشاعر محمد درويش فأشاد بنا أنا ومحمد الغزّي، وقال له اذهب ولن تندم ..."

 الغزي والمسعدي

اثار الراحل محمد الغزي جدلا كبيرا في الأوساط الثقافية والفكرية والأدبية التونسية من خلال تدوينتين تتعلق بأدب الكاتب الكبير محمد المسعدي.

قال الراحل محمد الغزي في تدوينته الأولى

"بعض الأصدقاء قالوا: "كلما قرأنا أعمال المسعدي، اكتشفنا الجديد. طلبت منهم أن يفيدونا بهذا الجديد الذي اكتشفوه. ما زلت أنتظر".

وجاء في تدوينته الثانية : "ماهي علاقة المتقبل الجديد بالمسعدي وبلغته الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة؟ أزعم أن لا علاقة بينهما، أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت".

وسرعان ما ارتفعت الأصوات بين مؤيد لمضمون التدوينتين والرافضين والمنتقدين بشدة للراحل محمد الغزي

رأىالمؤيدون للتدويتين ان محمد الغزي تسلح بشجاعة إبداعية نادرة وعبر عن ما يخالجهم في السر في حين رأى المنتقدون ما اتاه الراحل محمد الغزي في حق الاديب محمود المسعدي مجرد هجوم وتجريح في حق احد رموز الادب والفكر في تونس

واذا كان القصد من ذلك –حسب المنتقدين "تدريس أدب المسعدي في اقسام الباكالوريا بالمعاهد الثانوية باستمرار، فيجب الخوض في المسألة في هذا الإطار وليس مهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية "

وامام هذا الجدل الكبير بادر الراحل محمد الغزي من خلال تدوينة ثالثة له بتوضيح مقصده من التدوينتين بخصوص الاديب محمد المسعدي بالقول " "هل نريد تأبيده في الباكالوريا؟ لست وزيرا ولا مسؤولا لأحور وأغير، أدليت بمجرد رأي قلت الرجل عظيم، لكن افسحوا المجال لغيره".

هل كان الشاعر الراحل شاعرا متصوفا؟

يجيب عن هذا السؤال الناقد العربي فاروق مصطفى في اكثر من مقال  في الصحف والمجلات العربية بالقول

",,,كان المتصوفة قريبين منه. أعجب بهم كثيرا. غير أنه لم يستعمل لغتهم إلا قليلا. استفاد من تقنيات تلك اللغة من غير أن ينجرف إلى تقليدهم. غير أنهم كانوا بالنسبة إليه نموذجا للعلاقة الشفافة بالآخر مهما كان مقامه. نوع من التخلي عن اللغة المتاحة هروبا إلى المساحة الشعرية.

 لقد أنصت إليهم مثلما أنصت إلى الطبيعة وكان الطفل في أعماقه وسيطا بين الطرفين. لذلك كان شعره منسوجا من الدانتيل. برقة عاشق وجنون طفل لم تكن لديه كلمات أكثر فقد كان شعره يجمع بين ترف الطفولة وشظف العيش لدى المتصوفة.

حياة صنعت لشاعرها سريرا ينام عليه ويحلم بالمتصوف الذي حلم بأن يكونه يوما. ينسج الغزي قصيدته من كلمات لا يمكن استبدالها فهي بعد أن وقعت في مكانها في قصيدته لم تعد الكلمات نفسها في المعجم"

 "الوصية " في رثاء زوجته

كان الثلاثاء 30 جويلية2019 يوما حزينا قي حياة الشاعر الخالد محمد الغزي بالتحاق رفيقة دربه في الحياة   أستاذة اللغة الانقليزية بالمعاهد الثانوية بالقيروان رجاء ملوش بالرفيق الأعلى

رحيل قصم ظهر شاعرنا الكبير الذي عاش السنوات التالية يبكيها في حرقة رغم تسلحه بالصبر والتجلد فكان كان يخفي حزنه العميق في ابتسامته التي لم تفارقه وهو في اشد لحظات الوجع والالم والنالم وجاءت اشعاره وشذراته معبرة عن ما يعصر قلبه من الم وحن شديدين.

