من غزة والى غزة نواصل في هذا الجزء الثاني من حصاد 2023 التطلع الى ما بعد الحرب وما يمكن أن تحمله في طياتها من آفاق للشعب الفلسطيني أولا وللمقاومة الفلسطينية ثانيا ولبقية الفصائل الفلسطينية والنخب السياسية التي يفترض أن تكون الأولى بالتفكير في البدائل والمبادرات المحتملة والقابلة للتطبيق عندما تضع الحرب أوزارها ويستعيد المجتمع الدولي وعيه المفقود وينتبه لخطورة هذا الموقف الخانع والمتواطئ مع الاحتلال في أبشع مظاهره ..
مع دخول أولى ساعات العام الجديد تدخل حرب الإبادة الجماعية في غزة شهرها الرابع على التوالي، وقد استفاقت غزة في أول أيام العام الجديد 2024 على وقع مزيد من المجازر ومزيد من القصف ومزيد من الأشلاء المتناثرة ومزيد من المخاوف من انتشار الأوبئة والمجاعة في ظل إصرار آلة القتل الإسرائيلية على مواصلة محرقة العصر.. وأمام لا مبالاة المجتمع الدولي وفي ظل الدعم الأمريكي اللامحدود لاشيء يردع الاحتلال الذي يبحث بكل الطرق المتاحة عن تسجيل انتصار عسكري يدرك جيدا انه لن يتحقق وذلك في محاولة لإزالة وقع صدمة السابع من أكتوبر على اثر عملية طوفان الأقصى التي أصابته في مقتل ودفعته الى الانخراط في عملية انتقامية وإبادة جماعية مفتوحة.. الى أين تسير غزة مطلع هذا العام والى أين تسير بوصلة المجتمع الدولي أيضا وهل من مجال للتفاؤل بإيقاف الحرب قريبا ورفع المظلمة التي طال أمدها على الشعب الفلسطيني؟ وهذا ما سنحاول التطرق إليه في هذا الجزء الثاني من حصاد العام 2023 وآفاق العام 2024 باعتبار أنه لكل نفق مظلم نهاية وأن الأمل في مستقبل أفضل يظل قائما ويظل حلما مشروعا طالما بقي هناك مدافعون عن الحق رغم كل الشدائد والمحن.. غزة اليوم تخاطب العالم ونحن ننقل في هذه الحصيلة آراء خبراء وصحفيين من غزة وخارجها لقراءة المشهد الراهن وتداعياته المستقبلية عبر رسالة غزة بقلم الصحفية من غزة هداية شمعون وأستاذ الإعلام هاني مبارك وغيرهما ..
أغلب التقارير عن غزة تتحدث عن عدوان غير مسبوق في التاريخ الحديث.. فقد أسقطت الطائرات العسكرية الإسرائيلية نحو29 ألف قنبلة، دمرت من خلالها ما يقارب 70% من المنازل بالقطاع.. يدرك القاصي والداني أنه لولا الدعم الأمريكي ولولا ما يحظى به الاحتلال من تمويلات عسكرية عابرة للحدود لما أمكن لكيان الاحتلال أن يصنع كل هذا الدمار والموت والخراب.. وهو ما يعني صراحة أن الجميع ممن يساهمون في تعزيز القدرات العسكرية للاحتلال والتغطية على جرائمه شركاء له في المجزرة ويتحمل المسؤولية ذاتها عن كل قطرة دم تراق في غزة ..
لم يستثن الاحتلال شيئا في غزة لم يستهدفه بما في ذلك البنية التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات ومدارس الأونروا والمستشفيات والكنائس والمساجد.
..يرجح الخبراء عبر تحليل الصور عبر الأقمار الصناعية أن ثمانين بالمائة من غزة دمر.
وبالاعتماد على تقرير البنك الدولي فإن الحرب بحلول 12 ديسمبر الجاري، قد دمرت 77 % من المرافق الصحية، و72% من الخدمات البلدية مثل الحدائق والمحاكم والمكتبات، و68% من بنية الاتصالات، و76% من المواقع التجارية، بما في ذلك تدمير شبه كامل للمنطقة الصناعية في الشمال...
