إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منها العزلة و"التوحد" المهني.. "العمل عن بعد" يتسبب في أمراض نفسية واجتماعية..

 

 تونس – الصباح

ما قبل كورونا ليس كما بعدها، هذه الظاهرة الصحية التي غيرت مجرى التاريخ في العالم وأثرت في العقول والسلوكات فهي لم تكن ظاهرة طبية وإنما تجاوزت ذلك  لتتحول الى جائحة اجتماعية ذات طابع دولي والتجأت الدولة للاعتماد على استراتيجيا للتباعد الاجتماعي كحل للحد من مخاطر الكوفيد 19 ومن بين هذه الآليات العمل عن بعد والذي كان في وقت من الأوقات لديه فوائد لكن مع طول المدة نتجت عنه أثار اجتماعية ونفسية ومهنية لأن مفهوم العمل عن بعد ليس له إطار قانوني واضح.

وقد أشارت آية بن منصور، باحثة دكتورا في علم الاجتماع في حديثها لـ"الصباح" إلى الدراسة التي أنجزها به المعهد الوطني للإحصاء لمتابعة التأثير الاجتماعي والاقتصادي للجائحة على الأسر التونسية خلال الفترة الممتدة من 29 أفريل إلى 8 ماي 2020 "حيث نجد أن 60 بالمائة من التونسيين لم يتلقوا أجورا وتوقفوا عن العمل وهذا أول أثر للعمل عن بعد ومن بين الآثار الاجتماعية الهامة مثلا الهوية المهنية للفرد التي تضررت بسبب العمل الفردي دون مشاركة المجموعة في الأفكار، فالعمل عن بعد مع طول الوقت ساهم في تحول العلاقات المهنية والاجتماعية وأصبح لديها اثر كبير حيث يجد الفرد نفسه في عزلة بالإضافة الى تلاشي الحدود بين حياته المهنية والشخصية."

علاقات افتراضية غير متينة ..

واعتبرت الباحثة في علم الاجتماع أن العمل عن بعد يؤدي الى العزلة والفرد يصبح محدودا في علاقاته التي تصبح افتراضية وغير متينة وفقط باستعمال زر واحد قد تنتهي هذه العلاقات.

كما رأت لمياء هريشي مختصة في علم الاجتماع أن جائحة كورونا التي ظهرت في 2019، غيرت الكثير من حياة البشر حول العالم، سواء اجتماعيا أو مهنيا، فإذا تناولنا الشق المهني، فقد ساعدت الجائحة والقيود التي فرضت للحد من انتشارها بين الناس على ظهور أسلوب جديد للعمل حتى أصبح ظاهرة لها مميزات وسلبيات أيضا. فاللجوء الى العمل عن بعد كان سببه محاولة تفادي الإفلاس والبطالة والركود الاقتصادي في ظل جائحة كورونا وحتمية الوضع الصحي والاقتصادي العالمي لتجنب انتشار الفيروس، حيث فرضت السلطات في جميع أنحاء العالم التباعد الاجتماعي الذي يترتب عليه العزلة بين الناس في مختلف المناطق وإجبار الأفراد على البقاء في المنزل، وإغلاق المؤسسات والمصانع.. في حين أن هذه التدابير يمكن أن تكون فعالة ضد انتقال المرض، فإنها تؤدي أيضًا إلى العزلة الاجتماعية لكثير من الناس.

وأفادت هريشي لـ"الصباح" أنه بغض النظر عمّا فرضته "كورونا"، فإن العالم بأكمله بصدد التوجه نحو العمل عن بعد، بفضل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي أثرت راديكاليا على منظومة العمل وملامحها، هذه التغيرات شملت منظومة العمل من حيث مفهومه، ثقافته وملامحه وظروفه، ونمط العمل عن بعد، يعد المنظومة الحديثة للعمل والذي اعتبر حلاّ لمجموعة كبيرة من المشاكل التي تواجه الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، بالاعتماد على جيل جديد من التكنولوجيات الحديثة التي تسهل العمل عن بعد وتعوض الإنسان في كثير من القطاعات.

