كان المتحف الوطني بباردو يوم أمس الخميس مكتظا بالحركة بعد صمت طال طويلا نسبيا. وكان مشهد جمهور الزوار المصطفين أمام مدخل مبنى المتحف وأكثرهم من السياح قبل التجمع في البهو والانتظام جماعات استعدادا لرحلتهم بين ثنايا تاريخنا يتقدمهم الدليل السياحي، ملفتا للانتباه ومثيرا للارتياح. فمتحف باردو فتح أبوابه أخيرا بعد أن ظل مغلقا لاكثر من سنتين. ومثلت اعادة فتحه أمس الخميس حدثا حقيقيا، حيث تشعر بأن الحياة قد عادت لتدب في شرايين المتحف الذي يعد أحد اهم معالم البلاد وهو قبلة الزوار من مختلف مناطق الجمهورية ومن الخارج.
وكان المتحف الوطني بباردو قد اغلق أبوابه مباشرة بعد اعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد حل البرلمان واقالة الحكومة ودخول البلاد في مرحلة استثنائية بداية من 25 جويلية، الذي تولى فيه الرئيس الانفراد بالسلطة التنفيذية. وقد ظل المتحف الذي يقع في ضاحية باردو بالعاصمة ويحاذي مقر البرلمان مغلقا طيلة هذه الفترة أمام اسئلة ملحة من المهتمين اذ أن موعد فتحه ظل عبارة عن سر محفوظ حتى أنه كان مؤخرا موضوع عريضة وقع عليها عدد من أهل الثقافة طالبوا فيها باعادة فتحه في أقرب وقت لما يمثله غلق متحف في قيمة المتحف الوطني بباردو من خسارة للسياحة الثقافية ولصورة البلاد عموما. وكانت وزارة الشؤون الثقافية قد أعلنت منذ فترة انه تم استغلال فترة الغلق لاجراء أعمال صيانة وترميم، دون أن تحدد تاريخا معينا لاعادة الفتح، قبل أن تعلن هذه الأيام عن قرب هذا الحدث.
وقد تم فعلا اعادة فتح المتحف صباح امس الخميس للعموم واقيم مساء الاربعاء حفل استقبال اشرفت عليه وزيرة الشؤون الثقافية حياة قطاط القرمازي وحضرته وفود ديبلوماسية عربية واجنبية ممثلة في بلادنا، مثل فرصة لاطلاعهم على اهمية المعلم وعلى ما يضمه من كنوز اثرية.
الجديد في قاعة القيروان
ومن الواضح أن المتحف الوطني بباردو قد استفاد من أعمال صيانة وترميم واصلاحات للمبنى ووضع اجهزة جديدة للرقابة وفق ما أكدته مديرة المتحف فاطمة ايت أيغيل أمس في تصريحاتها الاعلامية بمناسبة تنظيم زيارة لأجنحة المعرض خاصة بالإعلاميين. وتنضاف هذه الاعمال لاعمال الصيانة السابقة التي كان ابرزها في بداية العشرية السابقة والتي تمت بمساعدة متحف اللوفر بفرنسا وبدعم مؤسسات اقتصادية ومالية من تونس.
وفي زيارة خاطفة للمتحف، ذلك أن زيارة المتحف بالكامل وتأمل ما يزخر به من كنوز أثرية وتراثية حقيقية، تتطلب وقتا طويلا وربما زيارات متكررة، يمكن الوقوف على الجديد وعلى ابرز الاضافات.
ولم تقتصر الاصلاحات كما هو واضح على ترميم وصيانة القطع المعروضة وإنما شملت أيضا طريقة العرض حيث نلاحظ وجود تحسينات ومراجعات لطريقة العرض تركز اكثر على قيمة القطع وتساعد الزائر على الانتباه أكثر لأهميتها.
ولعل أول شيء يشد الانتباه هو أن العديد من القطع الفسيفسائية وفي كل قاعات المتحف تقريبا قد تم ترميمها وتحسين ظروف عرضها وحمايتها كذلك. فقد وقعت احاطة بعض القطع المهمة من الناحية التاريخية ومن ناحية القيمة العلمية، بحماية خاصة كما تم الاشتغال على الاضاءة التي ساعدت على منح اغلب القطع قيمة مضافة وجعلتها تتجلى أمام أعين الزائر في كامل بهائها.
