إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

محطات 14 جانفي.. من الاحتفاء بسقوط "الديكتاتورية" إلى سياسة "الغنيمة" الحزبية !

 

تونس – الصباح

يحيي اليوم التونسيون الذكرى الثالثة عشر لسقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ،بما يحمله هذا التاريخ من رمزية سياسية واجتماعية في تاريخ تونس المعاصر ودوره في إشعال فتيل الثورات في بلدان أخرى عربية وغيرها، لكنها تعود وسط أجواء يخيم عليها الخوف من تواصل الوضع المتردي الناجم عن تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتداعياته إذا ما عجزت الحكومة على إيجاد الحلول من ناحية والتوق إلى مستقبل أفضل في ظل الوعود والانتظارات السياسية لرئيس الجمهورية قيس سعيد وانتصاره لتكريس الدولة الاجتماعية والقيام بإصلاحات شاملة وجذرية من ناحية أخرى.

ويعتبر بعض المؤرخين أن 14 جانفي 2011 كان بمثابة منعرج حاسم وهام في مسار الثورة الشعبية التي تفجرت في 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد بعد حرق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه، كردة فعل على الشعور بالضيم والغبن إثر مصادرة السلط المحلية لعربته التي تعد مصدر رزقه الوحيد، لتكون شرارة انفجار الثورة في أغلب جهات الجمهورية في مرحلة لاحقة في ظل حالة الاحتقان الواسعة.

 ورغم قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 3 ديسمبر 2021 القاضي بتغيير موعد الاحتفال بعيد الثورة ليكون يوم 17 ديسمبر من كل سنة عوضا عما دأب عليه الجميع في مرحلة ما بعد 2011، على اعتبار أن الثورة الشعبية تؤرخ بتاريخ انطلاقها وليس 14 جانفي الذي يعتبره تاريخ "الانقلاب "على الثورة، إلا أن هذا التاريخ يظل راسخا في أذهان الجميع ومناسبة للذكرى والاحتفاء لعدة اعتبارات، لعل من أبرزها النقلة التي أحدثها في مستوى النظام والمناخ العام في تونس لتخرج من مرحلة الاستبداد وحكم الحزب الواحد إلى مرحلة دستورية جديدة قوامها الديمقراطية والحريات والتعددية الحزبية والمدنية.

ارتبط هذا التاريخ بالعلاقة الجدلية بين السياسي والاجتماعي منذ 2011 إلى غاية اليوم. إذ أكد عدد من المتابعين لتطورات ومستجدات الوضع العام في بلادنا، أن العامل السياسي لاسيما ما يتعلق بالسياسيين كان الغائب البارز عن محركات ومسار الثورة، رغم تعرض بعض السياسيين إلى الإيقافات والاعتداءات الأمنية أثناء المشاركة في بعض التحركات بالعاصمة على غرار حمة الهمامي الأمين العام الحالي لحزب العمال، كغيره من ممثلي بعض الهياكل القطاعية من محامين وأطباء وطلبة وناشطين في الحقل الثقافي وغيرهم، وذلك في الثورة التي عرفتها بلادنا في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وكانت ثورة شبابية بامتياز لم يكن لها قائد أو ملهم محدد ومهندس لمساراتها وأججتها مطالب اجتماعية ملحة ورفض لظاهرة تفشي الفساد اختزلتها شعارات "شغل حرية كرامة وطنية".

قصر مدتها وسهولة الإطاحة بنظام بن علي، بعد فرار المرحوم إلى السعودية مساء 14 جانفي 2011، دفع إلى تسميتها بثورة "الياسمين" وهو نفس الاسم الذي أطلقته الصحافة الفرنسية على عملية إطاحة زين العابدين بن علي بالرئيس السابق الراحل الحبيب بورقيبة في 7 نوفمبر 1987، باعتبار أنه لم يكن في تونس إلى حد تاريخ فرار الرئيس الراحل سوى ثمانية أحزاب متحصلة على تراخيص قانونية إلى جانب الحزب الحاكم وهو التجمع الدستوري الديمقراطي. وتصنف على إنها مجرد أحزاب معارضة كرتونية يتحكم النظام الحاكم في تحريكها وليس لها قواعد أو أصًوات مسموعة في العمق الشعبي التونسي آنذاك.

