أضحى مشهد ركض المواطنين وراء الحافلات "الصفراء" بتونس الكبرى أو "البيضاء" في بقية الجهات مشهدا مألوفا. فمنذ ساعات الصباح الأولى يتكدر مزاج التونسي المستعمل للنقل العمومي، فلا حافلات ولا عربات ميترو متوفرة بالعدد المطلوب بما يؤمن سفرة مريحة لمستعمليها يُضاف إليها وضعيتها المتردية، ليتحول استغلال النقل بجميع وسائله وأنواعه إلى كابوس يومي لا يُعلم متى يتوقف نزيفه؟
إيمان عبد اللطيف
ويعود تردي ظروف النقل العمومي في تونس إلى عدة مؤشرات ومعطيات من ذلك وضعية الأسطول، فقد أثّر عدم توفر قطع الغيار بالنسبة لأسطول المترو سلبا على الجاهزية والاستجابة للطلبات المتزايدة، بالإضافة إلى التأخير في إعادة التهيئة الكاملة لجزء كبير من الأسطول بسبب ارتفاع الكلفة وغياب التمويل وفقا لمعطيات نشرتها الشركة.
نتج عن التأخير في تنفيذ برامج الاقتناءات تقادم الأسطول الذي أصبح معدّل عمره12 سنة و7 أشهر بالنسبة للحافلات و27 سنة و11شهرا بالنسبة لعربات المترو و44 سنة و11 شهرا بالنسبة لعربات الخط ت.ج.م. وهو ما يفسر تزايد عدد الأعطاب بداية من سنة 2020.
فقد تراجع معدّل الأسطول المتجوّل كامل أيام الأسبوع من437 في 2022 مقابل 744 سنة 2010 بالنسبة للحافلات المتجولة ومن 57 عربة في سنة 2022 مقابل 118 سنة 2010 بالنسبة للميترو ومن 5 قطارات سنة 2022 مقابل 11 قطارا سنة 2010 بالنسبة لخط ت -ج-م.
ولكن أسباب التأخر في تنفيذ برامج الاقتناءات والصعوبات المالية التي تمر بها الشركةلا تعود فقط إلى إشكاليات في التمويل، وإنما تعود أيضا وفق رئيس الجمهورية، إلى الإهمال والفساد الذي ينخر الشركة.
فمساء الجمعة 24 نوفمبر 2023، تحوّل رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى مستودع شركة نقل تونس بباب سعدون حيث قام بجولة تفقدية، مستنكرا وجود حافلات في وضعية مهملة بالكامل، مقابل معاناة يومية للمواطن مع وسائل النقل، داعيا إلى وضع حدّ لهذا الاهمال خلال الأيام القادمة.
وطلب رئيس الدولة من وزير النقل الذي تحوّل بدوره على عين المكان، ضرورة إنهاء المعاناة اليومية للمواطن مع وسائل النقل والتخلي عن الاتفاقيات التي تتطلب الكثير من الوقت والتدخل بشكل عاجل للقضاء على مظاهر الإهمال التي تبدو عليها مستودعات النقل في العاصمة والجهات.
وقال سعيّد: ''ملايين الدينارات ملقاة على الأرض في شكل خردة..،ونحن نبحث عن من يقرضنا لتمويل الميزانية.. هذا الوضع يجب أن ينتهي ولابد من ايجاد حلول عاجلة حتى يتمكن التلميذ والعامل من التنقل في ظروف تحترم كرامته''، وتابع''النقل حقّ من حقوق المواطن لكنه يعاني يوميا من الانتظار الذي يطول يوميا لساعات طويلة.. ويجب اعادة كل الخطوط التي وقع الغاؤها''.
كما دعا رئيس الدولة إلى تنظيم قطاع ''النقل الجماعي''، معتبرا أنّ طريقة عمله حاليا غير مقبولة وفيها إهانة لكرامة الانسان وتغيب فيها أساليب الأمان،على حد تعبيره .
وتوجّه رئيس الجمهورية لوزير النقل قائلا:''الإجراءات لا تحكم في إرادة الشعب التونسي، الإجراءات يجب أن تكون في خدمة الشعب التونسي.. والمواطن لن يركب الدستور ويتنقل به".