القاعة الجنائزية. اشغال ترميم واضافات
ومن حيث الاضافات، تطالعنا أولا القاعة الجنائزية التي تمت اعادة تهيئتها وفق مواصفات عالمية وفي تلك القاعة الزجاجية التي يعتريك فيها شعور بالرهبة أمام التوابيت والتماثيل الرخامية والقطع الحجرية التي تصور الطقوس الجنائزية الوثنية والمسيحية في الفترة الرومانية، لكنه يؤكد أن حياة الناس مبنية على ثنائيات وأن ابرزها ثنائية الحياة والموت، حيث تظل الشواهد التاريخية تحفظ الذاكرة وتحميها من التلاشي وحيث تكمن هنا أهمية المتاحف من حيث أنها اداة تربط بين الماضي والحاضر اذ هي ترفض أن يكون الانسان بلا مرجعيات وبلا ماض وبلا تاريخ.
وقد اعلنت ادارة المعرض أنه تمت اضافة 9 قطع اثرية جديدة بالقاعة الجنائزية من بينها تمثال مجسم لهرقل ونقائش جنائزية ونصب على شكل مذبح إلخ، نتصور أنها ستستدرج حتما المهتمين والمختصين كما نراهن على أن هذه القاعة التي تجد فيها نفسك تغالب احساسا غريبا ومليئا بالتناقض وفيه الكثير من الجذب والنفور، وأنت في عالم من الزجاج والرخام والحجر المصقول والحجارة الكلسية، ستثير فضول الزائرين الساعين بالخصوص لفهم سر الوجود.
وتعتبر قاعة الرق الأزرق من الاحداثات الجديدة في متحف باردو وهي موجودة في الطابق السفلي وتحديدا في الجناح الاسلامي الذي يضم بالخصوص قاعة القيروان. وهناك في هذه القاعة الجديدة نجد صفحات من المصحف الشهير المعروف باسم الرق الأزرق معروضة بطريقة فيها عناية رغم أننا كنا نحبذ ان تكون القطعة مصحوبة بعرض فيديو يروي تاريخ القيروان ويقدم فكرة حول قيمتها في التاريخ الاسلامي.
والمصحف مكتوب بالخط الكوفي المذهب على الورق الأزرق النادر وقد وقع اكتشافه في مدينة القيروان ويعود تاريخه وفق المؤرخين إلى القرن الرابع للهجرة. ويتكون المصحف من سبعة مجلدات من الحجم الكبير (كتب بالذهب في خط كوفي على رق أزرق أسود وكتبت السور وعدد الآيات والأحزاب بالفضة وغلف المصحف بجلد مطبوع على خشب مبطن بالحرير) وفق ما تشير إليه مصادر تاريخية. وقد ظلت بلادنا تحتفظ بهذا المخطوط باستثناء الأجزاء الأربعة الأولى الموزعة على متاحف ومجموعات خاصة عبر العالم وتقول عدة مصادر جديرة بالثقة أن الورقات المعروضة في متاحف اجنبية قد سرقت منه وهو اليوم جزء من مجموعة المخطوطات القيروانية التي يعود تاريخها إلى القرون الخمسة الهجرية الأولى الموجودة بالخصوص بمتحف الفن الاسلامي برقادة. وإلى جانب الرق الأزرق يعرض اليوم المتحف الوطني بباردو مجموعة من المخطوطات القيروانية الهامة التي يعود بعضها إلى القرن الثامن ميلادي وأخرى إلى القرن العاشر ومن بينها مثلا ورقات من المصحف المعروف باسم الحاضنة المكتوب بخط كوفي مغربي وفق ما جاء في وثائق المتحف. وقد اعلنت ادارة متحف باردو أنه تم تغيير كامل محتوى قاعة القيروان مع العلم أنه تمت عرض مجموعة من الفخار من بينها اواني وقطع مما يعرف بفخار سجنان الذي وقع ضمه إلى لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
آلهة الكونكورد في البهو الكبير ورسالة سلام إلى العالم
اشغال الترميم والاصلاحات شملت البهو والطابق السفلي كما ذكرنا وشملت أيضا الطابق العلوي، حيث تم ترميم 29 قطعة فسيفساء في قاعة أوذنة (ظلت مغلقة لسنوات ) ومنحوتات ونقوش غائرة كما تم وفق ارقام ادارة المتحف الوطني بباردو ترميم 22 لوحة فسيفسائية ارضية وحائطية بقاعة التيبيروس. قاعة دقة وقاعة سوسة بالمتحف شهدتا ايضا أعمال ترميم وصيانة حيث تمت اضافة منحوتة من معبد ساتورنوس ونقيشة جنائزية إلى قاعة دقة وتم ترميم َ3 قطعة فسيفساء بقاعة سوسة أضافة إلى مراجعة نوعية الاضاءة بالقاعة. وذلك في انتظار فتح قاعة شمتو التي ستضم الكنز الذي عثر عليه في المنطقة والمتكون من مجموعة كبيرة من القطع النقدية الذهبية اذ من المنتظر أن تفتح القاعة أمام الزوار بداية من منتصف أكتوبر القادم.