وبالاعتماد على تقارير للأمم المتحدة، تضرر ما يقارب 342 مدرسة، بما في ذلك 70 من مدارسها الخاصة، وأكثر من نصف الطرق.. روبرت بيب، الباحث في جامعة شيكاغو يعتبر أن مصطلح غزة سيظل في التاريخ بجانب دريسدنك اكثر المدن التي تعرضت للقصف ..
يذهب البعض الى أن غزة لم تعد مدينة يمكن الحياة فيها وتعتبر منظمات دولية أن غزة أخطر مكان على الأطفال في العالم وهي أيضا أخطر مكان على الصحفيين ..
بدأت بعض مراكز الدراسات والمنظمات وبينها منظمة «ذا شيلتر كلستر»، تتحدث عما بعد الحرب وعما تحتاجه عملية إعادة الإعمار والبناء لإزالة الركام والألغام التي قد تستغرق بين سبع وعشر سنوات، إذا توفرت التمويلات. بعض التقارير تتحدث عن مليار دولار لتهيئة الأرضية قبل إعادة الإعمار.. والأكيد أن الأهم من كل عملية أعمار وإعادة بناء توفر الضمانات بعدم عودة الاحتلال لحرق الأخضر واليابس وهذه مسألة تحتاج دورا فاعلا من المجتمع الدولي لإنهاء الاحتلال رسميا وهو ما لا يمكن أن يحدث بالعودة الى عقد مؤتمر للسلام على طريقة ما سبق في أوسلو ومدريد ولكن عبر اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية العضو وليس المراقب في الأمم المتحدة بحدودها الجغرافية وعاصمتها المعترف بها وبسحب البساط من تحت أقدام كيان الاحتلال ومنعه من تدمير ما يقوم المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى بتمويله من مشاريع على أرض فلسطين المحتلة.. قد تكون غزة مقبلة على الأسوأ وقد تواجه ما لم تواجهه حتى الآن من همجية الاحتلال.. ولكن قدر غزة وقدر فلسطين وأهلها الثبات والصمود والتمسك بالحلم مهما بدا بعيدا ...
آسيا العتروس
امرأة خالدة.. تشاهد إعدام أبنائها أمام عينيها ثم تتبع خطاهم...!!
بقلم: هداية شمعون(*)
أذكر صوتها الهادئ الثابت وشبح الابتسامة الدائم المرسوم على شفتيها، كنت تشعر حينا أنها الأخت الكبيرة التي ترعاك، وأحيانا تشعر أنها الأم التي تحتضنك، وأحيانا أخرى تشعر أنها عشرات الأمهات في امرأة واحدة، تفيض حبا وحنانا لكل من يلتقيها، لا تملك إلا أن تحب رؤيتها بوجهها البشوش، تهون عليك مهما ثقلت أحمالك بكلمات بسيطة، وحركات تلوح بها بيديها بخفة مشيرة للسماء قائلة:
"هنالك رب كريم يرعاك ولا يتركك...!"
تستغرب كيف بحديث متبادل لا يتعدى الدقائق كيف تبتسم في أشد الأوقات العصيبة، هي امرأة ثابتة كأنما أتت من زمن أكثر صلابة وقوة، كأنما رأت الماضي والحاضر لذا تشعر معها بالثبات، وكأنها لا تخاف شيئا قادما فكل شيء مسير بإذن الله.. هكذا أذكرها جيدا كأنما أراها أمامي الآن.. لكنها لم تعد كذلك...!
