لم يستقّر النظام الجمهوري، بعد الثورة، ومازلنا الى اليوم في حالة مخاض وتجريب لوصفات دستورية مختلفة، والمغامرة بمسارات سياسية جديدة، فشل بعضها فشلا ذريعا ومازال آخرها يقاوم فشله ويحاول النجاح رغم كل الإخفاقات والخيبات !
ولم تتميّز مرحلة ما بعد الثورة بالصراعات السياسية والحزبية الطاحنة والتي غيّرت من ملامح الدولة ومن ملامح النظام أكثر من مرّة بل تميّزت كذلك بتعدّد الحكومات والرؤساء.. وحتى تعدّد الجمهوريات !
رؤساء وجمهوريات ..
أكثر من تجربة جمهورية شهدناها بعد الثورة، فبعد تعليق العمل بدستور 1959 في مارس 2011 الذي كان حاضرا في ضمان انتقالا سلسا للسلطة بعد سقوط نظام بن علي، انتهت فعليا تجربة الجمهورية الأولى التي التصقت بإعلان الاستقلال واختيار النظام الجمهوري كنظام سياسي لإدارة الدولة والشأن العام بعد أن كانت الدولة ملكية دستورية تحت حكم البايات، وبين تعليق دستور 1959 والمصادقة على دستور 2014 الذي أسّس للجمهورية الثانية، كانت هناك فترة فراغ بملامح نظام جمهوري تجسّد من خلال التنظيم المؤقت للسلط الذي كان أشبه بدستور صغير .
وفترة الجمهورية الثانية لم تدم حسابيا إلا 6 سنوات، حيث أعلن الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021 عن تعليق العمل بالدستور والذهاب الى جمهورية جديدة، بملامح سياسية جديدة وهو ما حدث ويحدث اليوم، جمهورية عاد فيها النظام رئاسيا كما كان في الجمهورية الأولى ولكن بأكثر وأوسع صلاحيات لرئيس الجمهورية بعد تجربة النظام البرلماني المعدّل التي فرضها دستور 2014 ولم تنجح لعدة أسباب ولعلها أبرزها عدم نضج الأحزاب والساحة السياسية بشكل واضح انتهى في النهاية بالصدام والصراع وترذيل المشهد السياسي برمته..
وخلال كل هذه التجارب السياسية التي حافظت دائما على طابعها الجمهوري بعد الثورة، برزت شخصيات وأسماء سياسية شغلت منصب الرئيس من مواقع مختلفة، حيث عشنا بعد الثورة أيضا تجربة الحكم برؤوس ثلاثة في قرطاج والقصبة وباردو، ووجود ثلاثة رؤساء على رأس الدولة كانت ظاهرة لافتة ولكنها لن ترتّب أي اثر إيجابي في تسيير الدولة، حيث تحوّل الأمر إلى صراعات خفية بين قصور الحكم .
فإذا كان الباجي قائد السبسي العائد بعد الثورة الى الساحة السياسية بعد ابتعاد طويل وبعد تاريخ حافل في كواليس ومناصب الدولة الوطنية، استطاع أن يحكم بأريحية في 2011 كرئيس وزراء مع الرئيس المؤقت وقتها فؤاد المبزّع في غياب البرلمان الذي تم حلّه بعد الثورة، فإن تلك الأريحية لم تتوفّر له بعد انتخابه في انتخابات ديمقراطية نزيهة في 2014 رغم أن الرؤساء الثلاثة وقتها كانوا ينتمون الى نفس الحزب الفائز بالانتخابات (نداء تونس)، لكن بعد ظهور الصراع والشقوق داخل الحزب بدأت الخلافات تتعمّق بين الرؤساء الثلاثة في مرحلة أولى قايد السبسي ومحمد الناصر ورئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي تم إجباره على الاستقالة وبعد ذلك تم تعيين يوسف الشاهد الذي لا يملك أدنى خبرة سياسية ولا خبرة في إدارة الدولة، ورغم أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي راهن بقوة على يوسف الشاهد ودفع به الى ذروة المجد السياسي دون حتى أن تكون له مؤهلات لذلك ولكن في النهاية انقلب الشاهد على الأب الروحي الباجي قايد السبسي الذي أمضى آخر سنة من حكمه شبه معزول في قصر قرطاج ولا علاقة له بالأحداث بعد أن استفرد الشاهد بالحكم واستفردت حركة النهضة بالبرلمان.
