عن دار نقوش عربيّة صدر هذه الأيام كتاب "نسيج الذكريات" للأستاذ الأزهر القروي الشابي -عميد المحامين ووزير العدل الأسبق والوزير الممثّل الشخصي لرئيس الجمهورية أيام الباجي قائد السبسي- في حوالي 360 صفحة في طبعة أنيقة اشتملت على سبعة فصول وألبوم صور بجانب تقديم بقلم الدكتور علي الشابي، والكتاب من جنس المذكّرات الشخصيّة حيث يروي المؤلّف الأحداث والوقائع كما عاينها من موقع المحامي وهي نفسها التي عاشها جيلي والذي أسبق منه ولكن من مواقع مختلفة، فما سبق الخميس الأسود وما لحقه عرفناه جميعا ففيما يخصني عرفته في الشارع وفي جريدة الرأي وفي ما تناقل النقابيّون من أخبار أما الأستاذ في مذكراته فيروي أحداثا عايشها من موقعه محاميا عن الحبيب عاشور وعن غيره من النقابيين وكذا في المحاكمات السياسيّة وفي قضيّة المخدّرات التي تورّط فيها أعضاء من أسرة البايات ويتمّ استغلالها للتشنيع على دولة الاستقلال ليروي الأستاذ بالتفصيل ما حدث وقد كان أيامها كاتبا في مكتب التحقيق، وفي الكتاب أحداث ووقائع كثيرة سنورد البعض منها فيما يلي.
في المقدمة التي كتبها الدكتور علي الشابي وهي مقدّمة ربط فيها تاريخ العائلة بمسيرة المؤلّف حيث كشف أنّ منظومة القيم التي ناضلت من أجلها العائلة وتمكّنت بفضلها من إقامة إمارة في القيروان في منتصف القرن السادس عشر امتدّ تأثيرها إلى الجزائر تظهر واضحة وجلية في حياة المؤلّف وهي العدل أي النزاهة في التعامل مع الآخرين والنضال من أجل القيم حيث شاركت هذه العائلة من مواقع مختلفة في الشأن العام قبل الاستقلال وبعده وتحملت ضريبة ذلك أمّا الإبداع فيكفي التذكير بأبي القاسم الشابي سيّد القوافي.
يحتوي الكتاب على سبعة فصول هي التالية: ذكريات من نسيج القدر، نبذة عن تاريخ القضاء التونسي وتطوّره، وضع القضاء قبل انتصاب الحماية، لمحة عن تاريخ المحاماة في تونس، انتخابي عميدا للمحامين (جويلية 1979)، كيف دخلت إلى ميدان السياسة، الأستاذ الباجي قائد السبسي ومهنة المحاماة، والقارئ لهذه الفصول لا يشعر بأنّها تمثّل وحدات منفصلة عن بعضها لأنّ كلّ فصل منها يُسلم إلى الآخر بيُسر وسلاسة فلا يشعر القارئ بأنّه انتقل من زمن إلى آخر أو من ظرف إلى آخر أو من ملفّ إلى آخر ففصول الكتاب مترابطة تشدّك إلى آخر صفحة دون تكرار أو حشو بلغة سهلة مفهومة لا عوج فيها ولا تقعّر.
ولأنّ الكتاب يعرض تجربة إنسانيّة ومهنيّة وسياسية لأحد الفاعلين في الشأن العام ليس أمامنا في هذا التقديم سوى عرض بعض المحطّات والأحداث في مسيرة ثرية تؤشّر على طينة الرجل من ناحية وعلى فهم دقيق لِما عليه أوضاع البلاد.
