إن ملحمة الكفاح الوطني التونسي عبر مختلف دروب النضال الطويلة مليئة بالبطولات النادرة والتضحيات الجسام والانتفاضات الشعبية الرائعة ضد أبشع استعمار لاتيني جائر حتى لا تكاد تخلو مدينة أو قرية سهل أو جبل شمالا أو جنوبا من تسجيل مظهر أو أكثر من مظاهر البطولة والفداء.
وفي الأيام الأخيرة الماضية حلت بنا الذكرى الخامسة والتسعين لوفاة باعث الحركة النقابية الأولى في الوطن العربي خالد الذكر المرحوم محمد علي الحامي وقد سعدنا في الأيام الأخيرة بإعادة الاعتبار من جدي لإحياء ذكرى وفاة هذا البطل الصنديد من طرف منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل وتحول الأخ المناضل نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد واعضاده في المكتب التنفيذي إلى مدينة الحامة مسقط رأس المرحوم محمد علي الحامي لإحياء هذه الذكرى وبذلك يتم إحياء هذه الحلقة المفقودة في تاريخ أبطال حركتنا النقابية ونتمنى أن تتواصل سنويا.
وكان الشهيد فرحات حشاد أول من أعاد الاعتبار للمرحوم محمد علي الحامي لما كان يرفع في مقدمة مظاهرة الشغالين يوم غرة ماي كل عام صورة ضخمة لمحمد علي الحامي بيد أنها مع الأسف فقدت في السنوات اللاحقة.
عاد المرحوم محمد علي الحامي خلال شهر مارس 1924 بعد غربة طويلة من البلاد الألمانية متوجا بأكاليل الغار حيث أحرز على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد السياسي من جامعة برلين.
وكان محمد علي الحامي المولود يوم 15 أكتوبر 1890 بحامة قابس قد حفظ ما تيسر من القرآن الكريم ولم يتمكن من الالتحاق باحدى المارس الابتدائية نتيجة ما كانت عليه أسرته من فقر وخصاصة وحرمان، ولما انتقل إلى العاصمة ليعمل مثل اقرانه بالسوق المركزية كحمال لمشتريات بعض العائلات الاوروبية مما ىمكنه من تعلم بعض مفردات اللغة الفرنسية ولما تعرف على قنصل النمسا اعجب بيقظته وجديته وحزمه، وأصبح هو الذي يتولى قضاء شؤونه من السوق المركزية، وساعده على تعلم سياقة السيارات وتمكن بمساعدة القنصل من الاحراز على شهادة سياقة السيارات في 26 فيفري 1908.
وأمام تدهور الاوضاع بدولة الخلافة العثمانية وتفاقمها نتيجة الحروب التي شنت ضدها من قبل بعض الدول الأوروبية المتحالفة اغتنمت إيطاليا الفرصة وشنت هجومنا مباغة بالقصف المدفعي من الأسطول المدفعي على مدينة طرابلس يوم 29/9/1911 وتم انزال الجيوش يوم 5/10/1911 وكانت ردود الفعل لدى الليبيين وشعوب الدول المجاورة تونس والجزائر ومصر قوية حيث بدأت قوات المتطوعين من المجاهدين تتوالى على طرابلس لصد هذا الهجوم الغادر وكانت ردود الفعل التونسية سريعة وتمثلت في معركة الزلاج يوم 7 نوفمبر 1911 ثم حوادث الترام يوم الجمعة 9 فيفري من السنة الموالية 1912، وبسرعة تكونت اللجان الشعبية في مختلف انحاء المملكة لجمع التبرعات المادية والمؤونة وتجنيد المتطوعين، وكانت القوافل المحملة بالاعانات تعبر الحدود الشرقية نحو طرابلس يوميا، وكان المشرف على هذه العمليات بكاملها المرحوم المناضل علي باش حانبة زعيم حركة الشباب التونسي.
في تلك الاثناء كانت البلاد التونسية تعج بجالية إيطالية تتظاهر بكل وقاحة بفرحتها وابتهاجها بالاحتلال الإيطالي لطرابلس مما ضاعف من كراهية العشب التونسي لتلك الجالية واشتداد التوتر معها.
