مقترح قانون ثان يهدف إلى مراجعة المجلة الجزائية تعهدت به لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب، وذلك بعد أن أحال عليها مكتب المجلس خلال شهر جويلية الماضي مبادرة تشريعية أولى لتنقيح الفصل 96 من هذه المجلة وهي من إعداد النواب عماد أولاد جبريل وظافر الصغيري وألفة مرواني وأيمن بن صالح وطارق الربعي وحمدي بن عبد العالي وفيصل الصغير وفخر الدين فضلون وياسين مامي ومعز الرياحي ومحمد علي فنيرة وعبد الجليل الهاني وسامي الرايس والفاضل بن تركية ونورة الشبراك.
وقررت اللجنة منذ تركزيها في بداية الدورة النيابية الأولى إدراج هذا الفصل ضمن أولوياتها التشريعية لكن الحكومة لم تقدم بعد أي مشروع قانون في الغرض لمجلس نواب الشعب.
وكان البرلمان المنحل قد تعهد بمشروع قانون أعدته حكومة إلياس الفخفاخ ومشروع آخر أحالته حكومة هشام مشيشي وبمبادرات تشريعية أعدها النواب، لكن جميع هذه المقترحات بقيت حبرا على ورق ولم تر النور رغم إدراك الأغلبية آنذاك ضرورة مراجعة الفصل 96 لأنه تسبب بشكل واضح في تعطيل عمل الإدارة وترهيب الموظفين العموميين وتكبيل أياديهم فمن يتم تكليفه بمهمة وزارية أو يرأس مؤسسة عمومية أو يتحمل مسؤولية التصرف بإدارة عمومية أو شبه عمومية ويمضي على قرارات ويوقع على صفقات يمكن أن يجد نفسه من حيث لا يدري محل تتبعات جزائية..
ويهدف مقترح القانون الجديد إلى تنقيح أحكام الفصلين 96 و98 من المجلة المذكورة وتم تقديمه من قبل 47 نائبا من مختلف الكتل البرلمانية وهو ما يعبر عن رغبة جميع الكتل في ضمان تحقيق الموازنة بين أهداف السياسة الجزائية في مكافحة الفساد الإداري والمالي من جهة وعدم عرقلة العمل الإداري وتحقيق نجاعته من جهة أخرى.
وللتذكير، تشمل المجلة الجزائية من الفصول 83 إلى 100 الجرائم المرتكبة من قبل الموظفين العموميين أو أشباههم والمتعلقة بالارتشاء والإرشاء واستغلال المؤسسات ومواردها لتحقيق مصالح خاصة والاختلاس والاستيلاء على الأموال العمومية..، ومقارنة بقوانين الدول الأخرى ينفرد التشريع الوطني بأحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية والتي بمقتضاها تم تجريم قيام الموظف العمومي أو شبهه المكلف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب باستغلال صفته أو مخالفة التراتيب الجاري بها العمل لتحقيق منفعة لنفسه أو للغير أو الإضرار بالإدارة..
ويرى النواب أصحاب مقترح القانون أن الفصل 69 من المجلة الجزائية يكتسي أهمية بالغة من الناحية الاقتصادية نظرا لأثره المباشر على المعاملات المالية والصفقات العمومية التي تبرمها الدولة والهياكل العمومية وفي مكافحة سوء استخدام السلطة أو الوظيفة للحصول على منفعة غير مشروعة أو للإضرار بالإدارة.
وفي إطار إعمال هذا الفصل تم بعد الثورة إثارة تتبعات جزائية ضد العديد من الموظفين العموميين على خلفية اتخاذهم قرارات تتنزل في إطار تسيير المرافق العمومية التي يشرفون عليها، وهو ما أدى لاحقا إلى امتناع الموظفين عن اتخاذ القرارات أو القيام بمبادرات خشية تعرضهم إلى تتبعات عدلية وأثر ذلك سلبيا على عمل الإدارة حتى أن بعض الفاعلين الاقتصاديين اعتبروا أن الفصل 96 يعتبر من بين أسباب الركود الاقتصادي.
