إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

هل يمكن أن نبني اقتصادا من دون اقتراض ولا تداين؟

 

بقلم: نوفل سلامة

كل الحديث اليوم منصب حول القرض الذي من المنتظر أن تحصل عليه تونس وتأخر الاتفاق حوله مع صندوق النقد الدولي .. وكل النقاش الذي يدور اليوم في الفضاء العام وفي المنابر الإعلامية مركز حول الإملاءات والشروط التي يطالب بها الصندوق حتى يمنح الحكومة التونسية قرضا قيمته 1.9 مليار دينار يمنح على اقساط وأهميتها تكمن فيما يمنحه من فرص وإمكانيات بعد أن تسترجع الحكومة التونسية الثقة للخرج على السوق المالية العالمية لتتحصل على ما تستحقه من أموال ما يمكنها من تجاوز أزمتها المالية الخانقة وحتى تتمكن من الحصول على السيولة اللازمة لتوفير ما تستحقه من حاجيات أساسية ومواد غذائية وحتى تستعيد توازنها المالي ما يجعلها توفر كل حاجيات المواطنين وخلاص مزوديها وخاصة الأجانب منهم .

ومع هذا الحديث الذي يدور حول الصعوبات والعراقيل التي تحول وحالت دون الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وجعل هذا القرض يتأخر كثيرا طرح سؤال في علاقة بمعرفة كيف تدير الحكومة شؤون البلاد في ظل هذه الضائقة المالية ؟ وكيف تواصل في الانفاق والإيفاء بالتزاماتها والحال أنها على حافة الإفلاس أو في وضعية الإفلاس غير المعلن ؟ ومعرفة من أين تأتي الدولة بالأموال في الوقت أن جميع الخبراء يؤكدون على أننا نعيش أزمة مالية حادة غير مسبوقة مؤدية إلى حالة من العجز التام عن توفير الحاجيات الأساسية من المواد الغذائية وغيرها التي بدأت تفتقد من الأسواق ؟

هذه الأسئلة هي اليوم عند المواطن بمثابة الهواجس التي فرضت عليه التعود على نقص المواد الغذائية والتأقلم مع وضعية ندرة الكثير من المنتجات وفقدانها من الأسواق وحالة الندرة التي تعرفها العديد من المنتجات التي كان الحصول عليها في السابق سهلا واليوم لم تعد متوفرة بالقدر الكافي أو فقدت بالكلية ، مع هذا التغير الحاصل في حياة المواطن التونسي ومعيشته يحيل على سؤال هل يمكن أن نبني اقتصادا من دون حاجة إلى الاقتراض الخارجي ؟ وهل يمكن ان ندير شؤوننا بمواردنا الذاتية ؟ وبأكثر وضوح هل يمكن أن نعيش على وضعية التقشف وتحمل فقدان الكثير من المواد الغذائية ونقبل بتغيير عاداتنا وما تعودنا عليه من أساسات لتتحول إلى كماليات يمكن الاستغناء عنها ؟

نظريا لا شيء يحول دون بناء اقتصاد وطني بالتعويل على الموارد المالية الذاتية ، كما لا شيء يمنع من إدارة الشأن العام بميزانية مواردها الأساسية المتأتية من خارج الاقتراض والتداين الخارجي ولكن في الحالة التونسية فإن فرضية القدرة على التعافي ذاتيا ومن دون حاجة إلى التداين يعترضها إحراج كبير في علاقة بحجم الدين الخارجي الذي بلغ مستويات غير مسبوقة وبات يكبل البلاد ويمنعها من التعافي وإحراج آخر يتعلق بتفاقم العجز التجاري في علاقة بارتفاع التوريد على حساب التصدير وخاصة توريد المواد غير الأساسية وتوريد المواد الغذائية وعجز آخر هام يتعلق بالمجال الطاقي الذي بات يثقل كاهل ميزانية الدولة وبفقدها كميات كبيرة من العملة الصعبة .