ولعل في إقبال السياسيين من مختلف الأطياف الحزبية على الاحتفال بهذه الذكرى السنوية ، وتمسك أغلبية هذه الطبقة اليوم بهذا التاريخ كمناسبة للاحتفاء بالثورة، تأكيد لما يذهب له البعض من أن هذا التاريخ هو ذكرى الانقلاب على الثورة وتحويل وجهة أهدافها من مطالب واستحقاقات اجتماعية ملحة من تشغيل وعدالة بين الجهات وقضاء على الفساد ، إلى توجه كلي للتركيز على المطالب والإصلاحات السياسية والدستورية كأولوية حظيت باهتمام الفاعلين وأصحاب القرار الجدد في هندسة مسار الانتقال من الثورة إلى الجمهورية الثانية أو ما اتفقوا على تسميته بمرحلة الديمقراطية ليخرج بذلك المجتمع السياسي المستفيد الأول والأكبر من الثورة ومن إسقاط منظومة حكم بن علي بعد أن بدأت مرحلة إعادة تشكيل الخارطة السياسية في تونس عبر ترجيح كفة المراهنة على نقاط تقاطع الثورة كمكسب لمسار تاريخي، مع التحول الديمقراطي بما يمثله من انتصار وترجيح لكفة الموازنات السياسية الآنية والصاعدة على بقية المطالب الاجتماعية والشبابية، في منحى كلي ل"ركوب هذه الفئة على الثورة" بما يختزله المصطلح من معنى الحياد والابتعاد على المطالب والانتظارات والاستحقاقات الأساسية للثورة.

من انفجار الثورة إلى الانفجار الحزبي

أحدثت تطورات أحداث الثورة ومستجداتها في يوم 14 جانفي 2011 منعرجا حاسما في المسار السياسي لتونس، خاصة بعد التقاء أهداف الطبقة السياسية ونشطاء المجتمع المدني وغيرها من التونسيين مع فئة أخرى من الوافدين والعائدين من المنفى بالخارج من مختلف التوجهات ،لتشهد بلادنا انفجارا حزبيا غير مسبوق فتح المجال للأحزاب التي لم تحصل على تراخيص لتضاف لها قائمة أخرى من الأجسام السياسية من مختلف التيارات والتوجهات. وموازاة مع ذلك تلك الطفرة المسجلة في الأحزاب ساهم مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 الصادر عن رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع وباقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، الذي يتعلق بتنظيم الجمعيات وما تضمنه من تسهيلات، في إحداث طفرة كبيرة من الجمعيات، كان لها جميعها دور كبير، بشكل مباشر وغير مباشر، في تحديد طبيعة النظام في البديل في مرحلة ما بعد منظومة بن علي والذي اتضحت إرهاصاته الأولى بعد نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 باعتبارها أول "انتخابات ديمقراطية" في بلادنا وما أسفرت عنه من فوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي الذي تم الاتفاق على انتخابه لمدة عام فقط ومهمته وضع دستور جديد. لكن عدم الالتزام بهذه المدة والجدل الذي رافق المرحلة وخطر السلم الاجتماعي الذي حف بالتجاذبات والصراعات السياسية التي خيمت على المشهد في السنوات الأولى لما بعد الثورة، في ظل فشل الحكومات والدخول في دوامة من الظواهر والممارسات الدخيلة التي تسببت في تقسيم المجتمع التونسي وشكلت خطرا على وحدته من قبيل الإرهاب وعمليات الاستقطاب الإيديولوجي والتنظيمات الإرهابية والاغتيالات السياسية وغيرها من العمليات الإرهابية التي طالت أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية لعل من أبزرها اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من رموز الجبهة الشعبية التي تتكون من 12 حزبا ليتقاطع السياسي مع الأيديولوجي في مقاربة جديدة لتشكيل الخارطة السياسية وتوزيع الأوراق تحت إيقاع التجاذبات والتحالفات والتكتلات والجبهات.

