في بعض التصريحات المنقولة على لسان وزير الخارجية السعودي، والتي أكد جانب منها بلينكن أثناء وبعد زيارته الأخيرة للمنطقة وكذلك ما قالته "الوول ستريت جورنال"، بان السعودية تتمسك بشرط حل الدولتين للقبول بالتطبيع مع إسرائيل الذي ترى فيه واشنطن مدخلا لبلورة تشكيل الناتو العربي، فهل صحيح أن السعودية تعني ما تقول؟؟؟.
وبأكثر صراحة هل ما تعنيه السعودية بحل الدولتين هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من جوان 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؟؟ أم دولة يُحدد مضمونها لاحقا كما يفعل الأمريكيون عادة حيث يكثرون من الحديث عن هذه الدولة دون معرفة ما يعنون بذلك، ودون وضع آليات إقامتها؟.
إن الإجابة على ذلك تنبثق فقط من تمثلات صانع القرار السعودي لدوره الإقليمي وزاوية تموضعه في المحيط الدولي من ناحية ومدى إيمانه بقدرته على لعب هذا الدور وفق شروطه في واقع الدولة من ناحية ثانية، مع العمل على توسيع هامش المناورة الذي ينجو به من الوقوع في الانعطافات العمياء.
وللحقيقة والتاريخ أيضا فان سياق تطور الأحداث منذ عام 1990 قد مهد الطريق أمام الرياض للعب هذا الدور - الذي شاكست من اجل الوصول إليه طيلة الخمسين سنة التي سبقت هذا التاريخ - دون مناكفات من عواصم الصراع على زعامة المنطقة في القاهرة وبغداد ودمشق، ولكن أيضا مع تعاظم أدوار الجوار في طهران وأنقرة وتل أبيب التي لا تجد دعما مطلقا من واشنطن، بل تفويضا كاملا للقيام به.
واليوم تبرز أمامنا حقيقتان لا يمكن لأي عاقل إنكارهما وتتبلور الصورة بشأنهما بأدق تفاصيلها وهي أن القوة العربية تعاني فراغا خطيرا تسبب في ترك الإقليم لتتنازعه القوتان الإيرانية والإسرائيلية اللتان تخوضان الآن حربا ضروسا، يدفع ثمنها الفلسطيني .
وحتى لا يذهب في ظن البعض أننا نقصد بان الحرب الآن في غزة هي حرب إيرانية بالوكالة، فإننا نؤكد عكس ذلك ونكرر أن فراغ القوة العربية وتتابع مسلسل التطبيع المجاني والتلطي خلف بيانات جوفاء أمام تصاعد الغطرسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هو الذي تسبب بهذه الحرب من جهة وأتاح لإيران ملء هذا الفراغ من جهة أخرى، وأن الظن العربي بان حل عقدة الخوف من إيران يكون بمواصلة الارتماء في الحضن الإسرائيلي سيكون المسمار الأخير في نعش النظام العربي، وأن الجهة إن لم تكن الوحيدة فإنها الأكثر قدرة على منع كل ذلك هي السعودية التي تمتلك من عناصر القوة ما يمكنها من ذلك.
وما قد يشير إلى أهمية وزن هذه العناصر التي تدركها واشنطن، وناتجة في بعضها عن الضغط السعودي هو ما صار يردده بلينكن عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية كشرط سعودي للانخراط في التصور الأمريكي لمرحلة ما بعد الحرب وما نقلته اندريا ميتشيل في تقرير لها على شبكة NBC عن مسؤولين امريكيين إن بلينكن هدف من بدء رحلته الأخيرة إلى المنطقة بزيارة الدول العربية هو أن يحمل معه لنتنايو رؤيتهم لليوم التالي للحرب، والتي اختزلها وفقا للتقرير بمقترح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مقابل التطبيع مع السعودية، غير انه رفض ذلك، وقال بأنه غير مستعد لعقد صفقة تسمح بإقامة هذه الدولة.
وتقول ميتشيل انه في سياق تجاوز هذا الرفض – الذي يستجيب للموقف السعودي - والإعداد لمرحلة ما بعد نتنياهو - التي يتطلع بايدن لرؤيتها عاجلا- فان بلينكن التقى بشكل منفصل مع أعضاء حكومته وزعماء إسرائيليين آخرين، بما فيهم زعيم المعارضة يائير لابيد، لتمهيد الأرضية المناسبة لاتفاق فلسطيني سعودي مع قادة إسرائيليين آخرين قبل تشكيل حكومة ما بعد نتنياهو -الذي تحول إلى بيرني مادوف إسرائيل على حد وصف عاموس هارئيل - التي ستقبل بإقامة الدولة الفلسطينية.