غير أن كل هذه المخاوف وهذا التحليل المتعلق بعدم قدرة البلاد على التعافي ذاتيا ومن دون حاجة إلى التداين قد تم تفنيده وتكذيبه وإظهار عكسه بعد المعطيات التي نشرها مؤخرا البنك المركزي عن حالة اقتصادنا والتي كشفت أن البلاد ليست على شفى الافلاس كما يروج له الكثير من رجال الاقتصاد وروجته العديد من الجهات الداخلية والخارجية التي راهنت على عدم قدرة الدولة التونسية على الايفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية وذلك بفضل عائدات السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج التي سجلت ارتفاعا ملحوظا ما مكن من تغطيه خدمة الدين الخارجي أصلا وفائضا وجعلت الدولة تحترم التزاماتها وخاصة تسديد فوائض القروض.

كما تفيد معطيات البنك المركزي أنه رغم تواصل العجز الطاقي الذي يتسبب في اختلال الميزان التجاري ويكبل الدولة ويستدعي موارد مالية كثيرة لتغطية توريد حاجياتنا من الطاقة فان الميزان التجاري قد سجل تحسنا ملحوظا وتم تسجيل تراجع في مستوى هذا العجز وبذلك بفضل سياسة تقشفية حذرة وغير معلنة ولا مصرح بها تقوم على التقليص من التوريد إلى حدود الحاجيات الضرورية للغاية وإيقاف توريد الكثير من المنتجات التي يمكن الاستغناء عنها و التقليل من الكميات الموردة في كل ما يتعلق بالمنتجات الفلاحية وأساسا مادة القمح والزيوت النباتية في رسالة إلى المواطن بضرورة التعود على نقص البضائع وضرورة تغيير عوائده الغذائية وطريقة عيشه التي عليها أن تتكيف مع المتغيرات الجديدة والقبول بعدم توفر كل شيء في الأسواق وبالكميات العادية القديمة .

بهذه الطريقة التي توصف بالتقشف الحذر أو التقشف غير المعلن أمكن للدولة اليوم أن تتعامل مع الاكراهات المالية وإحراجات التزاماتها تجاه مواطنيها من دون حاجة إلى الاقتراض وأن تتحكم في مواردها المالية بما يجعلها توجهها بالأساس إلى سداد الديون المتخلدة وخلاص أجور الموظفين واحترام التزاماتها مع مزوديها الداخليين والخارجيين وذلك بفضل ما توفر لها من عائدات السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج وبفضل التحكم في التوريد للتقليل من صرف العملة الصعبة وإتباع سياسة تعويد الشعب على نقص المنتجات وقلة البضائع في الأسواق وندرتها بغاية دفعه على التصالح مع وضعية ندرة المنتجات في الأسواق من دون اعتراض ولا تذمر.

المشكلة في هذا النهج الذي تتبعه الدولة التونسية في كونه طريقة تقليدية في التعاطي مع الأزمات و مقاربة ظرفية تعول بالدرجة الأولى على البحث على الموارد المالية في عائدات السياحة الداخلية وتحويلات عمالنا بالخارج والتحكم في توريد المنتجات الفلاحية والغذائية في حدود كميات محدودة وغلق الباب أمام توريد المواد غير الأساسية وهي مقاربة لا يمكن أن تبني اقتصادا قويا ولا تحقق اقتصادا مزدهرا في ظل غياب تصور شامل ورؤية واضحة عن التوجهات التنموية الكبرى و هي مقاربة غير قادرة على إدارة الشأن العام لفترة طويلة فضلا على أن اتباع سياسة التقشف الحذر تجعل من حياة المواطن صعبة وتجعله يبذل جهدا يوميا للحصول على ما يحتاجه ويطلبه من حاجيات أسياسية وضرورية وهو ما ينعكس سلبا على نفسيته وثقته في المستقبل وفي السياسيين.

