بقلم د. محمد الڤَرفي
إن الإبادة الجماعية والمجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في حق المدنيين العرب أطفالا ونساء بقطاع غزة وبكل أراضي فلسطين المحتلة وقد تجاوزت شهرها الثاني هي سليلة حروب جمّة شنّتها القوى الاستعمارية في كل مكان من عالم الجنوب. فبعد الهزيمة النكراء التي مُنيت بها الجيوش الفرنسية بفيتنام في معركة "ديان بيان فو" Diên Biên Phu الشهيرة (ماي 1954) أمام ثوّار جبهة التحرير الوطني Viêt-Minh بقيادة الجنرال Giap تولّى "اليانكي" خلافتها في ما سُمّيت "حرب فيتنام" أو "حرب الهند الصينية الثانية" التي انتهت بهزيمة أمريكا "التي لا تُقهر" وخروجها ذليلة مكسورة عام 1975.
وتندرج هذه الحرب التي أعلنها رسميا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لِندن ب. جونسون ضمن إستراتيجية الرأسمالية الغربية المناهضة للشيوعية التي حاولت احتوائها ومنع توسعها إلى البلدان الآسيوية المجاورة بتأثير التفاعل التسلسلي (effet domino). وكان فيتنام قد انقسم إلى شقّين: جنوبي تدعمه أمريكا وشمالي تسانده الكتلة الشيوعية.
خلّفت الحرب لدى الجانبين خسائر بشرية مهولة بين عسكريين ومدنيين. إذ بلغ عدد القتلى من الجنود الأمريكان 60.000 ومن الجرحى والمُشوّهين 350.000، وفي الجانب الفيتنامي الجنوبي 700.000 قتيل منهم 430.000 مدني إضافة إلى 18 مليون من الجرحى والمشوّهين. أما من الجانب الشمالي فقد قُتل قرابة المليون جندي فيتنامي بالإضافة إلى 900.000 جريح ومشوّه. ويقدّر الخبراء أن العدد الجملي للقتلى المدنيين الفيتناميين بلغ خلال الحربين الفرنسية والأمريكية التي تواصلت ثلاثين سنة (من 1945 إلى 1975) أربعة ملايين نسمة.
واعتبرت هذه الحرب غير أخلاقية بحسب "المعايير الديمقراطية" التي طالما لوّح بها الغرب الأطلسي في وجه المخالفين لسياسة الهيمنة التي يريد فرضها على الآخرين. فقد ارتكبت الجيوش الأمريكية في حق المدنيين مجازر قتل وحشي ترقى إلى "جرائم حرب" من بينها مجزرة "ماي لاي" My Lai التي ارتكبتها سرية جيش البر Charlie يوم 16 مارس 1968 في قرية بالجنوب ووراح ضحيتها ما بين 347 و 504 رجالا وأطفالا ورُضّعا ونساء اغتُصبن جماعيا ثم قُطّعت أجسامهن.
نُعتت هذه المجزرة بكونها الفصل الأكثر هولا في حرب فيتنام وللضرورة الإعلامية أحيل إلى القضاء ستة وعشرون جنديا بتهمة القتل ولكن لم تثبت إدانتهم سوى العقيد "وليام كلاّي" قائد فصيل الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد من أجل قتل اثنين وعشرين قرويّا. أما الخاتمة المضحكة المبكية فقد قضى هذا العسكري ثلاث سنوات ونصف فقط تحت الإقامة الجبرية ثم انتهت عقوبته. وبالمقابل اتهم نوّاب من الكونجرس ثلاثة عسكريين بالخيانة العظمى لأنهم حاولوا وضع حد للمجزرة في الإبان وإنقاذ المدنيين المتخفين.
في نوفمبر من السنة الموالية انتشر خبر المجزرة عبر جريدة نيويورك تايمز وأثار استنكارا لدى الرأي العام فخرجت مظاهرات عارمة في أمريكا تناهض هذه الحرب الدنيئة منها تلك التي خرجت بمدينة واشنطون يوم 20 نوفمبر 1969 وجمعت حوالي 250.000 نفرا. وأمام هذا السخط العام ألزم الجيش الأمريكي الجنود الذين تورّطوا في هذه المذبحة بالتزام الصمت.
إن ما يفعله اليوم جيش الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة لا يختلف عن أسلافهم اليانكي فهو ينحدر من هذه السلالة القذرة التي لا عقيدة تسوقها سوى عقيد القتل والإبادة والدمار، هذه السلالة من المستوطنين النازحين من الشتات الأوروبي الذين بنوا إمبراطوريتهم فوق جماجم ملايين السكان الأصليين. فالتاريخ يعيد نفسه ولكن مع متغيّر رئيسي وهو أن "العالم الجديد" كان رعويّا ويعيش دون تعقيد أما فلسطين فمتجذرة في التاريخ بأرضها وشعبها، زيتونة جذورها في الأرض وفروعها في السماء، والويل لمن لم يفهم ذلك فحسابه عسير.
(يتبع)