لم تكن شابة حين أعدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام أبنائها ومعهم...!! لم تكن شابة فقد أمضت سنوات عمرها في رعاية والديها "أبيها وأمها كانوا كبار في السن" يعيشون وحدهم في مخيم الشاطئ، بينما كانت أسرتها "زوجها وأبنائها وبناتها" في مخيم الشيخ رضوان، كانت تفيق على صلاة الفجر تصلي الفجر ثم تتجه إلى بيت والديها المسنين في مخيم الشاطئ تظل ساعات النهار ما بين ترتيب البيت، واستقبال الجيران، وإعداد الطعام، ورعاية والديها والاهتمام بصحتهما، لم تتذمر يوما استمرت على هذا المنوال لسنوات طويلة تظل من الفجر حتى قبل منتصف الليل لتعود لأسرتها في الشيخ رضوان، رحلة البر بالوالدين لم تتعب السيدة نوال "أم رائد الخالدي" أبدا ولم يتذمر زوجها أو أبناؤها، فهي ابنة بارة قضت سنوات عمرها مع والديها حتى رحلا إلى السماء، حينها فقط بدأت تشعر بآلام الظهر والجسد تلك التي لم تكن لتهتم بصحتها لأن هنالك من هم أكثر أهمية بالنسبة لها..
اصطفاها الله لتكون امرأة مبتسمة حين كنت أزورهم إذ كنت أقطن في رفح، وأتجه يوميا إلى غزة بفعل الدراسة أو العمل، كانت أول من يستقبلني ضاحكة قائلة:
-"وين يا هداية وين ما بنشوفك؟! ليش بغزة كل يوم وما بتميلي تتغذي عنا، وتزورينا، بنحب نشوفك دايما.؟!"
كانت مضيافة ومحبوبة تشعر أنها تحتضنك دون أن تقترب منك، تضحك ساخرة في محاولات متعددة لتشركك بالحديث، تمد يدها وتشد على ذراعي كلما فكرت بالنهوض للمغادرة لأجلس ساعة أخرى، ثم أخرى.!
كانت امرأة ممتلئة بالحب والحنان والامتنان، تشعر بوجهها الناصع البياض بأنها تعرف كل شيء؟! ومهما قلت أو شرحت عما يدور حولك تقول:
-"لا بيت كالوطن..! مهما تغربوا وبعدوا عن الوطن إلا ما ييجي يوم وترجعوا هو في بعد البيت وبعد المخيم؟!"
لم أكن أدرك كثيرا ما ترمي إليه ولا أعرف إن كانت تدرك ما تقوله كأنما تعرف المصير المرسوم لها ولعائلتها...! كانت نسيبتنا لكني لم أشعر إلا بها كأم حانية، وأخت كبيرة أحب حديثها، ونحن نجلس في صحن بيت مخيم الشاطئ تقوم بكل خفة لتجالسنا، وتصنع القهوة لديوان أبيها الحج أبو شوقي الخالدي، كان البيت ممتلئا بالحب والود صباحا ممتلئ بالزوار، وظهرا ومساءا قل ما تجد البيت فارغا، كان كالبيت الفلسطيني الوطن الذي يضم كل الأحباب والجيران وحتى المارة، كان بيتا عامرا بقلوب أصحابه الراحلين وآخرهم السيدة نوال التي تركت بصمتها في قلبي، وصوتها لازال يدق في روحي، كأنها ماثلة أمامي بابتسامتها وضحكتها العاتبة على قلة زياراتي..!
مع بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة تقطعت أواصر كل العائلات، ورغم عشرات الآلاف من القتلى والدمار في غزة، وإكراه الناس على النزوح من مدنهم ومخيماتهم وقد أتيحت لها الفرصة للمغادرة والنزوح للجنوب إلا أنها قالت قولا واحدا:
-" لن أترك بيتي؟ لن أترك بيتي؟ ما سنراه هنا سنراه في كل مكان بغزة، لن أغادر بيتي؟!" وكانت محقة فكل قطاع غزة تحت النار...!
وكان لها ما أرادت ورغم أن البيت قد تعرض للقصف من قذائف الدبابات الإسرائيلية إلا أنها عادت وسكنته بعد أن نجاهم الله من الموت المحقق، وأصلحوا جزءا من البيت في الدور الأول وظلت فيه مع عائلتها...! لم يكن البيت صالحا وباتت الأوضاع قاسية ومنهكة لم يتوقف القصف من الطائرات ومن الدبابات لحي الشيخ رضوان ما اضطرها وعائلتها للجوء لبيت أبناء عموم في الجوار...!