ويمكن للزوار المسكونين بتفاصيل التاريخ أن يتعرفوا عبر الشواهد المعروضة بقاعات المتحف وتحديدا في الطابق العلوي عن بعض تفاصيل فترة حكم البايات في تونس ( منذ بداية القرن الثامن إلى أوساط القرن العشرين) من خلال النياشين والقلائد المعروضة في القاعة وبعضها يحمل صور صاحبها واسمه منقوش عليها. القاعة تضم كذلك تمثالا نصفيا لاحد البايات الذي حكم تونس فيما بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ويتعلق الامر بعلي بن حسين باي.
وإذا ما عدنا إلى البهو، فإننا نشير إلى أمرين اثنين.
أولا، تم بالبهو الرئيسي عرض اللوحة الفسيفسائية لجزر ومدن البحر الأبيض المتوسط منحوتة، مؤقتا، وقد تم اكتشاف اللوحة في حيدرة من ولاية القصرين سنة 1995.
ثانيا، تم تركيز نصب آلهة السلام كونكورد في البهو الكبير وعند البوابة التي تفضي إلى اجنحة المتحف وقد بررت ادارة المعرض هذه البادرة بأنها أرادت أن تكون المنحوتة غير بعيدة عن النصب التذكاري لضحايا العملية الارهابية التي كان قد تعرض لها المتحف الوطني بباردو في 18 مارس 2015 وسقط على اثرها عدد من السياح الأجانب إلى جانب ضابط تونسي واشارت ادارة المعرض إلى أن نصب آلهة السلام يوجه رسالة سلام وتسامح للانسانية.
ولئن تعتبر أغلب القطع المعروضة في المتحف الوطني بباردو مهمة وهي شواهد دالة على المراحل التاريخية التي مرت بها بلادنا وعلى تعاقب الحضارات على الأرض التونسية، فإن أهم ما يميز المتحف اللوحات الفسيفسائية التي يعج بها وهي ذات اشكال واحجام مختلفة وجزء كبير منها يزين جدران قاعات المتحف وجزء آخر يزين الارضية. الفسيفساء وحدها بما تعج به من عوالم وما ترسمه من مشاهد تخلد لحظات عاشها البشر أو هي من وحي خيال فنانين ارادوا أن ينقلوا للأجيال اللاحقة تصورهم عن واقعهم في الماضي، كفيلة بأن تجعل الزائر يشعر بأن كل زيارة إلى متحف باردو هي عبارة عن تعبد في محراب الفن والتاريخ.
ولنا أن نعترف بأن الجهود التي قامت بها فرق الصيانة بارزة وواضحة للعيان خاصة على مستوى الاضاءة واعادة هندسة القاعات وترميم الفسيفساء مع وجود اضافات كنا اشرنا إليها بالأعلى.
طبعا كل ذلك تطلب عملا وجهودا كبيرة من فرق مختصة. وقد شددت كل من وزيرة الشؤون الثقافية ومديرة المتحف على اهمية جهود هذه الفرق واعتبرتا أنه كان من المهم أن تخصص هذه الفترة لأعمال الترميم والاصلاح لأنه لم يكن من الممكن وفق مديرة المتحف بالخصوص اجراءها وهي بهذه الدرجة من الصعوبة والدقة، والمتحف مفتوح.
المتحف الوطني بباردو.. القيمة التاريخية والمعمارية
يعتبر المتحف الوطني بباردو من المعالم التي تكتسي أهمية بالغة في بلادنا من الناحية التاريخية والمعمارية . ولاعطاء فكرة دقيقة حول ذلك ننشر فيما يلي هذا التقديم الموجز لتاريخ المعلم وفق ما نشرته وكالة احياء التراث التي تتولى التصرف في أبرز معالم البلاد .
بين قصر باردو (من الكلمة الإسبانية "برادو" وتعني حديقة) على الرياض الّتي هيّأها البستانيون الأندلسيّون للملوك الحفصيّين في ضواحي مدينة تونس. وتشهد الفساقي الثماني المتلاصقة الموجودة حتّى الآن في أقبية القصر الحالي على أنّ هذا المعْلَم هو مركّب من القصور ظهر منذ عدّة قرون. واجتمعت فيه آثارُ تعود إلى العهد الموراديّ وأخرى تعود إلى الحسينيّين وأساليبُ معماريّة كثيرة التنوّع. وقد اتّخذت الحكومة من هذا المركّب مقرّا لها. وجعلت منه مدينة حقيقيّة محَصّنة بَنت فيها مسجدا مازال موجودا إلى اليوم ومدرسة وثكنَات وحمّاما وأسواقا ومنتزها. ويعود الفضل في تهيئته إلى الحسين بن علي الّذي حكم من 1705 إلى 1735 ومؤسّس الأسرة الحسينية. ومنذ ذلك الحين اتّخذ بايات تونس من باردو مكانَ إقامتهم الرئيسيّ.