وتواصلت سيطرة "السياسي" على المشهد الخاص والاهتمام العام إلى ما بعد انتخابات 2014 وبعد الحسم في وضع دستور توافقي ونظام حكم شبه برلماني مختلط قُدَّ على مقاس "صناع المرحلة ومهندسوها" والفاعلون فيها ليتواصل "تكاثر" الأحزاب من رحم بعضها البعض أو في سياق أهداف ومرامي انتخابية ومصلحية محددة في مشهد سياسي غابت عنه البرامج والمبادرات الإصلاحية والتأسيسية الهادفة ودون مبالاة بالمطلبية الشعبية والتداعيات السلبية لذلك على الاقتصاد والمجتمع والتنمية. وهو ما ساهم في نفور القواعد الشعبية من المشهد العام واحتداد حالة الاحتقان في الشارع التونسي ونزوعه إلى الاحتجاج على نحو حول هذه الذكرى إلى مناسبة لتنظيم التحركات الاحتجاجية ضد منظومة الحكم والمطالبة بالعودة والاستجابة للمطالب الاجتماعية واستحقاقات الثورة في مشاهد وأحداث تؤكد عودة نسب كبيرة من التونسيين إلى المربع الأول للثورة، رغم انتهاج الحكومات المتتالية لسياسة "بوليسية قمعية" لتلك التحركات كثيرا ما لاقت الاستهجان والتنديد من الجهات والهياكل الحقوقية والمدنية.

 في المقابل تعددت "الموائد السياسية" تحت عناوين تحالفات وتوافقات ومحاصصات، تجمعها وتحركها المصالح الضيقة بعد أن أكدت عديد القراءات أن الطبقة السياسية بمختلف مشاربها تعاطت مع مرحلة مع بعد الثورة بمنطق الغنيمة في مستوى الأحزاب والتعيينات وفي الحكومات ومواقع القرار والهيئات الدستورية والمؤسسات الوطنية وغيرها.

كانت "الترويكا"، التي جمعت حركة النهضة وحزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية في المجلس الوطني التأسيسي في مرحلة أولى والحوار الوطني الذي تكون من الرباعي المتمثل في الاتحاد العام التونسي الشغل واتحاد التجارة والصناعة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين في مرحلة لاحقة ثم التوافق بين نداء تونس وحركة النهضة الذي قاده الشيخان الراحل الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في مرحلة ما بعد انتخابات 2014 كانت كلها محطات سياسية مفصلية في تاريخ تونس السياسي المعاصر، رغم مشاركة منظمات وطنية وهياكل قطاعية فيها. لذلك كان المشهد السياسي في تونس المرحلة اللاحقة لذلك أي منذ 2016 وبعد تولي يوسف الشاهد رئاسة الحكومة ونهاية "زيجة النداء والنهضة" بعد توسع الخلافات والانشقاقات التي أدت إلى انفجار حزب "النداء" وبعث أحزاب جديدة خاصة مع فترة اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في 2019.

تواصلت موازاة مع ذلك عمليات استقطاب الحقل السياسي لنشطاء المجتمع المدني الأمر الذي أثر على دوره، بعد أن نجح في عديد المرات والمنعرجات التي عرفتها بلادنا خلال نفس المرحلة، في تحقيق المعادلة المطلوبة لترجح الكفة في مرحلة ما بعد انتخابات 2019 لفائدة الموازنات السياسية بشكل انعكس على نتائج الانتخابات التشريعية التي لم تسفر عن فوز حزب أغلبي بالمقاعد بل قدمت برلمانا متشرذما يضم تلوينات حزبية عديدة. كان لعدم تجانسها في الأفكار والتوجهات دوره في ترذيل العمل البرلماني وتردي الوضع السياسي والحزبي وانعكس ذلك على العلاقة بين السلط التنفيذية والتشريعية في الدولة لاسيما بعد استقالة حكومة الياس الفخفاخ وغلق منافذ الحوار والتواصل وتواصل الصراع بين رئاسة الجمهورية بقيادة قيس سعيد من ناحية وحكومة هشام المشيشي ورئاسة مجلس نواب الشعب بقيادة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي تجلت تداعيات ذلك بالأساس في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لاسيما بعد انتشار جائحة "كوفيد 19" وما خلفته من خسائر بشرية في ظل عجز الحكومة على إيجاد الحلول لذلك.

