في بلادنا منذ النهوض بمسؤولية البناء يتصارع نقيضان صراعا مريرا كان السبب الأصلي في تأخرنا وانهيارنا
بقلم: فتح الدّين البودالي(*)
عبد الرحمان ابن خلدون أكّد في كتابه "المقدمة" علـــى: * أهمية العــدل أســاســا للعمــران البشــري*اجتناب الظلم المؤدي إلى انهيار الدولة. * أن السلطان لا يتم عزه إلا بتطبيق الشريعة* ولا عز للسلطان إلا بالرجال المصلحين وهي الحكمة التي رعاها الإسلام الحنيف والمعبَّرِ عنها بمقاصده العامة المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
لكن منذ بداية الاستقلال المغشوش كان النظام غير عادل، همه دوام الحكم والتعلق بكرسي السلطة والتوظيف السياسوي تحت غطاء الدولة العميقة "فرنسا" التي هدفها التحكم في سياسة الحكومات وسلطة القرار مع تهرئة الهوية الإسلامية والتأثير على المجتمع بكل مكوناته بأساليب كيدية ذكية، اتساقا مع وصية قديمة لملك فرنسا لويس التاسع (1250-1270م) فيها: إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين بالحرب وإنما بواسطة سياسة المراحل باتباع ما يلي : -1-اشاعة الفرقة بين قادة المسلمين -2 -تشجيع حكم غير صالح بالرشوة والفساد والنساء -3-ألّا تقوم جيوش مؤمنة بالوطن -4-ألاّ تقوم وحدة عربية وإسلامية -5-غرس دولة غريبة في المنطقة العربية (اغتصاب فلسطين فيما بعد).
ولم ينقطع المكر على مدى الأحقاب والعصور من أجل السيطرة على مقدّرات الأمة الإسلامية وتدمير مقوماتها؛ ولا أدل على ذلك في الزمن الحاضر من الدور التدميري الذي تبوّأه المؤرخ المستشرق البريطاني الأمريكي ذائع الصيت: برنارد لويس (1916-2018م)، من أبرز كتبه: العرب في التاريخ، الإسلام في أزمة، الإسلام والعلمانية، الخطاب السياسي للإسلام... فقد كان من أساطين الصهيونية ومن صنّاع سياسات للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة وبريطانيا ذات العداء الحاد للإسلام والمسلمين. من أشهر مقولاته فيما يخص السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: "كن قاسيا أو اخرج" والتي عرفت باسم مبدأ لويس في "القسوة أو الخروج".
كما أنه واضع مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط المعروف حول خرائط تفكيك الوحدة الدستورية للدول العربية وعدد من الدول الإسلامية الأخرى في المنطقة وتحويلها إلى شرذمة ضعيفة من الدويلات والكانتونات على أسس عرقية ومذهبية متنافسة ومتصارعة بما يجعلها خاضعة للكيان الصهيوني والقوى العظمى المرتبطة به وهو ما يجري تنفيذه منذ حرب الخليج الأولى ولا يزال. ويعرّف برنارد لويس بتصريحه الشهير عام 2005: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم.. ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية.. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية..".
قيـــام النكبـــات
في بلادنا منذ النهوض بمسؤولية البناء يتصارع نقيضان صراعا مريرا كان السبب الأصلي في تأخرنا وانهيارنا من ذلك: * انقلاب حزب التحرير والاستقلال الى حزب السلطة والاستبداد* من الوَحدة الوطنية الى الفتنة والأنانية والمحسوبية والجهوية* من التوجه الاشتراكي الاجتماعي نحو مجتمع الوسط الى الليبرالية المجحفة ومجتمع الرأسمال الابتزازي؛* من البناء والإصلاح والأمن والاستقرار الى الظلم والفساد والكسب غير المشروع ونهب الثروات.
لنتساءل عن مكانة تونس صاحبة الريادة الإبداعية للحضارة العربية الإسلامية التي قامت على مبادئ جوهرية كالحرية والاتحاد والعدالة والشورى من خلية الأسرة الى أفق الدولة، فإنها لطالَما صدحت بمكافحة نوازع الظلم والعبودية والاستبداد، فشأن الصراع قديم ما بين المثل الإسلامية الخالدة وبين أحوال التقهقر والعدوان الغربي.