ويتركب هذا المعلم من القصر الرّسميّ. وهو ملحق حاليّا بمجلس النوّاب. ويمثّل النّواة الأصليّة ومن محلّ إقامة الباي. وقد وقعت إضافته في القرن التاسع عشر. وأصبح اليوم مقرّا للمتحف الوطني. وهو من بناء حسين بن محمّد باي الّذي حكم من 1824إلى 1835. وفيه تجتمع تقاليد معماريّة متنوّعة. منها المحلّي. ومنها الإسبانيّ الموريسكيّ. ومنها الإيطاليّ أيضا. ويتكوّن الطابق السُفلي في هذا المركّب الرّاقي من عدّة محلاّت مخصّصة لمختلف الخدمات. وفعلا توجد فيها الحامية والإسطبلات والمطابخ و"الدريبة". ويمتاز الطابق العُلويّ في قصر محمّد باي بمعماره وزينته التي اعتمدتْ النّقائشَ الجصيّة والرّسومَ على الخشب واللَّوحات الخزّفيةَ. ويتمثّل المركز الذي يتشكّل فضاءُ هذا الطّابق انطلاقا منه في الصّحن المستطيلَ الكبير الذي تحتلّه القاعة الرئيسية في المتحف. وهي قاعة قرطاج حاليا. وقد اختار من الزّينة النّمَط المنتشر في البندقيّة والمعتمد على التّجاويف السَّقِفيّة المزخرفة ومثلّثات قاعدة القباب. ويُعتبر هذا المنحى تجديدا في فنّ الزّخرفة في العمارة الحسينيّة لذلك العهد. وتظهر في هذا الطّابق عدّة قاعات مخصّصة للاستقبال وللحفلات. ويظهر كذلك مقرّ الحريم (قاعة فسيفساء "فرجيل" الحالية). وهو صليبيّ الشّكل ويتركّب من أربع غرف تفصل بينها أربعة أواوين ذات زينة غنيّة (لوحات من مربعات خزف القلاّلين ونقائش جصيّة من الطراز الإسبانيّ المغربيّ). وتغطّي هذا الفضاء قبّة متعدّدة الأضلاع يعلوها هيكل يستند إليه سقف من القرمود الأحمر.
ومتحف باردو هو اليوم موضوع مشروع يرمي إلى توسيعه وإعادة هيكلته. وهو يمتاز بمجموعته الشهيرة من الفسيفساء. وهي من أغنى المجموعات في العالم، وبمجموعته الهيلينيّة المسمّاة "مجموعة المهديّة" المتأتّية من إحدى أهمّ عمليّات الاستكشاف بالغوص في أعماق البحر.
ويحرص برنامج إعادة الهيكلة على إبراز عمارة القصر وزينته الأصليّتين لأنّه مُدْرَج في قائمة المعالم التاريخية منذ العشرينات.
وفود ديبلوماسية تزور متحف باردو
تم مساء يوم الاربعاء 13 سبتمبر الجاري تنظيم حفل استقبال على شرف مجموعة من الوفود الديبلوماسية العربية والاجنبية الممثلة في تونس بالمتحف الوطني بباردو وذلك بمناسبة اعادة فتح ابواب المتحف أمام العموم بعد غلق دام أكثر من عامين ( منذ 25 جويلية 2021).
وقد أعلنت وزيرة الشؤون الثقافية حياة القرمازي بالمناسبة عن الانتهاء من أشغال ترميم عدد مهم من الفسيفساء والمنحوتات الرومانية وإحداث مجموعة من قاعات العرض الجديد بالمتحف.
وقد تجول الضيوف بين قاعات المتحف الذي شهد مجموعة من التغييرات في طريقة العرض المتحفي. واكدت الوزيرة بنفس المناسبة
على أهمية قصر باردو الذي تعمل الدولة باستمرار على تثمينه حيث شهد العديد من التدخلات في فترات سابقة قصد توسعته أو صيانته ولعل آخرها ما بين 2010-2012 حين أصبح "القصر الحسيني" لا يتسع لاحتضان ما تزخر به بلادنا من ثروات تراثية وقطع ومجموعات نادرة لا سيما المجموعات الفسيفسائية والنقدية والتماثيل والمخطوطات، موضحة أن هذه التوسعة مثلت حدثا هاما في تاريخ المتحف من الناحية المعمارية حيث امتزج الطابع العربي - الأندلسي بالطابع المعماري المعاصر ليضيف للمتحف ثراء معماريا وثراء في الأنشطة التربوية والتكنولوجية الحديثة.