لثلاثة أيام.. مصابا ووحيدا بين عائلة الشهداء...!!
وفي اليوم السادس والسبعين من حرب الإبادة الجماعية أحاطت الدبابات الإسرائيلية بمنطقة الشيخ رضوان وأحكمت الخناق على الأهالي في بيوتهم أحاطت بالمنطقة من كل الاتجاهات وظلت تضرب القذائف الإسرائيلية المتفجرة، في تمام الساعة الثانية فجرا تم قصف البيت المجاور للبيت الذي تقطنه السيدة نوال مع عائلتها وعائلات أخرى، هرع الرجال لإنقاذ من أمكنهم إنقاذه وإجلاء الشهداء ودفنهم، لم يمض اليوم ومع آذان المغرب والجميع في بيوتهم بينما لم يتوقف صوت القذائف الإسرائيلية والانفجارات بكل مكان، حتى وصل إلى مسامع الجميع صوت تحركات لقوات الجنود الإسرائيليين وهم يجولون بالجوار، ويتكلمون باللغة العبرية ويمشطون المكان، ومع تدمر بعض أجزاء من البيت الذي يأوون إليه فقد رأوا الرجال الفلسطينيين "أصحاب البيوت: من خلال الكشافات التي يضعونها على رؤوسهم، فباغتوا الجميع فورا بإطلاق الرصاص عليهم جميعا ليصيبوا كل من كان بالمكان، ومع إطلاق صوت الرصاصات في أجساد الرجال العزل، صرخت النساء والفتيات والأطفال في الغرفة المقابلة لمكان إعدام الرجال، ورغم رؤيتهم أنهن نساء وأطفال عاجلوهم بإطلاق الرصاص الحي بشكل متعمد وبإعدام بدم بارد لتصاب السيدة نوال وتسقط أرضا هي وامرأة أخرى، ويتواصل إطلاق الرصاصات الغادرة في الأجساد الحية لا تفرق بين رجل وامرأة ولا بين كبير أو صغير..!
تسقط في هذه الدقائق بإعدام متعمد السيدة نوال وزوجها وأولادها رائد وأمجد وآخرون من الأقارب والجيران، رأتهم بعينيها بينما الدماء تسيل من جسدها، تحاول أن تزحف لأبنائها ولزوجها إلا أن الإصابات قد نالت منها، رآها مؤمن حفيدها ورأى جده وأعمامه يقتلون بدم بارد أمامه، ولولا وصية أحد أعمامه قبل استشهاده بدقائق لما ظل على قيد الحياة/النجاة، إذ وضع مؤمن رأسه وجسده بحماية ظهر عمه المصاب واستند للحائط خلفه، ولم ترحمه الرصاصات التي انطلقت بكل مكان ليصاب في ساقه بينما حمى جسد عمه الشهيد باقي أجزاء جسده من باقي الرصاصات..!! ظل مؤمن ذي التسعة عشرة عاما محميا بأجساد عائلته التي قتلوها أمام ناظريه ظل على قيد الحياة لمدة ثلاثة أيام لا يتمكن من الحركة بسبب القذائف والقصف المتواصل، وتواجد الجنود الإسرائيليين، وحاول أن يجمع أجساد جده وجدته وأبيه وأعمامه ليضعهم بجوار بعضهم ويجلس بينهم ليلا نهارا حتى انسحبت القوات الإسرائيلية، ثلاثة أيام مصاب وحيدا بين عائلة الشهداء...!! يشم رائحة الدماء وقد امتزج الألم بالحزن والفاجعة والمشهد يتكرر أمامه حيث بقي حيا بين جثامين الشهداء...! وبعد مرور الأيام الثلاثة القاسية، وانسحاب القوات الإسرائيلية وتراجعها عن المنطقة، جاء الإسعاف للمكان لينقذوا حياته ويحملوا جثامين شهداء عائلة الخالدي التي تم إعدامها وقتلها دون أي مبرر سوى الإجرام الإسرائيلي الذي لا يعبأ بحياة النساء والأطفال والرجال العزل...!!