فطورا بعد طور، عانى الوطن انتهابا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات وتهميشا للدين من ذلك: *إلغاء تعليم جامعة الزيتونة أقدم جامعة عربية إسلامية (116هـ- 734م) معطى حضاريا لتونس التاريخ؛*انتهاك رمضان والشعائر؛ *ازدراء التصوّن والحشمة والاستقامة؛*تهميش التربية الدينية؛*ضرب الأسرة... مما انجرّ عن كل ذلك بلاوَى التخلف وتسيبٌ علمانوي منافٍ لدستور البلاد.
الفرص الضــائعة
لنتساءل عما يخفيه البعض ويتناساه الكثيرون أن تونس كانت مؤهلة للمضي على درب التنمية الشاملة (1960 -1970)، حلما طمحت إليه أجيـال بهدف تحقيق التقدم على غــرار ما تلقفته الأمــم النـاهضة بعدئذ بوقت طويل مثل: كوريـا الجنوبيـة وماليزيا ورواندا والسينغـال... لو أننا تابعنا الخطى على نسق منتظم دون هزات وأخطاء وخيانات لفرص أهدرت على وطن وشعب سببها خلف الستار الدولة العميقة "فرنسا". من ذلك: *تحويل كل من يزاحم في الحكم أفرادا أو أحزابا إلى أكباش فداء*التخلص من الكفاءات والوطنيين الأحرار بالنفي أو بالسجن أو بالقتل أو بالإقصاء *تعميق نهج فرّق تسد وتكريس الجهويات والولاءات في إسناد المسؤوليات*ضرب الأخوّة المؤمنة بواسطة صناعة الإرهاب بالمرتزقة وانتهاك حقوق الإنسان. وقد فتح قانون العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا وجبر الأضرار ورد الاعتبار أفقا كان رحيبا بفضل ثورة الحرية والكرامة (سنة 2011) ولكن كبّلته مكائد الثورة المضادة.
وأذكُرُنِي كشاهد من مؤسسي الحركة الكشفية والشبابية والتعاضدية بجهتي الكاف حين تم استقطابي وتسخيري كلّيّا وانقطاعي عن وظيفتي الأصلية لفائدة العمل السياسي والتنموي جهويا ثم وطنيا لمدة 32 سنة (1967-1999) في خدمة الإنسان والمجتمع باقتدار ونجاح وراحة ضمير وإيمان بالله رغم الحسد والتهميش والمكائد (وعند الله تجتمع الخصوم)نتيجة صراحتي ضد الزيغ والفساد والظلم والانتكاس، إلى أن أنصفتني ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية بفضل الله وهو حسبي ونعم الوكيل (كواحد من الآلاف من المظلومين).
وفي ذات السياق لنتساءل حول أسباب الفراغ وتدحرج ولايات الوسط والغربية الحدودية ضمن المناطق المهمشة والمحرومة والأقل حظّا مثل: - القيروان عاصمة الإسلام الأولى بافريقيا (50هـ - 670م) بنسبة فقر بلغت40% وتفريغ لمواردها البشرية؛- والكاف التي كانت تحتل المرتبة الثالثة تمويلا لخزينة الدولة بفضل إنتاجها الفلاحي والمنجمي باتت تعاني نسبة الفقر 35% وازدياد النزوح.
وبمثل هذا الذي عانت منه البلاد من غوائل استغلال الدولة العميقة وقوى النهب العالمي لشتى الثروات الباطنية والسطحية، ما انجر عنه تصاعد الفقر والبطالة والهجرة اليائسة والاهتزاز المجتمعي والقِيَمي.
