السياسة التنموية هي الخيار الذي يذهب فيه النسق السياسي الحاكم من أجل تطوير المجتمع عبر مسار تشكُّلي تجديدي غايته الرقي بالوضع الإنساني إلى الرّفاه. والرفاه هو الحالة الشعورية المتمثلة في السعادة التي يسعى لها جميع أفراد المجتمع. وإن كانت السعادة مسألة نسبية فإن هناك مقاييس قاعدية متفق عليها ثقافيا وعلميا. ومن أهم أسباب سعادة المجتمع هي الأمن الذي يشعر به أفراده على جميع المستويات الحقوقية اهمها الشعور بالأمن على الأعراض والأفكار والأبدان والأموال. أي الشعور بضمان الحقوق المادية والفكرية. ولذلك فعلى النسق السياسي الحاكم أن يتساءل إن كان نسق التعليم على حاله، صالحا لخدمة الحقوق الفكرية والمادية للمواطن التونسي بما يضمن سعادته.
إلا أنه بتشخيص وضع التعليم الذي تقر المسؤولية السياسية بأنه في مشكل يذهب به الى وضع التّأزّم، نلاحظ أن هذه المنظومة أصبحت مجلب تعب للأفراد والمجموعات والمجتمع عوض أن تكون سبب سعادة شاملة. ينطلق وضع التأزم من حال السلطة السياسية التي تئن تحت ثقل المسؤولية الوطنية ولم تجد لا المال الكافي ولا الفكر الفلسفي لبعث مشاريع تعليمية وطنية ثورية، وبقيت تراوح خطابات الإصلاح لملء فراغ الفعل المستعصي. ويسقط التأزم على الإدارة التي لا يتجاوز دورها مسايرة المركبة ومحاذاتها دون إصلاحها شأنها شأن السائق الذي لا يفهم في الميكانيك ولا يتقن التجديف ولا دور له الا مراقبتها والتيار يسوقها. ثم يسقط التأزم إلى الإطار التربوي، التعليم الابتدائي مثالا، الذي أصبح يعاني من عديد المشاكل التي تحول دون سعادته وتعكر حياته المهنية، ليس أقلها العنف المنتظر كل يوم وكل ساعة من هنا وهناك. ووضع التلميذ الذي يعاني من مراكمة الدروس التي لا طائل من ورائها إلا سجنه بين الجدران المقلقة والمقرفة أحيانا. ووضع الولي الذي أصبح يضحي بلقمة عيشه من أجل حلم مفقود املا في أن المدرسة ستنقذ أبناءه من التشرد صغيرا ومن البطالة كبيرا. وهكذا فقدت منظومة التعليم ملامسة النية في إسعاد الأفراد والجماعات من جميع الأطياف.
4 ـ البيروقراطية الرشيدة
لما نتكلم عن البيروقراطية الرشيدة في علاقة بمنظومة التعليم، فإننا نتكلم عن الإدارة التي تسهر على تسيير المنظومة. والبيروقراطية الرشيدة هي المخرج الوحيد من مأزق التقابل بين بيروقراطية متشددة مُعطّلة للمسار وبيروقراطية شكلية تعتمد الاجتهادات الشخصية التي تمليها الأهواء والمصلحية الشخصية. حيث ان البيروقراطية الرشيدة هي توزيع المسؤوليات بوضوح ودقة وحسب الكفاءة وبهرمية تمكن من رصد مسؤوليات الإخلال بكل دقة. وبذلك المحاسبة الصارمة للجميع حسب منظومة قانونية دقيقة تشمل جميع نواحي المنظومة وتمس جميع المشاكل المتوقع أن تعطلها. بيد أن البيروقراطية التعليمية التربوية لم تتجاوز تبادل الأدوار بين بيروقراطية معطِّلة للمسار التطوري للمنظومة التربوية وبيروقراطية شكلية لا علاقة لها بالقانون، حسب التوقيت السياسي للمجتمع. وتعيش اليوم إدارة المنظومة التربوية أزمة حقيقية بسبب تخبطها بين السعي لأن تكون رشيدة بتوخي الحكمة والصرامة في تصفية المخطئين الذين تغلغلوا فيها بمداخل سياسية ونقابية، وقرابية زبونية، وأثقلوا كاهلها. واتخذت هذه المرحلة شعارات سياسية من نوع "التطهير" و"المسار الثوري" و"المحاسبة"، وهو ما يعني سطو الشأن السياسي في الإدارة على حساب الشأن التقني القانوني والعلمي الدقيق، وبين السعي لأن تكون مجتهدة وسلسة إلى درجة التغاضي عن تطبيق القانون وعن تثمين الكفاءات. وحتى عند طلب خدمة لدى الإدارة فإنك تُواجه بالعبارة الشهيرة "أرجع غدوة" ودعمتها اليوم عبارة "شوف عند فلان" عوضا عن "هذه الخدمة تجدها لدى المكتب الفلاني أو المصلحة الفلانية". وهو ما يعني أن إدارة التعليم مرتبطة بأماكن وليس بأدوار.