عن محمد المزالي
بعد تنحية محمد المزالي ابتدأت آلة التشفي منه ومن عائلته في الاشتغال من ذلك أنّه تم إلقاء القبض على ابنه المختار الذي كان مديرا عاما لشركة ستيل، في تلك الفترة اتّصل الأستاذ الطاهر بوسمّة محامي المزالي وأحد أقرب أصدقائه ونقل لصاحب الكتاب رسالة منه يرجوه فيها النيابة عن ابنه فوافق ولكن طلب من زميله إبلاغه لومه للمزالي يقول في الصفحة 147 ما يلي: "لمّا كلف السيّد محمد المزالي بالوزارة الأولى.... كوّن لجنة من رجال القانون لإدخال بعض التحويرات على فصول مجلة الإجراءات الجزائيّة في خصوص ما تعلّق بالاحتفاظ بالمظنون فيه بمراكز الشرطة.... وقد دعي لهذه اللجنة محمد الناجم الورتاني رئيس دائرة بمحكمة التعقيب والساسي بن حليمة ومصطفى المنيف وأنا شخصيا.... وأنجزت في وقت قياسي التنقيحات المطلوبة والتي لو تمّت بالفعل في ذلك الوقت لكانت حافظة لحقوق المحتفظ به في مراكز الشرطة، غير أنّه يبدو أن السيّد محمد المزالي قد وضع المشروع في قمطر مكتبه ونسيه أو تناساه وطلبت من الصديق الأستاذ الطاهر بوسمة أن يبلغه لومي هذا لأنّه لو أنجز ذلك المشروع لأمكن للمحامي الذي ينوب ابنه أن يتوجّه إلى مركز الأمن ويحضر استنطاق المتهم ويطّلع على وضعه ويطلب له الطبيب إن رأى في ذلك فائدة.... إنّ تراخي المسؤول عن إنجاز ما فيه الصالح العام لا يولّد إلا المضرّة" وقد ذكرني هذا بقول لابن المقفع جاء فيه: "أحسن للناس والحكم في يدك يُحسن إليك وأنت خارجه" والإحسان ليس منّة أو عطيّة بل هو بمقاييس العصر ضبط الحقوق والواجبات في قواعد قانونية يلتزم بها الجميع تمنع ظلم أيّ كان بحمايته من كلّ تجاوز أيّا كانت أسبابه.
عن الحبيب عاشور
يعدّ الحبيب عاشور واحدا من أبرز المناضلين والقادة ممّن قامت على أكتافهم دولة الاستقلال، حوكم المرّات المتعدّدة فبعد الخميس الأسود ألقي عليه القبض ولمّا حمل إلى مكتب قاضي التحقيق سأل القاضي إن كان بمكتبه تكييف لأنّ الدنيا حرّ فأجابه بلا، عندها قال له بأنّه لا يستطيع البقاء طويلا في الحرّ فما كان من القاضي إلا أن تغيّب لبعض الوقت ليعود ويأذن بنقل التحقيق إلى مكتب أوسع به تكييف(ص113)، وفي المحاكمة عندما ابتدأت الجلسة أنشد النقابيّون النشيد الوطني وأحدثوا شيئا من الهرج ولم يتوقّفوا عن ذلك رغم محاولات رئيس الجلسة إرجاع الهدوء إلى القاعة، فاضطر إلى الاستنجاد بالحبيب عاشور قائلا له "يا سي الحبيب سكّتهم" فما كان منه إلا أن صعد على الكرسي وأشار لهم بالصمت عندها عاد الهدوء إلى القاعة، والمستفاد من هاتين الواقعتين أنّ الزعامة ينحتها الزمن والصدق والنضال وليست كلمات فضفاضة تقال في هذا المنبر أو ذاك بل هي حضور يفرض احترامه على الجميع خصوما ومناصرين.