كتب محمد الغزي " وصيته " في حق رفيقة دربه التي قاسمته الحياة بحلوها ومرها في مرثية استثنائية اختار " الى رجاء التي رحلت قبل صياح الديك " عنوانا له:

سَوْفَ أوصِي بها العشْبَ والليْلَ والنجْمةَ الرّاجفهْ

سَوْفَ أوصِي بها الغيْمَ والماءَ

سوْفَ أقولُ لهنَّ: أحِطنَ بِهَا

فهْيَ لمْ تعْرفِ الموْتَ منْ قبْلُ ،

فاعْذرْنَها إنْ هيَ استوْحَشتْ

واعْترَتْها ، إذا دَخلتْ ، رجفةُ الخوْفِ..

سرْنَ إذنْ معَها فِي الظلامِ

وأسْندْنها عندمَا تتَعَثّرُ،

وامْسَحْنَ دمْعتَها حينَ تبْكِي،

فأرْهَفُ من قطرة الماءِ سيّدتِي

وأشفُّ من الضّوْءِ.

يا إخوتي الماءَ والعُشبَ والليلَ

ليلُ المقابرِ سوْفَ يكونُ طويلا

فآمنَّها إنْ تملّكَهَا الخوْفُ،

دثّرْنَها إنْ هيَ ارْتجفتْ،

وانحنيْنَ عليها إذا هيَ حنّتْ وعاجلها الدّمعُ...

يا إخوتي الليْلَ والماءَ والعشبَ

لا تتحدّثْنَ، إنْ هيَ جاءتْ، عن الموْتِ

فهْي تخافُ،

تخافُ من الموْتِ سيّدتي،

وتخافُ من اللّيْل والصّمْت .

يا إخوتِي الليلَ والعشبَ والماءَ

جاءتْ إليكنّ هذا الصباحَ متوّجةً بطفُولتِها

ووداعتِها

فأحطن بها حين ننْفَضُّ عنها وأسْعفْنَ غرْبتَها،

فهْي ما فتئتْ تتلفًّتُ سيّدتي ،

ربّما نَسِيتْ ، قبْلَ أنْ تتْركَ البيْتَ ، أنْ تُوصِيَ الأهلَ

بالعشُب المتسلّقِ في بيتِها

بدُمَاها التي خبَّأتْها ،

بسِوارِ الطفولةِ تحْتَ وِسَادتِها .

إخوتي الليْل والماءَ والعشبَ

رافقْن في بلدِ الصّمْتِ سيّدتِي ،

لا تدعْن الغريبةَ تمْضِي إليه بمفْردِها ،

قُدْن خطواتِها حينَ يلتبسُ الليلُ ،

صاحبْنهَا في البلادِ التي لم يَعُدْ من منازلِها أحدٌ.

إخوتي الليْلَ والماءَ والعُشبَ

عمّا قريبٍ سيأخُذُها النّوْمُ بعد ليالٍ من السُّهْدِ،

خفّفْنَ يا إخْوتي الوطءَ ،

وامْضيْنَ بين الدّرُوب على مَهَلٍ ،

فالأميرةُ مرْهقةٌ بعْدَ أنْ أوْجعتْها الحياة ُ ،

وأثخنَها العمْرُ ،

فاغْضُضْن منْ صَوْتكنّ ،

تمَهّلنَ في السّيْر ،

هاهيَ ألقتْ على رُكبة الأرضِ ، من تعَبٍ ، رأسَها..

إخوتي الطيرَ والعُشبَ والماءَ

كنّ لها ، حين ننْفضّ ، حضْنا دفيئا

وكنّ لها ، حين ننْأى ، يدًا حانيهْ ...