وهذا الوضع البيروقراطي التعليمي لا يوصف إلا بكونه يعيش ارتباكا ناتجا عن صعوبة الانتقال من نظام الى آخر. ذلك أن شروط هذا الانتقال لم تنضج بعد ولا يمكن أن يتم الانتقال بطريقة تعسفية. إذ لا يمكن إرساء نظام الا إذا انزاح النظام السابق بعد أن أصبح قاصرا في أداء مهامه الاجتماعية ورفضه المجتمع. فهل يمكن التأكد من إن المجتمع التونسي رفض هذا النظام التعليمي القائم ــ وهو الفاعل الاساسي فيه ــ منذ أن تخلت عنه الدولة شيئا فشيئا؟
5 ـ البيداغوجيا العرفانية والبيداغوجيا التربوية
النسق البيداغوجي هو أصل العملية التعليمية المعاصرة لمسار التشكل الذي تفرضه الساحة الاجتماعية. حيث أن التعليم التقليدي لم يكن يُعنى بالمسألة البيداغوجية بل كان همه المعارف الدينية التي تترسخ قسرا عبر التلقين والترهيب والأخلاق. ناهيك ان التعليم التقليدي لم يكن يهتم بالمعارف العلمية التي باتت اليوم هي الشغل الشاغل للمهتمين بالحداثة والتحديث. وهذه المعارف العلمية لابد لها أن تواكب حاجيات المجتمع التي ينتظرها من العلم الذي هو ضمان للتموقع في زحمة تطور المجتمعات. وقد زادت سرعة المواكبة بتسارع التقدم العلمي الذي فرض إيديولوجيا تكنولوجية أزاحت الإيديولوجيات السياسية والدينية والأخلاقية. وهكذا باتت المنظومة التعليمية مفككة الغايات بين رهانات إحياء الإيديولوجيا السياسية الوطنية التي لابد منها للحفاظ على الهوية الوطنية ثقافة وأرضا وأهلا ومستقبلا. وبين رهانات إحياء الإيديولوجيا الدينية الإسلامية التي تشكل القاعدة الثقافية لهوية المجتمع التونسي والتي ارتبكت بين الممارسة السياسية وبين الممارسة الأخلاقية والشعائرية. وبين رهان إحياء الإيديولوجيا الأخلاقية التي ما انفكت تفقد القيم الإنسانية النبيلة، منها الوازع الوطني، لصالح المكاسب المادية المباشرة. وبين رهان ناصية الإيديولوجيا التكنولوجية التي باتت شرا لابد منه للتموقع بين المجتمعات واللحاق بركب التحضر الذي يقوده الغرب ويوجهه بالتفوق العلمي والتكنولوجي الذي بدوره توجهه المنظومات التعليمية بكامل انساقها الفلسفية والسياسية والإدارية والبيداغوجية. وعليه فإن النسق البيداغوجي بات محمولا عليه اليوم في هذا التغير المعاصر السريع أن يعمل ميدانيا ومهاريا على واجهتين، واجهة عرفانية تُعنى بخلق الميكانيزمات الذهنية القادرة على صنع الفكر العلمي وواجهة تربوية تُعنى بغرس الروح العلمية التي تحصن المواطن التونسي ضد التقهقر الفكري والثقافي والمواطني. تتشابك هاتان الوجهتان وتتكاملان في نفس العملية التعليمية التربوية. وهو ما يقتضي كفاءات مهارية فائقة تسمى الاختصاص البيداغوجي. والاختصاص البيداغوجي لابد أن