إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

لما لا نَتَعِظُ مِمَا يجري حولنا؟.. السودان في القلب

 

أزمة شعوبنا الإنكار، حتى لما تكون على فوهة بركان الإفلاس، أو أي نوع من أنواع الأزمات، وعوض التفكير في الحلول، فهي تُفضل عدم الاعتراف بالأزمة إلى اليوم الذي سيكون فيه الوقت قد تأخر

 

بقلم: خديجة توفيق معلَّى(*)

أعرف السودان شمالا وجنوبا، قبل وبعد الانفصال. لكنني أعرف خاصة الشعب السوداني وهو من أكثر الشعوب مساندة بعضه لبعض، شعب طيب، عاش الوَيلات من العديد الأطراف، منذ عقود.

وأنا أتجول هذه الأيام في شوارع وأنهج حي الزمالك، في القاهرة، توقفت عند مشهد أزعجني لأبعد الحدود: سيدات سودانيات جالسات على الرصيف بالعشرات، أمام باب كنيسة، منتظرات أن تُفتح لهن الأبواب للحصول على مساعدات لا أعرف نوعها، إن كانت لتسوية وضعيتهن القانونية، أم لمساعدات مادية، أم ماذا. وحزَّ في نفس مشهد هذه السيدات الأبيات الشامخات، اللاتي لم تحتجن لأي مخلوق من قبل، أن تطلبن، في يوم من الأيام، المساعدة من أي كان.

دعنا لا ننسى أن في زمن غير بالبعيد، كان السودان هو مَن يُقدِّم المساعدات للمملكة العربية السعودية. والكل يعلم أن السودان من أغنى الدول العربية والذي يملك العديد من الثروات الطبيعية، والمعدنية، والطاقية...بالطبع، أنا لا ألوم على الكنيسة أي شيء، بل أنا أعبر على كل امتناني لأي شخص أو مسؤول له القدرة على تقديم أي مساعدة مهما كان نوعها على تقديمها، دون التفرقة بين الديانات والجنسيات والألوان المختلفة، لأننا في الآخر، نحن نجتمع في إنسانيتنا، وإن غاب إحساسنا بإنسانيتنا، ورحمتنا ومساندتنا بعضنا لبعض، غابت كل معاني الحياة. وسوف يحاسبنا التاريخ إن تقاعسن على مساعدة بعضنا البعض لما كان جيراننا في أمسِّ الحاجة إلى تلك المساعدة.

إحساس الألم والحزن الذي أحسست به نابع من أن لي شرف معرفة العديد من السودانيين والسودانيات الذين عملت معهم وعاشرتهم وأصبحوا جزءا مني مثلما أصبحت جزء منهم. وأنا على اتصال بهم وأعرف منهم الطبيب، والقائد الديني وعميدة الكلية وغيرهم كثيرون...القصص التي يروونها مفزعة. مفزع فعلا أن تنقلب حياة الواحد في يوم وليلة، من حياة عادية تتمثل في الاهتمام بالعائلة، والعمل والشأن العام، إلى رحلة للمجهول. تتمثل الرحلة في الأول في البحث المُضني على توفير الغذاء والأمن للعائلة. ثم وبعد أشهر، تُجبر العائلة على الخروج من البيت العائلي وترك كل الأمتعة والسيارة، وكل الذكريات والصور...وكل شيء دون معرفة تاريخ العودة للموطن أو الوطن.

والذي يُدهشني فعلا هو راية شعوب أخرى لا تَتَعِظُ مما ترى وتسمع عن مثل هذه المآسي، بل تختار أن تدفن رأسها في الرمل، مقتنعة أن كل ما يحصل في العديد من البلدان المُجاورة وغير المُجاورة لن يحصل لها أبدأ. لا بدَّ أن يكون هناك خلل ما في طبيعة الإنسان البشرية وفي شخصيته. فالجميع يلتحف بأكبر قدر ممكن من الميكانزمات الدفاعية التي تسمح له في العيش في نكران تام لما يحصل من حوله، كي يتمكن في مواصلة العيش واللهث وراء "الخبزة" مثلما يقول المثل الشعبي، قولا وفعلا وتشبيها!

وإن قال نجيب محفوظ: "أزمة حارتنا النسيان"، فأنا أقول إن أزمة شعوبنا الإنكار، حتى لما تكون على فوهة بركان الإفلاس، أو أي نوع من أنواع الأزمات، وعوض التفكير في الحلول، فهي تُفضل عدم الاعتراف بالأزمة إلى اليوم الذي سيكون فيه الوقت قد تأخر جدا، ولن ينفع الندم.

الدول الذكية هي التي تُجهزُ السيناريوهات المختلفة وتستعدُّ لكل الاحتمالات وبالتالي تَجد نفسها، حين حصول أية أزمة أو كارثة، مهيأة نفسانيا وماديا وإجرائيا، وتعرف كيف ومتى يجب أن تتحرك. شعوب أخرى تحتوي كلمة "أزمة" في لغتها على معنى الأزمة المقترنة بمعنى الفرصة، وهذا يُفسر ما وصلت إليه الصين.

آن الأوان أن نَفهم أن المستقبل ليس كارثة يجب أن نتحمَّل تداعياته حين تحصل، بل هو حلم نَصنعه بأيدينا، ونُحقِّقه لجيلنا وكل الأجيال القادمة التي سوف تمتنُّ لنا بما قمنا به، وإن تقاعسنا، فهي سوف تَلعَنُنَا وتكون مُحِقَّة في ذلك.