وأضافت المختصّة في علم الاجتماع أن هذا الخيار الاقتصادي ولئن يُعد إيجابيا في مستويات عدّة خاصة في ما يتعلق بالاقتصاد والطاقة والمناخ والبنية التحتية إذ يخفض الاستهلاك للبنى التحتية وتخفيض النفقات العامة للمنشأة الكبرى، إضافة إلى الأريحية في العمل، وتقلص الضغط، وهذا بدوره يعود بصفة مباشرة على تحسين مستوى الإنتاجية، إلاّ أنه من ناحية أخرى رافقه انعكاسات سلبية خاصة على الجانب النفسي والاجتماعي للفرد خاصة في مجتمعات عرفت بالفردانية، حيث تحفز العزلة الاجتماعية الشعور بالوحدة، بالإضافة إلى أنها يمكن أن تعزز أعراض الإجهاد اللاحق للصدمة والارتباك والغضب، لأنها تتعارض مع استجاباتنا المجسدة للتفاعل الاجتماعي وأنماطنا المكتسبة من إشراك الآخرين والتفاعل معهم.

 

فقدان حافز التواصل المكاني والجسدي

وأكدت محدثتنا أن التواصل الاجتماعي والتفاعل مع الآخر مهم، بالنسبة لمختلف الشرائح العمرية وعلى مستوى الجنسيين، فيمثل بذلك العمل والتفاعل المهني، لكل الأفراد وسيلة هامة لديهم للتواصل الاجتماعي وتكوين شبكة علائقية، فيصبح بالتالي المحيط المهني ذا أهمية كبرى في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي لدى الفرد، نظرا إلى حاجته النفسية والاجتماعية إلى للآخر، وفي ظل غياب هذا المحيط، والدخول في هذه العزلة يفتقد الفرد العامل حافز التواصل المكاني والجسدي والتغذية المرتدة المنتظمة لتقييم العامل وأدائه وإنتاجيته. مما ينجم عن ذلك عدم الرضا الوظيفي، والإشباع النفسي الناتج عن الشعور بالانتماء الى فريق العمل. إضافة إلى ضعف روح التعاون والتضامن التي تميز العمل داخل فريق واحد وبالتالي محدودية فرص التطوير الوظيفي للفرد العامل عن بعد وهو ما يجعلنا نتحدث عن "التوحد المهني" في غياب المجموعة وما ينتج عنها من مجموع العلاقات والروابط الاجتماعية والتواصل المباشر، التي تمثل مصدر للاندماج الاجتماعي والمهني على السواء. فيتحول بذلك الفرد العامل من ناحية إلى آلة مكلفة بمجموع من المهام المحددة مسبقا. ومن ناحية أخرى في تبعية كاملة لها حيث تتلاشى الحدود بين الحياة الخاصة والمهنية.

وحسب هريشي فإنه بتكنولوجيات العمل عن بعد، ستقتحم الحياة الخاصة، "لنصبح على الدّوام في خضوع تام لها ومن جانب آخر، العمل عن بعد وخاصة في الفضاء الخاص (العائلي)، يتسبّب في تداخل الوسط المهني والعائلي فإنّ العلاقات الإنسانية العائلية داخل الفضاء الخاص من المفروض أن تكون غير رسميّة، لكن، تداخل هذا الفضاء الخاص مع فضاء العمل يكسر حاجز الخصوصية". وقد يؤثر ذلك على تماسك العائلة والتمثل الاجتماعي للمسكن. ويؤدي بدوره إلى كثير من المشاكل الاجتماعية الأخرى.