عن بورقيبة وسي الأزهر اليوسفي
تحدّث المؤلّف في كتابه عن مناصرته لصالح بن يوسف وعمّا تعرّض له من مضايقات ومحاولات اعتداء عليه من قبل جماعة صباط الظلام، هذا الانتماء كان معلوما للجميع ولم يكن بالأمر الخفي، ففي سنة 1969 أجريت انتخابات العمادة فاز فيها عز الدين الشريف بالعمادة وكان المؤلّف من بين أعضاء الهيئة، وفي مقابلتهم للزعيم بورقيبة قام العميد بتقديم أعضاء الهيئة جميعهم باستثناء الأستاذ الأزهر ولمّا انتهى العميد من ذلك التفت الزعيم إلى سي الأزهر وطلب منه التقدّم إليه وسأله عن اسمه ملاحظا أنّ العميد لم يقدّمه له فلمّا أعلمه باسمه وبصفته قال له: "أنت الصغير فيهم وإلّي تحصلت على أكثر الأصوات"، لمّا انتهت الجلسة سأل العميد عن سبب عدم تقديمه للرئيس فقال له: "يا لزهر ما قدمتكش للرئيس خفت علاش يتغشش كيف يسمع اسم الشابي لأن قضية أمن الدولة فيها 28 شابي" فالتفت إليه المحامي والناقد الأدبي إبراهيم بورقعة وقال له: "يا عميد سكت ألفا ونطقت خلفا، كان سكت على روحك خير" أما سي الأزهر فقد قال له: "الرئيس كان أذكى منك إذ فهم أنك لم تقدّمني إليه ولذلك قام بنفسه بالتعرّف علي"(ص97)، والمستفاد من هذه الواقعة أنّ الزعيم يفصل المسائل عن بعضها البعض ولا يلبس جبة هذا لذاك وفي ذلك درس لمن يعتقدون أنهم يرضون الحاكم بالإساءة إلى الآخرين لو كانوا يعقلون.
الأزهر والحياة في السريّة
في الخلاف اليوسفي البورقيبي سبق أن ذكرت بأنّ هوى سي الأزهر كان يوسفيّا خصوصا وأنّ شقيقه القاضي سي بلقاسم كان مدير ديوان صالح بن يوسف لمّا عيّن وزير عدل وهو ما جرّ عليه غضب بورقيبة فجمّد في الوظيف طوال 16 سنة، في تلك الفترة أصبح الأزهر مطاردا من جماعة صباط الظلام ومهدّدا بالاغتيال في كل آن وحين لذا رأى شقيقه أن يفتّش له عن مكان يخفيه فيه إلى أن يتدبّر الأمر ولم يكن هنالك أفضل من بيت الأستاذ الأمين الشابي شقيق شاعر تونس الكبير وصديق بلقاسم الذي تربطه به فضلا عن الروابط العائلية زمالة الدراسة، وكان الأمر كذلك حيث رحّب بهما الأمين وأسكن ضيفه في الطابق العلوي الذي كان يشرف منه على الشارع وبقي هناك إلى أن عُيّن الأمين وزيرا للعلوم والمعارف في أوّل حكومة بعد الاستقلال، وابتدأت الوفود تقدم إلى المنزل للتهنئة، لذا فكّر الضيف في المغادرة حتى لا يفتضح أمره وفي نهاية الأمر انتقل إلى بيت الشيخ التبريزي بن عزوز حيث قضى أياما غادره بعد أن سويت المسألة مع الطيب السحباني رئيس لجنة الرعاية، والتبريزي بن عزوز هو شيخ مشائخ الطريقة الرحمانية وقد خصّه بيرم التونسي بصفحة كاملة في جريدته "الشباب" صحبة رسم له في العدد الثامن بتاريخ 19 ديسمبر 1936.