واستنتــاجـــا
ما يتربص بكياننا اليوم يستدعي استحضارا واعيا لإيضاءات التاريخ من أجل الحذر ولتعميق البصيرة والاستفاقة الواعدة ولتوقي استدامة التبعية وتأثير الحكم المطلق. فمن أبرز الخيبات التي سرقت آمال البلاد: * إحباط تجربة دستور عهد الأمان التي كانت ترنو إلى إلغاء الحكم المطلق وإذكاء النزوع الإصلاحي (1861 -1863)؛* السطو على مشروع الحزب الحر الدستوري التونسي الذي هو من ثمرات الحركة الطلابية الزيتونية (1919-1934) وقد كان أحد الأحزاب السياسية الأعرق في العالم الثالث؛* الاحتلال المباشر (1881-1956) 75 عاما تغلغلا وهيمنة واستِلابا واستغلالا؛* افتكاك الحرية والكرامة والديمقراطية "ثورة الربيع العربي" (17-14 جانفي 2011) مجسمة بدستور 2014 جراء مكر الاستعمار والثورة المضادة عبر الالتفاف وتحويل الدفة والتعطيل والحط من مؤشرات العمل والإنتاجية (35 ألف إضراب) وضراوة غسيل الأدمغة والتضليل والكذب ومناصبة العداء لكل ما له علاقة بالإسلام وتباشيره للتقدم.
هذا مع مواصلة تهرئة مكانة اللغة العربية الوطنية بالتسويق لتعلات شتى مثل العصرنة والعولمة ومقتضيات الإشهار والتواصل وغيرها. وهو عمل دؤوب قديم ينتهجه الاستعمار ويتخذه من ضمانات هيمنته وبقائه.إلى جانب تحريك أذرع صناعة العنف والاغتيالات والإرهاب، على الصعيد المحلي الداخلي كما على صعيد الأمة العربية والإسلامية (اغتصاب فلسطين وإدامة التنكر لحقوق شعبها من قِبل قوى الهيمنة العالمية التي تضرب عرض الحائط بكل المثل والقيم والنواميس الدوَلية والإنسانية كلما تعارضت مع مصالحها الإمبريالية، فدمرت أقطارا عربية عريقة من أجل "إرجاعها إلى العصر الحجري)" (وفق عبارة الجنرال شوارزكوف قائد قوات عاصفة الصحراء – حرب الخليج الثانية).
وها أن عجلة التاريخ تدور دورتها هذه الأيام مجددا بتداعيات معركة التحرير الفلسطينية "طوفان الأقصى" ( 7 أكتوبر 2023) التي عرّت داخليا ودوليا نفاق قوى الاستعمار الفظ بدعم شعوب العالم فانكشف أنّ تلك القوى هي الإرهابية حقّا وليس المكافحون في سبيل الحرية والاستقلال.
الانقلاب على دستور ثورة الحرية (2014) والمتمثل في المنعرج الخطِير بالقصف المستمر على العقل المدني، مسببا خرقا جسيما لأصول الحكم الرشيد فاقم وطأة التأخر والعجز وشيوع التنافر والكراهية والانقسام والاستقطاب الحاد مهددا بالتفكك والسقوط سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
مقاربة لمتطلبات الوطن في المرحلة الراهنة
إن تونس في مرحلتها الحاسمة بحاجة حيوية إلى جلاء أصابع الاستعمار نهائيا وطيّ صفحة الانتكاس وتجاوز التركة الثقيلة لفائدة خيار ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية للربيع العربي فالأفق المنشود من أجل بقاء الكيان الوطني:
*إنقاذ الدولة من الانهيار والعزلة والإفلاس*ترسيخ الحرية والكرامة والديمقراطية استنادا لدستور 2014 مع المراجعة للفصول الملغومة وإلغاء المراسيم المسقطة وكذلك كافة القوانين والتراتيب المنجرة* كبح التصرف الفرداني في مقدرات الوطن*تكريس علوية العدالة وجعل كافة مكونات السلطة العمومية تحت راية الجمهورية بعيدا عن الاستحواذ والتوظيف* استئناف الهياكل والمجالس المنتخبة وإرساء بقية المؤسسات والهيآت الدستورية وخاصة المحكمة الدستورية*مصارحة الشعب علانية بكل الخلفيات وعوامل الانتكاس وأسباب الانهيار * تثبيت التداول السلمي على السلطة وحسن اختيار الإطار بشروط قوامها: الأمانة - القدوة - الكفاءة - التجربة - التدرج في ظل المراقبة والمحاسبة ووضع حد للمجانية والمحسوبية.