 

هل يمكن أن نبني اقتصادا من دون اقتراض ولا تداين؟

 

بقلم: نوفل سلامة

كل الحديث اليوم منصب حول القرض الذي من المنتظر أن تحصل عليه تونس وتأخر الاتفاق حوله مع صندوق النقد الدولي .. وكل النقاش الذي يدور اليوم في الفضاء العام وفي المنابر الإعلامية مركز حول الإملاءات والشروط التي يطالب بها الصندوق حتى يمنح الحكومة التونسية قرضا قيمته 1.9 مليار دينار يمنح على اقساط وأهميتها تكمن فيما يمنحه من فرص وإمكانيات بعد أن تسترجع الحكومة التونسية الثقة للخرج على السوق المالية العالمية لتتحصل على ما تستحقه من أموال ما يمكنها من تجاوز أزمتها المالية الخانقة وحتى تتمكن من الحصول على السيولة اللازمة لتوفير ما تستحقه من حاجيات أساسية ومواد غذائية وحتى تستعيد توازنها المالي ما يجعلها توفر كل حاجيات المواطنين وخلاص مزوديها وخاصة الأجانب منهم .

ومع هذا الحديث الذي يدور حول الصعوبات والعراقيل التي تحول وحالت دون الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وجعل هذا القرض يتأخر كثيرا طرح سؤال في علاقة بمعرفة كيف تدير الحكومة شؤون البلاد في ظل هذه الضائقة المالية ؟ وكيف تواصل في الانفاق والإيفاء بالتزاماتها والحال أنها على حافة الإفلاس أو في وضعية الإفلاس غير المعلن ؟ ومعرفة من أين تأتي الدولة بالأموال في الوقت أن جميع الخبراء يؤكدون على أننا نعيش أزمة مالية حادة غير مسبوقة مؤدية إلى حالة من العجز التام عن توفير الحاجيات الأساسية من المواد الغذائية وغيرها التي بدأت تفتقد من الأسواق ؟

هذه الأسئلة هي اليوم عند المواطن بمثابة الهواجس التي فرضت عليه التعود على نقص المواد الغذائية والتأقلم مع وضعية ندرة الكثير من المنتجات وفقدانها من الأسواق وحالة الندرة التي تعرفها العديد من المنتجات التي كان الحصول عليها في السابق سهلا واليوم لم تعد متوفرة بالقدر الكافي أو فقدت بالكلية ، مع هذا التغير الحاصل في حياة المواطن التونسي ومعيشته يحيل على سؤال هل يمكن أن نبني اقتصادا من دون حاجة إلى الاقتراض الخارجي ؟ وهل يمكن ان ندير شؤوننا بمواردنا الذاتية ؟ وبأكثر وضوح هل يمكن أن نعيش على وضعية التقشف وتحمل فقدان الكثير من المواد الغذائية ونقبل بتغيير عاداتنا وما تعودنا عليه من أساسات لتتحول إلى كماليات يمكن الاستغناء عنها ؟

نظريا لا شيء يحول دون بناء اقتصاد وطني بالتعويل على الموارد المالية الذاتية ، كما لا شيء يمنع من إدارة الشأن العام بميزانية مواردها الأساسية المتأتية من خارج الاقتراض والتداين الخارجي ولكن في الحالة التونسية فإن فرضية القدرة على التعافي ذاتيا ومن دون حاجة إلى التداين يعترضها إحراج كبير في علاقة بحجم الدين الخارجي الذي بلغ مستويات غير مسبوقة وبات يكبل البلاد ويمنعها من التعافي وإحراج آخر يتعلق بتفاقم العجز التجاري في علاقة بارتفاع التوريد على حساب التصدير وخاصة توريد المواد غير الأساسية وتوريد المواد الغذائية وعجز آخر هام يتعلق بالمجال الطاقي الذي بات يثقل كاهل ميزانية الدولة وبفقدها كميات كبيرة من العملة الصعبة .