عن أبي القاسم الشابي وبعض شيوخ الزيتونة
روى المؤلف أنّ أحد شيوخه الأحناف الشيخ علي بن مراد كان ينصح تلاميذه بأن لا يقرؤوا شعر أبي القاسم الشابي الذي كفّره لأنّه يعتبر أن البيت الذي يقول فيه:
إذا الشّعب يوما أراد الحياة***فلا بدّ أن يستجيب القدر
فيه تحدّ لقدرة الله تعالى لأنّ الله يفعل ما يريد ويَحمل قوله هذا إكراها للمولى على الاستجابة، ولأنّ المؤلّف سبق له أن كتب الشعر فضلا عن قرابته للشاعر قال لشيخه: "سيدي لقد كنتم تقولون لنا في نصائحكم إنّ كل من يجتهد في دراسته لا بدّ ربي ينجحو أَوَ ليست هذه كتلك" وجاء الردّ من الشيخ صاعقا بطرده من الدرس، ولا تفوتني بهذه المناسبة الإشارة إلى أنّ ما جاء على لسان الشيخ ابن مراد راج وما زال البعض يروّجه دون حياء أو حرج من تكفير الشاعر، ولا شكّ أنّ هذا الردّ سيكون مفحما لأننا ننقله من محاضرة للشيخ محمد المختار بن محمود شيخ الإسلام الحنفي وأحد أقطاب جامع الزيتونة جاء فيه: "ومن لطائف المصادفات أنّ جريدة الصباح نشرت في عدد الأمس 24 فيفري 1966 أنّ صديقنا الشاعر الصّوفي الشيخ الحفناوي الصديق قد شطّر هذا البيت لأبي القاسم الشابي ليزيل عنه ما وُصم به من الكفر والإلحاد فقال:
[إذا الشّعب يوما أراد الحياة]***وجاهد حقّا سما وانتصر
وربّك إذ قال للشيء كن***[فلا بدّ أن يستجيب القدر]
وطالما تحاورنا (أبو القاسم الشابي والشيخ محمد المختار بن محمود) وكانت له أفكار جريئة يصرّ على العناد عند مراجعته فيها ولكنّها والحقّ يقال لا تمسّ العقائد"(انظر كتاب "علم وشاعر، الشيخ محمد المختار بن محمود والشاعر أبو القاسم الشابي" إعداد وتحقيق هشام بن محمود، دار محمد علي الحامي للنشر، تونس 2012، ص102).
بقلم:أنس الشابي
تونس-الصباح
عن دار نقوش عربيّة صدر هذه الأيام كتاب "نسيج الذكريات" للأستاذ الأزهر القروي الشابي -عميد المحامين ووزير العدل الأسبق والوزير الممثّل الشخصي لرئيس الجمهورية أيام الباجي قائد السبسي- في حوالي 360 صفحة في طبعة أنيقة اشتملت على سبعة فصول وألبوم صور بجانب تقديم بقلم الدكتور علي الشابي، والكتاب من جنس المذكّرات الشخصيّة حيث يروي المؤلّف الأحداث والوقائع كما عاينها من موقع المحامي وهي نفسها التي عاشها جيلي والذي أسبق منه ولكن من مواقع مختلفة، فما سبق الخميس الأسود وما لحقه عرفناه جميعا ففيما يخصني عرفته في الشارع وفي جريدة الرأي وفي ما تناقل النقابيّون من أخبار أما الأستاذ في مذكراته فيروي أحداثا عايشها من موقعه محاميا عن الحبيب عاشور وعن غيره من النقابيين وكذا في المحاكمات السياسيّة وفي قضيّة المخدّرات التي تورّط فيها أعضاء من أسرة البايات ويتمّ استغلالها للتشنيع على دولة الاستقلال ليروي الأستاذ بالتفصيل ما حدث وقد كان أيامها كاتبا في مكتب التحقيق، وفي الكتاب أحداث ووقائع كثيرة سنورد البعض منها فيما يلي.
في المقدمة التي كتبها الدكتور علي الشابي وهي مقدّمة ربط فيها تاريخ العائلة بمسيرة المؤلّف حيث كشف أنّ منظومة القيم التي ناضلت من أجلها العائلة وتمكّنت بفضلها من إقامة إمارة في القيروان في منتصف القرن السادس عشر امتدّ تأثيرها إلى الجزائر تظهر واضحة وجلية في حياة المؤلّف وهي العدل أي النزاهة في التعامل مع الآخرين والنضال من أجل القيم حيث شاركت هذه العائلة من مواقع مختلفة في الشأن العام قبل الاستقلال وبعده وتحملت ضريبة ذلك أمّا الإبداع فيكفي التذكير بأبي القاسم الشابي سيّد القوافي.