*وكذلك الانعطاف القوي الفعّال إلى معالــجة تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وخاصة بالجهات المهمشة والمناطق المحرومة بإرساء الإنصاف وإحــلال الأمل بمراجعة السياسات والآليـات التنموية وحصر العراقيل وفق دراسات معمقة ذات بعد استراتيجــي تنشــئ أقطابـــا تنموية متعددة الاختصـاصــات * تخليــص البــلاد مـن مخالــــب المديونيـة والهشــاشـة الاجتمــاعية والقطــع مع كـل حيـــف ومحســوبية.*تجاوز المناهج البـــالية ووباء التسيب في أداء الواجبات والأمانات ونبذ الانحلال الخلقي والغزو الفكــري*تطهير البلاد من أخطبوط الفساد الذي استشرى وطغى*التصدي لاستغلال الثروات مجانا وترسيخ ثقافة مزيد الإنتاج وحسن التصرف وترشيد الدعم والاستهلاك*إذكاء الاعتزاز بالانتماء وروح الهوية الوطنية الجامعة*المصالحة الشاملة بعد المحاسبة لمن خان وأخطأ في حق الدولة والشعب* مراجعة تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية دولية لرد الاعتبار وتجاوز الضرر ترسيخا للسيادة الوطنية*ترتيب العلاقات الدولية على أساس المشترك والمصلحة والرؤى ومبدأ الاحترام المتبادل.
خلاصـــة القــــول، إن تونس اليوم بحاجة إلى كلّ أبنائها فلا بد من وقفة تأمل ومراجعة ومحاسبة.. ذلك أن واجب المسؤولية اليوم يدعو المخلصين إلى: *الوقوف صفا لتجاوز التركة الثقيلة والتفرغ الكلي لمناعة البلاد بعيدا عن كل توظيف وانقسامات ومصالح ضيقة؛* تحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي بالمقومات الأساسية للدولة والمتمثلة في الوَحدة الوطنية والنظام العادل والتنمية الشاملة بتحقيق الاكتفاء الغذائي والدوائي من أجل استئناف مجدنا وحضورنا الحضاري الدولي.
*كاتب سياسي
في بلادنا منذ النهوض بمسؤولية البناء يتصارع نقيضان صراعا مريرا كان السبب الأصلي في تأخرنا وانهيارنا
بقلم: فتح الدّين البودالي(*)
عبد الرحمان ابن خلدون أكّد في كتابه "المقدمة" علـــى: * أهمية العــدل أســاســا للعمــران البشــري*اجتناب الظلم المؤدي إلى انهيار الدولة. * أن السلطان لا يتم عزه إلا بتطبيق الشريعة* ولا عز للسلطان إلا بالرجال المصلحين وهي الحكمة التي رعاها الإسلام الحنيف والمعبَّرِ عنها بمقاصده العامة المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
لكن منذ بداية الاستقلال المغشوش كان النظام غير عادل، همه دوام الحكم والتعلق بكرسي السلطة والتوظيف السياسوي تحت غطاء الدولة العميقة "فرنسا" التي هدفها التحكم في سياسة الحكومات وسلطة القرار مع تهرئة الهوية الإسلامية والتأثير على المجتمع بكل مكوناته بأساليب كيدية ذكية، اتساقا مع وصية قديمة لملك فرنسا لويس التاسع (1250-1270م) فيها: إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين بالحرب وإنما بواسطة سياسة المراحل باتباع ما يلي : -1-اشاعة الفرقة بين قادة المسلمين -2 -تشجيع حكم غير صالح بالرشوة والفساد والنساء -3-ألّا تقوم جيوش مؤمنة بالوطن -4-ألاّ تقوم وحدة عربية وإسلامية -5-غرس دولة غريبة في المنطقة العربية (اغتصاب فلسطين فيما بعد).
