أيام قليلة تفصل النّقابيّات والنّقابيّين عن إحياء ذكرى ملحمة 5 أوت 1947. وهي ملحمة دارت رحاها بين الاستعمار الفرنسي والنّقابيّات والنّقابيّين في جهة صفاقس يوم تنفيذ الإضراب العام الذي أقرّه الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل وقتها لمطالبة السلطات الفرنسيّة بتحسين أجور الأجراء. كانت ملحمة قدّم فيها أبناء عاصمة الجنوب 30 شهيدا وأكثر من 150 جريحا.
وقد سجّلت هذه الذكرى محطّة هامة في تاريخ مقاومة الاستعمار الفرنسيّ. وكان الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة على كل أحرار تونس وحرائرها سنّة دأب عليها الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل في مدينة صفاقس من عشية يوم 4 أوت إلى غاية مساء يوم 5 أوت من كلّ سنة ولا يزال. ويكون الاحتفال بإقامة معرض وثائقيّ ببهو دار الاتحاد الجهويّ للشّغل بصفاقس وإلقاء الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل كلمة مرفوقا بأعضاء المكتب التنفيذي وزيارة النّصب التّذكاري لشهداء 5 أوت 1947 أمام ملعب عامر الڤرڤوري وزيارة مقبرة الشهداء بمدينة صفاقس.
ولو حاولنا أن نقيّم بموضوعيّة إحياء ذكرى 5 أوت 1947 على مرّ السنين الطوال لوجدنا أنّ الاحتفالات كانت في مستوى الحدث الجلل الذي ضحّى من أجله التونسيّون بدمائهم الغالية. كانت نسبة التفاف العمّال بالقيادة النقابيّة محترمة يعبّر عنها في قاموس النّقابيّين "وحدة وصراع" تتجسّد في تجمهر القواعد النقابيّة أمام دار الاتحاد واستعدادها استعدادا حثيثا لإعطاء هذا التاريخ ما يستحقه من وفاء لشهداء تونس الأبرار الذين عبّدوا الطريق نحو الحرّية والكرامة والانعتاق الاجتماعيّ. وكانت الشوارع المؤدية لدار الاتحاد الجهويّ للشّغل بصفاقس مزدانة بأعلام تونس وأعلام الاتحاد العام التونسي للشّغل وباللاّفتات التي ترفع شعار مواصلة النضال على درب حشاد زعيم الحركة النقابيّة والوطنية ورفاقه الأفذاذ. كان إحياء ذكرى 5 أوت 1947 أيضا مناسبة تُرفع فيها العديد من الشعارات التي تترجم واقع الطّبقة العاملة وتنادي بكلّ أمل بتحقيق مطالبهم المشروعة، لاسيّما وأنّ جسر التّواصل بين القواعد النّقابيّة وقيادتها كان مفعما بالودّ والثّقة المتبادلتين.
لكن هل بقيت دار لقمان على حالها بالمفهوم الايجابي إلى اليوم؟ أم هل تغيّرت الأمور وهل تبدّلت أوضاع القواعد النقابيّة على المستوى الجهويّ والوطنيّ قد تبدّلت؟
يرى بعضهم أنّ الفتور بدأ يشوب القواعد النّقابيّة منذ أن ساندت القيادات النقابيّة الحكومات المتعاقبة بعد 2011 وحكمت البلاد معها بطريقة غير مباشرة وأنّ للمركزيّة النّقابيّة ضلعا فيما آلت إليه أوضاع البلاد من خراب ودمار في العشر السّنوات الأخيرة. وقد زاد انقلاب قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الحاليّة على الفصل العشرين من النّظام الدّاخلي للمنظّمة والاستيلاء على حرية النقابيّات والنقابيّين في اختيار من يسوس المكتب التنّفيذيّ في توتير العلاقة بينها وبين قواعدها في كلّ القطاعات دون استثناء. بالإضافة إلى إقصاء القواعد النّقابيّة من متابعة مؤتمر الاتحاد العادي الوطني بمدينة صفاقس أيام 16 و17 و18 فيفري 2022 والمشاركة فيه، الأمر الذي قصم ظهرها ونزع شعرة معاوية بينها وبين المكتب الوطني للاتحاد العام التّونسي للشّغل والمكاتب الجهويّة والمحلّيّة. هناك أيضا من يرى أنّ خمود صوت الأمين العام وأعضاده وعدم ظهورهم في المنابر والسّاحات كما قبل لأكبر دليل على فشلهم الذّريع وخيبتهم التي منوا بها بعد المؤتمر العار الذي عُقد في صفاقس وما ساده من تحيّل صارخ على القواعد النقابية. وقد تسبّبت هذه الأحداث في فشل المفاوضات بين نقابتي التعليم الثانوي والتعليم الأساسي وانهيار أصحاب القرار في الاتحاد وما حصل من مدّ وجزر وصراع بلغ مداه مع وزارة التربية كانت نتائجه كارثية على التلاميذ وعلى منظوري القطاعين.