أما سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم فقد أشار إلى أن أزمة كوفيد 19 لم تكن أزمة صحيّة فحسب، بل كانت لها تأثيراتها الاقتصاديّة المباشرة على مختلف دول العالم، فضلا عن تأثيراتها النّفسيّة والاجتماعيّة. وإذا كانت الأولويّة قد مُنِحت في مرحلة أولى للجانب الصّحّي، ثم في مرحلة لاحقة للجانب الاقتصادي، فإنّ الجوانب النّفسيّة والاجتماعيّة لم تُحْظَ بنفس القدر من الاهتمام في جميع الدّول، حيث لاحظنا في الدّول الأقلّ نموّا بالخصوص إسراعا نحو إغلاق ملفّ الأزمة واعتبارها من الماضي، دون الانتباه إلى تأثيراتها العميقة وبعيدة المدى على الفرد والمجموعة، ويكفي للدّلالة على ذلك الإشارة إلى ما كشفته مؤخّرا نتائج البرنامج الدولي لتقييم المتعلّمين (PISA) من تراجع في مكتسبات التّلاميذ ومهاراتهم في عديد الدّول بفعل هذه الأزمة. وإذا كانت الدّول المتقدّمة قد أولت عناية بقياس الفاقد التّعليميّ النّاتج عن الجائحة ومن ثمّة معالجته، فإنّ عديد الدّول قد فضّلت تجاهله، مُخاطرة بذلك ببناء جيل يشكو عديد الثّغرات في مكتسباته التّعليميّة ومهاراته الحياتيّة.

أزمة "كوفيد 19" لعبت دور المسرّع لحركة التّاريخ

وأكد قاسم في حديثه لـ"الصباح" أنه ككلّ أزمة كبرى تشهدها البشريّة، فإنّ أزمة الكوفيد 19 قد لعبت دور المسرّع لحركة التّاريخ، وهو ما بدا جليّا في تعاظم أهمّيّة العالم الرّقميّ والافتراضيّ، والذي كان من مظاهره التّعويل المتزايد على خدمات التّجارة الإلكترونيّة والإدارة الإلكترونيّة والتّعليم الإلكتروني. وقد كان من النّتائج المباشرة لهذه الظّاهرة تزايد أهمّيّة العمل عن بعد لدى العاملين في جميع القطاعات، باستثناء تلك القائمة على النّشاط اليدويّ. ولئن استعاد العمل الحضوريّ مكانته مع تراجع حدّة الأزمة الصّحّيّة، فإنّ تغييرات عميقة قد حدثت ومن المرجّح أن تتواصل على المدى البعيد، كما من المرجّح أن تترتّب عليها تغييرات أعمق وأبعد، فعلى المستوى الأسريّ، أدّى البقاء في البيت للعمل عن بعد والتّعليم عن بعد إلى منح الأولياء والأبناء وقتا أطول للتّواصل والتّفاعل، كما جعل الأولياء أكثر حضورا وتأثيرا في مسارات تعلّم أبنائهم وتعلّمهم، وهو حضور قلّص من ظاهرة استقالة الأولياء التي تشكوها عديد النّظم التّعليميّة، ولكنّه ضاعف في المقابل من دور الأسرة في تنمية مكتسبات أبنائها، بما يعني إنصافا أقلّ وإمكانيّة أكبر لأن يبقى أبناء الأسر الأقلّ تعلّما والأضعف دخلا على هامش النّظام التّعليميّ في عديد الدّول في العالم، وخاصّة في تلك التي لا تتّخذ ما يكفي من الإجراءات لمرافقة التّلاميذ الذين يشهد مسارهم التّعليميّ بعض التّعثّر.

ارتفاع المردوديّة وتراجع التّكلفة

وبالنسبة للجانب الاقتصادي، أفاد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أنّ عديد المؤسّسات قد اكتشفت خلال الأزمة مزايا العمل عن بعد، من حيث ارتفاع المردوديّة وتراجع التّكلفة، وهو ما جعلها أكثر تعويلا على هذا النّوع من العمل حتّى بعد عودة الأمور إلى نصابها. وقد أدّى ذلك إلى التّسريع من عولمة سوق العمل الذي صار فعلا بلا حدود، حيث صار بإمكان المؤسّسة الاقتصاديّة أن تستفيد من خدمات المتعاونين معها بقطع النّظر عن مكان إقامتهم، وهو أمر يعني فرصا أكبر للحصول على شغل، ولكنّه يعني كذلك منافسة أكبر وأشد، وتعاظما لأهمّية اكتساب المهارات الرّقميّة ومهارات التّواصل في الحصول على الوظيفة المطلوبة، واستقرارا أقلّ في المسارات المهنيّة للعاملين، وجميعها عناصر ذات تأثير مباشر على الجوانب النّفسيّة والأسريّة والاجتماعيّة للفرد والمجموعة.