حياة السايب
تونس- الصباح
كان المتحف الوطني بباردو يوم أمس الخميس مكتظا بالحركة بعد صمت طال طويلا نسبيا. وكان مشهد جمهور الزوار المصطفين أمام مدخل مبنى المتحف وأكثرهم من السياح قبل التجمع في البهو والانتظام جماعات استعدادا لرحلتهم بين ثنايا تاريخنا يتقدمهم الدليل السياحي، ملفتا للانتباه ومثيرا للارتياح. فمتحف باردو فتح أبوابه أخيرا بعد أن ظل مغلقا لاكثر من سنتين. ومثلت اعادة فتحه أمس الخميس حدثا حقيقيا، حيث تشعر بأن الحياة قد عادت لتدب في شرايين المتحف الذي يعد أحد اهم معالم البلاد وهو قبلة الزوار من مختلف مناطق الجمهورية ومن الخارج.
وكان المتحف الوطني بباردو قد اغلق أبوابه مباشرة بعد اعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد حل البرلمان واقالة الحكومة ودخول البلاد في مرحلة استثنائية بداية من 25 جويلية، الذي تولى فيه الرئيس الانفراد بالسلطة التنفيذية. وقد ظل المتحف الذي يقع في ضاحية باردو بالعاصمة ويحاذي مقر البرلمان مغلقا طيلة هذه الفترة أمام اسئلة ملحة من المهتمين اذ أن موعد فتحه ظل عبارة عن سر محفوظ حتى أنه كان مؤخرا موضوع عريضة وقع عليها عدد من أهل الثقافة طالبوا فيها باعادة فتحه في أقرب وقت لما يمثله غلق متحف في قيمة المتحف الوطني بباردو من خسارة للسياحة الثقافية ولصورة البلاد عموما. وكانت وزارة الشؤون الثقافية قد أعلنت منذ فترة انه تم استغلال فترة الغلق لاجراء أعمال صيانة وترميم، دون أن تحدد تاريخا معينا لاعادة الفتح، قبل أن تعلن هذه الأيام عن قرب هذا الحدث.
وقد تم فعلا اعادة فتح المتحف صباح امس الخميس للعموم واقيم مساء الاربعاء حفل استقبال اشرفت عليه وزيرة الشؤون الثقافية حياة قطاط القرمازي وحضرته وفود ديبلوماسية عربية واجنبية ممثلة في بلادنا، مثل فرصة لاطلاعهم على اهمية المعلم وعلى ما يضمه من كنوز اثرية.
الجديد في قاعة القيروان
ومن الواضح أن المتحف الوطني بباردو قد استفاد من أعمال صيانة وترميم واصلاحات للمبنى ووضع اجهزة جديدة للرقابة وفق ما أكدته مديرة المتحف فاطمة ايت أيغيل أمس في تصريحاتها الاعلامية بمناسبة تنظيم زيارة لأجنحة المعرض خاصة بالإعلاميين. وتنضاف هذه الاعمال لاعمال الصيانة السابقة التي كان ابرزها في بداية العشرية السابقة والتي تمت بمساعدة متحف اللوفر بفرنسا وبدعم مؤسسات اقتصادية ومالية من تونس.
وفي زيارة خاطفة للمتحف، ذلك أن زيارة المتحف بالكامل وتأمل ما يزخر به من كنوز أثرية وتراثية حقيقية، تتطلب وقتا طويلا وربما زيارات متكررة، يمكن الوقوف على الجديد وعلى ابرز الاضافات.
ولم تقتصر الاصلاحات كما هو واضح على ترميم وصيانة القطع المعروضة وإنما شملت أيضا طريقة العرض حيث نلاحظ وجود تحسينات ومراجعات لطريقة العرض تركز اكثر على قيمة القطع وتساعد الزائر على الانتباه أكثر لأهميتها.
ولعل أول شيء يشد الانتباه هو أن العديد من القطع الفسيفسائية وفي كل قاعات المتحف تقريبا قد تم ترميمها وتحسين ظروف عرضها وحمايتها كذلك. فقد وقعت احاطة بعض القطع المهمة من الناحية التاريخية ومن ناحية القيمة العلمية، بحماية خاصة كما تم الاشتغال على الاضاءة التي ساعدت على منح اغلب القطع قيمة مضافة وجعلتها تتجلى أمام أعين الزائر في كامل بهائها.