يشمل المدرسين خاصة بالتعليم الابتدائي. فيكونون ملمين بالمعرفة النفسانية والديداكتيكية التي تؤهلهم للتدريس العصري الحديث. غير أن هذا الاختصاص البيداغوجي الذي بات ضروريا كل يوم أكثر فأكثر، يكاد يغيب عن الإطار التربوي خاصة بالتعليم الابتدائي لما شهده هذا القطاع من تغريب عن صلوحياته العلمية نتيجة اعتماده كحل اجتماعي وسياسي لاستيعاب حاملي الشهائد العلمية غير المختصة، العاطلين عن العمل. كما أن تنوع المتدخلين في العملية التعليمية وكثرتهم، نتيجة عجز المؤسسة التعليمية النظامية عن حماية نفسها بنفسها،حجب جدوى الأقلية الفاعلة المتخصصة بيداغوجيا وجعلها في آخر صف نظرا لكون التعليم الابتدائي استحال الى عملية لبيع الأوهام التي لا تستدعي كفاءات مختصة بيداغوجيا والتي تتمثل في مراكمة الوثائق الموازية والأكداس المكدسة من الأوراق المطبوعة وشهائد الامتياز التي ينالها جميع تلاميذ الابتدائي بعلامات لا أثر لها في الواقع التطبيقي مثل التربية البدنية والتربية الموسيقية والتربية التكنولوجية والتربية الإسلامية. خاصة وأن هذه المواد لا يمكن أن يدرسها إلا ذوي الاختصاص المعرفي والبيداغوجي الذين تفتقدهم وزارة التربية.
وهكذا يمكن القول إن محنة التعليم التونسي، الابتدائي مثالا، أصبحت شاملة عموديا وأفقيا. وحتى النسق العلائقي بين الأنساق المكونة للمنظومة التعليمية، فإنه لم يعد نسقا تفاعليا وإنما هو نسق علاقات تماحن بين هذه الأنساق المكونة. ذلك أن كل نسق ممحون بمشاكل وأزمات لا يمكن أن يتفاعل إيجابيا مع بقية الأنساق المكونة للعملية التعليمية. بل إن جميعها تتفاعل مع بعضها عبر التأثير والتّأثّـر السّلبي الذي وصفناه بالمحنة.
6ـ شبكة العلاقات التفاعلية
ليست المنظومة التربوية جزرا منعزلة. بل يشكل كل نسق من أنساقها عنصرا مترابطا بالأنساق الأخرى عن طريق علاقات تفاعلية. ويكون هذا التفاعل إما تكاملا أو تواظفا أو تساندا أو تبادلا بين الأدوار أو حتى تماحنا، حيث يمكن لأي نسق من هذه الأنساق المكوِّنة لمنظومة التعليم أن يعود بالمشكل على بقية الأنساق. كأن يعيق النسق الإداري النسق السياسي والنسق البيداغوجي الصنائعي، أو أن يتسبب النسق السياسي صاحب القرار في إعاقة السير البيداغوجي الميداني عبر إرباك عمل الإطار التربوي. ولكن لا يمكن حسر هذه المحن المتوالدة فيما بين أنساق التعليم، التعليم الابتدائي مثالا، كلها. وإنما يمكن رصدها من خلال المشهد العام المتأزم لمنظومة التعليم كما تقر بذلك الجهات السياسية الحاكمة والمساندة والمعارضة المعترضة. والإعلامية والنقابية. كما يمكن ملاحظتها عموديا وأفقيا من الحضور الميداني الواقعي بالمدارس والإدارات.
