إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

كاد المعلّم....

 

 

محمد السبوعي

لم أستوعب بعد ما يحصل في التعليم الإبتدائي..فما زالت صورة عبد الرزاق عمامو ومحمد محجوب الكويسح..وصالح بوقرة..وعلي ولد العبيدي-محمد صالح السبوعي- ترعبني إلى هذا اليوم وتبعث في شعورا دافقا بالحبّ والرهبة....فالمعلم الذي درّسنا كان أكثر من أب أو أخ...نعم كان على درجة رهيبة من العنف أحيانا ألفناها في مجتمع تسوده البطركية وتطغى عليه ثقافة ذكوريّة بائسة..ولكنه كان قدرنا...فلم نولد في دولة إسكندينافية أو أوروبية..ولدنا عى هذه الأرض الموعودة لنا وحدنا والمنذورة لمحراثنا وأحلامنا...وكان للمعلّم سلطته المعرفية والتربوية حتى إنّ آبائنا يوصونه بنا شرا لا خيرا بكلمات من نوع..حاسبني بجلدو.....

كبرنا سريعا وتعلمنا جيدا ولم يبق لدينا أي ضغينة للمعلم الذي أثخننا جراحا ومعرفة...ومازلنا وقد تجاوزنا الخمسين نقول له ..سيدي سيدي...

             *****

راهنت دولة الاستقلال على العلم والمعرفة..على الصحة والمرأة...على مجانية التعليم ناهيك عن مطبخ المدرسة la cantine الذي شهد تدافعنا على لمجة ساخنة أساسها مسحوق الحليب أو الصحلب وقطع الشكلاطة السوداء الداكنة ..نهرع بعدها إلى أقسامنا في شغف لا نملك غير لوحة سوداء وبعض قطع الطباشير الجيري والقليل يملك منا كتاب القراءة ...هذا باب هذا كلب..هذا شباك.. كان المعلّم صبورا على حمقنا وقذارتنا وبعض الأمراض المنتشرة كالتيفوئيد وغيرها..فكانت المدرسة توفر لنا أقراصا شديدة المرارة يساعدنا الخبز المغمّس في زيت الزيتون على تجرّع علقمها... أمّا أظافرنا التي كان يتفقدها المعلم دوريا فكنا نسارع لقضمها بأسناننا تجنبا لعصاه اللّاذعة...كان المعلّم قدّيسا بالنسبة لأطفال الريف الذين لا ينتظرهم غير رعي الغنم والبقر في أحراش الريف والزواج سريعا وإنجاب سلالة مثلهم لا تصلح لغير الحراثة والرعي...إلا من نجا ونجح في الارتقاء بجهد المعلم وحده..فلا وسائط رقمية ولا ألواح إلكترونية ولا شيء غير صبر المعلم وحرصه على نجاحنا وتفوقنا فقد كان يدفع من جيبه حوافز لتشجيعنا كبعض قطع الحلوى أو القصص الملونة التي كانت تبطش بمخيلتنا..علاء الدين والمصباح السحري..عنز قيسون ..وعديد قصص كامل كيلاني...لم نكتشف الا لاحقا إن سيدي المعلم كان يتدبّر لنا تلك الأشياء من ماله الخاص.....

                  *****

ذهبت تلك الأشياء بلا رجعة..تغيّر الزمن وتبعثرت الأوراق..لست سلفيا لأعتقد إن الماضي كان أجمل..بل كان حالك السواد عسيرا...ولا أدعو أبدا للعودة وكسر نسق الزمن والتاريخ...كنا سنكون أكثر وقاحة من تلاميذ هذا الزمن...أشد أنانية وسخطا وتبرّما من عدم حيازة هاتف ذكيّ ..ولوحة إلكترونية حديثة...لم ينعم أبناؤنا بدفىء البيت وحرارة الأسرة...تعود الأم منهكة من عمل ثمان ساعات ...تتلوها ساعات أخري عصيبة ترتّب فيها البيت وتصنع طعاما لمدة أسبوع...يحفظ في ثلاجة باردة..تسلّط جام غضبها على الخادمة البائسة فيما تدّخر باقي الغضب للزوج الذي خرج من العمل منهكا من المكائد والمهاترات التي تنهك الجسد والروح..يؤجل العودة إلى المنزل تجنبا للصّدام المحتوم... سيكون عليه الاستعانة ببعض المشروبات الروحية تساعد على الذهاب سريعا إلى نوم لا يترك له الفرصة حتى لملاعبة أبنائه ومداعبتهم....انقلب الأمر تماما ..فلم يعد الأب ربّ البيت..ولا الأم ربة البيت..ولا الأطفال أمراء في المنزل...كلهم ضيوف تنتظرهم المكاتب ومحاضن الأطفال....