قتلت "الأم والجدة نوال" بدم بارد رغم أن جنود الاحتلال الإسرائيلي رأوها امرأة تتجاوز الستين عاما، تقف بعيدا عنهم في البيت الذي يأويهم، رأتهم بأم عينيها يقتلون ابنها الكبير رائد الذي كان الهدية الأولى من الرحمن رأته يسقط مجدلا بدمائه أمامها بعد أن ربته لسنوات طويلة، ربته حتى كبر وتعلم ودرس وعمل في وزارة الصحة، رأت أولاده وربتهم، سقطت الهدية الربانية الأخرى التي رزقها الله أمام أعينها وأصابت الرصاصات الغادرة جسد ابنها امجد ليستشهد وتشم رائحة دمه الطازج قبل أن تفارق الحياة، شهقت "الأم" شهقت "السيدة نوال" ولم تنطق حين سقط الابن الثاني أمام ناظريها، صرخت النساء خلفها هلعا جزعا رعبا ليلتفت جنود الاحتلال إلى الغرفة التي بها النساء حيث تقف السيدة نوال شامخة ودموعها قد تحجرت في عينها.. أبناؤها سنوات عمرها.. وريعان شبابها يقتلون أمامها في ثوان معدودة، لتعاجلها رصاصات الإعدام وتسقطها أرضا في ذات اللحظة التي أسقطت رصاصات الغدر زوجها "أبورائد"، كانت عيناها مفتوحتين كأنما تريد أن تقول شيئا كأنما عينيها قد تحجر فيهما الدمع فأبى أن ينهمر قهرا ووجعا، فأي قلب لأم أن يحتمل موتا باردا في ثوان معدودة تعدم أسرتها أمام عينيها، ثم تسقط أرضا مضرجة بدمائها بينما عينيها تتطلعان إلى أجساد أبنائها وعائلتها وسط بركة تتسع من الدماء...!!
أما الحفيد مؤمن "ابن ابنها البكر رائد" فقد أصيب وظل ثلاثة أيام بين أجساد جده وجدته نوال وأعمامه وأبيه "مؤمن" ظل على قيد الحياة ليكون شاهدا على جرائم الاحتلال الإسرائيلي...! مجزرة عائلة الخالدي في الشيخ رضوان يوم الجمعة بتاريخ 22 ديسمبر للعام الأسود 2023 في الأيام الأخيرة من العام أخذت معها أرواح كل من السيدة الجميلة وزوجها وعائلتها ...!!
هي صرخة شقت عنان السماء من أين آتي بقلب لأحتمل إعدام عائلتي أمام عيني.. لسان حال السيدة المبتسمة الثابتة ...!! لكنها صرخة ظلت مكتومة في قلبها الذي رحل بعد أن سرق الاحتلال ابتسامتها وعائلتها ...!
السيدة نوال، الأم، والجدة، نوال الجميلة، بيضاء اللون ذات الصوت الهادئ الثابت كانت مع آخر أنفاسها الصارخة تهتف بالشهادتين بعد أن شاهدت اللحظات الأخيرة لأبنائها أمام عينيها.. في حي الشيخ رضوان الذي لم يغادراه رغم جرائم الحرب التي حصلت فيه، لتكون وعائلتها إحدى جرائم الحرب التي تسجلها عائلة الخالدي في حي الشيخ رضوان...!
الشهداء الأقمار الذين تم إعدامهم في ذات الجريمة هم:
الجدة والأم: نوال توفيق محمد الخالدي
الجد والأب: عبد ربه عبيد الخالدي
الابن الأكبر: رائد عبد ربه عبيد الخالدي
الابن الأصغر: أمجد عبد ربه عبيد الخالدي
ابن العم: حامد محمد عبيد الخالدي
شاهد العيان الذي نجا من الجريمة الإسرائيلية هو مؤمن رائد الخالدي (الحفيد).