المربع الأول

تجمع عديد القراءات على أن قرارات 25 جويلية 2021 التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد قد أعادت الوضع العام في تونس إلى المربع الأول للثورة لاسيما في ما يتعلق بالأحزاب وغيرها من الأجسام الوسيطة التي تدور في الفلك السياسي. وذلك بعد تجميد ثم حل البرلمان وتغيير منظومة الحكم والتخلي عن دستور 2014 ووضع دستور جديد للجمهورية الجديدة يحمل خطوطا عريضة لتأسيس دولة اجتماعية ووضع حد للآليات والنواميس المتعارف عليها في منظومة ما بعد الثورة التي كان السياسيون والموالون لهم خاصة بالنسبة للأحزاب المكونة لمنظومة الحكم بدرجة أولى والمعارضة بدرجة أقل، الفاعلون فيها والمستفيدون منها. فيما ظلت الأحزاب السياسية وكل الأجسام الوسيطة منذ مرحلة الاستثناء إلى اليوم، خارج دوائر القرار والحكم وهو ما أثر سلبيا على مكونات الحقل السياسي وأدى إلى أفول وغياب واندثار عدد كبير من رموزه والفاعلين فيها بشكل أو بآخر إما بسبب الاستقالة من الحياة السياسية أو الابتعاد الاختياري أو اضمحلال الأجسام التي ينتمون لها لتعود مكونات المشهد السياسي والحزبي إلى البحث عن مخرجات جديدة تمكنها من فرض نفسها على منظومة الحكم والخروج من حالة العزلة التي أصبحت عليها بعد نفور القواعد الشعبية منها، لاسيما منها المعارضة للمسار وذلك عبر العودة إلى البحث عن تحالفات وجبهات وأشكال انصهار واندماج جديدة. ولئن وجدت مثل تلك المبادرات ترحيبا في الأوساط السياسية والمدنية إلا أنها لم تعد تحظى بدعم أو تأييد القواعد الشعبية، رغم تعددها واختلاف مشاربها.

ويذكر أنه سبق أن أعلنت مصالح رئاسة الحكومة منذ حوالي ثلاث سنوات، أن عدد الأحزاب في تونس بلغ 244 حزبا، إلى جانب 24952 جمعية وفق آخر تحديث للرقم لمركز إفادة للجمعيات بتونس.

تصرّعدة جهات سياسية على تمسكها بذكرى 14 جانفي لهذا العام كعيد للثورة ومناسبة لبحث مخرجات جديدة من المرحلة ومناقشة جوانب من المنظومة الحالية للحكم على غرار دعوة كل من منتدى القوى الديمقراطية وتنسيقية القوى الديمقراطية لتنظيم وقفة للاحتفاء بما يعتبرونه عيد الثورة في المكان الرمز للثورة وسط العاصمة هذا اليوم.

  نزيهة الغضباني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محطات 14 جانفي..   من الاحتفاء بسقوط "الديكتاتورية" إلى سياسة "الغنيمة" الحزبية !

 

تونس – الصباح

يحيي اليوم التونسيون الذكرى الثالثة عشر لسقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ،بما يحمله هذا التاريخ من رمزية سياسية واجتماعية في تاريخ تونس المعاصر ودوره في إشعال فتيل الثورات في بلدان أخرى عربية وغيرها، لكنها تعود وسط أجواء يخيم عليها الخوف من تواصل الوضع المتردي الناجم عن تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتداعياته إذا ما عجزت الحكومة على إيجاد الحلول من ناحية والتوق إلى مستقبل أفضل في ظل الوعود والانتظارات السياسية لرئيس الجمهورية قيس سعيد وانتصاره لتكريس الدولة الاجتماعية والقيام بإصلاحات شاملة وجذرية من ناحية أخرى.

ويعتبر بعض المؤرخين أن 14 جانفي 2011 كان بمثابة منعرج حاسم وهام في مسار الثورة الشعبية التي تفجرت في 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد بعد حرق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه، كردة فعل على الشعور بالضيم والغبن إثر مصادرة السلط المحلية لعربته التي تعد مصدر رزقه الوحيد، لتكون شرارة انفجار الثورة في أغلب جهات الجمهورية في مرحلة لاحقة في ظل حالة الاحتقان الواسعة.

 ورغم قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 3 ديسمبر 2021 القاضي بتغيير موعد الاحتفال بعيد الثورة ليكون يوم 17 ديسمبر من كل سنة عوضا عما دأب عليه الجميع في مرحلة ما بعد 2011، على اعتبار أن الثورة الشعبية تؤرخ بتاريخ انطلاقها وليس 14 جانفي الذي يعتبره تاريخ "الانقلاب "على الثورة، إلا أن هذا التاريخ يظل راسخا في أذهان الجميع ومناسبة للذكرى والاحتفاء لعدة اعتبارات، لعل من أبرزها النقلة التي أحدثها في مستوى النظام والمناخ العام في تونس لتخرج من مرحلة الاستبداد وحكم الحزب الواحد إلى مرحلة دستورية جديدة قوامها الديمقراطية والحريات والتعددية الحزبية والمدنية.