ورغم أهمية ذلك، فإن ما يجب أن لا يغيب عن الذهن إن كل هذا الحراك لم يتجاوز بعد محاولة العودة إلى المربع الأول _حيث يُلاحظ ذلك بوضوح في مشروع الاتحاد الاوروبي للحل- خاصة وان إسرائيل كانت قد أقرت ضمنيا بإقامة الدولة في اتفاقيات اوسلوا عندما قبلت باقتصار اعتراف منظمة التحرير بها فقط على المساحة التي لا تشمل أراضي الضفة الغربية وأن قمة بيروت 2002 بلورت ذلك بما صار يعرف بحل الدولتين مقابل التطبيع، وانه صار المطلوب اليوم ليس التأكيد على ما تم الاتفاق عليه بالأمس، بل وضع خطة صارمة لتنفيذه.
إن السعودية التي تدرك حجم الخوف الأمريكي من انزياح سياساتها نحو اي محور آخر، وأهمية دورها في الترتيبات الأمريكية للأمن الإقليمي مستقبلا، وتمتلك في الوقت نفسه الزمن الإقليمي بقوة، قادرة على استكمال ذلك- إن كانت تعني ما تقوله بحل الدولتين- بالضغط على واشنطن لإجبار إسرائيل على الانصياع لقبول إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من جوان لإنهاء هذا الصراع، كون ذلك الممر الاضطراري لتحقيق الأهداف السعودية إقليميا والانتقال بعلاقاتها مع إيران من واقعها الصراعي إلى علاقات تنافسية ستكون محكومة بعدد من الشروط التاريخية التي ستلعب لمصلحتها أكثر منها لمصلحة إيران، إلى جانب إنهاء مصادر الاستقطابات داخل الإقليم كما انتبه لذلك جيك سوليفان في دافوس مؤخرا. وأما دون ذلك فانه سيعني تسييد إسرائيل على المنطقة وتجديد معارك الاستقطابات فيها وتمهيدها لحروب واضطرابات جديدة ستحول دون تحقيق أي رؤية تنموية مستقبلية أو مشاريع اقتصادية كبرى من تلك التي أشارت إليها السفيرة السعودية لدى واشنطن من دافوس، وستؤدي في النهاية إلى ولادة دول تنافس على قيادة النظام العربي الذي لن يستمر بداخله فراغ القوة لفترة طويلة.
*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة
بقلم: هاني مبارك(*)
في بعض التصريحات المنقولة على لسان وزير الخارجية السعودي، والتي أكد جانب منها بلينكن أثناء وبعد زيارته الأخيرة للمنطقة وكذلك ما قالته "الوول ستريت جورنال"، بان السعودية تتمسك بشرط حل الدولتين للقبول بالتطبيع مع إسرائيل الذي ترى فيه واشنطن مدخلا لبلورة تشكيل الناتو العربي، فهل صحيح أن السعودية تعني ما تقول؟؟؟.
وبأكثر صراحة هل ما تعنيه السعودية بحل الدولتين هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من جوان 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؟؟ أم دولة يُحدد مضمونها لاحقا كما يفعل الأمريكيون عادة حيث يكثرون من الحديث عن هذه الدولة دون معرفة ما يعنون بذلك، ودون وضع آليات إقامتها؟.
إن الإجابة على ذلك تنبثق فقط من تمثلات صانع القرار السعودي لدوره الإقليمي وزاوية تموضعه في المحيط الدولي من ناحية ومدى إيمانه بقدرته على لعب هذا الدور وفق شروطه في واقع الدولة من ناحية ثانية، مع العمل على توسيع هامش المناورة الذي ينجو به من الوقوع في الانعطافات العمياء.
وللحقيقة والتاريخ أيضا فان سياق تطور الأحداث منذ عام 1990 قد مهد الطريق أمام الرياض للعب هذا الدور - الذي شاكست من اجل الوصول إليه طيلة الخمسين سنة التي سبقت هذا التاريخ - دون مناكفات من عواصم الصراع على زعامة المنطقة في القاهرة وبغداد ودمشق، ولكن أيضا مع تعاظم أدوار الجوار في طهران وأنقرة وتل أبيب التي لا تجد دعما مطلقا من واشنطن، بل تفويضا كاملا للقيام به.
واليوم تبرز أمامنا حقيقتان لا يمكن لأي عاقل إنكارهما وتتبلور الصورة بشأنهما بأدق تفاصيلها وهي أن القوة العربية تعاني فراغا خطيرا تسبب في ترك الإقليم لتتنازعه القوتان الإيرانية والإسرائيلية اللتان تخوضان الآن حربا ضروسا، يدفع ثمنها الفلسطيني .