بعد 2019 اختلف الوضع بشكل جذري حيث فشل الحزب الفائز حركة النهضة في تشكيل حكومة وفي تعيين الحبيب الجمني في منصب رئيس حكومة وهذا الفشل منح للرئيس قيس سعيد صلاحيات اعتبارية منحها له الدستور في شكل استثناء ألا وهي تكوين حكومة الرئيس، وتجربة حكومة الرئيس جعلت رئيس الحكومة أقرب في أفكاره الى رئيس الدولة قيس سعيد منه الى رئيس البرلمان راشد الغنوشي وخاصة في فترة الياس الفخفاخ وهو ما جعل حركة النهضة تسقطه وحكومته في النهاية. ورغم أن قيس سعيد دفع بهشام المشيشي كرئيس للحكومة رغم انه شخصية مغمورة ولكن المشيشي أعاد سردية يوسف الشاهد في الحكم وانقلب على قيس سعيد وبات اقرب الى التحالف البرلماني الحاكم الذي تقوده حركة النهضة ومن هناك انطلق الصراع الطاحن والذي انتهى بتفعيل الفصل 80 .
وانشغال الرؤساء بصراعاتهم دون العمل على أن يكون لهم أثر حقيقي في تاريخ تونس بعد اللحظة الثورية، ينسحب أيضا على فترة الترويكا التي لم تكن محكومة بالصراعات باعتبار أن رئيسي حكومة الترويكا علي العريض وحمادي الجبالي كانا مسنودين من الحزب المهيمن برلمانيا حركة النهضة ولكنها كانت محكومة بالتباين في موازين القوى حيث لم يكن المنصف المرزوقي باعتباره رئيسا مؤقتا ولم يتم انتخابه مباشرة من الشعب يملك أي قوة أو وزن أو تأثير في القرار السياسي.
كل أولئك الرؤساء استطاع بعضهم أن يصنع أحداثا كبرى في الزمن التونسي ولكن ولا أحد بينهم كتب تاريخا استثنائيا ستذكره الأجيال بانبهار في المستقبل.. وحتى اليوم وهذا التاريخ الجديد للدولة الذي يكتبه قيس سعيد لا نعلم نهايته ولا نعلم كيف سيحكم عليه التاريخ .
منية العرفاوي
تونس – الصباح
لم يستقّر النظام الجمهوري، بعد الثورة، ومازلنا الى اليوم في حالة مخاض وتجريب لوصفات دستورية مختلفة، والمغامرة بمسارات سياسية جديدة، فشل بعضها فشلا ذريعا ومازال آخرها يقاوم فشله ويحاول النجاح رغم كل الإخفاقات والخيبات !
ولم تتميّز مرحلة ما بعد الثورة بالصراعات السياسية والحزبية الطاحنة والتي غيّرت من ملامح الدولة ومن ملامح النظام أكثر من مرّة بل تميّزت كذلك بتعدّد الحكومات والرؤساء.. وحتى تعدّد الجمهوريات !
رؤساء وجمهوريات ..
أكثر من تجربة جمهورية شهدناها بعد الثورة، فبعد تعليق العمل بدستور 1959 في مارس 2011 الذي كان حاضرا في ضمان انتقالا سلسا للسلطة بعد سقوط نظام بن علي، انتهت فعليا تجربة الجمهورية الأولى التي التصقت بإعلان الاستقلال واختيار النظام الجمهوري كنظام سياسي لإدارة الدولة والشأن العام بعد أن كانت الدولة ملكية دستورية تحت حكم البايات، وبين تعليق دستور 1959 والمصادقة على دستور 2014 الذي أسّس للجمهورية الثانية، كانت هناك فترة فراغ بملامح نظام جمهوري تجسّد من خلال التنظيم المؤقت للسلط الذي كان أشبه بدستور صغير .
وفترة الجمهورية الثانية لم تدم حسابيا إلا 6 سنوات، حيث أعلن الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021 عن تعليق العمل بالدستور والذهاب الى جمهورية جديدة، بملامح سياسية جديدة وهو ما حدث ويحدث اليوم، جمهورية عاد فيها النظام رئاسيا كما كان في الجمهورية الأولى ولكن بأكثر وأوسع صلاحيات لرئيس الجمهورية بعد تجربة النظام البرلماني المعدّل التي فرضها دستور 2014 ولم تنجح لعدة أسباب ولعلها أبرزها عدم نضج الأحزاب والساحة السياسية بشكل واضح انتهى في النهاية بالصدام والصراع وترذيل المشهد السياسي برمته..