فمن حيث الشكل، تضمن الفصل 96 من المجلة الجزائية عبارات فضفاضة وغير دقيقة من قبيل المنفعة فضلا عن تقديم تعداد لقائمة من المهن التي لا تخرج عن صفة الموظف العمومي أو شبهه وهو ما نتج عنه جدل قانوني أدى إلى اختلاف المحاكم حول مفهوم موحد لتلك العبارات وحال دون تحقيق الغاية المرجوة منه في مكافحة جرائم الفساد الإداري والمالي، ويثير الفصل العديد من الإشكاليات على مستوى الصياغة واستعمال عبارات قابلة للتأويل.
أما من حيث المضمون ففيه توسع في التجريم حيث أنه تضمن تجريم ستة أفعال تتم المؤاخذة الجزائية بخصوصها وهي جريمة استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس، وجريمة استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير، وجريمة استغلال الصفة للإضرار بالإدارة، وجريمة مخالفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس، وجريمة مخالفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير، وجريمة مخالفة التراتيب للإضرار بالإدارة.
مراجعة ثلاثة فصول
وتضمن مقترح القانون المتعلق بتنقيح المجلة الجزائية ثلاثة فصول يتعلق الأول بإلغاء أحكام الفصلين 96 و98 وتعويضها بفصلين جديدين فالنسبة إلى الفصل 96 فتتمثل مقترحات تعديله في التخلي عن القائمة التي عددت المهن التي لا تخرج عن صفة الموظف العمومي أو شبهه كما عرفه الفصل 82 من المجلة، واستبدال مصطلح الترتيب بمصطلح الأحكام التشريعية الجاري بها العمل للقطع مع الجدل القائم حول مجال انطباقه، وتضييق مجال التجريم من خلال اشتراط توفر سوء النية كركن قصدي خاص والذي على أساسه يتم التمييز بين الخطأ عند الاجتهاد في التصرف والفعل الإجرامي الذي ينطوي على انصراف نية الموظف العمومي أو شبهه إلى ارتكاب ذلك الفعل قصد تحقيق المنفعة أو إلحاق الضرر بالإدارة.
كما تقترح المبادرة التشريعية إضافة فقرة ثانية للفصل 96 توضح الحالات التي تخرج عن نطاق سوء النية في اتخاذ القرار من طرف الموظف العمومي أو شبهه وذلك عبر استبعاد الصور المتعلقة بالخطأ في الاجتهاد أو التأويل أو التقدير أو الموافقة على اجتهاد أو تأويل أو تقدير ثبت الخطأ فيه، وتم إقصاء الحالات المتعلقة بتلقي الموظف العمومي أو شبهه لتعليمات كتابية أو إذن صادر عن رئيسه انسجاما مع أحكام الفصل 42 من المجلة الجزائية الذي نص على أنه لا عقاب على من ارتكب فعلا بمقتضى نص قانوني أو إذن من السلطة التي لها النظر. ويندرج تعريف عبارة سوء النية في إطار رغبة أصحاب المبادرة التشريعية في التوفيق بين مصالح الإدارة من جهة ومن جهة أخرى في حماية الموظف العمومي أو شبه الموظف العمومي من التتبعات التي قد تطاله نتيجة ارتكابه أخطاء في التقدير لا توجب المؤاخذة الجزائية لعدم توفر النية الإجرامية لديه وكان هدفه تطوير أداء الإدارة وتحقيق المصلحة العامة.