ارتبط هذا التاريخ بالعلاقة الجدلية بين السياسي والاجتماعي منذ 2011 إلى غاية اليوم. إذ أكد عدد من المتابعين لتطورات ومستجدات الوضع العام في بلادنا، أن العامل السياسي لاسيما ما يتعلق بالسياسيين كان الغائب البارز عن محركات ومسار الثورة، رغم تعرض بعض السياسيين إلى الإيقافات والاعتداءات الأمنية أثناء المشاركة في بعض التحركات بالعاصمة على غرار حمة الهمامي الأمين العام الحالي لحزب العمال، كغيره من ممثلي بعض الهياكل القطاعية من محامين وأطباء وطلبة وناشطين في الحقل الثقافي وغيرهم، وذلك في الثورة التي عرفتها بلادنا في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وكانت ثورة شبابية بامتياز لم يكن لها قائد أو ملهم محدد ومهندس لمساراتها وأججتها مطالب اجتماعية ملحة ورفض لظاهرة تفشي الفساد اختزلتها شعارات "شغل حرية كرامة وطنية".

قصر مدتها وسهولة الإطاحة بنظام بن علي، بعد فرار المرحوم إلى السعودية مساء 14 جانفي 2011، دفع إلى تسميتها بثورة "الياسمين" وهو نفس الاسم الذي أطلقته الصحافة الفرنسية على عملية إطاحة زين العابدين بن علي بالرئيس السابق الراحل الحبيب بورقيبة في 7 نوفمبر 1987، باعتبار أنه لم يكن في تونس إلى حد تاريخ فرار الرئيس الراحل سوى ثمانية أحزاب متحصلة على تراخيص قانونية إلى جانب الحزب الحاكم وهو التجمع الدستوري الديمقراطي. وتصنف على إنها مجرد أحزاب معارضة كرتونية يتحكم النظام الحاكم في تحريكها وليس لها قواعد أو أصًوات مسموعة في العمق الشعبي التونسي آنذاك.

ولعل في إقبال السياسيين من مختلف الأطياف الحزبية على الاحتفال بهذه الذكرى السنوية ، وتمسك أغلبية هذه الطبقة اليوم بهذا التاريخ كمناسبة للاحتفاء بالثورة، تأكيد لما يذهب له البعض من أن هذا التاريخ هو ذكرى الانقلاب على الثورة وتحويل وجهة أهدافها من مطالب واستحقاقات اجتماعية ملحة من تشغيل وعدالة بين الجهات وقضاء على الفساد ، إلى توجه كلي للتركيز على المطالب والإصلاحات السياسية والدستورية كأولوية حظيت باهتمام الفاعلين وأصحاب القرار الجدد في هندسة مسار الانتقال من الثورة إلى الجمهورية الثانية أو ما اتفقوا على تسميته بمرحلة الديمقراطية ليخرج بذلك المجتمع السياسي المستفيد الأول والأكبر من الثورة ومن إسقاط منظومة حكم بن علي بعد أن بدأت مرحلة إعادة تشكيل الخارطة السياسية في تونس عبر ترجيح كفة المراهنة على نقاط تقاطع الثورة كمكسب لمسار تاريخي، مع التحول الديمقراطي بما يمثله من انتصار وترجيح لكفة الموازنات السياسية الآنية والصاعدة على بقية المطالب الاجتماعية والشبابية، في منحى كلي ل"ركوب هذه الفئة على الثورة" بما يختزله المصطلح من معنى الحياد والابتعاد على المطالب والانتظارات والاستحقاقات الأساسية للثورة.