كما أن من التّأثيرات المباشرة لأزمة الكوفيد 19 أيضا تلك التي شملت سوق التّعليم العالي الذي شهد بدوره تسارعا في عولمته. ولئن فتح ذلك المجال للطّلاّب، وخاصّة في الدّول الأقلّ تطوّرا، للنّفاذ عن بعد إلى دروس ذات جودة عالية وبكلفة أقل، فإنّه يمثّل تحدّيا مزدوجا لتلك الدّول، حيث من شأن هذه الظّاهرة أن تسارع على المدى القريب من حركة هجرة الأدمغة، وأن تمثّل على المدى المتوسّط والبعيد تهديدا حقيقيّا لمنظومة التّعليم العالي بأسرها، اعتبارا لعدم قدرتها على مجاراة المنافسة العالميّة المفروضة عليها من حيث جودة الخدمات ومن حيث قيمة ما تسنده من شهادات في سوق العمل.

أمّا التّأثير الأبعد لأزمة الكوفيد 19، والذي بدأت ملامحه تتّضح تدريجيّا، حسب قاسم فيتمثّل في أنّها، بتسريعها لرقمنة العمل وتوسيعها للمجالات التي تشملها هذه الرّقمنة، قد فتحت الباب لحضور أكبر وأشمل للذّكاء الاصطناعيّ، بما سيكون له تأثيره الحاسم على مختلف القطاعات في قادم السّنوات، وهو ما يتطلّب منّا إدراكا لهذه الحقيقة، وعملا استباقيّا للتّفاعل مع هذه الحقبة الجديدة في الحضارة الإنسانيّة التي نقف اليوم على مشارفها.

جهاد الكلبوسي

منها العزلة و"التوحد" المهني..   "العمل عن بعد" يتسبب في أمراض نفسية واجتماعية..

 

 تونس – الصباح

ما قبل كورونا ليس كما بعدها، هذه الظاهرة الصحية التي غيرت مجرى التاريخ في العالم وأثرت في العقول والسلوكات فهي لم تكن ظاهرة طبية وإنما تجاوزت ذلك  لتتحول الى جائحة اجتماعية ذات طابع دولي والتجأت الدولة للاعتماد على استراتيجيا للتباعد الاجتماعي كحل للحد من مخاطر الكوفيد 19 ومن بين هذه الآليات العمل عن بعد والذي كان في وقت من الأوقات لديه فوائد لكن مع طول المدة نتجت عنه أثار اجتماعية ونفسية ومهنية لأن مفهوم العمل عن بعد ليس له إطار قانوني واضح.

وقد أشارت آية بن منصور، باحثة دكتورا في علم الاجتماع في حديثها لـ"الصباح" إلى الدراسة التي أنجزها به المعهد الوطني للإحصاء لمتابعة التأثير الاجتماعي والاقتصادي للجائحة على الأسر التونسية خلال الفترة الممتدة من 29 أفريل إلى 8 ماي 2020 "حيث نجد أن 60 بالمائة من التونسيين لم يتلقوا أجورا وتوقفوا عن العمل وهذا أول أثر للعمل عن بعد ومن بين الآثار الاجتماعية الهامة مثلا الهوية المهنية للفرد التي تضررت بسبب العمل الفردي دون مشاركة المجموعة في الأفكار، فالعمل عن بعد مع طول الوقت ساهم في تحول العلاقات المهنية والاجتماعية وأصبح لديها اثر كبير حيث يجد الفرد نفسه في عزلة بالإضافة الى تلاشي الحدود بين حياته المهنية والشخصية."

علاقات افتراضية غير متينة ..