ونص مقترح القانون المحال على أنظار لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب على إضافة فقرة للفصل 96 من المجلة الجزائية في اتجاه أن لا تتم التتبعات إلا إذا قضت محكمة المحاسبات بذلك على معنى القانون عدد 41 لسنة 2019 المؤرخ في 30 أفريل 2019 والمتعلق بمحكمة المحاسبات وهو ما يعني أن هذا الإجراء يرمي إلى تفادي التوسع في تطبيق النص المذكور ومباشرة الدعوى العمومية ضد الموظفين العموميين أو شبههم بناء على تشكيات غير جدية حيث تم التأكيد على ضرورة التأكد من وجود قرائن جدية وفي الملف على أساس الحكم الصادر عن محكمة المحاسبات بإدانة الموظف العمومي أو شبهه ونسبة الأفعال المجرمة بالفصل 96 من المجلة الجزائية.
كما أشار مقترح القانون إلى الإبقاء على عقوبة 10 سنوات وذلك بالنظر إلى التضييق الحاصل في أركان التجريم الأمر الذي يفرض عند توفر شروطه أن يكون العقاب ردعيا بالفعل مع إمكانية تطبيق ظروف التخفيف الواردة في الفصل 53 من المجلة الجزائية، وتبعا للعقوبة المذكرة تكتسي جريمة الفصل 96 صبغة جنائية تستوجب فتح بحث تحقيقي فيها وهو ما يوفر ضمانات أكبر للمتهم لأن هذه الجريمة تعتبر من الجرائم المعقدة والمتشعبة التي تتطلب التعمق في الأبحاث وإجراء اختبارات فنية دقيقة.. كما نصت المبادرة التشريعية على مراجعة الفصل 98 في اتجاه التنصيص فيه على إمكانية تسليط المحكمة لعقوبة تكميلية وحيدة من بين العقوبات المقررة بالفصل الخامس من المجلة الجزائية.
كما تضمنت المبادرة أحكاما انتقالية تقضي بسريان أحكام الفصل 96 جديد من المجلة الجزائية على الشكاوى والدعاوى المنشورة لدى المحاكم بداية من صدوره بالرائد الرسمي.
وللتذكير ينص الفصل 96 في صيغته الحالية على أن "يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما".
أما مقترح الفصل 96 جديد المقدم من قبل النواب فينص على أنه يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي ضعف المنفعة المتحصل عليها كل موظف أو شبه موظف عمومي على معنى الفصل 82 من المجلة الجزائية تعمد عن سوء نية بمناسبة ممارسته لوظيفه استغلال صفته أو مخالفة التشريع الجاري به العمل لتحقيق فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره. ولا يعتبر سيء النية كل من أخطأ في اجتهاد أو تأويل أو تقدير أو صادق على اجتهاد أو تأويل أو تقدير ثبت الخطأ فيه أو تلقى تعليمات كتابية أو إذنا صادرا عن رئيسه بخصوصه، ولا يمكن إثارة التتبع ضد الموظف أو شبه الموظف العمومي إلا إذا قضت محكمة المحاسبات بذلك.. في حين ينص الفصل 98 جديد الوارد في المبادرة التشريعية على أنه على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصل 96 جديد أن تحكم فضلا عن العقوبات المبينة بهذا الفصل برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجه أو أصهاره وسواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى. ولا يتحرر هؤلاء من هذا الحكم إلا إذا أثبتوا أن مأتى هذه الأموال أو المكاسب لم يكن من متحصل الجريمة، وللمحكمة في جميع الصور أن تسلك إحدى العقوبات التكميلية المقررة بالفصل الخامس من المجلة الجزائية على من ثبتت إدانته.
وإضافة إلى الفصلين 96 جديد و98 جديد تضمن مقترح القانون المتعلق بتنقيح المجلة الجزائية في فصله الثاني تنصيصا على إلغاء الفصل 97 من هذه المجلة وذلك بهدف تلافي ازدواجية تجريم وعقاب نفس الأفعال المنصوص عليها في الفصل 96 من المقترح أي أن الفصل المذكور استوعب مضمون الفصل 97 من المجلة.. أما الفصل الثالث فنص على أن تسري أحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية على جميع الشكايات والدعاوى المثارة أمام المحاكم.