في هذه الحالة لم يعد المعلّم أبا أو أخا..صار موظفا له ما له وعليه وما عليه...والقوانين الجديدة التي تجرّم ضرب التلميذ ليس من المعلم فقط بل حتى من أبيه وأمّه ستكلّف علي ولد العبيدي مثلا مائة عام سجنا..فلم يسلم من عصاه أي تلميذ في مدرسة أولاد علي بن محمد...والتي أنهت مهمتها بدورها وأصبحت رسما دارسا وخرائب موحشة..لم يعد يجمع بين التلميذ والمعلم غير العلاقة الشغلية التي تنتهي بساعات الدوام...صارت القوانين تحدد العلاقة بين جميع الأطراف...فلنحتكم للقوانين إذا ولماذا كل هذه الضجّة ؟؟؟

            :****

والقوانين واضحة وصريحة ..يلتزم فيها جميع الأطراف بالعلاقة الشغلية الخاضعة لمجلة الشغل ...وللنقابات حقها المشروع في الدفاع عن منتسبيها...ذهبت تلك العلاقة العاطفية التي شكّلت لعقود أساس العلاقة بين الطالب والمعلم في ثقافتنا الشرقية وفي أغلب الدول العربية لدرجة إن أمير الشعراء في عصره صرخ بقصيدته الشهيرة..:

قم للمعلم وفّه التبجيلا

                 كاد المعلم أن يكون رسولا...

نعم كاد أن يكون كذلك أزمنة قديمة ولّت وغبرت...فمهنة المعلم في زمننا بائسة بحق... والتعليم في جميع مراحله تخلص من العلاقة العاطفية بين الباث والمتقبل..وأصبحت التجارة أو المرتب.. أو الدروس الخصوصية ظاهرة طبيعية وعادية...والعقد شريعة المتعاقدين وللقانون في تحديد هذه العلاقة الأمر من قبل ومن بعد وكما قال أرنست هيمنغواي وداعا أيها السلاح...أقول وداعا للعاطفة..ومرحبا بالقانون في علاقة الطالب بأستاذه....

أديب وشاعر

 

 

 كاد المعلّم....

 

 

محمد السبوعي

لم أستوعب بعد ما يحصل في التعليم الإبتدائي..فما زالت صورة عبد الرزاق عمامو ومحمد محجوب الكويسح..وصالح بوقرة..وعلي ولد العبيدي-محمد صالح السبوعي- ترعبني إلى هذا اليوم وتبعث في شعورا دافقا بالحبّ والرهبة....فالمعلم الذي درّسنا كان أكثر من أب أو أخ...نعم كان على درجة رهيبة من العنف أحيانا ألفناها في مجتمع تسوده البطركية وتطغى عليه ثقافة ذكوريّة بائسة..ولكنه كان قدرنا...فلم نولد في دولة إسكندينافية أو أوروبية..ولدنا عى هذه الأرض الموعودة لنا وحدنا والمنذورة لمحراثنا وأحلامنا...وكان للمعلّم سلطته المعرفية والتربوية حتى إنّ آبائنا يوصونه بنا شرا لا خيرا بكلمات من نوع..حاسبني بجلدو.....

كبرنا سريعا وتعلمنا جيدا ولم يبق لدينا أي ضغينة للمعلم الذي أثخننا جراحا ومعرفة...ومازلنا وقد تجاوزنا الخمسين نقول له ..سيدي سيدي...

             *****

راهنت دولة الاستقلال على العلم والمعرفة..على الصحة والمرأة...على مجانية التعليم ناهيك عن مطبخ المدرسة la cantine الذي شهد تدافعنا على لمجة ساخنة أساسها مسحوق الحليب أو الصحلب وقطع الشكلاطة السوداء الداكنة ..نهرع بعدها إلى أقسامنا في شغف لا نملك غير لوحة سوداء وبعض قطع الطباشير الجيري والقليل يملك منا كتاب القراءة ...هذا باب هذا كلب..هذا شباك.. كان المعلّم صبورا على حمقنا وقذارتنا وبعض الأمراض المنتشرة كالتيفوئيد وغيرها..فكانت المدرسة توفر لنا أقراصا شديدة المرارة يساعدنا الخبز المغمّس في زيت الزيتون على تجرّع علقمها... أمّا أظافرنا التي كان يتفقدها المعلم دوريا فكنا نسارع لقضمها بأسناننا تجنبا لعصاه اللّاذعة...كان المعلّم قدّيسا بالنسبة لأطفال الريف الذين لا ينتظرهم غير رعي الغنم والبقر في أحراش الريف والزواج سريعا وإنجاب سلالة مثلهم لا تصلح لغير الحراثة والرعي...إلا من نجا ونجح في الارتقاء بجهد المعلم وحده..فلا وسائط رقمية ولا ألواح إلكترونية ولا شيء غير صبر المعلم وحرصه على نجاحنا وتفوقنا فقد كان يدفع من جيبه حوافز لتشجيعنا كبعض قطع الحلوى أو القصص الملونة التي كانت تبطش بمخيلتنا..علاء الدين والمصباح السحري..عنز قيسون ..وعديد قصص كامل كيلاني...لم نكتشف الا لاحقا إن سيدي المعلم كان يتدبّر لنا تلك الأشياء من ماله الخاص.....