ولم ينقطع المكر على مدى الأحقاب والعصور من أجل السيطرة على مقدّرات الأمة الإسلامية وتدمير مقوماتها؛ ولا أدل على ذلك في الزمن الحاضر من الدور التدميري الذي تبوّأه المؤرخ المستشرق البريطاني الأمريكي ذائع الصيت: برنارد لويس (1916-2018م)، من أبرز كتبه: العرب في التاريخ، الإسلام في أزمة، الإسلام والعلمانية، الخطاب السياسي للإسلام... فقد كان من أساطين الصهيونية ومن صنّاع سياسات للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة وبريطانيا ذات العداء الحاد للإسلام والمسلمين. من أشهر مقولاته فيما يخص السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: "كن قاسيا أو اخرج" والتي عرفت باسم مبدأ لويس في "القسوة أو الخروج".
كما أنه واضع مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط المعروف حول خرائط تفكيك الوحدة الدستورية للدول العربية وعدد من الدول الإسلامية الأخرى في المنطقة وتحويلها إلى شرذمة ضعيفة من الدويلات والكانتونات على أسس عرقية ومذهبية متنافسة ومتصارعة بما يجعلها خاضعة للكيان الصهيوني والقوى العظمى المرتبطة به وهو ما يجري تنفيذه منذ حرب الخليج الأولى ولا يزال. ويعرّف برنارد لويس بتصريحه الشهير عام 2005: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم.. ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية.. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية..".
قيـــام النكبـــات
في بلادنا منذ النهوض بمسؤولية البناء يتصارع نقيضان صراعا مريرا كان السبب الأصلي في تأخرنا وانهيارنا من ذلك: * انقلاب حزب التحرير والاستقلال الى حزب السلطة والاستبداد* من الوَحدة الوطنية الى الفتنة والأنانية والمحسوبية والجهوية* من التوجه الاشتراكي الاجتماعي نحو مجتمع الوسط الى الليبرالية المجحفة ومجتمع الرأسمال الابتزازي؛* من البناء والإصلاح والأمن والاستقرار الى الظلم والفساد والكسب غير المشروع ونهب الثروات.
لنتساءل عن مكانة تونس صاحبة الريادة الإبداعية للحضارة العربية الإسلامية التي قامت على مبادئ جوهرية كالحرية والاتحاد والعدالة والشورى من خلية الأسرة الى أفق الدولة، فإنها لطالَما صدحت بمكافحة نوازع الظلم والعبودية والاستبداد، فشأن الصراع قديم ما بين المثل الإسلامية الخالدة وبين أحوال التقهقر والعدوان الغربي.
فطورا بعد طور، عانى الوطن انتهابا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات وتهميشا للدين من ذلك: *إلغاء تعليم جامعة الزيتونة أقدم جامعة عربية إسلامية (116هـ- 734م) معطى حضاريا لتونس التاريخ؛*انتهاك رمضان والشعائر؛ *ازدراء التصوّن والحشمة والاستقامة؛*تهميش التربية الدينية؛*ضرب الأسرة... مما انجرّ عن كل ذلك بلاوَى التخلف وتسيبٌ علمانوي منافٍ لدستور البلاد.
الفرص الضــائعة
لنتساءل عما يخفيه البعض ويتناساه الكثيرون أن تونس كانت مؤهلة للمضي على درب التنمية الشاملة (1960 -1970)، حلما طمحت إليه أجيـال بهدف تحقيق التقدم على غــرار ما تلقفته الأمــم النـاهضة بعدئذ بوقت طويل مثل: كوريـا الجنوبيـة وماليزيا ورواندا والسينغـال... لو أننا تابعنا الخطى على نسق منتظم دون هزات وأخطاء وخيانات لفرص أهدرت على وطن وشعب سببها خلف الستار الدولة العميقة "فرنسا". من ذلك: *تحويل كل من يزاحم في الحكم أفرادا أو أحزابا إلى أكباش فداء*التخلص من الكفاءات والوطنيين الأحرار بالنفي أو بالسجن أو بالقتل أو بالإقصاء *تعميق نهج فرّق تسد وتكريس الجهويات والولاءات في إسناد المسؤوليات*ضرب الأخوّة المؤمنة بواسطة صناعة الإرهاب بالمرتزقة وانتهاك حقوق الإنسان. وقد فتح قانون العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا وجبر الأضرار ورد الاعتبار أفقا كان رحيبا بفضل ثورة الحرية والكرامة (سنة 2011) ولكن كبّلته مكائد الثورة المضادة.