في انتظار الحكومة..
وينتظر نواب الشعب من الحكومة إحالة مشروع قانون يتعلق بتنقيح المجلة الجزائية وخاصة الفصل 96 المثير للجدل وتعقيبا عن استفسارات العديد منهم قالت وزيرة العدل ليلى جفال خلال الجلسة العامة البرلمانية المنعقدة يوم 21 نوفمبر الماضي والمخصصة للنظر في مشروع ميزانية الوزارة لسنة 2024 إنه قد تم إعداد مشروع قانون لتنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية وتمت إحالته على رئاسة الحكومة والتداول بشأنه ونقاشه ولكن لا بد من تنظيم جلسات أخرى لدراسة التعديلات التي يجب إدخالها عليه، وأوضحت أن معالجة النص، مبدئيا، كانت على مستوى أركان الجريمة وإثارة التتبع والضمانات لأن ما تمت ملاحظته في تطبيق الفصل المذكور أن إثارة التتبع تكون بمجرد شكاية حتى وإن كانت هذه الشكاية مجهولة المصدر وعبرت الوزيرة عن أملها في إيجاد ضمانة لإثارة التتبع.
مشاريع أخرى
وإضافة إلى مقترحات تعديل المجلة الجزائية، يوجد على مكتب لجنة التشريع العام التي يرأسها النائب ياسر قراري عن كتلة الخط الوطني السيادي مشروع قانون أساسي عدد 51 لسنة 2023 يتعلّق بالموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى البروتوكول المعدّل لاتّفاقية المنظّمة العالميّة للتّجارة بشأن جوانب حقوق الملكية الفكرية المتّصلة بالتجارة، المعتمد بجنيف بتاريخ 6 ديسمبر 2005 ومقترح قانون أساسي عدد 13 لسنة 2023 يتعلّق بتنظيم مهنة المستشار الجبائي.
سعيدة بوهلال
تونس- الصباح
مقترح قانون ثان يهدف إلى مراجعة المجلة الجزائية تعهدت به لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب، وذلك بعد أن أحال عليها مكتب المجلس خلال شهر جويلية الماضي مبادرة تشريعية أولى لتنقيح الفصل 96 من هذه المجلة وهي من إعداد النواب عماد أولاد جبريل وظافر الصغيري وألفة مرواني وأيمن بن صالح وطارق الربعي وحمدي بن عبد العالي وفيصل الصغير وفخر الدين فضلون وياسين مامي ومعز الرياحي ومحمد علي فنيرة وعبد الجليل الهاني وسامي الرايس والفاضل بن تركية ونورة الشبراك.
وقررت اللجنة منذ تركزيها في بداية الدورة النيابية الأولى إدراج هذا الفصل ضمن أولوياتها التشريعية لكن الحكومة لم تقدم بعد أي مشروع قانون في الغرض لمجلس نواب الشعب.
وكان البرلمان المنحل قد تعهد بمشروع قانون أعدته حكومة إلياس الفخفاخ ومشروع آخر أحالته حكومة هشام مشيشي وبمبادرات تشريعية أعدها النواب، لكن جميع هذه المقترحات بقيت حبرا على ورق ولم تر النور رغم إدراك الأغلبية آنذاك ضرورة مراجعة الفصل 96 لأنه تسبب بشكل واضح في تعطيل عمل الإدارة وترهيب الموظفين العموميين وتكبيل أياديهم فمن يتم تكليفه بمهمة وزارية أو يرأس مؤسسة عمومية أو يتحمل مسؤولية التصرف بإدارة عمومية أو شبه عمومية ويمضي على قرارات ويوقع على صفقات يمكن أن يجد نفسه من حيث لا يدري محل تتبعات جزائية..