وفي هذا الظرف العصيب حل عدد من القادة الأتراك بتونس في طريقهم إلى طرابلس ويقول المرحوم محمد الصالح المهيدي في هذا الصدد (كان القادة الاتراك يتسربون إلى تونس عن طريق الجزائر وفرنسا وينزل أكثرهم بمحل سكنى المرحوم محمد الحجام (والد المرحوم يحيى التركي الرسام المشهور) بقرطاج وهناك ينزعون قبعاتهم وفي محل شغله بنهج مصطفى مبارك يقيمهم على الزي الليبي ويلبسهم الشاشية والعراقية البيضاء من تحتها ويتدرثون الحرام، ومن تونس ينتقلون إلى جربة ثم يبحرون إلى زوارة كان من هؤلاء القادة الأتراك القائد التركي الشهير أنور باشا وبحث عن سائق لسيارته لتنقله إلى ليبيا، وتعرف على محمد علي الحامي الذي كان يتحرق شوقا للمشاركة في الجهاد مع أشقائه الليبيين ضد الغزو الايطالي الشنيع، وهناك تعرف على العديد من القادة العرب الذين كان من ضمنهم الزعيم العربي الشهير أمير البيان شكيب ارسلان بوصفه مفتشا لجمعية الهلال العثماني للمساهمة في الدفاع عن حوزة اخوانه هناك فكان يحث الهمم ويؤمن المؤن ويضمد الجراح.
ولما اشتدت هجومات القوات الأوروبية المتحالفة على تركيا التي اصبحت مهددة بالاحتلال الأجنبي وبدأ جيشها في التراجع والتقهقر وعاد يدافع بعد أن يهاجم. قررت تركيا التخلي عن ليبيا وتركها ومصيرها لوحدها، وعاد الجيش التركي للدفاع عن بلاده، وصاحب محمد علي الحامي أنور باشا إلى عاصمة الخلافة العثمانية سنة 1914 حيث تمكن بمساعدة القائد أنور باشا من زيادة التمكن من اللغة الألمانية ومن الانتماء إلى الجيش العثماني، الذي نال فيه بعض الرتب العسكرية، وفي ألمانيا ساعده أنور باشا مع بعض المسؤولين الألمان على الالتحاق ببعض الجامعات التي تخرج منها بشهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد السياسي خلال شهر فيفري سنة 1924.
وفي الشهر الموالي مارس عاد محمد علي الحامي إلى تونس بعد أن قضى ببلاد الغربة أكثر من عقد من الزمن جاب خلاله كلا من طرابلس وعاصمة الخلافة العثمانية وبرلين عاصمة ألمانيا وباريس عاصمة فرنسا.
إحياء ذكرى وفاة المرحوم محمد علي الحامي باعث الحركة النقابية في الوطن العربي (2/6)
بقلم: البشير الشريف
عاد محمد علي الحامي إلى ارض الوطن وعمره (30) سنة وسرعان ما اطلع على حالة المجتمع التونسي السيئة التي يسودها البؤس والخصاصة والحرمان والمرض والجهل.
وكان يشاهد بكل مرارة وهو في طريقه إلى مسقط رأسه بلدة الحامة الجموع الغفيرة على طوال الطريق من مواطنيه البدو وهم متوجهون نحو المدن للاحتماء بها عسى أن يظفروا بلقمة عيش تقيهم مرارة الجوع والحرمان.
وبعد أن تعمق في دراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك مع ما كانت عليه الأوضاع السياسية من صراعات بين الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أجل المزاحمة على النفوذ فكر في البداية في بعث شركة تعاونية زراعية وصناعية وتجارية ومالية في أهم المدن التونسية يمكن جمعها في مرحلة ثانية في اتحاد يجمع شملها، ونظرا لصعوبة تحقيق هذا المشروع عارضه رفاقه ويقول المصلح الاجتماعي المرحوم الطاهر الحداد في كتابه المرجع (العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية) فلاحظنا له أنه ربما كان يقرر بذلك حلما من أحلام الفلاسفة بالنسبة إلى الوسط الذي نحن فيه، وربما كان غيابه خمس عشرة سنة حجبه عن تقدير الوضع السائد في البلاد فظن أن الأمة انتقلت فيه إلى تأسيس ما يقرر مرة واحدة، ولما احتك بطبقات مختلفة من المجتمع وزار بعض جمعيات العاصمة فأخذت افكاره تعتدل في تقدير حقيقة الحالة وآل الأمر في النهاية إلى بعث مشروع اقتصادي واجتماعي لفائدة العمال ضحايا استغلال الشركات الاستعمارية لهم وأطلق عليه اسم (جمعية التعاون الاقتصادي التونسي) ساعده في ذلك ثلة نيرة من الشبان الوطنيين المتحمسين وهم الطاهر الحداد والعربي مامي والطاهر بوتورية والطاهر صفر مدير المدرسة العرفانية التابعة للجمعية الخيرية الاسلامية والحبيب جاء وحده معلم اللغة الفرنسية بنفس المدرسة.