واعتبرت الباحثة في علم الاجتماع أن العمل عن بعد يؤدي الى العزلة والفرد يصبح محدودا في علاقاته التي تصبح افتراضية وغير متينة وفقط باستعمال زر واحد قد تنتهي هذه العلاقات.

كما رأت لمياء هريشي مختصة في علم الاجتماع أن جائحة كورونا التي ظهرت في 2019، غيرت الكثير من حياة البشر حول العالم، سواء اجتماعيا أو مهنيا، فإذا تناولنا الشق المهني، فقد ساعدت الجائحة والقيود التي فرضت للحد من انتشارها بين الناس على ظهور أسلوب جديد للعمل حتى أصبح ظاهرة لها مميزات وسلبيات أيضا. فاللجوء الى العمل عن بعد كان سببه محاولة تفادي الإفلاس والبطالة والركود الاقتصادي في ظل جائحة كورونا وحتمية الوضع الصحي والاقتصادي العالمي لتجنب انتشار الفيروس، حيث فرضت السلطات في جميع أنحاء العالم التباعد الاجتماعي الذي يترتب عليه العزلة بين الناس في مختلف المناطق وإجبار الأفراد على البقاء في المنزل، وإغلاق المؤسسات والمصانع.. في حين أن هذه التدابير يمكن أن تكون فعالة ضد انتقال المرض، فإنها تؤدي أيضًا إلى العزلة الاجتماعية لكثير من الناس.

وأفادت هريشي لـ"الصباح" أنه بغض النظر عمّا فرضته "كورونا"، فإن العالم بأكمله بصدد التوجه نحو العمل عن بعد، بفضل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي أثرت راديكاليا على منظومة العمل وملامحها، هذه التغيرات شملت منظومة العمل من حيث مفهومه، ثقافته وملامحه وظروفه، ونمط العمل عن بعد، يعد المنظومة الحديثة للعمل والذي اعتبر حلاّ لمجموعة كبيرة من المشاكل التي تواجه الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، بالاعتماد على جيل جديد من التكنولوجيات الحديثة التي تسهل العمل عن بعد وتعوض الإنسان في كثير من القطاعات.

وأضافت المختصّة في علم الاجتماع أن هذا الخيار الاقتصادي ولئن يُعد إيجابيا في مستويات عدّة خاصة في ما يتعلق بالاقتصاد والطاقة والمناخ والبنية التحتية إذ يخفض الاستهلاك للبنى التحتية وتخفيض النفقات العامة للمنشأة الكبرى، إضافة إلى الأريحية في العمل، وتقلص الضغط، وهذا بدوره يعود بصفة مباشرة على تحسين مستوى الإنتاجية، إلاّ أنه من ناحية أخرى رافقه انعكاسات سلبية خاصة على الجانب النفسي والاجتماعي للفرد خاصة في مجتمعات عرفت بالفردانية، حيث تحفز العزلة الاجتماعية الشعور بالوحدة، بالإضافة إلى أنها يمكن أن تعزز أعراض الإجهاد اللاحق للصدمة والارتباك والغضب، لأنها تتعارض مع استجاباتنا المجسدة للتفاعل الاجتماعي وأنماطنا المكتسبة من إشراك الآخرين والتفاعل معهم.

 

فقدان حافز التواصل المكاني والجسدي

وأكدت محدثتنا أن التواصل الاجتماعي والتفاعل مع الآخر مهم، بالنسبة لمختلف الشرائح العمرية وعلى مستوى الجنسيين، فيمثل بذلك العمل والتفاعل المهني، لكل الأفراد وسيلة هامة لديهم للتواصل الاجتماعي وتكوين شبكة علائقية، فيصبح بالتالي المحيط المهني ذا أهمية كبرى في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي لدى الفرد، نظرا إلى حاجته النفسية والاجتماعية إلى للآخر، وفي ظل غياب هذا المحيط، والدخول في هذه العزلة يفتقد الفرد العامل حافز التواصل المكاني والجسدي والتغذية المرتدة المنتظمة لتقييم العامل وأدائه وإنتاجيته. مما ينجم عن ذلك عدم الرضا الوظيفي، والإشباع النفسي الناتج عن الشعور بالانتماء الى فريق العمل. إضافة إلى ضعف روح التعاون والتضامن التي تميز العمل داخل فريق واحد وبالتالي محدودية فرص التطوير الوظيفي للفرد العامل عن بعد وهو ما يجعلنا نتحدث عن "التوحد المهني" في غياب المجموعة وما ينتج عنها من مجموع العلاقات والروابط الاجتماعية والتواصل المباشر، التي تمثل مصدر للاندماج الاجتماعي والمهني على السواء. فيتحول بذلك الفرد العامل من ناحية إلى آلة مكلفة بمجموع من المهام المحددة مسبقا. ومن ناحية أخرى في تبعية كاملة لها حيث تتلاشى الحدود بين الحياة الخاصة والمهنية.