ويهدف مقترح القانون الجديد إلى تنقيح أحكام الفصلين 96 و98 من المجلة المذكورة وتم تقديمه من قبل 47 نائبا من مختلف الكتل البرلمانية وهو ما يعبر عن رغبة جميع الكتل في ضمان تحقيق الموازنة بين أهداف السياسة الجزائية في مكافحة الفساد الإداري والمالي من جهة وعدم عرقلة العمل الإداري وتحقيق نجاعته من جهة أخرى.
وللتذكير، تشمل المجلة الجزائية من الفصول 83 إلى 100 الجرائم المرتكبة من قبل الموظفين العموميين أو أشباههم والمتعلقة بالارتشاء والإرشاء واستغلال المؤسسات ومواردها لتحقيق مصالح خاصة والاختلاس والاستيلاء على الأموال العمومية..، ومقارنة بقوانين الدول الأخرى ينفرد التشريع الوطني بأحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية والتي بمقتضاها تم تجريم قيام الموظف العمومي أو شبهه المكلف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب باستغلال صفته أو مخالفة التراتيب الجاري بها العمل لتحقيق منفعة لنفسه أو للغير أو الإضرار بالإدارة..
ويرى النواب أصحاب مقترح القانون أن الفصل 69 من المجلة الجزائية يكتسي أهمية بالغة من الناحية الاقتصادية نظرا لأثره المباشر على المعاملات المالية والصفقات العمومية التي تبرمها الدولة والهياكل العمومية وفي مكافحة سوء استخدام السلطة أو الوظيفة للحصول على منفعة غير مشروعة أو للإضرار بالإدارة.
وفي إطار إعمال هذا الفصل تم بعد الثورة إثارة تتبعات جزائية ضد العديد من الموظفين العموميين على خلفية اتخاذهم قرارات تتنزل في إطار تسيير المرافق العمومية التي يشرفون عليها، وهو ما أدى لاحقا إلى امتناع الموظفين عن اتخاذ القرارات أو القيام بمبادرات خشية تعرضهم إلى تتبعات عدلية وأثر ذلك سلبيا على عمل الإدارة حتى أن بعض الفاعلين الاقتصاديين اعتبروا أن الفصل 96 يعتبر من بين أسباب الركود الاقتصادي.
فمن حيث الشكل، تضمن الفصل 96 من المجلة الجزائية عبارات فضفاضة وغير دقيقة من قبيل المنفعة فضلا عن تقديم تعداد لقائمة من المهن التي لا تخرج عن صفة الموظف العمومي أو شبهه وهو ما نتج عنه جدل قانوني أدى إلى اختلاف المحاكم حول مفهوم موحد لتلك العبارات وحال دون تحقيق الغاية المرجوة منه في مكافحة جرائم الفساد الإداري والمالي، ويثير الفصل العديد من الإشكاليات على مستوى الصياغة واستعمال عبارات قابلة للتأويل.
أما من حيث المضمون ففيه توسع في التجريم حيث أنه تضمن تجريم ستة أفعال تتم المؤاخذة الجزائية بخصوصها وهي جريمة استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس، وجريمة استغلال الصفة لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير، وجريمة استغلال الصفة للإضرار بالإدارة، وجريمة مخالفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للنفس، وجريمة مخالفة التراتيب لاستخلاص فائدة لا وجه لها للغير، وجريمة مخالفة التراتيب للإضرار بالإدارة.
مراجعة ثلاثة فصول
وتضمن مقترح القانون المتعلق بتنقيح المجلة الجزائية ثلاثة فصول يتعلق الأول بإلغاء أحكام الفصلين 96 و98 وتعويضها بفصلين جديدين فالنسبة إلى الفصل 96 فتتمثل مقترحات تعديله في التخلي عن القائمة التي عددت المهن التي لا تخرج عن صفة الموظف العمومي أو شبهه كما عرفه الفصل 82 من المجلة، واستبدال مصطلح الترتيب بمصطلح الأحكام التشريعية الجاري بها العمل للقطع مع الجدل القائم حول مجال انطباقه، وتضييق مجال التجريم من خلال اشتراط توفر سوء النية كركن قصدي خاص والذي على أساسه يتم التمييز بين الخطأ عند الاجتهاد في التصرف والفعل الإجرامي الذي ينطوي على انصراف نية الموظف العمومي أو شبهه إلى ارتكاب ذلك الفعل قصد تحقيق المنفعة أو إلحاق الضرر بالإدارة.