عموديــــا: حيث أن التواصل التفاعلي السُّلَّــمي من المفروض أن يمتد صعودا ونزولا بين قاعة الدرس والوزارة بطريقة رشيدة. أي بين النسق البيداغوجي وبين النسق السياسي، مرورا بالنسق الإداري المتمثل في المندوبيات والمتفقدين. إلا أن هناك عديد الحلقات المنفصلة في هذه السلسلة التفاعلية. ونتج هذا الانفصال عن ظروف سياسية ومهنية. ولم يسع الوزراء المتعاقبون أصحاب أعلى قرارات التنفيذ السياسي إلى ملئها. نذكر من بين هذه الحلقات المنفصلة، حلقة التفقد. حيث ان عدد المتفقدين لا يفي بالحاجة ناهيك أنه لم تعد لهم أدوار إدارية تربط بين دائرة الحوض البيداغوجي وبين المندوبية. وكان هذا إبان اتفاق مهني. وكان على السلطة السياسية التعليمية أن تعوض هذا الفراغ. إلا أن الأمور ظلت تسير تلقائيا بحكم النفوذ القسري للنسق السياسي الذي ظل يسيّر الأمور تعسفيا بهيمنته على جميع الأنساق الأخرى لمدة عقود. كما أن توزيع الأدوار سُلَّميًّا بين المسؤولين داخل المندوبية الواحدة لم يعد مفهوما. ويمكن ملاحظته من خلال التداخل بين المكاتب ومن خلال توزيع المهام الإدارية بالتدرج. حيث لا يسترشد أي قاصد للمندوبية بأسماء المصالح المثبتة على المكاتب ولا بالأدوار القانونية لمواقع الأشخاص وإنما تغلب عبارة "شوف عند فلان" على الأدوار الإدارية. وهو ما من شأنه أن يحول دون ترشيد الإدارة رسميا حسب القانون ويفتح، في المقابل، أبواب التقدير العاطفي والوجداني والأخلاقي في إسداء الخدمات، وحسب الحظوظ الذاتية والنوايا، وليس حسب تحميل المسؤوليات القانونية. كما أن العلاقة بين المدرسين وإدارة المدرسة نفسها لا يوضحها القانون السُّــلّــمي، وظلت تسير بدائيا حسب العلاقات الذاتية بين الإطار التربوي داخل المدرسة. وهو ما يربك مناخات العمل في عديد المدارس كلما سعى المدير الى التسلط بمنطق القانون أو كلما سعى إلى تسيير المدرسة بالنوايا الأخلاقية أو السياسية، خاصة في ظل التغاضي عن تفعيل المجالس البيداغوجية. وقد تعمّق هذا الإرباك بتغييب الشريك النقابي في آداء المديرين وآداء المندوبيات، حيث أن النقابات المهنية باعتبارها نسقا شريكا ووسيطا، قد راكمت خبرة كبيرة على حل الإشكالات المهنية مع النسق الإداري لما لها من قدرة على التموقع الثنائي. وهو ما يؤكده العدد الهائل من المسؤولين الإداريين، وخاصة مديري المدارس، الذين يتحملون مسؤوليات نقابية قاعدية ووسطىوعليا.
أفقيــــــــــــا: حيث أن التفاعل الأفقي بين بقية الوزارات ووزارة التربية يكاد يكون مناسباتيا وليس نشيطا وظيفيا. ونذكر مثال التواصل بين وزارة التربية ووزارة الداخلية من أجل التصدي لظاهرة التشرد وتعاطي المخدرات بالقرب من المؤسسات التعليمية. إذ يذاع في وسائل الإعلام بمناسبة العودة المدرسية ثم ما ينفك أن يغيب عن الاهتمام السياسي والإداري والبيداغوجي. كما أن التفاعل بين المندوبيات لا يدور في إطار مؤسسي واضح ومعلن وإنما يتم عبر التنسيق من أعلى مستوى إداري وهو الوزارة وهو ما يرسي البيروقراطية المُعطلة ويحول دون سلاسة الخدمة البيروقراطية الرشيدة. وأما التعامل الأفقي على مستوى الإطار التعليمي البيداغوجي فإنه أصبح يندثر أكثر فأكثر بسبب ظاهرة الفردانية المتفشية والتي تنحو يوما فيوما إلى الفردية المقيتة وذلك بسبب ثقافة الكسب الشخصي العاجل والسريع عبر التزاحم بين أفراد الإطار التربوي، زادها تغيب الهيكل الجامع بين أفراد التدريس المتمثل في تغييب المجلس البيداغوجي وتغييب الوسيط النقابي وانعدام الصلوحية الإدارية للمتفقد.