من انفجار الثورة إلى الانفجار الحزبي

أحدثت تطورات أحداث الثورة ومستجداتها في يوم 14 جانفي 2011 منعرجا حاسما في المسار السياسي لتونس، خاصة بعد التقاء أهداف الطبقة السياسية ونشطاء المجتمع المدني وغيرها من التونسيين مع فئة أخرى من الوافدين والعائدين من المنفى بالخارج من مختلف التوجهات ،لتشهد بلادنا انفجارا حزبيا غير مسبوق فتح المجال للأحزاب التي لم تحصل على تراخيص لتضاف لها قائمة أخرى من الأجسام السياسية من مختلف التيارات والتوجهات. وموازاة مع ذلك تلك الطفرة المسجلة في الأحزاب ساهم مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 الصادر عن رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع وباقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، الذي يتعلق بتنظيم الجمعيات وما تضمنه من تسهيلات، في إحداث طفرة كبيرة من الجمعيات، كان لها جميعها دور كبير، بشكل مباشر وغير مباشر، في تحديد طبيعة النظام في البديل في مرحلة ما بعد منظومة بن علي والذي اتضحت إرهاصاته الأولى بعد نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 باعتبارها أول "انتخابات ديمقراطية" في بلادنا وما أسفرت عنه من فوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي الذي تم الاتفاق على انتخابه لمدة عام فقط ومهمته وضع دستور جديد. لكن عدم الالتزام بهذه المدة والجدل الذي رافق المرحلة وخطر السلم الاجتماعي الذي حف بالتجاذبات والصراعات السياسية التي خيمت على المشهد في السنوات الأولى لما بعد الثورة، في ظل فشل الحكومات والدخول في دوامة من الظواهر والممارسات الدخيلة التي تسببت في تقسيم المجتمع التونسي وشكلت خطرا على وحدته من قبيل الإرهاب وعمليات الاستقطاب الإيديولوجي والتنظيمات الإرهابية والاغتيالات السياسية وغيرها من العمليات الإرهابية التي طالت أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية لعل من أبزرها اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من رموز الجبهة الشعبية التي تتكون من 12 حزبا ليتقاطع السياسي مع الأيديولوجي في مقاربة جديدة لتشكيل الخارطة السياسية وتوزيع الأوراق تحت إيقاع التجاذبات والتحالفات والتكتلات والجبهات.

وتواصلت سيطرة "السياسي" على المشهد الخاص والاهتمام العام إلى ما بعد انتخابات 2014 وبعد الحسم في وضع دستور توافقي ونظام حكم شبه برلماني مختلط قُدَّ على مقاس "صناع المرحلة ومهندسوها" والفاعلون فيها ليتواصل "تكاثر" الأحزاب من رحم بعضها البعض أو في سياق أهداف ومرامي انتخابية ومصلحية محددة في مشهد سياسي غابت عنه البرامج والمبادرات الإصلاحية والتأسيسية الهادفة ودون مبالاة بالمطلبية الشعبية والتداعيات السلبية لذلك على الاقتصاد والمجتمع والتنمية. وهو ما ساهم في نفور القواعد الشعبية من المشهد العام واحتداد حالة الاحتقان في الشارع التونسي ونزوعه إلى الاحتجاج على نحو حول هذه الذكرى إلى مناسبة لتنظيم التحركات الاحتجاجية ضد منظومة الحكم والمطالبة بالعودة والاستجابة للمطالب الاجتماعية واستحقاقات الثورة في مشاهد وأحداث تؤكد عودة نسب كبيرة من التونسيين إلى المربع الأول للثورة، رغم انتهاج الحكومات المتتالية لسياسة "بوليسية قمعية" لتلك التحركات كثيرا ما لاقت الاستهجان والتنديد من الجهات والهياكل الحقوقية والمدنية.

 في المقابل تعددت "الموائد السياسية" تحت عناوين تحالفات وتوافقات ومحاصصات، تجمعها وتحركها المصالح الضيقة بعد أن أكدت عديد القراءات أن الطبقة السياسية بمختلف مشاربها تعاطت مع مرحلة مع بعد الثورة بمنطق الغنيمة في مستوى الأحزاب والتعيينات وفي الحكومات ومواقع القرار والهيئات الدستورية والمؤسسات الوطنية وغيرها.

كانت "الترويكا"، التي جمعت حركة النهضة وحزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية في المجلس الوطني التأسيسي في مرحلة أولى والحوار الوطني الذي تكون من الرباعي المتمثل في الاتحاد العام التونسي الشغل واتحاد التجارة والصناعة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين في مرحلة لاحقة ثم التوافق بين نداء تونس وحركة النهضة الذي قاده الشيخان الراحل الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في مرحلة ما بعد انتخابات 2014 كانت كلها محطات سياسية مفصلية في تاريخ تونس السياسي المعاصر، رغم مشاركة منظمات وطنية وهياكل قطاعية فيها. لذلك كان المشهد السياسي في تونس المرحلة اللاحقة لذلك أي منذ 2016 وبعد تولي يوسف الشاهد رئاسة الحكومة ونهاية "زيجة النداء والنهضة" بعد توسع الخلافات والانشقاقات التي أدت إلى انفجار حزب "النداء" وبعث أحزاب جديدة خاصة مع فترة اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في 2019.