(*) إعلامية وكاتبة فلسطينية من قطاع غزة
إيران والحرب على غزة .. الدولة بين واقعها وخيال حكامها
اعتبار الدولة كظاهرة اجتماعية أوجدتها متاعب البحث عن وهم الانتصار النهائي، لا ينفي مطلقا أنها ظاهرة طبيعية في ميكانزمات بقائها وآليات تطوير هذا البقاء، وأن حجم أخطاء وفشل السلطة يكون دائما في مساحة الالتباس التي يخلقها عقلها -اي السلطة- في فهم وابتكار وسائل التعايش المر بين كونها اجتماعية في مبررات استمرارها لتمتين ركائز السلم الأهلي وبين كونها طبيعية تسير وفق نمط تطور مطرد ومتواصل يمليه عليها دورها الاجتماعي الذي يعمل بصورة طبيعية رغم كل محاولات عقلنته.
ومحاولات العقلنة هذه أو ما يسمي في علمي الاجتماع والسياسة، بصياغة سياسة الدولة وتحديد اختياراتها وتحالفاتها على المستويين الداخلي والخارجي هي المكون الحاسم الذي سيحدد مصير سلطة أي دولة من ناحية ومآلات استمرار حركتها في مداريها الإقليمي والدولي من ناحية ثانية، وهنا يتم التوقف طويلا أمام مكونات عقل السلطة في الدولة في بعديه البيروقراطي الملموس والسببية العميقة في فهم تمظهراته لتحديد طبيعته وتفحص وسائل ضبطه وإجراءات تعديل طرق عمله وفهم حجم القيود المفروضة عليه لتقييد الخيالي فيه أو الإيديولوجي أو العقيدي لمحاولة استشراف ما يسمى باستراتيجيات الدولة المستقبلية التي تختزل مختلف المتغيرات أو هكذا يجب أن تكون.
وحتى لا نسترسل كثيرا في النبش بعقل سلطة الدولة، سنكتفي بالقول إنه يجب الاعتراف المباشر بالدور الحاسم لموقع إيديولوجيا أي مجموعة سياسية حاكمة في صناعة قرارها وتقرير نوعية سياسات دولها حتى وإن كانت على النقيض من احتياجات الدولة الطبيعية الحقيقية والواقعية.
نثير هذه الإشارة الثقيلة في سياق اضطراري يطرحه النقاش المحتدم حول حدود الدور المرتقب لإيران أو لأذرعها الإقليمية المؤثرة وخاصة حزب الله في الحرب الإجرامية التي تقودها مباشرة الولايات المتحدة بسلاحها وعدتها واستخباراتها المتنوعة عن طريق وبواسطة الجيش الإسرائيلي لحسابات إستراتيجية تتجاوز حدود المكان الإقليمي كما تتجاوز حدود الزمن الراهن لما هو مستقبلي بعيد.
فعلى ما يبدو أن مختلف التنظيرات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفييتي وبشرت بانهيار فروض نظرية ماكندر كانت تنظيرات متسرعة أو أن استنتاجاتها جاءت تحت وهج انتصار الخيار الليبرالي المزعوم، التي لم تأخذ بنظر الاعتبار متغيرات فروض نظريات الجغرافيا السياسية التي تقوم بشكل أساسي على أكثر المفاهيم تغيرا في حياة الدول وهو مفهوم قوة الدولة.
والحقيقة أن الاستراتيجيين الأمريكيين هم الذين كانوا أبكر وعيا بوهن هذه الاستنتاجات المتسرعة اثر التعافي الكبير والسريع الذي طرأ على قوة الدولة الروسية عقب إستراتيجية انتشال الدولة التي وضعها الكرملين وتنامي قوة الصين.
وعلى ما يبدو أن هذا الوعي صار أكثر عمقا في أعقاب عملية السابع من أكتوبر الماضي، حيث تجسد ذلك برد الفعل الأمريكي الخاطف على تلك العملية رغم الانشغال العميق بمجريات الحرب في أوكرانيا التي افتعلتها أمريكا لسببين أولهما وقف الاندفاع الألماني والأوروبي بصورة عامة للتوسع بعلاقاتها الأفقية مع روسيا وثانيهما إعادة تطويق تنامي القوة الروسية وإغراقها بحرب استنزاف طويلة الأمد للتفرغ نهائيا لاحتواء تصاعد النفوذ الصيني.