بقلم محمد السعيدي
أستاذ تعليم ابتدائي وباحث علم الاجتماع
3 ـ السياسة التنموية
السياسة التنموية هي الخيار الذي يذهب فيه النسق السياسي الحاكم من أجل تطوير المجتمع عبر مسار تشكُّلي تجديدي غايته الرقي بالوضع الإنساني إلى الرّفاه. والرفاه هو الحالة الشعورية المتمثلة في السعادة التي يسعى لها جميع أفراد المجتمع. وإن كانت السعادة مسألة نسبية فإن هناك مقاييس قاعدية متفق عليها ثقافيا وعلميا. ومن أهم أسباب سعادة المجتمع هي الأمن الذي يشعر به أفراده على جميع المستويات الحقوقية اهمها الشعور بالأمن على الأعراض والأفكار والأبدان والأموال. أي الشعور بضمان الحقوق المادية والفكرية. ولذلك فعلى النسق السياسي الحاكم أن يتساءل إن كان نسق التعليم على حاله، صالحا لخدمة الحقوق الفكرية والمادية للمواطن التونسي بما يضمن سعادته.
إلا أنه بتشخيص وضع التعليم الذي تقر المسؤولية السياسية بأنه في مشكل يذهب به الى وضع التّأزّم، نلاحظ أن هذه المنظومة أصبحت مجلب تعب للأفراد والمجموعات والمجتمع عوض أن تكون سبب سعادة شاملة. ينطلق وضع التأزم من حال السلطة السياسية التي تئن تحت ثقل المسؤولية الوطنية ولم تجد لا المال الكافي ولا الفكر الفلسفي لبعث مشاريع تعليمية وطنية ثورية، وبقيت تراوح خطابات الإصلاح لملء فراغ الفعل المستعصي. ويسقط التأزم على الإدارة التي لا يتجاوز دورها مسايرة المركبة ومحاذاتها دون إصلاحها شأنها شأن السائق الذي لا يفهم في الميكانيك ولا يتقن التجديف ولا دور له الا مراقبتها والتيار يسوقها. ثم يسقط التأزم إلى الإطار التربوي، التعليم الابتدائي مثالا، الذي أصبح يعاني من عديد المشاكل التي تحول دون سعادته وتعكر حياته المهنية، ليس أقلها العنف المنتظر كل يوم وكل ساعة من هنا وهناك. ووضع التلميذ الذي يعاني من مراكمة الدروس التي لا طائل من ورائها إلا سجنه بين الجدران المقلقة والمقرفة أحيانا. ووضع الولي الذي أصبح يضحي بلقمة عيشه من أجل حلم مفقود املا في أن المدرسة ستنقذ أبناءه من التشرد صغيرا ومن البطالة كبيرا. وهكذا فقدت منظومة التعليم ملامسة النية في إسعاد الأفراد والجماعات من جميع الأطياف.
4 ـ البيروقراطية الرشيدة
لما نتكلم عن البيروقراطية الرشيدة في علاقة بمنظومة التعليم، فإننا نتكلم عن الإدارة التي تسهر على تسيير المنظومة. والبيروقراطية الرشيدة هي المخرج الوحيد من مأزق التقابل بين بيروقراطية متشددة مُعطّلة للمسار وبيروقراطية شكلية تعتمد الاجتهادات الشخصية التي تمليها الأهواء والمصلحية الشخصية. حيث ان البيروقراطية الرشيدة هي توزيع المسؤوليات بوضوح ودقة وحسب الكفاءة وبهرمية تمكن من رصد مسؤوليات الإخلال بكل دقة. وبذلك المحاسبة الصارمة للجميع حسب منظومة قانونية دقيقة تشمل جميع نواحي المنظومة وتمس جميع المشاكل المتوقع أن تعطلها. بيد أن البيروقراطية التعليمية التربوية لم تتجاوز تبادل الأدوار بين بيروقراطية معطِّلة للمسار التطوري للمنظومة التربوية وبيروقراطية شكلية لا علاقة لها بالقانون، حسب التوقيت السياسي للمجتمع. وتعيش اليوم إدارة المنظومة التربوية أزمة حقيقية بسبب تخبطها بين السعي لأن تكون رشيدة بتوخي الحكمة والصرامة في تصفية المخطئين الذين تغلغلوا فيها بمداخل سياسية ونقابية، وقرابية زبونية، وأثقلوا كاهلها. واتخذت هذه المرحلة شعارات سياسية من نوع "التطهير" و"المسار الثوري" و"المحاسبة"، وهو ما يعني سطو الشأن السياسي في الإدارة على حساب الشأن التقني القانوني والعلمي الدقيق، وبين السعي لأن تكون مجتهدة وسلسة إلى درجة التغاضي عن تطبيق القانون وعن تثمين الكفاءات. وحتى عند طلب خدمة لدى الإدارة فإنك تُواجه بالعبارة الشهيرة "أرجع غدوة" ودعمتها اليوم عبارة "شوف عند فلان" عوضا عن "هذه الخدمة تجدها لدى المكتب الفلاني أو المصلحة الفلانية". وهو ما يعني أن إدارة التعليم مرتبطة بأماكن وليس بأدوار.