كما تقترح المبادرة التشريعية إضافة فقرة ثانية للفصل 96 توضح الحالات التي تخرج عن نطاق سوء النية في اتخاذ القرار من طرف الموظف العمومي أو شبهه وذلك عبر استبعاد الصور المتعلقة بالخطأ في الاجتهاد أو التأويل أو التقدير أو الموافقة على اجتهاد أو تأويل أو تقدير ثبت الخطأ فيه، وتم إقصاء الحالات المتعلقة بتلقي الموظف العمومي أو شبهه لتعليمات كتابية أو إذن صادر عن رئيسه انسجاما مع أحكام الفصل 42 من المجلة الجزائية الذي نص على أنه لا عقاب على من ارتكب فعلا بمقتضى نص قانوني أو إذن من السلطة التي لها النظر. ويندرج تعريف عبارة سوء النية في إطار رغبة أصحاب المبادرة التشريعية في التوفيق بين مصالح الإدارة من جهة ومن جهة أخرى في حماية الموظف العمومي أو شبه الموظف العمومي من التتبعات التي قد تطاله نتيجة ارتكابه أخطاء في التقدير لا توجب المؤاخذة الجزائية لعدم توفر النية الإجرامية لديه وكان هدفه تطوير أداء الإدارة وتحقيق المصلحة العامة.
ونص مقترح القانون المحال على أنظار لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب على إضافة فقرة للفصل 96 من المجلة الجزائية في اتجاه أن لا تتم التتبعات إلا إذا قضت محكمة المحاسبات بذلك على معنى القانون عدد 41 لسنة 2019 المؤرخ في 30 أفريل 2019 والمتعلق بمحكمة المحاسبات وهو ما يعني أن هذا الإجراء يرمي إلى تفادي التوسع في تطبيق النص المذكور ومباشرة الدعوى العمومية ضد الموظفين العموميين أو شبههم بناء على تشكيات غير جدية حيث تم التأكيد على ضرورة التأكد من وجود قرائن جدية وفي الملف على أساس الحكم الصادر عن محكمة المحاسبات بإدانة الموظف العمومي أو شبهه ونسبة الأفعال المجرمة بالفصل 96 من المجلة الجزائية.
كما أشار مقترح القانون إلى الإبقاء على عقوبة 10 سنوات وذلك بالنظر إلى التضييق الحاصل في أركان التجريم الأمر الذي يفرض عند توفر شروطه أن يكون العقاب ردعيا بالفعل مع إمكانية تطبيق ظروف التخفيف الواردة في الفصل 53 من المجلة الجزائية، وتبعا للعقوبة المذكرة تكتسي جريمة الفصل 96 صبغة جنائية تستوجب فتح بحث تحقيقي فيها وهو ما يوفر ضمانات أكبر للمتهم لأن هذه الجريمة تعتبر من الجرائم المعقدة والمتشعبة التي تتطلب التعمق في الأبحاث وإجراء اختبارات فنية دقيقة.. كما نصت المبادرة التشريعية على مراجعة الفصل 98 في اتجاه التنصيص فيه على إمكانية تسليط المحكمة لعقوبة تكميلية وحيدة من بين العقوبات المقررة بالفصل الخامس من المجلة الجزائية.
كما تضمنت المبادرة أحكاما انتقالية تقضي بسريان أحكام الفصل 96 جديد من المجلة الجزائية على الشكاوى والدعاوى المنشورة لدى المحاكم بداية من صدوره بالرائد الرسمي.
وللتذكير ينص الفصل 96 في صيغته الحالية على أن "يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما".
