إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ودع كل بذاءة عابرة غير البذاءة التي تنكل بضعاف الحال

بقلم:مصدّق الشّريف(*)

أقيمت الدنيا وأقعدت في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بسبب ما قاله أحدهم من بذيء الكلام في سهرة الأحد 16 جويلية 2023 على ركح مسرح قرطاج الدّولي. وقد حدا هذا الأمر بمدير المهرجان إلى عقد ندوة صحفية ليبرئ نفسه ويبرئ لجنة المهرجان عموما مما صدر من ضيف مسرح قرطاج. ولم يهدأ بال وزيرة الثقافة أيضا فاجتمعت بإطارات الوزارة العليا وهيئات المهرجانات وأصدرت تعليماتها. ومن جهة أخرى اقتنص الكثيرون الفرصة، وهم دون شك من لا تهمهم أيام قرطاج وبرامجها بقدر ما يهمهم التربص بوزيرة الثقافة، ليتركوا المسألة وموضوعها والشكل الذي طرحت فيه وإطاره الزماني والمكاني جانبا. وهو لعمري سلوك كثير من التونسيّين الذين تعمى أبصارهم عن كل شيء إلاّ طول المسؤول وعرضه ونسبه وحسبه وعرضه وجاهه وماله...

ما أبعدنا عن الفكر النقدي البناء الذي ينأى بنا عن معمعة الخصام والانتقاد والسب والشتم وهتك الأعراض. وبصراحة، فإنه بقدر ما للشأن الثقافي من أولوية وضرورة الحفاظ على سموه ورسالته الهادفة توجد مسائل أخرى تتصدر الأولويات، لأنها حياتية ودونها لا يمكن للعيش أن يكون عيشا، ولا يكون من يحيون إلاّ معذّبين يعانون من نكد الحظ أو أمواتا غير مقبورين ولو ماتوا لكان لهم ذلك أفضل...

سنتحدث عن بذاءة من نوع آخر وهي أخطر وأوجع وأنكد. ولئن كان بذيء القول "يطرش الآذان" ولا يمكن قبوله لاسيما لو كنت بين أفراد أسرتك فبالإمكان أن تتخذ منه مكانا قصيا وتوهم نفسك أنك لم تسمعه فتعرض عنه. ولكن إن كانت البذاءة تعاشرنا آناء الليل وأطراف النهار وتنغص عيشنا وتقضّ مضاجعنا فإننا في شقاء دائم وحياة بائسة يائسة.

ما رأيكم في بذاءة أن تجود بمئات الملايين على التفاهة وأشباه فنانين أصلهم التجاري "تونس بلدي الثاني" وتضنّ بالدّينار في إسعاف البلد؟

ما رأيكم في إقامة مهرجانات بملايين من العملة الصعبة وبواخر القمح والسكر راسية في الموانئ تنتظر الخلاص؟

ما رأيكم في بذاءة ما تعانيه كثير من جهات البلاد شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بسبب انقطاع الماء في صائفة بلغت فيها درجة الحرارة 50 درجة؟

ما رأيكم في بذاءة مسؤولين يزدرون كثيرا من المواطنين والمواطنات وكأن ليس لهم الحق في ماء الشراب وماء الطبخ وماء غسل الأواني وماء قضاء حاجاتهم البشرية وماء غسل أبدانهم وغسل أدباشهم؟

ما رأيكم في بذاءة تعنف الرضيع وكبار السن معنويا فتحرمهم من الماء فتذهب الأم أو الزوجة لورده من مكان قصي فيعانون من الانتظار؟

ما رأيكم في بذاءة انقطاع التيار الكهربائي في عديد من ربوع البلاد ولاسيما منها الداخلية المهجورة والمفقرة، يسهر أهلها في الظلماء ويتعشّون في العتمة وأكلاتهم يصيبها العفن والنتن بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعدم تشغيل الثلاجة، إن وجدت؟

ما رأيكم في بذاءة الطوابير الممتدة طولا وعرضا أمام بائعي السكر ودقيق القهوة والطحين والحليب والأرز وغيرها؟

ما رأيكم في بذاءة التواصل مع أناس لا يخلو أسلوبهم من سين وسوف وعدم الرد على الهاتف أو قبول المواطنين في مكاتب الإدارات التابعة لشركة توزيع الماء والكهرباء ومماطلتهم واعطائهم وعودا كاذبة؟

ما رأيكم في بذاءة أبواب المسؤولين الموصدة فهم إما في إجازاتهم التي لا نهاية لها وإما أنهم يشاركون في أحد الملتقيات أو الندوات أو الهيئات الإدارية بالحمامات؟

قال أحد المعلقين عن بذاءة القول فوق ركح مهرجان قرطاج الدولي إنّ الجمهور الذي سمعها يتحمل مسؤوليته في ذلك فهو الذي سعى إليها ودفع الأموال وذهب إليها برجليه وهو يعرف مسبقا نوع هذه الفرجة.