يحتوي الكتاب على سبعة فصول هي التالية: ذكريات من نسيج القدر، نبذة عن تاريخ القضاء التونسي وتطوّره، وضع القضاء قبل انتصاب الحماية، لمحة عن تاريخ المحاماة في تونس، انتخابي عميدا للمحامين (جويلية 1979)، كيف دخلت إلى ميدان السياسة، الأستاذ الباجي قائد السبسي ومهنة المحاماة، والقارئ لهذه الفصول لا يشعر بأنّها تمثّل وحدات منفصلة عن بعضها لأنّ كلّ فصل منها يُسلم إلى الآخر بيُسر وسلاسة فلا يشعر القارئ بأنّه انتقل من زمن إلى آخر أو من ظرف إلى آخر أو من ملفّ إلى آخر ففصول الكتاب مترابطة تشدّك إلى آخر صفحة دون تكرار أو حشو بلغة سهلة مفهومة لا عوج فيها ولا تقعّر.
ولأنّ الكتاب يعرض تجربة إنسانيّة ومهنيّة وسياسية لأحد الفاعلين في الشأن العام ليس أمامنا في هذا التقديم سوى عرض بعض المحطّات والأحداث في مسيرة ثرية تؤشّر على طينة الرجل من ناحية وعلى فهم دقيق لِما عليه أوضاع البلاد.
عن محمد المزالي
بعد تنحية محمد المزالي ابتدأت آلة التشفي منه ومن عائلته في الاشتغال من ذلك أنّه تم إلقاء القبض على ابنه المختار الذي كان مديرا عاما لشركة ستيل، في تلك الفترة اتّصل الأستاذ الطاهر بوسمّة محامي المزالي وأحد أقرب أصدقائه ونقل لصاحب الكتاب رسالة منه يرجوه فيها النيابة عن ابنه فوافق ولكن طلب من زميله إبلاغه لومه للمزالي يقول في الصفحة 147 ما يلي: "لمّا كلف السيّد محمد المزالي بالوزارة الأولى.... كوّن لجنة من رجال القانون لإدخال بعض التحويرات على فصول مجلة الإجراءات الجزائيّة في خصوص ما تعلّق بالاحتفاظ بالمظنون فيه بمراكز الشرطة.... وقد دعي لهذه اللجنة محمد الناجم الورتاني رئيس دائرة بمحكمة التعقيب والساسي بن حليمة ومصطفى المنيف وأنا شخصيا.... وأنجزت في وقت قياسي التنقيحات المطلوبة والتي لو تمّت بالفعل في ذلك الوقت لكانت حافظة لحقوق المحتفظ به في مراكز الشرطة، غير أنّه يبدو أن السيّد محمد المزالي قد وضع المشروع في قمطر مكتبه ونسيه أو تناساه وطلبت من الصديق الأستاذ الطاهر بوسمة أن يبلغه لومي هذا لأنّه لو أنجز ذلك المشروع لأمكن للمحامي الذي ينوب ابنه أن يتوجّه إلى مركز الأمن ويحضر استنطاق المتهم ويطّلع على وضعه ويطلب له الطبيب إن رأى في ذلك فائدة.... إنّ تراخي المسؤول عن إنجاز ما فيه الصالح العام لا يولّد إلا المضرّة" وقد ذكرني هذا بقول لابن المقفع جاء فيه: "أحسن للناس والحكم في يدك يُحسن إليك وأنت خارجه" والإحسان ليس منّة أو عطيّة بل هو بمقاييس العصر ضبط الحقوق والواجبات في قواعد قانونية يلتزم بها الجميع تمنع ظلم أيّ كان بحمايته من كلّ تجاوز أيّا كانت أسبابه.