وحتى لا يذهب في ظن البعض أننا نقصد بان الحرب الآن في غزة هي حرب إيرانية بالوكالة، فإننا نؤكد عكس ذلك ونكرر أن فراغ القوة العربية وتتابع مسلسل التطبيع المجاني والتلطي خلف بيانات جوفاء أمام تصاعد الغطرسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هو الذي تسبب بهذه الحرب من جهة وأتاح لإيران ملء هذا الفراغ من جهة أخرى، وأن الظن العربي بان حل عقدة الخوف من إيران يكون بمواصلة الارتماء في الحضن الإسرائيلي سيكون المسمار الأخير في نعش النظام العربي، وأن الجهة إن لم تكن الوحيدة فإنها الأكثر قدرة على منع كل ذلك هي السعودية التي تمتلك من عناصر القوة ما يمكنها من ذلك.
وما قد يشير إلى أهمية وزن هذه العناصر التي تدركها واشنطن، وناتجة في بعضها عن الضغط السعودي هو ما صار يردده بلينكن عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية كشرط سعودي للانخراط في التصور الأمريكي لمرحلة ما بعد الحرب وما نقلته اندريا ميتشيل في تقرير لها على شبكة NBC عن مسؤولين امريكيين إن بلينكن هدف من بدء رحلته الأخيرة إلى المنطقة بزيارة الدول العربية هو أن يحمل معه لنتنايو رؤيتهم لليوم التالي للحرب، والتي اختزلها وفقا للتقرير بمقترح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مقابل التطبيع مع السعودية، غير انه رفض ذلك، وقال بأنه غير مستعد لعقد صفقة تسمح بإقامة هذه الدولة.
وتقول ميتشيل انه في سياق تجاوز هذا الرفض – الذي يستجيب للموقف السعودي - والإعداد لمرحلة ما بعد نتنياهو - التي يتطلع بايدن لرؤيتها عاجلا- فان بلينكن التقى بشكل منفصل مع أعضاء حكومته وزعماء إسرائيليين آخرين، بما فيهم زعيم المعارضة يائير لابيد، لتمهيد الأرضية المناسبة لاتفاق فلسطيني سعودي مع قادة إسرائيليين آخرين قبل تشكيل حكومة ما بعد نتنياهو -الذي تحول إلى بيرني مادوف إسرائيل على حد وصف عاموس هارئيل - التي ستقبل بإقامة الدولة الفلسطينية.
ورغم أهمية ذلك، فإن ما يجب أن لا يغيب عن الذهن إن كل هذا الحراك لم يتجاوز بعد محاولة العودة إلى المربع الأول _حيث يُلاحظ ذلك بوضوح في مشروع الاتحاد الاوروبي للحل- خاصة وان إسرائيل كانت قد أقرت ضمنيا بإقامة الدولة في اتفاقيات اوسلوا عندما قبلت باقتصار اعتراف منظمة التحرير بها فقط على المساحة التي لا تشمل أراضي الضفة الغربية وأن قمة بيروت 2002 بلورت ذلك بما صار يعرف بحل الدولتين مقابل التطبيع، وانه صار المطلوب اليوم ليس التأكيد على ما تم الاتفاق عليه بالأمس، بل وضع خطة صارمة لتنفيذه.
إن السعودية التي تدرك حجم الخوف الأمريكي من انزياح سياساتها نحو اي محور آخر، وأهمية دورها في الترتيبات الأمريكية للأمن الإقليمي مستقبلا، وتمتلك في الوقت نفسه الزمن الإقليمي بقوة، قادرة على استكمال ذلك- إن كانت تعني ما تقوله بحل الدولتين- بالضغط على واشنطن لإجبار إسرائيل على الانصياع لقبول إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من جوان لإنهاء هذا الصراع، كون ذلك الممر الاضطراري لتحقيق الأهداف السعودية إقليميا والانتقال بعلاقاتها مع إيران من واقعها الصراعي إلى علاقات تنافسية ستكون محكومة بعدد من الشروط التاريخية التي ستلعب لمصلحتها أكثر منها لمصلحة إيران، إلى جانب إنهاء مصادر الاستقطابات داخل الإقليم كما انتبه لذلك جيك سوليفان في دافوس مؤخرا. وأما دون ذلك فانه سيعني تسييد إسرائيل على المنطقة وتجديد معارك الاستقطابات فيها وتمهيدها لحروب واضطرابات جديدة ستحول دون تحقيق أي رؤية تنموية مستقبلية أو مشاريع اقتصادية كبرى من تلك التي أشارت إليها السفيرة السعودية لدى واشنطن من دافوس، وستؤدي في النهاية إلى ولادة دول تنافس على قيادة النظام العربي الذي لن يستمر بداخله فراغ القوة لفترة طويلة.