وهذا الوضع البيروقراطي التعليمي لا يوصف إلا بكونه يعيش ارتباكا ناتجا عن صعوبة الانتقال من نظام الى آخر. ذلك أن شروط هذا الانتقال لم تنضج بعد ولا يمكن أن يتم الانتقال بطريقة تعسفية. إذ لا يمكن إرساء نظام الا إذا انزاح النظام السابق بعد أن أصبح قاصرا في أداء مهامه الاجتماعية ورفضه المجتمع. فهل يمكن التأكد من إن المجتمع التونسي رفض هذا النظام التعليمي القائم ــ وهو الفاعل الاساسي فيه ــ منذ أن تخلت عنه الدولة شيئا فشيئا؟
5 ـ البيداغوجيا العرفانية والبيداغوجيا التربوية
النسق البيداغوجي هو أصل العملية التعليمية المعاصرة لمسار التشكل الذي تفرضه الساحة الاجتماعية. حيث أن التعليم التقليدي لم يكن يُعنى بالمسألة البيداغوجية بل كان همه المعارف الدينية التي تترسخ قسرا عبر التلقين والترهيب والأخلاق. ناهيك ان التعليم التقليدي لم يكن يهتم بالمعارف العلمية التي باتت اليوم هي الشغل الشاغل للمهتمين بالحداثة والتحديث. وهذه المعارف العلمية لابد لها أن تواكب حاجيات المجتمع التي ينتظرها من العلم الذي هو ضمان للتموقع في زحمة تطور المجتمعات. وقد زادت سرعة المواكبة بتسارع التقدم العلمي الذي فرض إيديولوجيا تكنولوجية أزاحت الإيديولوجيات السياسية والدينية والأخلاقية. وهكذا باتت المنظومة التعليمية مفككة الغايات بين رهانات إحياء الإيديولوجيا السياسية الوطنية التي لابد منها للحفاظ على الهوية الوطنية ثقافة وأرضا وأهلا ومستقبلا. وبين رهانات إحياء الإيديولوجيا الدينية الإسلامية التي تشكل القاعدة الثقافية لهوية المجتمع التونسي والتي ارتبكت بين الممارسة السياسية وبين الممارسة الأخلاقية والشعائرية. وبين رهان إحياء الإيديولوجيا الأخلاقية التي ما انفكت تفقد القيم الإنسانية النبيلة، منها الوازع الوطني، لصالح المكاسب المادية المباشرة. وبين رهان ناصية الإيديولوجيا التكنولوجية التي باتت شرا لابد منه للتموقع بين المجتمعات واللحاق بركب التحضر الذي يقوده الغرب ويوجهه بالتفوق العلمي والتكنولوجي الذي بدوره توجهه المنظومات التعليمية بكامل انساقها الفلسفية والسياسية والإدارية والبيداغوجية. وعليه فإن النسق البيداغوجي بات محمولا عليه اليوم في هذا التغير المعاصر السريع أن يعمل ميدانيا ومهاريا على واجهتين، واجهة عرفانية تُعنى بخلق الميكانيزمات الذهنية القادرة على صنع الفكر العلمي وواجهة تربوية تُعنى بغرس الروح العلمية التي تحصن المواطن التونسي ضد التقهقر الفكري والثقافي والمواطني. تتشابك هاتان الوجهتان وتتكاملان في نفس العملية التعليمية التربوية. وهو ما يقتضي كفاءات مهارية فائقة تسمى الاختصاص البيداغوجي. والاختصاص البيداغوجي لابد أن