وأذكُرُنِي كشاهد من مؤسسي الحركة الكشفية والشبابية والتعاضدية بجهتي الكاف حين تم استقطابي وتسخيري كلّيّا وانقطاعي عن وظيفتي الأصلية لفائدة العمل السياسي والتنموي جهويا ثم وطنيا لمدة 32 سنة (1967-1999) في خدمة الإنسان والمجتمع باقتدار ونجاح وراحة ضمير وإيمان بالله رغم الحسد والتهميش والمكائد (وعند الله تجتمع الخصوم)نتيجة صراحتي ضد الزيغ والفساد والظلم والانتكاس، إلى أن أنصفتني ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية بفضل الله وهو حسبي ونعم الوكيل (كواحد من الآلاف من المظلومين).
وفي ذات السياق لنتساءل حول أسباب الفراغ وتدحرج ولايات الوسط والغربية الحدودية ضمن المناطق المهمشة والمحرومة والأقل حظّا مثل: - القيروان عاصمة الإسلام الأولى بافريقيا (50هـ - 670م) بنسبة فقر بلغت40% وتفريغ لمواردها البشرية؛- والكاف التي كانت تحتل المرتبة الثالثة تمويلا لخزينة الدولة بفضل إنتاجها الفلاحي والمنجمي باتت تعاني نسبة الفقر 35% وازدياد النزوح.
وبمثل هذا الذي عانت منه البلاد من غوائل استغلال الدولة العميقة وقوى النهب العالمي لشتى الثروات الباطنية والسطحية، ما انجر عنه تصاعد الفقر والبطالة والهجرة اليائسة والاهتزاز المجتمعي والقِيَمي.
واستنتــاجـــا
ما يتربص بكياننا اليوم يستدعي استحضارا واعيا لإيضاءات التاريخ من أجل الحذر ولتعميق البصيرة والاستفاقة الواعدة ولتوقي استدامة التبعية وتأثير الحكم المطلق. فمن أبرز الخيبات التي سرقت آمال البلاد: * إحباط تجربة دستور عهد الأمان التي كانت ترنو إلى إلغاء الحكم المطلق وإذكاء النزوع الإصلاحي (1861 -1863)؛* السطو على مشروع الحزب الحر الدستوري التونسي الذي هو من ثمرات الحركة الطلابية الزيتونية (1919-1934) وقد كان أحد الأحزاب السياسية الأعرق في العالم الثالث؛* الاحتلال المباشر (1881-1956) 75 عاما تغلغلا وهيمنة واستِلابا واستغلالا؛* افتكاك الحرية والكرامة والديمقراطية "ثورة الربيع العربي" (17-14 جانفي 2011) مجسمة بدستور 2014 جراء مكر الاستعمار والثورة المضادة عبر الالتفاف وتحويل الدفة والتعطيل والحط من مؤشرات العمل والإنتاجية (35 ألف إضراب) وضراوة غسيل الأدمغة والتضليل والكذب ومناصبة العداء لكل ما له علاقة بالإسلام وتباشيره للتقدم.
هذا مع مواصلة تهرئة مكانة اللغة العربية الوطنية بالتسويق لتعلات شتى مثل العصرنة والعولمة ومقتضيات الإشهار والتواصل وغيرها. وهو عمل دؤوب قديم ينتهجه الاستعمار ويتخذه من ضمانات هيمنته وبقائه.إلى جانب تحريك أذرع صناعة العنف والاغتيالات والإرهاب، على الصعيد المحلي الداخلي كما على صعيد الأمة العربية والإسلامية (اغتصاب فلسطين وإدامة التنكر لحقوق شعبها من قِبل قوى الهيمنة العالمية التي تضرب عرض الحائط بكل المثل والقيم والنواميس الدوَلية والإنسانية كلما تعارضت مع مصالحها الإمبريالية، فدمرت أقطارا عربية عريقة من أجل "إرجاعها إلى العصر الحجري)" (وفق عبارة الجنرال شوارزكوف قائد قوات عاصفة الصحراء – حرب الخليج الثانية).