عن الحبيب عاشور
يعدّ الحبيب عاشور واحدا من أبرز المناضلين والقادة ممّن قامت على أكتافهم دولة الاستقلال، حوكم المرّات المتعدّدة فبعد الخميس الأسود ألقي عليه القبض ولمّا حمل إلى مكتب قاضي التحقيق سأل القاضي إن كان بمكتبه تكييف لأنّ الدنيا حرّ فأجابه بلا، عندها قال له بأنّه لا يستطيع البقاء طويلا في الحرّ فما كان من القاضي إلا أن تغيّب لبعض الوقت ليعود ويأذن بنقل التحقيق إلى مكتب أوسع به تكييف(ص113)، وفي المحاكمة عندما ابتدأت الجلسة أنشد النقابيّون النشيد الوطني وأحدثوا شيئا من الهرج ولم يتوقّفوا عن ذلك رغم محاولات رئيس الجلسة إرجاع الهدوء إلى القاعة، فاضطر إلى الاستنجاد بالحبيب عاشور قائلا له "يا سي الحبيب سكّتهم" فما كان منه إلا أن صعد على الكرسي وأشار لهم بالصمت عندها عاد الهدوء إلى القاعة، والمستفاد من هاتين الواقعتين أنّ الزعامة ينحتها الزمن والصدق والنضال وليست كلمات فضفاضة تقال في هذا المنبر أو ذاك بل هي حضور يفرض احترامه على الجميع خصوما ومناصرين.
عن بورقيبة وسي الأزهر اليوسفي
تحدّث المؤلّف في كتابه عن مناصرته لصالح بن يوسف وعمّا تعرّض له من مضايقات ومحاولات اعتداء عليه من قبل جماعة صباط الظلام، هذا الانتماء كان معلوما للجميع ولم يكن بالأمر الخفي، ففي سنة 1969 أجريت انتخابات العمادة فاز فيها عز الدين الشريف بالعمادة وكان المؤلّف من بين أعضاء الهيئة، وفي مقابلتهم للزعيم بورقيبة قام العميد بتقديم أعضاء الهيئة جميعهم باستثناء الأستاذ الأزهر ولمّا انتهى العميد من ذلك التفت الزعيم إلى سي الأزهر وطلب منه التقدّم إليه وسأله عن اسمه ملاحظا أنّ العميد لم يقدّمه له فلمّا أعلمه باسمه وبصفته قال له: "أنت الصغير فيهم وإلّي تحصلت على أكثر الأصوات"، لمّا انتهت الجلسة سأل العميد عن سبب عدم تقديمه للرئيس فقال له: "يا لزهر ما قدمتكش للرئيس خفت علاش يتغشش كيف يسمع اسم الشابي لأن قضية أمن الدولة فيها 28 شابي" فالتفت إليه المحامي والناقد الأدبي إبراهيم بورقعة وقال له: "يا عميد سكت ألفا ونطقت خلفا، كان سكت على روحك خير" أما سي الأزهر فقد قال له: "الرئيس كان أذكى منك إذ فهم أنك لم تقدّمني إليه ولذلك قام بنفسه بالتعرّف علي"(ص97)، والمستفاد من هذه الواقعة أنّ الزعيم يفصل المسائل عن بعضها البعض ولا يلبس جبة هذا لذاك وفي ذلك درس لمن يعتقدون أنهم يرضون الحاكم بالإساءة إلى الآخرين لو كانوا يعقلون.