وحسب هريشي فإنه بتكنولوجيات العمل عن بعد، ستقتحم الحياة الخاصة، "لنصبح على الدّوام في خضوع تام لها ومن جانب آخر، العمل عن بعد وخاصة في الفضاء الخاص (العائلي)، يتسبّب في تداخل الوسط المهني والعائلي فإنّ العلاقات الإنسانية العائلية داخل الفضاء الخاص من المفروض أن تكون غير رسميّة، لكن، تداخل هذا الفضاء الخاص مع فضاء العمل يكسر حاجز الخصوصية". وقد يؤثر ذلك على تماسك العائلة والتمثل الاجتماعي للمسكن. ويؤدي بدوره إلى كثير من المشاكل الاجتماعية الأخرى.

أما سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم فقد أشار إلى أن أزمة كوفيد 19 لم تكن أزمة صحيّة فحسب، بل كانت لها تأثيراتها الاقتصاديّة المباشرة على مختلف دول العالم، فضلا عن تأثيراتها النّفسيّة والاجتماعيّة. وإذا كانت الأولويّة قد مُنِحت في مرحلة أولى للجانب الصّحّي، ثم في مرحلة لاحقة للجانب الاقتصادي، فإنّ الجوانب النّفسيّة والاجتماعيّة لم تُحْظَ بنفس القدر من الاهتمام في جميع الدّول، حيث لاحظنا في الدّول الأقلّ نموّا بالخصوص إسراعا نحو إغلاق ملفّ الأزمة واعتبارها من الماضي، دون الانتباه إلى تأثيراتها العميقة وبعيدة المدى على الفرد والمجموعة، ويكفي للدّلالة على ذلك الإشارة إلى ما كشفته مؤخّرا نتائج البرنامج الدولي لتقييم المتعلّمين (PISA) من تراجع في مكتسبات التّلاميذ ومهاراتهم في عديد الدّول بفعل هذه الأزمة. وإذا كانت الدّول المتقدّمة قد أولت عناية بقياس الفاقد التّعليميّ النّاتج عن الجائحة ومن ثمّة معالجته، فإنّ عديد الدّول قد فضّلت تجاهله، مُخاطرة بذلك ببناء جيل يشكو عديد الثّغرات في مكتسباته التّعليميّة ومهاراته الحياتيّة.