وأكّد قيس سعيد أنّ كل الأعذار لتبرير الوضع الحالي لقطاع النقل في البلاد غير مقبولة، أما بخصوص الحالة المالية المتردية لشركة نقل تونس، ''فهي نتيجة الفساد والسطو وسرقة قطع الغيار''، وقال "هم يريدون التفريط في المرفق العمومي للنقل والاستيلاء على الملك العمومي للشعب''، وأضاف ''بعض اللوبيات تريد اضمحلال النقل العمومي من تونس''.
واعرب سعيد عن استغرابه بالقول:"هذه شركة نقل تونس.. كان بالأحرى تسميتها شركة اغتيال النقل بتونس… والأكيد أن حال الشركات الجهوية نفس الشيء…. صحيح الضغط على النقل كبير في العاصمة ولكن الحلول كانت موجودة والفساد هو الذي نخر هذه المؤسسات"، معتبر أن ما يحصل جريمة في حق الشعب وأن ما شاهده في هذا المستودع ما هو الا جزء فقط من الجرائم.
من جانبه، كشف وزير النقل أنّه تم اجراء اختبارات مع وزارة أملاك الدولة وأنه سيتم رفع كل الحافلات المعطلة في المستودع المذكور في إطار صفقة سيتم امضاؤها قريبا.
في حقيقة الأمر، الكشف عن هذه المعطيات ليس بالأمر الجديد سواء في ما يتعلق بشبهات الفساد التي تحوم حول شركة نقل تونس أو الإشكاليات الهيكلية والإدارية التي تعيشها وما خلفته من وضعية مالية كارثية وصلت إلى حدّ تكبد الشركة لديون تُقدّر بـ 1880 مليون دينار سنة 2022 منها 230 مليون دينار لفائدة البنوك ومزودي قطع الغيار مع صعوبة الإيفاء بتعهداتها تجاه المزودين العموميين.
فكانت القضية التي كشفها "مرصد رقابة" من أبرز ملفات الفساد التي تمّ تداولها السنة الماضية وتعلّقت بوجود صفقة اقتناء 300 حافلة مستعملة لصالح شركة النقل بتونس بالتفاوض المباشر مع ”الوكالة المستقلة للنقل بباريس RATP“، بقيمة جملية تتجاوز 15 مليون دينار، وتضمنت اخلالات كبرى وشبهات متعلقة بطريقة اتخاذ القرار في هذه الصفقة وبالشروط التي تم الاتفاق بشأنها مع المزود الفرنسي.
وكانت الشركة قد كشفت في بيان لها نشرته منذ شهر فيفري 2023 أنها تمرّ بصعوبات هيكلية لتحقيق التوازنات المالية تتمثّل أساسا في ضعف القدرة على تغطية أعباء الاستغلال عبر مداخيل الاستغلال بما في ذلك الدّعم السنوي المرصود من الدّولة.
وأكّدت أيضا أنها تشكو من ارتفاع كلفة الاستغلال جرّاء الأعطاب المرتبطة بالصيانة التي تتطلّب اعتمادات كبرى لإعادة استغلال الأسطول المعطّب، وعلاوة على ذلك فقد ساهمت الزيادات المتتالية في سعر المحروقات والارتفاع المتواصل في أسعار قطع الغيار في مزيد تعقيد الوضعية المالية.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أنّ أبرز أسباب التدهور الملحوظ للفارق بين مؤشري المداخيل وتكاليف الاستغلال هو عدم الزيادة في التعريفة استجابة لسياسة الحفاظ على المقدرة الشرائية للمواطن حيث يناهز المفعول المالي لتجميد التعريفة 700 مليون دينار خلال الفترة 2011-2020.
من جانب آخر ساهم تراجع عدد الأسطول وتفاقم ظاهرة الترسكية في تراجع المداخيل المباشرة التي تبلغ حوالي 40 مليون دينار سنة 2022 مقابل ما يفوق 70 مليون دينار سنة 2010، وتمثل ظاهرة الترسكية من قبل المخالفين الذين يمثلون 40% من المسافرين أحد أسباب تراجع المداخيل متسببة في خسائر تقدّر بـ 20 مليون دينار سنويا.
وأرجعت شركة نقل تونس تردي وضعيتها المالية إلى الاعتداءات التي يتعرض إليها أسطول النقل، فقد سجلت الشركة 1573 اعتداء سنة 2021 كبّدتها خسائر بلغت 1 مليون دينار لتتجاوز هذه الخسائر هذا الرقم سنة 2022 وذلك دون احتساب كلفة النقص في المداخيل طيلة فترة التوقف عن الاستغلال.