غير أن كل هذه المخاوف وهذا التحليل المتعلق بعدم قدرة البلاد على التعافي ذاتيا ومن دون حاجة إلى التداين قد تم تفنيده وتكذيبه وإظهار عكسه بعد المعطيات التي نشرها مؤخرا البنك المركزي عن حالة اقتصادنا والتي كشفت أن البلاد ليست على شفى الافلاس كما يروج له الكثير من رجال الاقتصاد وروجته العديد من الجهات الداخلية والخارجية التي راهنت على عدم قدرة الدولة التونسية على الايفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية وذلك بفضل عائدات السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج التي سجلت ارتفاعا ملحوظا ما مكن من تغطيه خدمة الدين الخارجي أصلا وفائضا وجعلت الدولة تحترم التزاماتها وخاصة تسديد فوائض القروض.

كما تفيد معطيات البنك المركزي أنه رغم تواصل العجز الطاقي الذي يتسبب في اختلال الميزان التجاري ويكبل الدولة ويستدعي موارد مالية كثيرة لتغطية توريد حاجياتنا من الطاقة فان الميزان التجاري قد سجل تحسنا ملحوظا وتم تسجيل تراجع في مستوى هذا العجز وبذلك بفضل سياسة تقشفية حذرة وغير معلنة ولا مصرح بها تقوم على التقليص من التوريد إلى حدود الحاجيات الضرورية للغاية وإيقاف توريد الكثير من المنتجات التي يمكن الاستغناء عنها و التقليل من الكميات الموردة في كل ما يتعلق بالمنتجات الفلاحية وأساسا مادة القمح والزيوت النباتية في رسالة إلى المواطن بضرورة التعود على نقص البضائع وضرورة تغيير عوائده الغذائية وطريقة عيشه التي عليها أن تتكيف مع المتغيرات الجديدة والقبول بعدم توفر كل شيء في الأسواق وبالكميات العادية القديمة .

بهذه الطريقة التي توصف بالتقشف الحذر أو التقشف غير المعلن أمكن للدولة اليوم أن تتعامل مع الاكراهات المالية وإحراجات التزاماتها تجاه مواطنيها من دون حاجة إلى الاقتراض وأن تتحكم في مواردها المالية بما يجعلها توجهها بالأساس إلى سداد الديون المتخلدة وخلاص أجور الموظفين واحترام التزاماتها مع مزوديها الداخليين والخارجيين وذلك بفضل ما توفر لها من عائدات السياحة وتحويلات عمالنا بالخارج وبفضل التحكم في التوريد للتقليل من صرف العملة الصعبة وإتباع سياسة تعويد الشعب على نقص المنتجات وقلة البضائع في الأسواق وندرتها بغاية دفعه على التصالح مع وضعية ندرة المنتجات في الأسواق من دون اعتراض ولا تذمر.

المشكلة في هذا النهج الذي تتبعه الدولة التونسية في كونه طريقة تقليدية في التعاطي مع الأزمات و مقاربة ظرفية تعول بالدرجة الأولى على البحث على الموارد المالية في عائدات السياحة الداخلية وتحويلات عمالنا بالخارج والتحكم في توريد المنتجات الفلاحية والغذائية في حدود كميات محدودة وغلق الباب أمام توريد المواد غير الأساسية وهي مقاربة لا يمكن أن تبني اقتصادا قويا ولا تحقق اقتصادا مزدهرا في ظل غياب تصور شامل ورؤية واضحة عن التوجهات التنموية الكبرى و هي مقاربة غير قادرة على إدارة الشأن العام لفترة طويلة فضلا على أن اتباع سياسة التقشف الحذر تجعل من حياة المواطن صعبة وتجعله يبذل جهدا يوميا للحصول على ما يحتاجه ويطلبه من حاجيات أسياسية وضرورية وهو ما ينعكس سلبا على نفسيته وثقته في المستقبل وفي السياسيين.