القاعة الجنائزية. اشغال ترميم واضافات
ومن حيث الاضافات، تطالعنا أولا القاعة الجنائزية التي تمت اعادة تهيئتها وفق مواصفات عالمية وفي تلك القاعة الزجاجية التي يعتريك فيها شعور بالرهبة أمام التوابيت والتماثيل الرخامية والقطع الحجرية التي تصور الطقوس الجنائزية الوثنية والمسيحية في الفترة الرومانية، لكنه يؤكد أن حياة الناس مبنية على ثنائيات وأن ابرزها ثنائية الحياة والموت، حيث تظل الشواهد التاريخية تحفظ الذاكرة وتحميها من التلاشي وحيث تكمن هنا أهمية المتاحف من حيث أنها اداة تربط بين الماضي والحاضر اذ هي ترفض أن يكون الانسان بلا مرجعيات وبلا ماض وبلا تاريخ.
وقد اعلنت ادارة المعرض أنه تمت اضافة 9 قطع اثرية جديدة بالقاعة الجنائزية من بينها تمثال مجسم لهرقل ونقائش جنائزية ونصب على شكل مذبح إلخ، نتصور أنها ستستدرج حتما المهتمين والمختصين كما نراهن على أن هذه القاعة التي تجد فيها نفسك تغالب احساسا غريبا ومليئا بالتناقض وفيه الكثير من الجذب والنفور، وأنت في عالم من الزجاج والرخام والحجر المصقول والحجارة الكلسية، ستثير فضول الزائرين الساعين بالخصوص لفهم سر الوجود.
وتعتبر قاعة الرق الأزرق من الاحداثات الجديدة في متحف باردو وهي موجودة في الطابق السفلي وتحديدا في الجناح الاسلامي الذي يضم بالخصوص قاعة القيروان. وهناك في هذه القاعة الجديدة نجد صفحات من المصحف الشهير المعروف باسم الرق الأزرق معروضة بطريقة فيها عناية رغم أننا كنا نحبذ ان تكون القطعة مصحوبة بعرض فيديو يروي تاريخ القيروان ويقدم فكرة حول قيمتها في التاريخ الاسلامي.
والمصحف مكتوب بالخط الكوفي المذهب على الورق الأزرق النادر وقد وقع اكتشافه في مدينة القيروان ويعود تاريخه وفق المؤرخين إلى القرن الرابع للهجرة. ويتكون المصحف من سبعة مجلدات من الحجم الكبير (كتب بالذهب في خط كوفي على رق أزرق أسود وكتبت السور وعدد الآيات والأحزاب بالفضة وغلف المصحف بجلد مطبوع على خشب مبطن بالحرير) وفق ما تشير إليه مصادر تاريخية. وقد ظلت بلادنا تحتفظ بهذا المخطوط باستثناء الأجزاء الأربعة الأولى الموزعة على متاحف ومجموعات خاصة عبر العالم وتقول عدة مصادر جديرة بالثقة أن الورقات المعروضة في متاحف اجنبية قد سرقت منه وهو اليوم جزء من مجموعة المخطوطات القيروانية التي يعود تاريخها إلى القرون الخمسة الهجرية الأولى الموجودة بالخصوص بمتحف الفن الاسلامي برقادة. وإلى جانب الرق الأزرق يعرض اليوم المتحف الوطني بباردو مجموعة من المخطوطات القيروانية الهامة التي يعود بعضها إلى القرن الثامن ميلادي وأخرى إلى القرن العاشر ومن بينها مثلا ورقات من المصحف المعروف باسم الحاضنة المكتوب بخط كوفي مغربي وفق ما جاء في وثائق المتحف. وقد اعلنت ادارة متحف باردو أنه تم تغيير كامل محتوى قاعة القيروان مع العلم أنه تمت عرض مجموعة من الفخار من بينها اواني وقطع مما يعرف بفخار سجنان الذي وقع ضمه إلى لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
آلهة الكونكورد في البهو الكبير ورسالة سلام إلى العالم
اشغال الترميم والاصلاحات شملت البهو والطابق السفلي كما ذكرنا وشملت أيضا الطابق العلوي، حيث تم ترميم 29 قطعة فسيفساء في قاعة أوذنة (ظلت مغلقة لسنوات ) ومنحوتات ونقوش غائرة كما تم وفق ارقام ادارة المتحف الوطني بباردو ترميم 22 لوحة فسيفسائية ارضية وحائطية بقاعة التيبيروس. قاعة دقة وقاعة سوسة بالمتحف شهدتا ايضا أعمال ترميم وصيانة حيث تمت اضافة منحوتة من معبد ساتورنوس ونقيشة جنائزية إلى قاعة دقة وتم ترميم َ3 قطعة فسيفساء بقاعة سوسة أضافة إلى مراجعة نوعية الاضاءة بالقاعة. وذلك في انتظار فتح قاعة شمتو التي ستضم الكنز الذي عثر عليه في المنطقة والمتكون من مجموعة كبيرة من القطع النقدية الذهبية اذ من المنتظر أن تفتح القاعة أمام الزوار بداية من منتصف أكتوبر القادم.