الغزّي ورائعته القيروان

عشق القيروان وأحبها ومنحها ارق الاحاسيس ووهبها أروع الأشعار طيلة حياته الهادئة الثرية بالعديد من الانجازات الاستثنائية في الشعر والقصة والمسرح:

مَهْلاً فقدْ يتعاتَبُ الأحْبابُ

بعضُ الهوى يا قيْروانُ عِتابُ

إنّي الذي ما تبْتُ عنْ وجَع الهوى

لمّا الكثيرُ من الأحبّةِ تابُوا

إنّي أميرُ العاشقينَ بأرضِكمْ

وجميعُكمْ في ساحتي حُجّابُ

اخْلعْ نِعَالكَ فالمكانُ مُقدّسٌ

والأرْضُ حوْلكَ كلُّها مِحْرَابُ

عهدٌ علينا أنْ يُضَمَّ صَبابةً

هذا التّرابُ وتُلثمَ الأعْتابُ

لغةٌ هيَ الأضْواءُ بيْن دُروبها

لغةٌ هيَ الشّرفاتُ والأبْوابُ

لغة ٌ هي النظراتُ تجْري خِلسةً

لغةٌ هيَ الأحْداقُ والأهْدابُ

فكأنّمَا كلُّ المَسالكِ ألسُنٌ

وكأنَّمَا كلُّ الدُّروب خطابُ

وهتفْتُ بِابْنِ رشيقِها يَا سيّدي

قدْ ألّفتْ ما بيننا الأسْبابُ

فادْخُلْ لحانِ قصائِدي فجِرُارُها

فُضّتْ مغالقُها ودارَ شَرابُ

اشربْ فمنْ جرّات خمرتك التي

نامتْ قرونًا هذهِ الأكوابُ

امددْ يديكَ فمنْ دواليكَ التي

أوْرَثْتَنِيهَا هذهِ الأعنابُ

منْ قبْل ألْفٍ أنتَ قدْ علّمْتَنا

أنَّ القصيدةَ نعمةٌ وعذابُ

فهيَ ابتهاجُ الرّوحِ وهْيَ عذابُها

فنُسَرُّ إنْ هَمّتْ بنا ونَهابُ

يا بئرَ رُوطةَ والجِرارُ تناوَبَتْ

هلْ لي بهاتيكَ الجِرارِ شرابُ

قُولي لدُولابِ المياهِ يدورُ: يا

دولابُ تجْمعُ بيْننَا أسْبابُ

إنّا لنرْوي الظامئينَ تكرّمًا

ونظلُّ ظمْآنيْنِ يا دُولابُ

ضاعَ الشبابُ وما اقترفت جُنَونَهُ

وكأنّما بعْد الشبابِ شبابُ

أينَ الأحبّةُ في الجوارِ فإنّني

قدْ كنْتُ أصْفيْـتُ الودادَ وشابُوا

قولوا لهمْ إنّي الوفيُّ لعهدهمْ

سيّانِ كانُوا بيْنَنا أمْ غابُوا

وسألْتُ إذْ مرّتْ رَبَابٌ بيْننا

هلْ تذكُرُ العهْدَ القديمَ رَبَابُ

قولُوا لها للهجْرِ آدابٌ كما

للوَصْلِ في عُرْفِ الهوى آدابُ

ما انحلَّ عقدٌ بيننا يومًا وإنْ

شطّتْ بنا سبُلٌ وطالَ غيابُ

فعلامَ إنْ نحْنُ ادّنيْنا أطْرَقَتْ

وانْسَابَ جفناها وعيَّ جوابُ

قصرَ الكلام فلا يقولُ تولُّهي

فكأَنّما هذا الكلامُ حجابُ

يا أمَّ أندلسٍ وأمَّ رجالِها

هلاَّ عَلمتِ بمَا جَنَى الأعقابُ

فلقدْ فتحتِ الأرضَ أنتِ وضيّعوا

وجرؤتِ أنْت على الزمان وهابُوا

وبنيْتِ عزَّ المغربيْنِ وهدّمُوا

وظفرْتِ بالمجْدِ العظيمِ وخابُوا