تواصلت موازاة مع ذلك عمليات استقطاب الحقل السياسي لنشطاء المجتمع المدني الأمر الذي أثر على دوره، بعد أن نجح في عديد المرات والمنعرجات التي عرفتها بلادنا خلال نفس المرحلة، في تحقيق المعادلة المطلوبة لترجح الكفة في مرحلة ما بعد انتخابات 2019 لفائدة الموازنات السياسية بشكل انعكس على نتائج الانتخابات التشريعية التي لم تسفر عن فوز حزب أغلبي بالمقاعد بل قدمت برلمانا متشرذما يضم تلوينات حزبية عديدة. كان لعدم تجانسها في الأفكار والتوجهات دوره في ترذيل العمل البرلماني وتردي الوضع السياسي والحزبي وانعكس ذلك على العلاقة بين السلط التنفيذية والتشريعية في الدولة لاسيما بعد استقالة حكومة الياس الفخفاخ وغلق منافذ الحوار والتواصل وتواصل الصراع بين رئاسة الجمهورية بقيادة قيس سعيد من ناحية وحكومة هشام المشيشي ورئاسة مجلس نواب الشعب بقيادة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي تجلت تداعيات ذلك بالأساس في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لاسيما بعد انتشار جائحة "كوفيد 19" وما خلفته من خسائر بشرية في ظل عجز الحكومة على إيجاد الحلول لذلك.

المربع الأول

تجمع عديد القراءات على أن قرارات 25 جويلية 2021 التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد قد أعادت الوضع العام في تونس إلى المربع الأول للثورة لاسيما في ما يتعلق بالأحزاب وغيرها من الأجسام الوسيطة التي تدور في الفلك السياسي. وذلك بعد تجميد ثم حل البرلمان وتغيير منظومة الحكم والتخلي عن دستور 2014 ووضع دستور جديد للجمهورية الجديدة يحمل خطوطا عريضة لتأسيس دولة اجتماعية ووضع حد للآليات والنواميس المتعارف عليها في منظومة ما بعد الثورة التي كان السياسيون والموالون لهم خاصة بالنسبة للأحزاب المكونة لمنظومة الحكم بدرجة أولى والمعارضة بدرجة أقل، الفاعلون فيها والمستفيدون منها. فيما ظلت الأحزاب السياسية وكل الأجسام الوسيطة منذ مرحلة الاستثناء إلى اليوم، خارج دوائر القرار والحكم وهو ما أثر سلبيا على مكونات الحقل السياسي وأدى إلى أفول وغياب واندثار عدد كبير من رموزه والفاعلين فيها بشكل أو بآخر إما بسبب الاستقالة من الحياة السياسية أو الابتعاد الاختياري أو اضمحلال الأجسام التي ينتمون لها لتعود مكونات المشهد السياسي والحزبي إلى البحث عن مخرجات جديدة تمكنها من فرض نفسها على منظومة الحكم والخروج من حالة العزلة التي أصبحت عليها بعد نفور القواعد الشعبية منها، لاسيما منها المعارضة للمسار وذلك عبر العودة إلى البحث عن تحالفات وجبهات وأشكال انصهار واندماج جديدة. ولئن وجدت مثل تلك المبادرات ترحيبا في الأوساط السياسية والمدنية إلا أنها لم تعد تحظى بدعم أو تأييد القواعد الشعبية، رغم تعددها واختلاف مشاربها.

ويذكر أنه سبق أن أعلنت مصالح رئاسة الحكومة منذ حوالي ثلاث سنوات، أن عدد الأحزاب في تونس بلغ 244 حزبا، إلى جانب 24952 جمعية وفق آخر تحديث للرقم لمركز إفادة للجمعيات بتونس.

تصرّعدة جهات سياسية على تمسكها بذكرى 14 جانفي لهذا العام كعيد للثورة ومناسبة لبحث مخرجات جديدة من المرحلة ومناقشة جوانب من المنظومة الحالية للحكم على غرار دعوة كل من منتدى القوى الديمقراطية وتنسيقية القوى الديمقراطية لتنظيم وقفة للاحتفاء بما يعتبرونه عيد الثورة في المكان الرمز للثورة وسط العاصمة هذا اليوم.

  نزيهة الغضباني