ولا يخفى على دارسي العلاقات الدولية أن مرد هذا التفاعل الأمريكي العاجل هي الطبيعة اليمينية لإتباع الراتزلية في الإدارة الأمريكية التي صارت أكثر وضوحا مع إدارتي ترامب وبايدن من ناحية ولعودة الاعتبار لفروض ماكندر بعد كسر احتكار تملك التكنولوجيا الحديثة من قبل دول بعينها وانتشار السلاح النووي الذي حوله الى سلاح ردعي فقط غير قابل للاستعمال وعودة اهمية العوامل الجغرافية من ناحية ثانية.
وتأسيسا على ذلك فانه لم يعد أمام الإدارة الأمريكية سوى خيارين فقط، إما القبول الطوعي بإعادة تقاسم العالم الى مناطق نفوذ جديدة تعترف من خلالها، لغيرها من الدول الصاعدة بدور أكثر تقريرا في قيادة النظام الدولي، أو الاستمرار في محاولة الانفراد بقيادته، ولكن الى أي مدى؟؟
الحقيقة من الصعب جدا الجزم بترجيح احتمال على آخر، ولكن ذلك لا ينفي أن النهج الأمريكي القائم حاليا يظهر بوضوح شديد عزم واشنطن على رفض قبول أي شريك لها بإدارة الشأن الدولي، وتستخدم في سبيل ذلك تكتيكين متلازمين احدهما يقوم على تفويض مفتوح لإسرائيل في حربها الراهنة لتحقيق انتصار ساحق، لا يمكنها من تفكيك القوة العسكرية للتنظيمات المسلحة الفلسطينية وحسب، بل وتنصيب نفسها ''سيدا'' مطلق اليدين في المنطقة بعد إعادة تنشيط واستكمال عمليات التطبيع بما يضمن لواشنطن كافة مصالحها الإستراتيجية خاصة في بعدها الأوروبي، أما الثاني فيقوم على الردع لمنع أي طرف إقليمي من التفكير بصناعة فرصة له من خلال مجريات هذه الحرب.
وفي هذا السياق فالجهد الأمريكي يتركز بصورة كلية على الدور الإيراني بكل اذرعه، وخاصة ذراعها في لبنان.
صحيح أننا لا نمتلك المعلومات الكافية للتأكد من أن فصائل المقاومة الفلسطينية إن بشكل مباشر أو ضمني تدير المعركة مع طهران ومن هم وراء طهران وفقا لتكتيك صارم يقوم على الاستثمار المجدي والفعال في استخدام عناصر القوة لاحتمالات أطول زمن يمكن أن تمتد إليه هذه الحرب، ولكن من الواضح أن هناك نوعا من استخدام الساحات الأكثر أضرارا بالجبهة المعادية والأقل خسائر في صفوفها مثل الجبهتين اليمنية والعراقية وانه يجري استخدام موارد الجبهة الشمالية بسقف محدود، ولكن من غير المؤكد إن كان ذلك قابلا للتطوير أم لا.
الحقيقة أن ذلك يتوقف على فهم سلطة الدولة في إيران لدور الدولة الإقليمي، وفيما إذا كانت تتعامل مع هذه الدولة وفقا لواقعها الذي خلقته قياداتها السياسية المتعاقبة منذ عام 1979، كدولة إقليمية تختلف التحليلات في تفسير دوافعها بين ما هوديني - طائفي وقومي فارسي وجيوبوليتكي أملته عليها حدود قوتها التي بنتها سلطتها.