قد كنت ضوْءَهُمُو إذا مَا ألْيلُوا

وسحابَهُم إنْ مسّهُمْ إجدابُ

أثقال دهْرٍ قدْ حملْتِ صُروفَها

ناءَتْ بحملِ صُروفها الأحْقابُ

وبقيتِ للأهلِينَ بابًا مُشرَعًا

إنْ أُغْلقِتْ منْ دُونهمْ أبْوابُ

أيْدٍ إلى كُلّ الوَرَى مبسوطةٌ

ومجالسٌ للقادِمينَ رِحَابُ

فكأنّما الأضْيافُ منْ قُطّانِها

وكأنّما منْ أهْلهَا الأغْرَابُ

ضوّأْتِ ليلَ الأرضِ وهو معتّمٌ

وأقمْتِ بيتَ الشعر وهوَ خرابُ

كلُّ الشعُوبِ غزتْ بقاطعِ سيفِها

وفَتَحْتِ أنْتِ وفي يديْكِ كتاب

 ساهم في تأسيس مهرجان ربيع الفنون بالقيروان واستقدام نزار قباني.. الشًاعر الرًاحل محمد الغزًي .. مبادرات.. مواقف وأشعار

إعداد: محسن بن أحمد

تونس-الصباح

رحل في صمت...في غفلة من الجميع مساء يوم خميس كئيب حزين بعد ان استقبله صباحا مستبشرا بصدور ديوانه الشعري الجديد "الجبال أجدادي ...الانهار إخوتي " وكأنه يوصي بضرورة الاحتفاء بهذا الإصدار الجديد بعد رحيله

محمد الغزي رائداستثنائي في المدونة الشعرية والأدبية في تونس والوطن العربي شاعر أحب الحياة وأخلص للشعر ولمبادئه الفكرية التي اعتنقها عن ايمان ووعي بها.

كشف صديقه الكاتب الروائي حسونة المصباحي ان الراحل قال له في اخر نقاش تم بينهما "الشاعر الحقيقي يصنع حداثته بنفسه" ولعل من خلال هذه الشهادة عبر عن رؤيته للشعر وكيفية التعاطي معه ... وقال عنه الشاعر ادم فتحي "ان قصيدة الراحل محمد الغزي تشبهه كإنسان الى حد التماهي به حدّ التماهي. إنّها باسِمَةٌ بعمق ، حتى وهي تتوجّع أو وهي تحاور الموت" .

محمد الغزي صاحب مواقف صريحة واضحة في كل ماله علاقة بالشعر والثقافة في تونس فهو متمرد على الجميع في ابداعه الذي لايتقنه الا هو من خلال رفضه الالتزام بالقوالب من خلال البحث عن الجديد المبتكر الخاص به..

هكذا كان محمد الغزي وهكذا سيخلده التاريخ..

 محمد الغزي.. ندوة وكتاب

دأب منتدى الفكر التنويري بإدارة الباحث محمد المي على الاحتفاء شهريا بأحد رموز الادب والفكر في تونس من خلال تنظيم ندوة يشارك فيها مختصون في الادب والفكر لتقديم قراءاتهم المتعلقة بمسيرة المحتفى به شعرا كانت او سردا او نقدا وهو تقليد انفرد به المنتدى في الساحة الثقافية التونسية.

وشهد يوم 26 فيفري 2022 تخصيص ندوة بالشاعر محمد الغزي وقد اختار مدير المنتدى محمد المي ان تكون في القيروان في إطار اللامركزية الثقافية.