ويمكن للزوار المسكونين بتفاصيل التاريخ أن يتعرفوا عبر الشواهد المعروضة بقاعات المتحف وتحديدا في الطابق العلوي عن بعض تفاصيل فترة حكم البايات في تونس ( منذ بداية القرن الثامن إلى أوساط القرن العشرين) من خلال النياشين والقلائد المعروضة في القاعة وبعضها يحمل صور صاحبها واسمه منقوش عليها. القاعة تضم كذلك تمثالا نصفيا لاحد البايات الذي حكم تونس فيما بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ويتعلق الامر بعلي بن حسين باي.
وإذا ما عدنا إلى البهو، فإننا نشير إلى أمرين اثنين.
أولا، تم بالبهو الرئيسي عرض اللوحة الفسيفسائية لجزر ومدن البحر الأبيض المتوسط منحوتة، مؤقتا، وقد تم اكتشاف اللوحة في حيدرة من ولاية القصرين سنة 1995.
ثانيا، تم تركيز نصب آلهة السلام كونكورد في البهو الكبير وعند البوابة التي تفضي إلى اجنحة المتحف وقد بررت ادارة المعرض هذه البادرة بأنها أرادت أن تكون المنحوتة غير بعيدة عن النصب التذكاري لضحايا العملية الارهابية التي كان قد تعرض لها المتحف الوطني بباردو في 18 مارس 2015 وسقط على اثرها عدد من السياح الأجانب إلى جانب ضابط تونسي واشارت ادارة المعرض إلى أن نصب آلهة السلام يوجه رسالة سلام وتسامح للانسانية.
ولئن تعتبر أغلب القطع المعروضة في المتحف الوطني بباردو مهمة وهي شواهد دالة على المراحل التاريخية التي مرت بها بلادنا وعلى تعاقب الحضارات على الأرض التونسية، فإن أهم ما يميز المتحف اللوحات الفسيفسائية التي يعج بها وهي ذات اشكال واحجام مختلفة وجزء كبير منها يزين جدران قاعات المتحف وجزء آخر يزين الارضية. الفسيفساء وحدها بما تعج به من عوالم وما ترسمه من مشاهد تخلد لحظات عاشها البشر أو هي من وحي خيال فنانين ارادوا أن ينقلوا للأجيال اللاحقة تصورهم عن واقعهم في الماضي، كفيلة بأن تجعل الزائر يشعر بأن كل زيارة إلى متحف باردو هي عبارة عن تعبد في محراب الفن والتاريخ.
ولنا أن نعترف بأن الجهود التي قامت بها فرق الصيانة بارزة وواضحة للعيان خاصة على مستوى الاضاءة واعادة هندسة القاعات وترميم الفسيفساء مع وجود اضافات كنا اشرنا إليها بالأعلى.
طبعا كل ذلك تطلب عملا وجهودا كبيرة من فرق مختصة. وقد شددت كل من وزيرة الشؤون الثقافية ومديرة المتحف على اهمية جهود هذه الفرق واعتبرتا أنه كان من المهم أن تخصص هذه الفترة لأعمال الترميم والاصلاح لأنه لم يكن من الممكن وفق مديرة المتحف بالخصوص اجراءها وهي بهذه الدرجة من الصعوبة والدقة، والمتحف مفتوح.
المتحف الوطني بباردو.. القيمة التاريخية والمعمارية
يعتبر المتحف الوطني بباردو من المعالم التي تكتسي أهمية بالغة في بلادنا من الناحية التاريخية والمعمارية . ولاعطاء فكرة دقيقة حول ذلك ننشر فيما يلي هذا التقديم الموجز لتاريخ المعلم وفق ما نشرته وكالة احياء التراث التي تتولى التصرف في أبرز معالم البلاد .
بين قصر باردو (من الكلمة الإسبانية "برادو" وتعني حديقة) على الرياض الّتي هيّأها البستانيون الأندلسيّون للملوك الحفصيّين في ضواحي مدينة تونس. وتشهد الفساقي الثماني المتلاصقة الموجودة حتّى الآن في أقبية القصر الحالي على أنّ هذا المعْلَم هو مركّب من القصور ظهر منذ عدّة قرون. واجتمعت فيه آثارُ تعود إلى العهد الموراديّ وأخرى تعود إلى الحسينيّين وأساليبُ معماريّة كثيرة التنوّع. وقد اتّخذت الحكومة من هذا المركّب مقرّا لها. وجعلت منه مدينة حقيقيّة محَصّنة بَنت فيها مسجدا مازال موجودا إلى اليوم ومدرسة وثكنَات وحمّاما وأسواقا ومنتزها. ويعود الفضل في تهيئته إلى الحسين بن علي الّذي حكم من 1705 إلى 1735 ومؤسّس الأسرة الحسينية. ومنذ ذلك الحين اتّخذ بايات تونس من باردو مكانَ إقامتهم الرئيسيّ.