لا شك أن التحليلات على هذا الصعيد كثيرة ومتعددة ولكل منها حججها وبراهينها، ولكن يبقى القول النهائي والحكم القاطع على صحة هذا التفسير أو ذلك رهينا لنتيجة الصمود الفلسطيني، ففي حالة الانهيار لا قدر الله دون تدخل من إيران واذرعها في الحرب، فالمؤكد عندها ان عقل السلطة لم يتسق وواقع الدولة بل ذهب وفق خيال حكامها وإرهاصات عقائدها وان النتيجة ستكون طي الخيام والرحيل وانتهاء حقبة محور الممانعة والمقاومة، إما بفعل أمريكي-إسرائيل مباشر، أو بفعل تآكل المصداقية وكذب الشعارات، وأن كان واقع العمليات العسكرية في غزة قد يعفي هذه الشعارات هذا الامتحان الصعب، إذ أن الصمود الفلسطيني وتآكل قوة الجيش الإسرائيلي يشيران لترجيح كفة الصمود والانتصار على الجيش الإسرائيلي الذي باتت مظاهر الإنهاك عليه أكثر وضوحا وقوة.
*هاني مبارك / أستاذ الإعلام في جامعة منوبة
ساعة النصر اقتربت.. لغة الفوز هي عنوان عام 2024
بقلم: أحكام الدجاني
لغة الفوز هي عنوان نهاية عام 2023 لكل فلسطيني وعربي، لكل "غزاوي" تحت القصف، لكل معاناة في كل خيمة.. لكل فيديو يتم بثه من قلب المعركة، لكل صوت او كلمة من الانفاق او من شوارع غزة.. من شباب يقاتلون منذ 86 يوما تزامنا مع نهاية العام.. ومن شعب جاع ونزح وبرد وتشرد وتألم وتجرع الفقد وان كانوا احياء عند ربهم يرزقون.. شهداء الحرب.. شهداء الكرامة. لغة التحرير هي اللغة الجديدة التي تحكيها الشعوب امام كل هذه الانتصارات، وتكبيرات النصر كانت في مسيرة – اخر جمعة لسنة 2023 – المنطلقة من الأردن لدعم غزة والمطالبة بوقف الحرب. لغة القوة تقولها الشعوب التي تدعم وتناضل سواء عربية ام غربية وبالآلاف لقضية ثبت وتصدر خب رها على مدار الساعة وأصبحت الحدث الأهم على مدار الـ 86 يوما.. لقضية عاشت وتعيش تحت الاحتلال ومجازره منذ 75 عاما. لغة الأمل في النصر والتحرير القريب لم يعد بعيدا مع بداية 2024 لكل شخص آمن ويؤمن بأن الاحتلال زائل والظلم زائل ولا بد من طريق مليء بالشهداء والأسرى والجرحى والدموع.. لتكون طريق مزروعة بشقائق النعمان ورائحة الدماء الطاهرة التي دافعت عن كل شبر في فلسطين من بحرها الى نهرها ومقدساتها وشعبها. لغة الصبر كانت حليفة لكل فلسطيني عاش الحرب بكل ما حملت ليدفع ضريبة حبه لغزة وحبه لفلسطين.. لغة لا يعرفها إلا من عاش الحرب الأخيرة .. لغة لا يعرفها إلا من عاش تحت القصف ليلا ونهارا.. لغة لا يعرفها إلا من فقد كل أبنائه.. لغة لا يعرفها إلا من حمل ابنه "أشلاء" في كيس بيده وربما يفتش عن يد هناك تحت الردم. وأخيرا لغة المقاومة.. تلك العربية الفصحى المتقنة برسائلها ومضامينها وتوقيتها واختصارها.. فتلك اللغة كانت سلاحا فتاكا مضافا لسلاح المعركة. ولن ننسى أن فلسطين وحدت كل لغات العالم بذات الكلمات وبنفس الهتافات والشعارات والإيمان العميق ليقول أحرار العالم: أوقفوا الحرب، أوقفوا الإبادة الجماعية، الحرية لفلسطين. فنستقبل 2024 في صلاة جماعية في القدس تجمع أهل غزة بالضفة.. مستقبلين كل الأحرار الصادقين الذين لم يتخلوا عنهم في حربهم الأخيرة.
*صحفية أردنية