وشهدت هذه الندوة مشاركة عدد من الأكاديميين واهل الاختصاص في الشأن الادبي والشعري بمداخلات تناولت الخصوصيات الشعرية والفكرية للغزي وهم الدكاترة والأساتذة حمادي الوهايبي ومحمد محجوب والمنصف الوهايبي وعمر حفيظ ومحمود الغانمي والسيد التويوفتحي النصري وبسمة الشلغومي ومحمد الصالح البوعمراني وحاتم الفطناسي.

هذا النشاط الفكري والثقافي الرائد في بلادنا تحت اشراف المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية تابعه جمهور غفير تخلله توزيع كتاب توثيقي  مجانا تضمن مداخلات الندوة بعنوان " محمد الغزي الشاعر الساحر " وهو من التقاليد الرائدة التي أسس لها المنتدي وانفرد بها حيث يتم اصدار كتاب خاص بالمحتفى به في كل لقاء شهري يوزع مجانا

نزار قباني في القيروان لأول مرة 

كانت عاصمة الاغالبة على موعد في ربيع 1995 مع حدث ادبي ثقافي استثنائي هندست له علامات بارزة في الثقافة والشعر والفكر من خلال الإعلان عن تنظيم الدورة التأسيسية الأولى لمهرجان ربيع الفنون بالقيروان

كان الراحل محمد الغزي احد المهندسين لهذا الحدث الثقافي الادبي الفني الكبير الى جانب الشاعر الكبير المنصف الوهايبيبدرجة أولى وكان الموعد في هذه الدورة الا ولى مع شاعر الحب والوطن والحرية نزار قباني الذي لبى الدعوة لتكون زيارته للقيروان الأولى من نوعها لهذه المدينة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ

وقد مثلت هذه الزيارة الثالثة للشاعر الكبير الخالد نزار قباني لتونس فقد كانت أولى زياراته لبلادنا في ماي 1964 بدعوة رسمية من كتابة الدولة للثقافة والاخبار " قبل ان تصبح تسميتها وزارة الشؤون الثقافية "  تحت  اشراف الاستاذالخالد الشاذلي القليبي وكانت الزيارة الثانية لنزار قباني في ماي 1980 احتفالا بالذكرى 35 لتأسيس الجامعة العربية والقى نزار قباني بالمسرح البلدي بالعاصمة قصيده الشهير " يا تونس الخضراء جئتك عاشقا " والثالثة كانت القيروان

** يقول الشاعر المنصف الوهايبي عن مشاركة نزار قباني في الدورة التأسيسية الأولى لمهرجان ربيع الفنون بالقيروان سنة1995

"لقد بادر الشاعر ادونيس بالتنسيق معي والراحل محمد الغزي باقناع الشاعر نزار قباني بالحضور الى القيروان وعند قدومه الى القيروان كشف لنا نزار قباني انه استشار الشاعر محمد درويش فأشاد بنا أنا ومحمد الغزّي، وقال له اذهب ولن تندم ..."

 الغزي والمسعدي

اثار الراحل محمد الغزي جدلا كبيرا في الأوساط الثقافية والفكرية والأدبية التونسية من خلال تدوينتين تتعلق بأدب الكاتب الكبير محمد المسعدي.

قال الراحل محمد الغزي في تدوينته الأولى

"بعض الأصدقاء قالوا: "كلما قرأنا أعمال المسعدي، اكتشفنا الجديد. طلبت منهم أن يفيدونا بهذا الجديد الذي اكتشفوه. ما زلت أنتظر".

وجاء في تدوينته الثانية : "ماهي علاقة المتقبل الجديد بالمسعدي وبلغته الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة؟ أزعم أن لا علاقة بينهما، أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت".