وبعد اجتماعات مكثفة واستشارات متعددة لدراسة الوضع الاجتماعي المتردي تمكنوا من اعداد مسودة القانون الاساسي واطلاع أهل العلم والاختصاص عليه لابداء آرائهم فيه خلال اجتماع عام بفرع الجمعية الخيرية الاسلامية بنهج الحجامين ثم التأم فيما بعد الاجتماع التأسيسي بمكتبة الخلدونية يوم 29 جوان 1924 غصت قاعة الاجتماع والممر المؤدي إليها بجماهير الوطنيين المتحمسين لانجاح المشروع وترأس الجلسة الشيخ الطيب من مصطفى وعضوية كل من المؤرخ الأستاذ عثمان الكعاك والشاعر محمود بورقيبة وتناول الكلمة في هذه الجلسة كل من الطاهر الحداد والطاهر صفر حيث أطنب كل منهما في بيان فوائد المشروع.
اما صاحب الفكرة ومبتكر المشروع وعالم الاقتصاد محمد علي الحامي فقد أطنب هو الآخر في الحديث عن فوائده اقتصاديا واجتماعيا ووطنيا، ثم تحدث عن تجواله وطوافه ببلاد المشرق العربي وأوروبا من طرابلس الغرب وتركيا إلى ألمانيا وفرنسا وتعرفه على العديد من زعماء العرب الذين يناضلون لتحرير أوطانهم والنهوض بها مما شجعه على الانكباب على طلب العلم والكرع من حياضه في عاصمة الخلافة العثمانية وقيل إنه ربما تعلم اللغة العربية عن المناضل الصادق المبعد المرحوم فضيلة العلامة الشيخ صالح الشريف وهو جد الفنان المرحوم الدكتور صالح المهدي الذي شيخا بجامع الزيتونة المعمور وكان ضمن كوكبة نيرة من المهاجرين التونسيين امثال العلامة الشيخ الخضر بن الحسين شيخ الأزهر فيما بعد ومحمد باش حانبة واسماعيل الصفايحي، ولم يترك محمد علي الحامي لحظة من إقامته بتركيا تذهب سدى وإثر نهاية الحرب الكونية الأولى، انتقل إلى برلين عاصمة ألمانيا التي مكث بها من سنة 1918 إلى سنة 1924 وكان طيلة اقامته بألمانيا يتساءل مع نفسه عن الطريقة المثلى التي يمكن أن يكون بها حركة اقتصادية في وطنه وكان قد تحول إلى باريس عاصمة فرنسا من 6 إلى 20 مارس 1923 لزيارة احد اقاربه بلقاسم الشافعي لمساعدته على قضاء بعض شؤونه.
ولما عاد إلى تونس خلال شهر ماس 1924 بعد غربة امتدت أكثر من عقد من الزمن، احدث رجة وأية رجة في المجتمع التونسي بما كان يتحلى به من حيوية ونشاط وأفكار تقدمية وعزم راسخ على النهوض ببلاده مما كانت تتخبط فيه من بؤس وخصاصة وحرمان ومرض وجهل.
وسرعان ما التفت حوله ثلة من الشبان الوطنيين ينتمون إلى مختلف فئات المجتمع، وبعد أن عرض عليهم أفكاره وبرامجه تجاوبوا معه بكل حماس واستقر الراي على بعث (جمعية التعاون الاقتصادي التونسي) وهي أشبه بما يسمى بتعاضية الاستهلاك لتحمي الطبقة الشغيلة التونسية من استغلال رؤوس الأموال الأجانب الفاحش لها، وفي الآن نفسه على رفع مستوى مقدرتهم الشرائية وحياتهم الاجتماعية، ولمزيد توعية العمال بفوائد هذا المشروع كتب عالم الاقتصاد الطيب الحداد مقالا بجريدة (الصواب) يوم 6 جوان 1924 عالج فيه موضوع شركات التعاون الاقتصادي وما ينجر عنها من فوائد على المجتمع والفرد باعتباره شريكا يستفيد من الأرباح السنوية وحريفا لايقتني حاجياته ومواده الغذائية الا من نفس الشركة ليستفيد من زهادة الثمن وانخفاض الأسعار خاصة بالنسبة للفقراء وضعاف الحال.