يشمل المدرسين خاصة بالتعليم الابتدائي. فيكونون ملمين بالمعرفة النفسانية والديداكتيكية التي تؤهلهم للتدريس العصري الحديث. غير أن هذا الاختصاص البيداغوجي الذي بات ضروريا كل يوم أكثر فأكثر، يكاد يغيب عن الإطار التربوي خاصة بالتعليم الابتدائي لما شهده هذا القطاع من تغريب عن صلوحياته العلمية نتيجة اعتماده كحل اجتماعي وسياسي لاستيعاب حاملي الشهائد العلمية غير المختصة، العاطلين عن العمل. كما أن تنوع المتدخلين في العملية التعليمية وكثرتهم، نتيجة عجز المؤسسة التعليمية النظامية عن حماية نفسها بنفسها،حجب جدوى الأقلية الفاعلة المتخصصة بيداغوجيا وجعلها في آخر صف نظرا لكون التعليم الابتدائي استحال الى عملية لبيع الأوهام التي لا تستدعي كفاءات مختصة بيداغوجيا والتي تتمثل في مراكمة الوثائق الموازية والأكداس المكدسة من الأوراق المطبوعة وشهائد الامتياز التي ينالها جميع تلاميذ الابتدائي بعلامات لا أثر لها في الواقع التطبيقي مثل التربية البدنية والتربية الموسيقية والتربية التكنولوجية والتربية الإسلامية. خاصة وأن هذه المواد لا يمكن أن يدرسها إلا ذوي الاختصاص المعرفي والبيداغوجي الذين تفتقدهم وزارة التربية.
وهكذا يمكن القول إن محنة التعليم التونسي، الابتدائي مثالا، أصبحت شاملة عموديا وأفقيا. وحتى النسق العلائقي بين الأنساق المكونة للمنظومة التعليمية، فإنه لم يعد نسقا تفاعليا وإنما هو نسق علاقات تماحن بين هذه الأنساق المكونة. ذلك أن كل نسق ممحون بمشاكل وأزمات لا يمكن أن يتفاعل إيجابيا مع بقية الأنساق المكونة للعملية التعليمية. بل إن جميعها تتفاعل مع بعضها عبر التأثير والتّأثّـر السّلبي الذي وصفناه بالمحنة.
6ـ شبكة العلاقات التفاعلية
ليست المنظومة التربوية جزرا منعزلة. بل يشكل كل نسق من أنساقها عنصرا مترابطا بالأنساق الأخرى عن طريق علاقات تفاعلية. ويكون هذا التفاعل إما تكاملا أو تواظفا أو تساندا أو تبادلا بين الأدوار أو حتى تماحنا، حيث يمكن لأي نسق من هذه الأنساق المكوِّنة لمنظومة التعليم أن يعود بالمشكل على بقية الأنساق. كأن يعيق النسق الإداري النسق السياسي والنسق البيداغوجي الصنائعي، أو أن يتسبب النسق السياسي صاحب القرار في إعاقة السير البيداغوجي الميداني عبر إرباك عمل الإطار التربوي. ولكن لا يمكن حسر هذه المحن المتوالدة فيما بين أنساق التعليم، التعليم الابتدائي مثالا، كلها. وإنما يمكن رصدها من خلال المشهد العام المتأزم لمنظومة التعليم كما تقر بذلك الجهات السياسية الحاكمة والمساندة والمعارضة المعترضة. والإعلامية والنقابية. كما يمكن ملاحظتها عموديا وأفقيا من الحضور الميداني الواقعي بالمدارس والإدارات.