قد يرى البعض الآخر أنّ هذه القراءة فيها تحامل واضح وصريح على القيادة وإنّ الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل كان الصّوت الذي لا يعلو فوقه صوت ولا يزال.
ومن ناحيتنا نقول إنّ طريقة إحياء ملحمة 5 أوت 1947 هذه السّنة ستكشف لنا الخبر اليقين بدءا من حضور الأمين العام إلى صفاقس من عدمه وحضور النّقابيّات والنقابيّين أمام دار الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس وقوّة الشّعارات سواء منها المؤيدة للقيادة النقابية أو المعارضة لها والمطالبة إيّاها بالرّحيل. ولنا في إحياء ذكرى وفاة المناضل الحبيب عاشور بجزيرة قرقنة مثال، إذ تحوّلت القيادة النّقابيّة إلى جزيرة قرقنة منذ مساء الأحد 12 مارس 2023 تحت جناح الظّلام قصد الاحتفال بالذّكرى الرّابعة والعشرين لوفاة الزّعيم الوطنيّ والنّقابي الحبيب عاشور. وقد كان في برنامج هذه الذّكرى، كما جرت العادة، أن يتحوّل الأمين العام ومرافقوه إلى مقرّ الاتّحاد المحلّي بقرقنة لإلقاء خطاب جماهيريّ يحضره العمّال بالفكر والسّاعد والقيام بجولة في معرض المقرّ الذي خُصّص لاستعراض أهمّ مراحل الكفاح الوطني والنّقابيّ للرّاحل الحبيب عاشور بطل معركة 5 أوت 1947. لكنّ ذلك لم يتمّ بل اُغلق مقرّ الاتّحاد المحلّي بقرقنة وتحوّل الأمين العام وكلّ مرافقيه إلى محطّة سيدي يوسف باتّجاه صفاقس ثمّ العاصمة.
وقد كانت مجموعة من النّقابيّات والنّقابيّين من قرقنة وخارجها أمام مقرّ الاتّحاد المحلّيّ في انتظار الأمين العام ومرافقيه رافعين شعارات تؤكّد ضرورة محاسبة كلّ من سرق أموال الشّعب وأكل خيراته وأن يظلّ الاتّحاد حرّا مستقلاّ أبد الدّهر في قراراته التي يُفترض أن تتّخذها القواعد النّقابيّة لتترجم مطالبها. ودعت النّقابيّات والنّقابيّون المحتجّون إلى أن يكون الاحتفال بذكرى 14 مارس حقّا للدّفاع عن التّراث المجيد للمنظّمة بعيدا عن الاستثمار المهين لها.
وعلى العموم، فإنّنا نعتقد أنّه بقدر ما لتاريخ 5 أوت 1947 من رمزيّة نضاليّة تشير إلى ما قدّمه أبناء تونس من أرواحهم ودمائهم الغالية بقدر ما ستكون مدينة صفاقس، الحاضرة بفعلها النّضاليّ اللاّمع في تاريخ الحركة الوطنيّة والنقابيّة في تونس، شاهدة يوم 5 أوت 2023 لقيادة الاتحاد العام التونسي للشّغل الحاليّة بسلامتها وعافيتها أو شاهدة على احتضارها وعلى أنّها على قاب قوسين أو أدنى من المغادرة الطوعيّة أو القسريّة.