وسرعان ما ارتفعت الأصوات بين مؤيد لمضمون التدوينتين والرافضين والمنتقدين بشدة للراحل محمد الغزي

رأىالمؤيدون للتدويتين ان محمد الغزي تسلح بشجاعة إبداعية نادرة وعبر عن ما يخالجهم في السر في حين رأى المنتقدون ما اتاه الراحل محمد الغزي في حق الاديب محمود المسعدي مجرد هجوم وتجريح في حق احد رموز الادب والفكر في تونس

واذا كان القصد من ذلك –حسب المنتقدين "تدريس أدب المسعدي في اقسام الباكالوريا بالمعاهد الثانوية باستمرار، فيجب الخوض في المسألة في هذا الإطار وليس مهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية "

وامام هذا الجدل الكبير بادر الراحل محمد الغزي من خلال تدوينة ثالثة له بتوضيح مقصده من التدوينتين بخصوص الاديب محمد المسعدي بالقول " "هل نريد تأبيده في الباكالوريا؟ لست وزيرا ولا مسؤولا لأحور وأغير، أدليت بمجرد رأي قلت الرجل عظيم، لكن افسحوا المجال لغيره".

هل كان الشاعر الراحل شاعرا متصوفا؟

يجيب عن هذا السؤال الناقد العربي فاروق مصطفى في اكثر من مقال  في الصحف والمجلات العربية بالقول

",,,كان المتصوفة قريبين منه. أعجب بهم كثيرا. غير أنه لم يستعمل لغتهم إلا قليلا. استفاد من تقنيات تلك اللغة من غير أن ينجرف إلى تقليدهم. غير أنهم كانوا بالنسبة إليه نموذجا للعلاقة الشفافة بالآخر مهما كان مقامه. نوع من التخلي عن اللغة المتاحة هروبا إلى المساحة الشعرية.

 لقد أنصت إليهم مثلما أنصت إلى الطبيعة وكان الطفل في أعماقه وسيطا بين الطرفين. لذلك كان شعره منسوجا من الدانتيل. برقة عاشق وجنون طفل لم تكن لديه كلمات أكثر فقد كان شعره يجمع بين ترف الطفولة وشظف العيش لدى المتصوفة.

حياة صنعت لشاعرها سريرا ينام عليه ويحلم بالمتصوف الذي حلم بأن يكونه يوما. ينسج الغزي قصيدته من كلمات لا يمكن استبدالها فهي بعد أن وقعت في مكانها في قصيدته لم تعد الكلمات نفسها في المعجم"

 "الوصية " في رثاء زوجته

كان الثلاثاء 30 جويلية2019 يوما حزينا قي حياة الشاعر الخالد محمد الغزي بالتحاق رفيقة دربه في الحياة   أستاذة اللغة الانقليزية بالمعاهد الثانوية بالقيروان رجاء ملوش بالرفيق الأعلى

رحيل قصم ظهر شاعرنا الكبير الذي عاش السنوات التالية يبكيها في حرقة رغم تسلحه بالصبر والتجلد فكان كان يخفي حزنه العميق في ابتسامته التي لم تفارقه وهو في اشد لحظات الوجع والالم والنالم وجاءت اشعاره وشذراته معبرة عن ما يعصر قلبه من الم وحن شديدين.

كتب محمد الغزي " وصيته " في حق رفيقة دربه التي قاسمته الحياة بحلوها ومرها في مرثية استثنائية اختار " الى رجاء التي رحلت قبل صياح الديك " عنوانا له:

سَوْفَ أوصِي بها العشْبَ والليْلَ والنجْمةَ الرّاجفهْ

سَوْفَ أوصِي بها الغيْمَ والماءَ

سوْفَ أقولُ لهنَّ: أحِطنَ بِهَا

فهْيَ لمْ تعْرفِ الموْتَ منْ قبْلُ ،

فاعْذرْنَها إنْ هيَ استوْحَشتْ

واعْترَتْها ، إذا دَخلتْ ، رجفةُ الخوْفِ..

سرْنَ إذنْ معَها فِي الظلامِ

وأسْندْنها عندمَا تتَعَثّرُ،

وامْسَحْنَ دمْعتَها حينَ تبْكِي،

فأرْهَفُ من قطرة الماءِ سيّدتِي

وأشفُّ من الضّوْءِ.