أزمة "كوفيد 19" لعبت دور المسرّع لحركة التّاريخ

وأكد قاسم في حديثه لـ"الصباح" أنه ككلّ أزمة كبرى تشهدها البشريّة، فإنّ أزمة الكوفيد 19 قد لعبت دور المسرّع لحركة التّاريخ، وهو ما بدا جليّا في تعاظم أهمّيّة العالم الرّقميّ والافتراضيّ، والذي كان من مظاهره التّعويل المتزايد على خدمات التّجارة الإلكترونيّة والإدارة الإلكترونيّة والتّعليم الإلكتروني. وقد كان من النّتائج المباشرة لهذه الظّاهرة تزايد أهمّيّة العمل عن بعد لدى العاملين في جميع القطاعات، باستثناء تلك القائمة على النّشاط اليدويّ. ولئن استعاد العمل الحضوريّ مكانته مع تراجع حدّة الأزمة الصّحّيّة، فإنّ تغييرات عميقة قد حدثت ومن المرجّح أن تتواصل على المدى البعيد، كما من المرجّح أن تترتّب عليها تغييرات أعمق وأبعد، فعلى المستوى الأسريّ، أدّى البقاء في البيت للعمل عن بعد والتّعليم عن بعد إلى منح الأولياء والأبناء وقتا أطول للتّواصل والتّفاعل، كما جعل الأولياء أكثر حضورا وتأثيرا في مسارات تعلّم أبنائهم وتعلّمهم، وهو حضور قلّص من ظاهرة استقالة الأولياء التي تشكوها عديد النّظم التّعليميّة، ولكنّه ضاعف في المقابل من دور الأسرة في تنمية مكتسبات أبنائها، بما يعني إنصافا أقلّ وإمكانيّة أكبر لأن يبقى أبناء الأسر الأقلّ تعلّما والأضعف دخلا على هامش النّظام التّعليميّ في عديد الدّول في العالم، وخاصّة في تلك التي لا تتّخذ ما يكفي من الإجراءات لمرافقة التّلاميذ الذين يشهد مسارهم التّعليميّ بعض التّعثّر.

ارتفاع المردوديّة وتراجع التّكلفة

وبالنسبة للجانب الاقتصادي، أفاد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أنّ عديد المؤسّسات قد اكتشفت خلال الأزمة مزايا العمل عن بعد، من حيث ارتفاع المردوديّة وتراجع التّكلفة، وهو ما جعلها أكثر تعويلا على هذا النّوع من العمل حتّى بعد عودة الأمور إلى نصابها. وقد أدّى ذلك إلى التّسريع من عولمة سوق العمل الذي صار فعلا بلا حدود، حيث صار بإمكان المؤسّسة الاقتصاديّة أن تستفيد من خدمات المتعاونين معها بقطع النّظر عن مكان إقامتهم، وهو أمر يعني فرصا أكبر للحصول على شغل، ولكنّه يعني كذلك منافسة أكبر وأشد، وتعاظما لأهمّية اكتساب المهارات الرّقميّة ومهارات التّواصل في الحصول على الوظيفة المطلوبة، واستقرارا أقلّ في المسارات المهنيّة للعاملين، وجميعها عناصر ذات تأثير مباشر على الجوانب النّفسيّة والأسريّة والاجتماعيّة للفرد والمجموعة.

كما أن من التّأثيرات المباشرة لأزمة الكوفيد 19 أيضا تلك التي شملت سوق التّعليم العالي الذي شهد بدوره تسارعا في عولمته. ولئن فتح ذلك المجال للطّلاّب، وخاصّة في الدّول الأقلّ تطوّرا، للنّفاذ عن بعد إلى دروس ذات جودة عالية وبكلفة أقل، فإنّه يمثّل تحدّيا مزدوجا لتلك الدّول، حيث من شأن هذه الظّاهرة أن تسارع على المدى القريب من حركة هجرة الأدمغة، وأن تمثّل على المدى المتوسّط والبعيد تهديدا حقيقيّا لمنظومة التّعليم العالي بأسرها، اعتبارا لعدم قدرتها على مجاراة المنافسة العالميّة المفروضة عليها من حيث جودة الخدمات ومن حيث قيمة ما تسنده من شهادات في سوق العمل.

أمّا التّأثير الأبعد لأزمة الكوفيد 19، والذي بدأت ملامحه تتّضح تدريجيّا، حسب قاسم فيتمثّل في أنّها، بتسريعها لرقمنة العمل وتوسيعها للمجالات التي تشملها هذه الرّقمنة، قد فتحت الباب لحضور أكبر وأشمل للذّكاء الاصطناعيّ، بما سيكون له تأثيره الحاسم على مختلف القطاعات في قادم السّنوات، وهو ما يتطلّب منّا إدراكا لهذه الحقيقة، وعملا استباقيّا للتّفاعل مع هذه الحقبة الجديدة في الحضارة الإنسانيّة التي نقف اليوم على مشارفها.

جهاد الكلبوسي