بقلم:مصدّق الشّريف
أيام قليلة تفصل النّقابيّات والنّقابيّين عن إحياء ذكرى ملحمة 5 أوت 1947. وهي ملحمة دارت رحاها بين الاستعمار الفرنسي والنّقابيّات والنّقابيّين في جهة صفاقس يوم تنفيذ الإضراب العام الذي أقرّه الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل وقتها لمطالبة السلطات الفرنسيّة بتحسين أجور الأجراء. كانت ملحمة قدّم فيها أبناء عاصمة الجنوب 30 شهيدا وأكثر من 150 جريحا.
وقد سجّلت هذه الذكرى محطّة هامة في تاريخ مقاومة الاستعمار الفرنسيّ. وكان الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة على كل أحرار تونس وحرائرها سنّة دأب عليها الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل في مدينة صفاقس من عشية يوم 4 أوت إلى غاية مساء يوم 5 أوت من كلّ سنة ولا يزال. ويكون الاحتفال بإقامة معرض وثائقيّ ببهو دار الاتحاد الجهويّ للشّغل بصفاقس وإلقاء الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل كلمة مرفوقا بأعضاء المكتب التنفيذي وزيارة النّصب التّذكاري لشهداء 5 أوت 1947 أمام ملعب عامر الڤرڤوري وزيارة مقبرة الشهداء بمدينة صفاقس.
ولو حاولنا أن نقيّم بموضوعيّة إحياء ذكرى 5 أوت 1947 على مرّ السنين الطوال لوجدنا أنّ الاحتفالات كانت في مستوى الحدث الجلل الذي ضحّى من أجله التونسيّون بدمائهم الغالية. كانت نسبة التفاف العمّال بالقيادة النقابيّة محترمة يعبّر عنها في قاموس النّقابيّين "وحدة وصراع" تتجسّد في تجمهر القواعد النقابيّة أمام دار الاتحاد واستعدادها استعدادا حثيثا لإعطاء هذا التاريخ ما يستحقه من وفاء لشهداء تونس الأبرار الذين عبّدوا الطريق نحو الحرّية والكرامة والانعتاق الاجتماعيّ. وكانت الشوارع المؤدية لدار الاتحاد الجهويّ للشّغل بصفاقس مزدانة بأعلام تونس وأعلام الاتحاد العام التونسي للشّغل وباللاّفتات التي ترفع شعار مواصلة النضال على درب حشاد زعيم الحركة النقابيّة والوطنية ورفاقه الأفذاذ. كان إحياء ذكرى 5 أوت 1947 أيضا مناسبة تُرفع فيها العديد من الشعارات التي تترجم واقع الطّبقة العاملة وتنادي بكلّ أمل بتحقيق مطالبهم المشروعة، لاسيّما وأنّ جسر التّواصل بين القواعد النّقابيّة وقيادتها كان مفعما بالودّ والثّقة المتبادلتين.
لكن هل بقيت دار لقمان على حالها بالمفهوم الايجابي إلى اليوم؟ أم هل تغيّرت الأمور وهل تبدّلت أوضاع القواعد النقابيّة على المستوى الجهويّ والوطنيّ قد تبدّلت؟
يرى بعضهم أنّ الفتور بدأ يشوب القواعد النّقابيّة منذ أن ساندت القيادات النقابيّة الحكومات المتعاقبة بعد 2011 وحكمت البلاد معها بطريقة غير مباشرة وأنّ للمركزيّة النّقابيّة ضلعا فيما آلت إليه أوضاع البلاد من خراب ودمار في العشر السّنوات الأخيرة. وقد زاد انقلاب قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الحاليّة على الفصل العشرين من النّظام الدّاخلي للمنظّمة والاستيلاء على حرية النقابيّات والنقابيّين في اختيار من يسوس المكتب التنّفيذيّ في توتير العلاقة بينها وبين قواعدها في كلّ القطاعات دون استثناء. بالإضافة إلى إقصاء القواعد النّقابيّة من متابعة مؤتمر الاتحاد العادي الوطني بمدينة صفاقس أيام 16 و17 و18 فيفري 2022 والمشاركة فيه، الأمر الذي قصم ظهرها ونزع شعرة معاوية بينها وبين المكتب الوطني للاتحاد العام التّونسي للشّغل والمكاتب الجهويّة والمحلّيّة. هناك أيضا من يرى أنّ خمود صوت الأمين العام وأعضاده وعدم ظهورهم في المنابر والسّاحات كما قبل لأكبر دليل على فشلهم الذّريع وخيبتهم التي منوا بها بعد المؤتمر العار الذي عُقد في صفاقس وما ساده من تحيّل صارخ على القواعد النقابية. وقد تسبّبت هذه الأحداث في فشل المفاوضات بين نقابتي التعليم الثانوي والتعليم الأساسي وانهيار أصحاب القرار في الاتحاد وما حصل من مدّ وجزر وصراع بلغ مداه مع وزارة التربية كانت نتائجه كارثية على التلاميذ وعلى منظوري القطاعين.