عموديــــا: حيث أن التواصل التفاعلي السُّلَّــمي من المفروض أن يمتد صعودا ونزولا بين قاعة الدرس والوزارة بطريقة رشيدة. أي بين النسق البيداغوجي وبين النسق السياسي، مرورا بالنسق الإداري المتمثل في المندوبيات والمتفقدين. إلا أن هناك عديد الحلقات المنفصلة في هذه السلسلة التفاعلية. ونتج هذا الانفصال عن ظروف سياسية ومهنية. ولم يسع الوزراء المتعاقبون أصحاب أعلى قرارات التنفيذ السياسي إلى ملئها. نذكر من بين هذه الحلقات المنفصلة، حلقة التفقد. حيث ان عدد المتفقدين لا يفي بالحاجة ناهيك أنه لم تعد لهم أدوار إدارية تربط بين دائرة الحوض البيداغوجي وبين المندوبية. وكان هذا إبان اتفاق مهني. وكان على السلطة السياسية التعليمية أن تعوض هذا الفراغ. إلا أن الأمور ظلت تسير تلقائيا بحكم النفوذ القسري للنسق السياسي الذي ظل يسيّر الأمور تعسفيا بهيمنته على جميع الأنساق الأخرى لمدة عقود. كما أن توزيع الأدوار سُلَّميًّا بين المسؤولين داخل المندوبية الواحدة لم يعد مفهوما. ويمكن ملاحظته من خلال التداخل بين المكاتب ومن خلال توزيع المهام الإدارية بالتدرج. حيث لا يسترشد أي قاصد للمندوبية بأسماء المصالح المثبتة على المكاتب ولا بالأدوار القانونية لمواقع الأشخاص وإنما تغلب عبارة "شوف عند فلان" على الأدوار الإدارية. وهو ما من شأنه أن يحول دون ترشيد الإدارة رسميا حسب القانون ويفتح، في المقابل، أبواب التقدير العاطفي والوجداني والأخلاقي في إسداء الخدمات، وحسب الحظوظ الذاتية والنوايا، وليس حسب تحميل المسؤوليات القانونية. كما أن العلاقة بين المدرسين وإدارة المدرسة نفسها لا يوضحها القانون السُّــلّــمي، وظلت تسير بدائيا حسب العلاقات الذاتية بين الإطار التربوي داخل المدرسة. وهو ما يربك مناخات العمل في عديد المدارس كلما سعى المدير الى التسلط بمنطق القانون أو كلما سعى إلى تسيير المدرسة بالنوايا الأخلاقية أو السياسية، خاصة في ظل التغاضي عن تفعيل المجالس البيداغوجية. وقد تعمّق هذا الإرباك بتغييب الشريك النقابي في آداء المديرين وآداء المندوبيات، حيث أن النقابات المهنية باعتبارها نسقا شريكا ووسيطا، قد راكمت خبرة كبيرة على حل الإشكالات المهنية مع النسق الإداري لما لها من قدرة على التموقع الثنائي. وهو ما يؤكده العدد الهائل من المسؤولين الإداريين، وخاصة مديري المدارس، الذين يتحملون مسؤوليات نقابية قاعدية ووسطىوعليا.
أفقيــــــــــــا: حيث أن التفاعل الأفقي بين بقية الوزارات ووزارة التربية يكاد يكون مناسباتيا وليس نشيطا وظيفيا. ونذكر مثال التواصل بين وزارة التربية ووزارة الداخلية من أجل التصدي لظاهرة التشرد وتعاطي المخدرات بالقرب من المؤسسات التعليمية. إذ يذاع في وسائل الإعلام بمناسبة العودة المدرسية ثم ما ينفك أن يغيب عن الاهتمام السياسي والإداري والبيداغوجي. كما أن التفاعل بين المندوبيات لا يدور في إطار مؤسسي واضح ومعلن وإنما يتم عبر التنسيق من أعلى مستوى إداري وهو الوزارة وهو ما يرسي البيروقراطية المُعطلة ويحول دون سلاسة الخدمة البيروقراطية الرشيدة. وأما التعامل الأفقي على مستوى الإطار التعليمي البيداغوجي فإنه أصبح يندثر أكثر فأكثر بسبب ظاهرة الفردانية المتفشية والتي تنحو يوما فيوما إلى الفردية المقيتة وذلك بسبب ثقافة الكسب الشخصي العاجل والسريع عبر التزاحم بين أفراد الإطار التربوي، زادها تغيب الهيكل الجامع بين أفراد التدريس المتمثل في تغييب المجلس البيداغوجي وتغييب الوسيط النقابي وانعدام الصلوحية الإدارية للمتفقد.