20
تونس – الصباح
أضحى مشهد ركض المواطنين وراء الحافلات "الصفراء" بتونس الكبرى أو "البيضاء" في بقية الجهات مشهدا مألوفا. فمنذ ساعات الصباح الأولى يتكدر مزاج التونسي المستعمل للنقل العمومي، فلا حافلات ولا عربات ميترو متوفرة بالعدد المطلوب بما يؤمن سفرة مريحة لمستعمليها يُضاف إليها وضعيتها المتردية، ليتحول استغلال النقل بجميع وسائله وأنواعه إلى كابوس يومي لا يُعلم متى يتوقف نزيفه؟
إيمان عبد اللطيف
ويعود تردي ظروف النقل العمومي في تونس إلى عدة مؤشرات ومعطيات من ذلك وضعية الأسطول، فقد أثّر عدم توفر قطع الغيار بالنسبة لأسطول المترو سلبا على الجاهزية والاستجابة للطلبات المتزايدة، بالإضافة إلى التأخير في إعادة التهيئة الكاملة لجزء كبير من الأسطول بسبب ارتفاع الكلفة وغياب التمويل وفقا لمعطيات نشرتها الشركة.
نتج عن التأخير في تنفيذ برامج الاقتناءات تقادم الأسطول الذي أصبح معدّل عمره12 سنة و7 أشهر بالنسبة للحافلات و27 سنة و11شهرا بالنسبة لعربات المترو و44 سنة و11 شهرا بالنسبة لعربات الخط ت.ج.م. وهو ما يفسر تزايد عدد الأعطاب بداية من سنة 2020.
فقد تراجع معدّل الأسطول المتجوّل كامل أيام الأسبوع من437 في 2022 مقابل 744 سنة 2010 بالنسبة للحافلات المتجولة ومن 57 عربة في سنة 2022 مقابل 118 سنة 2010 بالنسبة للميترو ومن 5 قطارات سنة 2022 مقابل 11 قطارا سنة 2010 بالنسبة لخط ت -ج-م.
ولكن أسباب التأخر في تنفيذ برامج الاقتناءات والصعوبات المالية التي تمر بها الشركةلا تعود فقط إلى إشكاليات في التمويل، وإنما تعود أيضا وفق رئيس الجمهورية، إلى الإهمال والفساد الذي ينخر الشركة.
فمساء الجمعة 24 نوفمبر 2023، تحوّل رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى مستودع شركة نقل تونس بباب سعدون حيث قام بجولة تفقدية، مستنكرا وجود حافلات في وضعية مهملة بالكامل، مقابل معاناة يومية للمواطن مع وسائل النقل، داعيا إلى وضع حدّ لهذا الاهمال خلال الأيام القادمة.
وطلب رئيس الدولة من وزير النقل الذي تحوّل بدوره على عين المكان، ضرورة إنهاء المعاناة اليومية للمواطن مع وسائل النقل والتخلي عن الاتفاقيات التي تتطلب الكثير من الوقت والتدخل بشكل عاجل للقضاء على مظاهر الإهمال التي تبدو عليها مستودعات النقل في العاصمة والجهات.
وقال سعيّد: ''ملايين الدينارات ملقاة على الأرض في شكل خردة..،ونحن نبحث عن من يقرضنا لتمويل الميزانية.. هذا الوضع يجب أن ينتهي ولابد من ايجاد حلول عاجلة حتى يتمكن التلميذ والعامل من التنقل في ظروف تحترم كرامته''، وتابع''النقل حقّ من حقوق المواطن لكنه يعاني يوميا من الانتظار الذي يطول يوميا لساعات طويلة.. ويجب اعادة كل الخطوط التي وقع الغاؤها''.
كما دعا رئيس الدولة إلى تنظيم قطاع ''النقل الجماعي''، معتبرا أنّ طريقة عمله حاليا غير مقبولة وفيها إهانة لكرامة الانسان وتغيب فيها أساليب الأمان،على حد تعبيره .
وتوجّه رئيس الجمهورية لوزير النقل قائلا:''الإجراءات لا تحكم في إرادة الشعب التونسي، الإجراءات يجب أن تكون في خدمة الشعب التونسي.. والمواطن لن يركب الدستور ويتنقل به".