وخلال كل هذه التجارب السياسية التي حافظت دائما على طابعها الجمهوري بعد الثورة، برزت شخصيات وأسماء سياسية شغلت منصب الرئيس من مواقع مختلفة، حيث عشنا بعد الثورة أيضا تجربة الحكم برؤوس ثلاثة في قرطاج والقصبة وباردو، ووجود ثلاثة رؤساء على رأس الدولة كانت ظاهرة لافتة ولكنها لن ترتّب أي اثر إيجابي في تسيير الدولة، حيث تحوّل الأمر إلى صراعات خفية بين قصور الحكم .
فإذا كان الباجي قائد السبسي العائد بعد الثورة الى الساحة السياسية بعد ابتعاد طويل وبعد تاريخ حافل في كواليس ومناصب الدولة الوطنية، استطاع أن يحكم بأريحية في 2011 كرئيس وزراء مع الرئيس المؤقت وقتها فؤاد المبزّع في غياب البرلمان الذي تم حلّه بعد الثورة، فإن تلك الأريحية لم تتوفّر له بعد انتخابه في انتخابات ديمقراطية نزيهة في 2014 رغم أن الرؤساء الثلاثة وقتها كانوا ينتمون الى نفس الحزب الفائز بالانتخابات (نداء تونس)، لكن بعد ظهور الصراع والشقوق داخل الحزب بدأت الخلافات تتعمّق بين الرؤساء الثلاثة في مرحلة أولى قايد السبسي ومحمد الناصر ورئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي تم إجباره على الاستقالة وبعد ذلك تم تعيين يوسف الشاهد الذي لا يملك أدنى خبرة سياسية ولا خبرة في إدارة الدولة، ورغم أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي راهن بقوة على يوسف الشاهد ودفع به الى ذروة المجد السياسي دون حتى أن تكون له مؤهلات لذلك ولكن في النهاية انقلب الشاهد على الأب الروحي الباجي قايد السبسي الذي أمضى آخر سنة من حكمه شبه معزول في قصر قرطاج ولا علاقة له بالأحداث بعد أن استفرد الشاهد بالحكم واستفردت حركة النهضة بالبرلمان.
بعد 2019 اختلف الوضع بشكل جذري حيث فشل الحزب الفائز حركة النهضة في تشكيل حكومة وفي تعيين الحبيب الجمني في منصب رئيس حكومة وهذا الفشل منح للرئيس قيس سعيد صلاحيات اعتبارية منحها له الدستور في شكل استثناء ألا وهي تكوين حكومة الرئيس، وتجربة حكومة الرئيس جعلت رئيس الحكومة أقرب في أفكاره الى رئيس الدولة قيس سعيد منه الى رئيس البرلمان راشد الغنوشي وخاصة في فترة الياس الفخفاخ وهو ما جعل حركة النهضة تسقطه وحكومته في النهاية. ورغم أن قيس سعيد دفع بهشام المشيشي كرئيس للحكومة رغم انه شخصية مغمورة ولكن المشيشي أعاد سردية يوسف الشاهد في الحكم وانقلب على قيس سعيد وبات اقرب الى التحالف البرلماني الحاكم الذي تقوده حركة النهضة ومن هناك انطلق الصراع الطاحن والذي انتهى بتفعيل الفصل 80 .
وانشغال الرؤساء بصراعاتهم دون العمل على أن يكون لهم أثر حقيقي في تاريخ تونس بعد اللحظة الثورية، ينسحب أيضا على فترة الترويكا التي لم تكن محكومة بالصراعات باعتبار أن رئيسي حكومة الترويكا علي العريض وحمادي الجبالي كانا مسنودين من الحزب المهيمن برلمانيا حركة النهضة ولكنها كانت محكومة بالتباين في موازين القوى حيث لم يكن المنصف المرزوقي باعتباره رئيسا مؤقتا ولم يتم انتخابه مباشرة من الشعب يملك أي قوة أو وزن أو تأثير في القرار السياسي.
كل أولئك الرؤساء استطاع بعضهم أن يصنع أحداثا كبرى في الزمن التونسي ولكن ولا أحد بينهم كتب تاريخا استثنائيا ستذكره الأجيال بانبهار في المستقبل.. وحتى اليوم وهذا التاريخ الجديد للدولة الذي يكتبه قيس سعيد لا نعلم نهايته ولا نعلم كيف سيحكم عليه التاريخ .