الأزهر والحياة في السريّة
في الخلاف اليوسفي البورقيبي سبق أن ذكرت بأنّ هوى سي الأزهر كان يوسفيّا خصوصا وأنّ شقيقه القاضي سي بلقاسم كان مدير ديوان صالح بن يوسف لمّا عيّن وزير عدل وهو ما جرّ عليه غضب بورقيبة فجمّد في الوظيف طوال 16 سنة، في تلك الفترة أصبح الأزهر مطاردا من جماعة صباط الظلام ومهدّدا بالاغتيال في كل آن وحين لذا رأى شقيقه أن يفتّش له عن مكان يخفيه فيه إلى أن يتدبّر الأمر ولم يكن هنالك أفضل من بيت الأستاذ الأمين الشابي شقيق شاعر تونس الكبير وصديق بلقاسم الذي تربطه به فضلا عن الروابط العائلية زمالة الدراسة، وكان الأمر كذلك حيث رحّب بهما الأمين وأسكن ضيفه في الطابق العلوي الذي كان يشرف منه على الشارع وبقي هناك إلى أن عُيّن الأمين وزيرا للعلوم والمعارف في أوّل حكومة بعد الاستقلال، وابتدأت الوفود تقدم إلى المنزل للتهنئة، لذا فكّر الضيف في المغادرة حتى لا يفتضح أمره وفي نهاية الأمر انتقل إلى بيت الشيخ التبريزي بن عزوز حيث قضى أياما غادره بعد أن سويت المسألة مع الطيب السحباني رئيس لجنة الرعاية، والتبريزي بن عزوز هو شيخ مشائخ الطريقة الرحمانية وقد خصّه بيرم التونسي بصفحة كاملة في جريدته "الشباب" صحبة رسم له في العدد الثامن بتاريخ 19 ديسمبر 1936.
عن أبي القاسم الشابي وبعض شيوخ الزيتونة
روى المؤلف أنّ أحد شيوخه الأحناف الشيخ علي بن مراد كان ينصح تلاميذه بأن لا يقرؤوا شعر أبي القاسم الشابي الذي كفّره لأنّه يعتبر أن البيت الذي يقول فيه:
إذا الشّعب يوما أراد الحياة***فلا بدّ أن يستجيب القدر
فيه تحدّ لقدرة الله تعالى لأنّ الله يفعل ما يريد ويَحمل قوله هذا إكراها للمولى على الاستجابة، ولأنّ المؤلّف سبق له أن كتب الشعر فضلا عن قرابته للشاعر قال لشيخه: "سيدي لقد كنتم تقولون لنا في نصائحكم إنّ كل من يجتهد في دراسته لا بدّ ربي ينجحو أَوَ ليست هذه كتلك" وجاء الردّ من الشيخ صاعقا بطرده من الدرس، ولا تفوتني بهذه المناسبة الإشارة إلى أنّ ما جاء على لسان الشيخ ابن مراد راج وما زال البعض يروّجه دون حياء أو حرج من تكفير الشاعر، ولا شكّ أنّ هذا الردّ سيكون مفحما لأننا ننقله من محاضرة للشيخ محمد المختار بن محمود شيخ الإسلام الحنفي وأحد أقطاب جامع الزيتونة جاء فيه: "ومن لطائف المصادفات أنّ جريدة الصباح نشرت في عدد الأمس 24 فيفري 1966 أنّ صديقنا الشاعر الصّوفي الشيخ الحفناوي الصديق قد شطّر هذا البيت لأبي القاسم الشابي ليزيل عنه ما وُصم به من الكفر والإلحاد فقال:
[إذا الشّعب يوما أراد الحياة]***وجاهد حقّا سما وانتصر
وربّك إذ قال للشيء كن***[فلا بدّ أن يستجيب القدر]
وطالما تحاورنا (أبو القاسم الشابي والشيخ محمد المختار بن محمود) وكانت له أفكار جريئة يصرّ على العناد عند مراجعته فيها ولكنّها والحقّ يقال لا تمسّ العقائد"(انظر كتاب "علم وشاعر، الشيخ محمد المختار بن محمود والشاعر أبو القاسم الشابي" إعداد وتحقيق هشام بن محمود، دار محمد علي الحامي للنشر، تونس 2012، ص102).