وأكّد قيس سعيد أنّ كل الأعذار لتبرير الوضع الحالي لقطاع النقل في البلاد غير مقبولة، أما بخصوص الحالة المالية المتردية لشركة نقل تونس، ''فهي نتيجة الفساد والسطو وسرقة قطع الغيار''، وقال "هم يريدون التفريط في المرفق العمومي للنقل والاستيلاء على الملك العمومي للشعب''، وأضاف ''بعض اللوبيات تريد اضمحلال النقل العمومي من تونس''.
واعرب سعيد عن استغرابه بالقول:"هذه شركة نقل تونس.. كان بالأحرى تسميتها شركة اغتيال النقل بتونس… والأكيد أن حال الشركات الجهوية نفس الشيء…. صحيح الضغط على النقل كبير في العاصمة ولكن الحلول كانت موجودة والفساد هو الذي نخر هذه المؤسسات"، معتبر أن ما يحصل جريمة في حق الشعب وأن ما شاهده في هذا المستودع ما هو الا جزء فقط من الجرائم.
من جانبه، كشف وزير النقل أنّه تم اجراء اختبارات مع وزارة أملاك الدولة وأنه سيتم رفع كل الحافلات المعطلة في المستودع المذكور في إطار صفقة سيتم امضاؤها قريبا.
في حقيقة الأمر، الكشف عن هذه المعطيات ليس بالأمر الجديد سواء في ما يتعلق بشبهات الفساد التي تحوم حول شركة نقل تونس أو الإشكاليات الهيكلية والإدارية التي تعيشها وما خلفته من وضعية مالية كارثية وصلت إلى حدّ تكبد الشركة لديون تُقدّر بـ 1880 مليون دينار سنة 2022 منها 230 مليون دينار لفائدة البنوك ومزودي قطع الغيار مع صعوبة الإيفاء بتعهداتها تجاه المزودين العموميين.
فكانت القضية التي كشفها "مرصد رقابة" من أبرز ملفات الفساد التي تمّ تداولها السنة الماضية وتعلّقت بوجود صفقة اقتناء 300 حافلة مستعملة لصالح شركة النقل بتونس بالتفاوض المباشر مع ”الوكالة المستقلة للنقل بباريس RATP“، بقيمة جملية تتجاوز 15 مليون دينار، وتضمنت اخلالات كبرى وشبهات متعلقة بطريقة اتخاذ القرار في هذه الصفقة وبالشروط التي تم الاتفاق بشأنها مع المزود الفرنسي.
وكانت الشركة قد كشفت في بيان لها نشرته منذ شهر فيفري 2023 أنها تمرّ بصعوبات هيكلية لتحقيق التوازنات المالية تتمثّل أساسا في ضعف القدرة على تغطية أعباء الاستغلال عبر مداخيل الاستغلال بما في ذلك الدّعم السنوي المرصود من الدّولة.
وأكّدت أيضا أنها تشكو من ارتفاع كلفة الاستغلال جرّاء الأعطاب المرتبطة بالصيانة التي تتطلّب اعتمادات كبرى لإعادة استغلال الأسطول المعطّب، وعلاوة على ذلك فقد ساهمت الزيادات المتتالية في سعر المحروقات والارتفاع المتواصل في أسعار قطع الغيار في مزيد تعقيد الوضعية المالية.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أنّ أبرز أسباب التدهور الملحوظ للفارق بين مؤشري المداخيل وتكاليف الاستغلال هو عدم الزيادة في التعريفة استجابة لسياسة الحفاظ على المقدرة الشرائية للمواطن حيث يناهز المفعول المالي لتجميد التعريفة 700 مليون دينار خلال الفترة 2011-2020.
من جانب آخر ساهم تراجع عدد الأسطول وتفاقم ظاهرة الترسكية في تراجع المداخيل المباشرة التي تبلغ حوالي 40 مليون دينار سنة 2022 مقابل ما يفوق 70 مليون دينار سنة 2010، وتمثل ظاهرة الترسكية من قبل المخالفين الذين يمثلون 40% من المسافرين أحد أسباب تراجع المداخيل متسببة في خسائر تقدّر بـ 20 مليون دينار سنويا.
وأرجعت شركة نقل تونس تردي وضعيتها المالية إلى الاعتداءات التي يتعرض إليها أسطول النقل، فقد سجلت الشركة 1573 اعتداء سنة 2021 كبّدتها خسائر بلغت 1 مليون دينار لتتجاوز هذه الخسائر هذا الرقم سنة 2022 وذلك دون احتساب كلفة النقص في المداخيل طيلة فترة التوقف عن الاستغلال.