*خبيرة أممية

لما لا نَتَعِظُ مِمَا يجري حولنا؟..   السودان في القلب

 

أزمة شعوبنا الإنكار، حتى لما تكون على فوهة بركان الإفلاس، أو أي نوع من أنواع الأزمات، وعوض التفكير في الحلول، فهي تُفضل عدم الاعتراف بالأزمة إلى اليوم الذي سيكون فيه الوقت قد تأخر

 

بقلم: خديجة توفيق معلَّى(*)

أعرف السودان شمالا وجنوبا، قبل وبعد الانفصال. لكنني أعرف خاصة الشعب السوداني وهو من أكثر الشعوب مساندة بعضه لبعض، شعب طيب، عاش الوَيلات من العديد الأطراف، منذ عقود.

وأنا أتجول هذه الأيام في شوارع وأنهج حي الزمالك، في القاهرة، توقفت عند مشهد أزعجني لأبعد الحدود: سيدات سودانيات جالسات على الرصيف بالعشرات، أمام باب كنيسة، منتظرات أن تُفتح لهن الأبواب للحصول على مساعدات لا أعرف نوعها، إن كانت لتسوية وضعيتهن القانونية، أم لمساعدات مادية، أم ماذا. وحزَّ في نفس مشهد هذه السيدات الأبيات الشامخات، اللاتي لم تحتجن لأي مخلوق من قبل، أن تطلبن، في يوم من الأيام، المساعدة من أي كان.

دعنا لا ننسى أن في زمن غير بالبعيد، كان السودان هو مَن يُقدِّم المساعدات للمملكة العربية السعودية. والكل يعلم أن السودان من أغنى الدول العربية والذي يملك العديد من الثروات الطبيعية، والمعدنية، والطاقية...بالطبع، أنا لا ألوم على الكنيسة أي شيء، بل أنا أعبر على كل امتناني لأي شخص أو مسؤول له القدرة على تقديم أي مساعدة مهما كان نوعها على تقديمها، دون التفرقة بين الديانات والجنسيات والألوان المختلفة، لأننا في الآخر، نحن نجتمع في إنسانيتنا، وإن غاب إحساسنا بإنسانيتنا، ورحمتنا ومساندتنا بعضنا لبعض، غابت كل معاني الحياة. وسوف يحاسبنا التاريخ إن تقاعسن على مساعدة بعضنا البعض لما كان جيراننا في أمسِّ الحاجة إلى تلك المساعدة.

إحساس الألم والحزن الذي أحسست به نابع من أن لي شرف معرفة العديد من السودانيين والسودانيات الذين عملت معهم وعاشرتهم وأصبحوا جزءا مني مثلما أصبحت جزء منهم. وأنا على اتصال بهم وأعرف منهم الطبيب، والقائد الديني وعميدة الكلية وغيرهم كثيرون...القصص التي يروونها مفزعة. مفزع فعلا أن تنقلب حياة الواحد في يوم وليلة، من حياة عادية تتمثل في الاهتمام بالعائلة، والعمل والشأن العام، إلى رحلة للمجهول. تتمثل الرحلة في الأول في البحث المُضني على توفير الغذاء والأمن للعائلة. ثم وبعد أشهر، تُجبر العائلة على الخروج من البيت العائلي وترك كل الأمتعة والسيارة، وكل الذكريات والصور...وكل شيء دون معرفة تاريخ العودة للموطن أو الوطن.

والذي يُدهشني فعلا هو راية شعوب أخرى لا تَتَعِظُ مما ترى وتسمع عن مثل هذه المآسي، بل تختار أن تدفن رأسها في الرمل، مقتنعة أن كل ما يحصل في العديد من البلدان المُجاورة وغير المُجاورة لن يحصل لها أبدأ. لا بدَّ أن يكون هناك خلل ما في طبيعة الإنسان البشرية وفي شخصيته. فالجميع يلتحف بأكبر قدر ممكن من الميكانزمات الدفاعية التي تسمح له في العيش في نكران تام لما يحصل من حوله، كي يتمكن في مواصلة العيش واللهث وراء "الخبزة" مثلما يقول المثل الشعبي، قولا وفعلا وتشبيها!

وإن قال نجيب محفوظ: "أزمة حارتنا النسيان"، فأنا أقول إن أزمة شعوبنا الإنكار، حتى لما تكون على فوهة بركان الإفلاس، أو أي نوع من أنواع الأزمات، وعوض التفكير في الحلول، فهي تُفضل عدم الاعتراف بالأزمة إلى اليوم الذي سيكون فيه الوقت قد تأخر جدا، ولن ينفع الندم.

الدول الذكية هي التي تُجهزُ السيناريوهات المختلفة وتستعدُّ لكل الاحتمالات وبالتالي تَجد نفسها، حين حصول أية أزمة أو كارثة، مهيأة نفسانيا وماديا وإجرائيا، وتعرف كيف ومتى يجب أن تتحرك. شعوب أخرى تحتوي كلمة "أزمة" في لغتها على معنى الأزمة المقترنة بمعنى الفرصة، وهذا يُفسر ما وصلت إليه الصين.

آن الأوان أن نَفهم أن المستقبل ليس كارثة يجب أن نتحمَّل تداعياته حين تحصل، بل هو حلم نَصنعه بأيدينا، ونُحقِّقه لجيلنا وكل الأجيال القادمة التي سوف تمتنُّ لنا بما قمنا به، وإن تقاعسنا، فهي سوف تَلعَنُنَا وتكون مُحِقَّة في ذلك.

*خبيرة أممية