ولكن ما رأيكم في الذين تنزل عليهم البذاءة في عقر ديارهم وتزورهم كالبلية بعد أن أصبحت قدرا مكتوبا يعيشونه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كأن يروا من كان في الساعات الأخيرة يدافع في المنابر الداخلية ولا سيما الخارجية عن نظام بن علي يصول ويجول من مصدح إلى آخر؟

نتساءل أين الحكومة؟ أين رئيس الجمهورية الذي قال مرارا وتكرارا ولا يزال: "من حق كل أبناء تونس العيش عيشا كريما". ثم كيف يردّ وقد مرّ على استلامه السلطة أكثر من أربع سنوات والحال أن المواطن يعيش العطش وأضحى المثل القائل قطرة ماء خير من ألف كنز تنطبق عليه؟ وماذا يقول لمن ليس لهم نور البصر بعد أن نسوا نعمة الانتفاع بنور الكهرباء؟

إن الكلام البذيء ليس بدعة أو اكتشافا جديدا في سلوك التونسيين والتونسيات فهو راسخ فيهم منذ أحقاب زمنية غابرة. ولعلّ ما جاء في كلام محمود بيرم التونسي في مقال له نشره سنة 1934 وسماه “مدينة البذاءة” متحدثا عن كثرة البذاءة في مدينة تونس يؤكد ما ذهبنا إليه:

"...تسمع في كلّ مكان حناجر تنطلق بذكر أعضاء التناسل، وتقليبها على كلّ وجود الاستعارات والمجازات، ولا يقتصر ذكرها على ساعات الخصام ولكن نسمعها في البيع والشراء والجدل والمزح…وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث،…فقد انغمست كلّ ألسنة سكـّانها في البذاءة وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة".

إنّ السلوك البذيء هو في الحقيقة ما ينجر إلى المعاملات اللاإنسانية من المسؤول مهما كان مجال اختصاصه تجاه أبناء الشعب. وقد تضاعف هذا السلوك البذيء ونزل إلى تحت القاع لاسيما بعد 14 جانفي 2011.

لقد كان للحكومات المتعاقبة دور كبير في استفحال هذا السلوك الأرعن في مجتمعنا ولو كان رب الدار بالدف ضاربا فهل نلوم الصبية على الرقص؟

مربي متقاعد

 

 

 

ودع كل بذاءة عابرة غير البذاءة التي تنكل بضعاف الحال

بقلم:مصدّق الشّريف(*)

أقيمت الدنيا وأقعدت في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بسبب ما قاله أحدهم من بذيء الكلام في سهرة الأحد 16 جويلية 2023 على ركح مسرح قرطاج الدّولي. وقد حدا هذا الأمر بمدير المهرجان إلى عقد ندوة صحفية ليبرئ نفسه ويبرئ لجنة المهرجان عموما مما صدر من ضيف مسرح قرطاج. ولم يهدأ بال وزيرة الثقافة أيضا فاجتمعت بإطارات الوزارة العليا وهيئات المهرجانات وأصدرت تعليماتها. ومن جهة أخرى اقتنص الكثيرون الفرصة، وهم دون شك من لا تهمهم أيام قرطاج وبرامجها بقدر ما يهمهم التربص بوزيرة الثقافة، ليتركوا المسألة وموضوعها والشكل الذي طرحت فيه وإطاره الزماني والمكاني جانبا. وهو لعمري سلوك كثير من التونسيّين الذين تعمى أبصارهم عن كل شيء إلاّ طول المسؤول وعرضه ونسبه وحسبه وعرضه وجاهه وماله...

ما أبعدنا عن الفكر النقدي البناء الذي ينأى بنا عن معمعة الخصام والانتقاد والسب والشتم وهتك الأعراض. وبصراحة، فإنه بقدر ما للشأن الثقافي من أولوية وضرورة الحفاظ على سموه ورسالته الهادفة توجد مسائل أخرى تتصدر الأولويات، لأنها حياتية ودونها لا يمكن للعيش أن يكون عيشا، ولا يكون من يحيون إلاّ معذّبين يعانون من نكد الحظ أو أمواتا غير مقبورين ولو ماتوا لكان لهم ذلك أفضل...

سنتحدث عن بذاءة من نوع آخر وهي أخطر وأوجع وأنكد. ولئن كان بذيء القول "يطرش الآذان" ولا يمكن قبوله لاسيما لو كنت بين أفراد أسرتك فبالإمكان أن تتخذ منه مكانا قصيا وتوهم نفسك أنك لم تسمعه فتعرض عنه. ولكن إن كانت البذاءة تعاشرنا آناء الليل وأطراف النهار وتنغص عيشنا وتقضّ مضاجعنا فإننا في شقاء دائم وحياة بائسة يائسة.