أما مقترح الفصل 96 جديد المقدم من قبل النواب فينص على أنه يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي ضعف المنفعة المتحصل عليها كل موظف أو شبه موظف عمومي على معنى الفصل 82 من المجلة الجزائية تعمد عن سوء نية بمناسبة ممارسته لوظيفه استغلال صفته أو مخالفة التشريع الجاري به العمل لتحقيق فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره. ولا يعتبر سيء النية كل من أخطأ في اجتهاد أو تأويل أو تقدير أو صادق على اجتهاد أو تأويل أو تقدير ثبت الخطأ فيه أو تلقى تعليمات كتابية أو إذنا صادرا عن رئيسه بخصوصه، ولا يمكن إثارة التتبع ضد الموظف أو شبه الموظف العمومي إلا إذا قضت محكمة المحاسبات بذلك.. في حين ينص الفصل 98 جديد الوارد في المبادرة التشريعية على أنه على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصل 96 جديد أن تحكم فضلا عن العقوبات المبينة بهذا الفصل برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجه أو أصهاره وسواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى. ولا يتحرر هؤلاء من هذا الحكم إلا إذا أثبتوا أن مأتى هذه الأموال أو المكاسب لم يكن من متحصل الجريمة، وللمحكمة في جميع الصور أن تسلك إحدى العقوبات التكميلية المقررة بالفصل الخامس من المجلة الجزائية على من ثبتت إدانته.
وإضافة إلى الفصلين 96 جديد و98 جديد تضمن مقترح القانون المتعلق بتنقيح المجلة الجزائية في فصله الثاني تنصيصا على إلغاء الفصل 97 من هذه المجلة وذلك بهدف تلافي ازدواجية تجريم وعقاب نفس الأفعال المنصوص عليها في الفصل 96 من المقترح أي أن الفصل المذكور استوعب مضمون الفصل 97 من المجلة.. أما الفصل الثالث فنص على أن تسري أحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية على جميع الشكايات والدعاوى المثارة أمام المحاكم.
في انتظار الحكومة..
وينتظر نواب الشعب من الحكومة إحالة مشروع قانون يتعلق بتنقيح المجلة الجزائية وخاصة الفصل 96 المثير للجدل وتعقيبا عن استفسارات العديد منهم قالت وزيرة العدل ليلى جفال خلال الجلسة العامة البرلمانية المنعقدة يوم 21 نوفمبر الماضي والمخصصة للنظر في مشروع ميزانية الوزارة لسنة 2024 إنه قد تم إعداد مشروع قانون لتنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية وتمت إحالته على رئاسة الحكومة والتداول بشأنه ونقاشه ولكن لا بد من تنظيم جلسات أخرى لدراسة التعديلات التي يجب إدخالها عليه، وأوضحت أن معالجة النص، مبدئيا، كانت على مستوى أركان الجريمة وإثارة التتبع والضمانات لأن ما تمت ملاحظته في تطبيق الفصل المذكور أن إثارة التتبع تكون بمجرد شكاية حتى وإن كانت هذه الشكاية مجهولة المصدر وعبرت الوزيرة عن أملها في إيجاد ضمانة لإثارة التتبع.
مشاريع أخرى
وإضافة إلى مقترحات تعديل المجلة الجزائية، يوجد على مكتب لجنة التشريع العام التي يرأسها النائب ياسر قراري عن كتلة الخط الوطني السيادي مشروع قانون أساسي عدد 51 لسنة 2023 يتعلّق بالموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى البروتوكول المعدّل لاتّفاقية المنظّمة العالميّة للتّجارة بشأن جوانب حقوق الملكية الفكرية المتّصلة بالتجارة، المعتمد بجنيف بتاريخ 6 ديسمبر 2005 ومقترح قانون أساسي عدد 13 لسنة 2023 يتعلّق بتنظيم مهنة المستشار الجبائي.