قد يرى البعض الآخر أنّ هذه القراءة فيها تحامل واضح وصريح على القيادة وإنّ الاتحاد العام التّونسيّ للشّغل كان الصّوت الذي لا يعلو فوقه صوت ولا يزال.
ومن ناحيتنا نقول إنّ طريقة إحياء ملحمة 5 أوت 1947 هذه السّنة ستكشف لنا الخبر اليقين بدءا من حضور الأمين العام إلى صفاقس من عدمه وحضور النّقابيّات والنقابيّين أمام دار الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس وقوّة الشّعارات سواء منها المؤيدة للقيادة النقابية أو المعارضة لها والمطالبة إيّاها بالرّحيل. ولنا في إحياء ذكرى وفاة المناضل الحبيب عاشور بجزيرة قرقنة مثال، إذ تحوّلت القيادة النّقابيّة إلى جزيرة قرقنة منذ مساء الأحد 12 مارس 2023 تحت جناح الظّلام قصد الاحتفال بالذّكرى الرّابعة والعشرين لوفاة الزّعيم الوطنيّ والنّقابي الحبيب عاشور. وقد كان في برنامج هذه الذّكرى، كما جرت العادة، أن يتحوّل الأمين العام ومرافقوه إلى مقرّ الاتّحاد المحلّي بقرقنة لإلقاء خطاب جماهيريّ يحضره العمّال بالفكر والسّاعد والقيام بجولة في معرض المقرّ الذي خُصّص لاستعراض أهمّ مراحل الكفاح الوطني والنّقابيّ للرّاحل الحبيب عاشور بطل معركة 5 أوت 1947. لكنّ ذلك لم يتمّ بل اُغلق مقرّ الاتّحاد المحلّي بقرقنة وتحوّل الأمين العام وكلّ مرافقيه إلى محطّة سيدي يوسف باتّجاه صفاقس ثمّ العاصمة.
وقد كانت مجموعة من النّقابيّات والنّقابيّين من قرقنة وخارجها أمام مقرّ الاتّحاد المحلّيّ في انتظار الأمين العام ومرافقيه رافعين شعارات تؤكّد ضرورة محاسبة كلّ من سرق أموال الشّعب وأكل خيراته وأن يظلّ الاتّحاد حرّا مستقلاّ أبد الدّهر في قراراته التي يُفترض أن تتّخذها القواعد النّقابيّة لتترجم مطالبها. ودعت النّقابيّات والنّقابيّون المحتجّون إلى أن يكون الاحتفال بذكرى 14 مارس حقّا للدّفاع عن التّراث المجيد للمنظّمة بعيدا عن الاستثمار المهين لها.
وعلى العموم، فإنّنا نعتقد أنّه بقدر ما لتاريخ 5 أوت 1947 من رمزيّة نضاليّة تشير إلى ما قدّمه أبناء تونس من أرواحهم ودمائهم الغالية بقدر ما ستكون مدينة صفاقس، الحاضرة بفعلها النّضاليّ اللاّمع في تاريخ الحركة الوطنيّة والنقابيّة في تونس، شاهدة يوم 5 أوت 2023 لقيادة الاتحاد العام التونسي للشّغل الحاليّة بسلامتها وعافيتها أو شاهدة على احتضارها وعلى أنّها على قاب قوسين أو أدنى من المغادرة الطوعيّة أو القسريّة.