وها أن عجلة التاريخ تدور دورتها هذه الأيام مجددا بتداعيات معركة التحرير الفلسطينية "طوفان الأقصى" ( 7 أكتوبر 2023) التي عرّت داخليا ودوليا نفاق قوى الاستعمار الفظ بدعم شعوب العالم فانكشف أنّ تلك القوى هي الإرهابية حقّا وليس المكافحون في سبيل الحرية والاستقلال.
الانقلاب على دستور ثورة الحرية (2014) والمتمثل في المنعرج الخطِير بالقصف المستمر على العقل المدني، مسببا خرقا جسيما لأصول الحكم الرشيد فاقم وطأة التأخر والعجز وشيوع التنافر والكراهية والانقسام والاستقطاب الحاد مهددا بالتفكك والسقوط سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
مقاربة لمتطلبات الوطن في المرحلة الراهنة
إن تونس في مرحلتها الحاسمة بحاجة حيوية إلى جلاء أصابع الاستعمار نهائيا وطيّ صفحة الانتكاس وتجاوز التركة الثقيلة لفائدة خيار ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية للربيع العربي فالأفق المنشود من أجل بقاء الكيان الوطني:
*إنقاذ الدولة من الانهيار والعزلة والإفلاس*ترسيخ الحرية والكرامة والديمقراطية استنادا لدستور 2014 مع المراجعة للفصول الملغومة وإلغاء المراسيم المسقطة وكذلك كافة القوانين والتراتيب المنجرة* كبح التصرف الفرداني في مقدرات الوطن*تكريس علوية العدالة وجعل كافة مكونات السلطة العمومية تحت راية الجمهورية بعيدا عن الاستحواذ والتوظيف* استئناف الهياكل والمجالس المنتخبة وإرساء بقية المؤسسات والهيآت الدستورية وخاصة المحكمة الدستورية*مصارحة الشعب علانية بكل الخلفيات وعوامل الانتكاس وأسباب الانهيار * تثبيت التداول السلمي على السلطة وحسن اختيار الإطار بشروط قوامها: الأمانة - القدوة - الكفاءة - التجربة - التدرج في ظل المراقبة والمحاسبة ووضع حد للمجانية والمحسوبية.
*وكذلك الانعطاف القوي الفعّال إلى معالــجة تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وخاصة بالجهات المهمشة والمناطق المحرومة بإرساء الإنصاف وإحــلال الأمل بمراجعة السياسات والآليـات التنموية وحصر العراقيل وفق دراسات معمقة ذات بعد استراتيجــي تنشــئ أقطابـــا تنموية متعددة الاختصـاصــات * تخليــص البــلاد مـن مخالــــب المديونيـة والهشــاشـة الاجتمــاعية والقطــع مع كـل حيـــف ومحســوبية.*تجاوز المناهج البـــالية ووباء التسيب في أداء الواجبات والأمانات ونبذ الانحلال الخلقي والغزو الفكــري*تطهير البلاد من أخطبوط الفساد الذي استشرى وطغى*التصدي لاستغلال الثروات مجانا وترسيخ ثقافة مزيد الإنتاج وحسن التصرف وترشيد الدعم والاستهلاك*إذكاء الاعتزاز بالانتماء وروح الهوية الوطنية الجامعة*المصالحة الشاملة بعد المحاسبة لمن خان وأخطأ في حق الدولة والشعب* مراجعة تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية دولية لرد الاعتبار وتجاوز الضرر ترسيخا للسيادة الوطنية*ترتيب العلاقات الدولية على أساس المشترك والمصلحة والرؤى ومبدأ الاحترام المتبادل.
خلاصـــة القــــول، إن تونس اليوم بحاجة إلى كلّ أبنائها فلا بد من وقفة تأمل ومراجعة ومحاسبة.. ذلك أن واجب المسؤولية اليوم يدعو المخلصين إلى: *الوقوف صفا لتجاوز التركة الثقيلة والتفرغ الكلي لمناعة البلاد بعيدا عن كل توظيف وانقسامات ومصالح ضيقة؛* تحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي بالمقومات الأساسية للدولة والمتمثلة في الوَحدة الوطنية والنظام العادل والتنمية الشاملة بتحقيق الاكتفاء الغذائي والدوائي من أجل استئناف مجدنا وحضورنا الحضاري الدولي.