ويتركب هذا المعلم من القصر الرّسميّ. وهو ملحق حاليّا بمجلس النوّاب. ويمثّل النّواة الأصليّة ومن محلّ إقامة الباي. وقد وقعت إضافته في القرن التاسع عشر. وأصبح اليوم مقرّا للمتحف الوطني. وهو من بناء حسين بن محمّد باي الّذي حكم من 1824إلى 1835. وفيه تجتمع تقاليد معماريّة متنوّعة. منها المحلّي. ومنها الإسبانيّ الموريسكيّ. ومنها الإيطاليّ أيضا. ويتكوّن الطابق السُفلي في هذا المركّب الرّاقي من عدّة محلاّت مخصّصة لمختلف الخدمات. وفعلا توجد فيها الحامية والإسطبلات والمطابخ و"الدريبة". ويمتاز الطابق العُلويّ في قصر محمّد باي بمعماره وزينته التي اعتمدتْ النّقائشَ الجصيّة والرّسومَ على الخشب واللَّوحات الخزّفيةَ. ويتمثّل المركز الذي يتشكّل فضاءُ هذا الطّابق انطلاقا منه في الصّحن المستطيلَ الكبير الذي تحتلّه القاعة الرئيسية في المتحف. وهي قاعة قرطاج حاليا. وقد اختار من الزّينة النّمَط المنتشر في البندقيّة والمعتمد على التّجاويف السَّقِفيّة المزخرفة ومثلّثات قاعدة القباب. ويُعتبر هذا المنحى تجديدا في فنّ الزّخرفة في العمارة الحسينيّة لذلك العهد. وتظهر في هذا الطّابق عدّة قاعات مخصّصة للاستقبال وللحفلات. ويظهر كذلك مقرّ الحريم (قاعة فسيفساء "فرجيل" الحالية). وهو صليبيّ الشّكل ويتركّب من أربع غرف تفصل بينها أربعة أواوين ذات زينة غنيّة (لوحات من مربعات خزف القلاّلين ونقائش جصيّة من الطراز الإسبانيّ المغربيّ). وتغطّي هذا الفضاء قبّة متعدّدة الأضلاع يعلوها هيكل يستند إليه سقف من القرمود الأحمر.
ومتحف باردو هو اليوم موضوع مشروع يرمي إلى توسيعه وإعادة هيكلته. وهو يمتاز بمجموعته الشهيرة من الفسيفساء. وهي من أغنى المجموعات في العالم، وبمجموعته الهيلينيّة المسمّاة "مجموعة المهديّة" المتأتّية من إحدى أهمّ عمليّات الاستكشاف بالغوص في أعماق البحر.
ويحرص برنامج إعادة الهيكلة على إبراز عمارة القصر وزينته الأصليّتين لأنّه مُدْرَج في قائمة المعالم التاريخية منذ العشرينات.
وفود ديبلوماسية تزور متحف باردو
تم مساء يوم الاربعاء 13 سبتمبر الجاري تنظيم حفل استقبال على شرف مجموعة من الوفود الديبلوماسية العربية والاجنبية الممثلة في تونس بالمتحف الوطني بباردو وذلك بمناسبة اعادة فتح ابواب المتحف أمام العموم بعد غلق دام أكثر من عامين ( منذ 25 جويلية 2021).
وقد أعلنت وزيرة الشؤون الثقافية حياة القرمازي بالمناسبة عن الانتهاء من أشغال ترميم عدد مهم من الفسيفساء والمنحوتات الرومانية وإحداث مجموعة من قاعات العرض الجديد بالمتحف.
وقد تجول الضيوف بين قاعات المتحف الذي شهد مجموعة من التغييرات في طريقة العرض المتحفي. واكدت الوزيرة بنفس المناسبة
على أهمية قصر باردو الذي تعمل الدولة باستمرار على تثمينه حيث شهد العديد من التدخلات في فترات سابقة قصد توسعته أو صيانته ولعل آخرها ما بين 2010-2012 حين أصبح "القصر الحسيني" لا يتسع لاحتضان ما تزخر به بلادنا من ثروات تراثية وقطع ومجموعات نادرة لا سيما المجموعات الفسيفسائية والنقدية والتماثيل والمخطوطات، موضحة أن هذه التوسعة مثلت حدثا هاما في تاريخ المتحف من الناحية المعمارية حيث امتزج الطابع العربي - الأندلسي بالطابع المعماري المعاصر ليضيف للمتحف ثراء معماريا وثراء في الأنشطة التربوية والتكنولوجية الحديثة.