                  *****

ذهبت تلك الأشياء بلا رجعة..تغيّر الزمن وتبعثرت الأوراق..لست سلفيا لأعتقد إن الماضي كان أجمل..بل كان حالك السواد عسيرا...ولا أدعو أبدا للعودة وكسر نسق الزمن والتاريخ...كنا سنكون أكثر وقاحة من تلاميذ هذا الزمن...أشد أنانية وسخطا وتبرّما من عدم حيازة هاتف ذكيّ ..ولوحة إلكترونية حديثة...لم ينعم أبناؤنا بدفىء البيت وحرارة الأسرة...تعود الأم منهكة من عمل ثمان ساعات ...تتلوها ساعات أخري عصيبة ترتّب فيها البيت وتصنع طعاما لمدة أسبوع...يحفظ في ثلاجة باردة..تسلّط جام غضبها على الخادمة البائسة فيما تدّخر باقي الغضب للزوج الذي خرج من العمل منهكا من المكائد والمهاترات التي تنهك الجسد والروح..يؤجل العودة إلى المنزل تجنبا للصّدام المحتوم... سيكون عليه الاستعانة ببعض المشروبات الروحية تساعد على الذهاب سريعا إلى نوم لا يترك له الفرصة حتى لملاعبة أبنائه ومداعبتهم....انقلب الأمر تماما ..فلم يعد الأب ربّ البيت..ولا الأم ربة البيت..ولا الأطفال أمراء في المنزل...كلهم ضيوف تنتظرهم المكاتب ومحاضن الأطفال....

في هذه الحالة لم يعد المعلّم أبا أو أخا..صار موظفا له ما له وعليه وما عليه...والقوانين الجديدة التي تجرّم ضرب التلميذ ليس من المعلم فقط بل حتى من أبيه وأمّه ستكلّف علي ولد العبيدي مثلا مائة عام سجنا..فلم يسلم من عصاه أي تلميذ في مدرسة أولاد علي بن محمد...والتي أنهت مهمتها بدورها وأصبحت رسما دارسا وخرائب موحشة..لم يعد يجمع بين التلميذ والمعلم غير العلاقة الشغلية التي تنتهي بساعات الدوام...صارت القوانين تحدد العلاقة بين جميع الأطراف...فلنحتكم للقوانين إذا ولماذا كل هذه الضجّة ؟؟؟

            :****

والقوانين واضحة وصريحة ..يلتزم فيها جميع الأطراف بالعلاقة الشغلية الخاضعة لمجلة الشغل ...وللنقابات حقها المشروع في الدفاع عن منتسبيها...ذهبت تلك العلاقة العاطفية التي شكّلت لعقود أساس العلاقة بين الطالب والمعلم في ثقافتنا الشرقية وفي أغلب الدول العربية لدرجة إن أمير الشعراء في عصره صرخ بقصيدته الشهيرة..:

قم للمعلم وفّه التبجيلا

                 كاد المعلم أن يكون رسولا...

نعم كاد أن يكون كذلك أزمنة قديمة ولّت وغبرت...فمهنة المعلم في زمننا بائسة بحق... والتعليم في جميع مراحله تخلص من العلاقة العاطفية بين الباث والمتقبل..وأصبحت التجارة أو المرتب.. أو الدروس الخصوصية ظاهرة طبيعية وعادية...والعقد شريعة المتعاقدين وللقانون في تحديد هذه العلاقة الأمر من قبل ومن بعد وكما قال أرنست هيمنغواي وداعا أيها السلاح...أقول وداعا للعاطفة..ومرحبا بالقانون في علاقة الطالب بأستاذه....

أديب وشاعر