يا إخوتي الماءَ والعُشبَ والليلَ

ليلُ المقابرِ سوْفَ يكونُ طويلا

فآمنَّها إنْ تملّكَهَا الخوْفُ،

دثّرْنَها إنْ هيَ ارْتجفتْ،

وانحنيْنَ عليها إذا هيَ حنّتْ وعاجلها الدّمعُ...

يا إخوتي الليْلَ والماءَ والعشبَ

لا تتحدّثْنَ، إنْ هيَ جاءتْ، عن الموْتِ

فهْي تخافُ،

تخافُ من الموْتِ سيّدتي،

وتخافُ من اللّيْل والصّمْت .

يا إخوتِي الليلَ والعشبَ والماءَ

جاءتْ إليكنّ هذا الصباحَ متوّجةً بطفُولتِها

ووداعتِها

فأحطن بها حين ننْفَضُّ عنها وأسْعفْنَ غرْبتَها،

فهْي ما فتئتْ تتلفًّتُ سيّدتي ،

ربّما نَسِيتْ ، قبْلَ أنْ تتْركَ البيْتَ ، أنْ تُوصِيَ الأهلَ

بالعشُب المتسلّقِ في بيتِها

بدُمَاها التي خبَّأتْها ،

بسِوارِ الطفولةِ تحْتَ وِسَادتِها .

إخوتي الليْل والماءَ والعشبَ

رافقْن في بلدِ الصّمْتِ سيّدتِي ،

لا تدعْن الغريبةَ تمْضِي إليه بمفْردِها ،

قُدْن خطواتِها حينَ يلتبسُ الليلُ ،

صاحبْنهَا في البلادِ التي لم يَعُدْ من منازلِها أحدٌ.

إخوتي الليْلَ والماءَ والعُشبَ

عمّا قريبٍ سيأخُذُها النّوْمُ بعد ليالٍ من السُّهْدِ،

خفّفْنَ يا إخْوتي الوطءَ ،

وامْضيْنَ بين الدّرُوب على مَهَلٍ ،

فالأميرةُ مرْهقةٌ بعْدَ أنْ أوْجعتْها الحياة ُ ،

وأثخنَها العمْرُ ،

فاغْضُضْن منْ صَوْتكنّ ،

تمَهّلنَ في السّيْر ،

هاهيَ ألقتْ على رُكبة الأرضِ ، من تعَبٍ ، رأسَها..

إخوتي الطيرَ والعُشبَ والماءَ

كنّ لها ، حين ننْفضّ ، حضْنا دفيئا

وكنّ لها ، حين ننْأى ، يدًا حانيهْ ...

الغزّي ورائعته القيروان

عشق القيروان وأحبها ومنحها ارق الاحاسيس ووهبها أروع الأشعار طيلة حياته الهادئة الثرية بالعديد من الانجازات الاستثنائية في الشعر والقصة والمسرح:

مَهْلاً فقدْ يتعاتَبُ الأحْبابُ

بعضُ الهوى يا قيْروانُ عِتابُ

إنّي الذي ما تبْتُ عنْ وجَع الهوى

لمّا الكثيرُ من الأحبّةِ تابُوا

إنّي أميرُ العاشقينَ بأرضِكمْ

وجميعُكمْ في ساحتي حُجّابُ

اخْلعْ نِعَالكَ فالمكانُ مُقدّسٌ

والأرْضُ حوْلكَ كلُّها مِحْرَابُ

عهدٌ علينا أنْ يُضَمَّ صَبابةً

هذا التّرابُ وتُلثمَ الأعْتابُ

لغةٌ هيَ الأضْواءُ بيْن دُروبها

لغةٌ هيَ الشّرفاتُ والأبْوابُ

لغة ٌ هي النظراتُ تجْري خِلسةً

لغةٌ هيَ الأحْداقُ والأهْدابُ

فكأنّمَا كلُّ المَسالكِ ألسُنٌ

وكأنَّمَا كلُّ الدُّروب خطابُ

وهتفْتُ بِابْنِ رشيقِها يَا سيّدي

قدْ ألّفتْ ما بيننا الأسْبابُ

فادْخُلْ لحانِ قصائِدي فجِرُارُها

فُضّتْ مغالقُها ودارَ شَرابُ

اشربْ فمنْ جرّات خمرتك التي

نامتْ قرونًا هذهِ الأكوابُ

امددْ يديكَ فمنْ دواليكَ التي

أوْرَثْتَنِيهَا هذهِ الأعنابُ

منْ قبْل ألْفٍ أنتَ قدْ علّمْتَنا

أنَّ القصيدةَ نعمةٌ وعذابُ

فهيَ ابتهاجُ الرّوحِ وهْيَ عذابُها

فنُسَرُّ إنْ هَمّتْ بنا ونَهابُ

يا بئرَ رُوطةَ والجِرارُ تناوَبَتْ

هلْ لي بهاتيكَ الجِرارِ شرابُ

قُولي لدُولابِ المياهِ يدورُ: يا

دولابُ تجْمعُ بيْننَا أسْبابُ

إنّا لنرْوي الظامئينَ تكرّمًا

ونظلُّ ظمْآنيْنِ يا دُولابُ

ضاعَ الشبابُ وما اقترفت جُنَونَهُ

وكأنّما بعْد الشبابِ شبابُ

أينَ الأحبّةُ في الجوارِ فإنّني

قدْ كنْتُ أصْفيْـتُ الودادَ وشابُوا

قولوا لهمْ إنّي الوفيُّ لعهدهمْ

سيّانِ كانُوا بيْنَنا أمْ غابُوا

وسألْتُ إذْ مرّتْ رَبَابٌ بيْننا

هلْ تذكُرُ العهْدَ القديمَ رَبَابُ

قولُوا لها للهجْرِ آدابٌ كما

للوَصْلِ في عُرْفِ الهوى آدابُ

ما انحلَّ عقدٌ بيننا يومًا وإنْ

شطّتْ بنا سبُلٌ وطالَ غيابُ

فعلامَ إنْ نحْنُ ادّنيْنا أطْرَقَتْ

وانْسَابَ جفناها وعيَّ جوابُ

قصرَ الكلام فلا يقولُ تولُّهي

فكأَنّما هذا الكلامُ حجابُ

يا أمَّ أندلسٍ وأمَّ رجالِها

هلاَّ عَلمتِ بمَا جَنَى الأعقابُ

فلقدْ فتحتِ الأرضَ أنتِ وضيّعوا

وجرؤتِ أنْت على الزمان وهابُوا

وبنيْتِ عزَّ المغربيْنِ وهدّمُوا

وظفرْتِ بالمجْدِ العظيمِ وخابُوا

قد كنت ضوْءَهُمُو إذا مَا ألْيلُوا

وسحابَهُم إنْ مسّهُمْ إجدابُ

أثقال دهْرٍ قدْ حملْتِ صُروفَها

ناءَتْ بحملِ صُروفها الأحْقابُ

وبقيتِ للأهلِينَ بابًا مُشرَعًا

إنْ أُغْلقِتْ منْ دُونهمْ أبْوابُ

أيْدٍ إلى كُلّ الوَرَى مبسوطةٌ

ومجالسٌ للقادِمينَ رِحَابُ

فكأنّما الأضْيافُ منْ قُطّانِها

وكأنّما منْ أهْلهَا الأغْرَابُ

ضوّأْتِ ليلَ الأرضِ وهو معتّمٌ

وأقمْتِ بيتَ الشعر وهوَ خرابُ

كلُّ الشعُوبِ غزتْ بقاطعِ سيفِها

وفَتَحْتِ أنْتِ وفي يديْكِ كتاب