ما رأيكم في بذاءة أن تجود بمئات الملايين على التفاهة وأشباه فنانين أصلهم التجاري "تونس بلدي الثاني" وتضنّ بالدّينار في إسعاف البلد؟

ما رأيكم في إقامة مهرجانات بملايين من العملة الصعبة وبواخر القمح والسكر راسية في الموانئ تنتظر الخلاص؟

ما رأيكم في بذاءة ما تعانيه كثير من جهات البلاد شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بسبب انقطاع الماء في صائفة بلغت فيها درجة الحرارة 50 درجة؟

ما رأيكم في بذاءة مسؤولين يزدرون كثيرا من المواطنين والمواطنات وكأن ليس لهم الحق في ماء الشراب وماء الطبخ وماء غسل الأواني وماء قضاء حاجاتهم البشرية وماء غسل أبدانهم وغسل أدباشهم؟

ما رأيكم في بذاءة تعنف الرضيع وكبار السن معنويا فتحرمهم من الماء فتذهب الأم أو الزوجة لورده من مكان قصي فيعانون من الانتظار؟

ما رأيكم في بذاءة انقطاع التيار الكهربائي في عديد من ربوع البلاد ولاسيما منها الداخلية المهجورة والمفقرة، يسهر أهلها في الظلماء ويتعشّون في العتمة وأكلاتهم يصيبها العفن والنتن بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعدم تشغيل الثلاجة، إن وجدت؟

ما رأيكم في بذاءة الطوابير الممتدة طولا وعرضا أمام بائعي السكر ودقيق القهوة والطحين والحليب والأرز وغيرها؟

ما رأيكم في بذاءة التواصل مع أناس لا يخلو أسلوبهم من سين وسوف وعدم الرد على الهاتف أو قبول المواطنين في مكاتب الإدارات التابعة لشركة توزيع الماء والكهرباء ومماطلتهم واعطائهم وعودا كاذبة؟

ما رأيكم في بذاءة أبواب المسؤولين الموصدة فهم إما في إجازاتهم التي لا نهاية لها وإما أنهم يشاركون في أحد الملتقيات أو الندوات أو الهيئات الإدارية بالحمامات؟

قال أحد المعلقين عن بذاءة القول فوق ركح مهرجان قرطاج الدولي إنّ الجمهور الذي سمعها يتحمل مسؤوليته في ذلك فهو الذي سعى إليها ودفع الأموال وذهب إليها برجليه وهو يعرف مسبقا نوع هذه الفرجة.

ولكن ما رأيكم في الذين تنزل عليهم البذاءة في عقر ديارهم وتزورهم كالبلية بعد أن أصبحت قدرا مكتوبا يعيشونه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كأن يروا من كان في الساعات الأخيرة يدافع في المنابر الداخلية ولا سيما الخارجية عن نظام بن علي يصول ويجول من مصدح إلى آخر؟

نتساءل أين الحكومة؟ أين رئيس الجمهورية الذي قال مرارا وتكرارا ولا يزال: "من حق كل أبناء تونس العيش عيشا كريما". ثم كيف يردّ وقد مرّ على استلامه السلطة أكثر من أربع سنوات والحال أن المواطن يعيش العطش وأضحى المثل القائل قطرة ماء خير من ألف كنز تنطبق عليه؟ وماذا يقول لمن ليس لهم نور البصر بعد أن نسوا نعمة الانتفاع بنور الكهرباء؟

إن الكلام البذيء ليس بدعة أو اكتشافا جديدا في سلوك التونسيين والتونسيات فهو راسخ فيهم منذ أحقاب زمنية غابرة. ولعلّ ما جاء في كلام محمود بيرم التونسي في مقال له نشره سنة 1934 وسماه “مدينة البذاءة” متحدثا عن كثرة البذاءة في مدينة تونس يؤكد ما ذهبنا إليه:

"...تسمع في كلّ مكان حناجر تنطلق بذكر أعضاء التناسل، وتقليبها على كلّ وجود الاستعارات والمجازات، ولا يقتصر ذكرها على ساعات الخصام ولكن نسمعها في البيع والشراء والجدل والمزح…وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث،…فقد انغمست كلّ ألسنة سكـّانها في البذاءة وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة".

إنّ السلوك البذيء هو في الحقيقة ما ينجر إلى المعاملات اللاإنسانية من المسؤول مهما كان مجال اختصاصه تجاه أبناء الشعب. وقد تضاعف هذا السلوك البذيء ونزل إلى تحت القاع لاسيما بعد 14 جانفي 2011.

لقد كان للحكومات المتعاقبة دور كبير في استفحال هذا السلوك الأرعن في مجتمعنا ولو كان رب الدار بالدف ضاربا فهل نلوم الصبية على الرقص؟

مربي متقاعد