إحياء ذكرى وفاة المرحوم محمد علي الحامي باعث الحركة النقابية في الوطن العربي (3/6)
بقلم: البشير الشريف
وبعد اجتماعات متعددة لتحضير مستودة القانون الأساسي للجمعية تم انتخاب هيئة تأسيسية للمشروع برئاسة محمد علي الحامي لتتولى تركيز المشروع حسب أسسه القانونية وفي نفس الوقت تشرع في عقد الاجتماعات بالعمال لمزيد توعيتهم بفوائد المشروع وأهدافه وسرعان ما آمنوا بجدواه وتحمسوا لإنجاحه في مختلف القطاعات وخاصة عمال رصيف الحاضرة الذين سرعان ما تغلغل في نفوسهم الوعي الاقتصادي والاجتماعي وبعبارة أشمل الوطني بما بثه فيهم محمد علي من شجاعة وثبات وايمان بالمستقبل الأفضل وبذلك سجل التاريخ الوطني لمحمد علي في تلك الفترة الصعبة والدقيقة صفحات المجد والخلود الأولى من تاريخه النضالي الوطني الناصع. بيد أن الأوضاع الاجتماعية في البلاد سرعان ما تدهورت وآلت إلى الغضب العمالي الشديد وأصبح الانفجار وشيكا لما اجتاحت البلاد موجة من الإضرابات والأحداث الاجتماعية خاصة بميناء العاصمة اهتز لها الكيان الاستعماري البغيض أيما اهتزاز وأقضت مضاجع أقطابه الذين صاروا وكأنما أصابهم مس من الجنون أفقدهم رشدهم وأعمى بصائرهم وانطلقت صحافتهم تندر بالثبور وعظائم الأمور وتمطر العمال التونسيين بماضي سهامها لما شاهدته هذه المرة من دقة في التنظيم واجماع الكلمة وفي تجاوب الشعب معهم خاصة بعد استنجادهم بمحمد علي الذي سارع بتلبية النداء وكون لجنة ترأسها بنفسه تضيم الدكتور احمد بن ميلاد واحمد توفيق المدني عضو اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري والمختار العياري عضو الحزب الشيوعي وهو جد الصحفي المذيع عادل يوسف وبعض العملة ممن لهم معرفة بالشؤون الاجتماعية واشعاع بين زملائهم لجمع التبرعات المادية لعائلات العمال المضربين حتى يتمكنوا من مواصلة الاضراب وتم انتخاب البشير بودمغة يساعده البشير الفالح للاشراف على تسيير حركة الاضراب.
وبعد كر وفر تواصل الإضراب وفي الاثناء أتصل العمال بمختلف الدوائر الاستعمارية من السفارة الفرنسية الى إدارة الأمن... الخ علهم يجدون من يساعدهم على حل مشاكلهم ولما وجدوا كل الأبواب موصدة أمامهم التجأوا في آخر الأمر يوم 3 ديسمبر 1924 الى الباي محمد الحبيب بقصره بضاحية قرطاج لرفع شكواهم إليه عله يساعدهم على حل مشاكلهم بيد أنه لم يحاول حتى استقبالهم والتعرف على مشاكلهم وخرج اليهم عوضا عن الباي وزيره الأكبر مصطفى دنقزلي ليسألهم عن سبب مجيئهم لمقابلة الباي، وبعد نقاش حاد أجابهم حسبما جاء في كتاب (العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية) لطاهر الحداد صفحة 72 (ان الحضرة العلية تقول لكل إنها متأثرة من هذه الحادثة وقد بلغها التشويش الذي أوقعتموه بباب الجديد مع الورقلية وبالقلالين. وتريدكم الرجوع الآن الى الشغل وستضع يدها في النازلة وبعد مناقشات بين العمال والوزير قال له محمود الخياري رئيس الوفد: يا حضرة الوزير اننا لم نات الى الباب ليكون عضدا للشركات الاستعمارية في جبرنا على الخدمة وقد دخلنا كل مكاتب الحكومة تقريبا.. ولكن لم نلق منهم معاضدة حقيقية فإنهم ما استطاعوا ان يجبرونا على العدوة الى الشغل فان قوانين العالم اليوم قررت حرية الشغل مثلما قررت حرية الاعتصام لمن يريد ذلك وليس قصدنا ان يضع الباي يده وانما أتينا إليه بصفته الممثل الأعلى لحكومة البلاد.. الخ ورجع اللاجئون للحضرة العلية مستائين أشد الاستياء مما سمعوا وبقي الوزير واقفا مكانه وكان شديد الغضب مما سمعه.
واهتمت الصحافة الوطنية على اختلاف اتجاهاتها بهذه الحالة وكان قد سبق لبعضها ان دعت العمال الى رص صفوفهم وتوحيد كلمتهم والإسراع ببعث النقابات تأسيا بما وقع في قلعة المعمرين الأجانب والاسرائليين مدينة ماطر لما أسس العمال في مستهل عام 1924 أول نقابة وطنية كانت تعمل في البداية بطريقة سرية ولما نما عددها واشتد ساعدها أصبحت تعمل بصفة علنية، ولم تكثف بالقيام بواجبها النقابي في الدفاع عن منظوريها بل نراها تولي عناية فائقة للنهوض بهم اجتماعيا واخلاقيا فكانت تعمل على الحد من تفشي شرب الخمر وتعاطي لعب الميسر وقد نوه ممثل الحزب الحر الدستوري بماطر المناضل الصادق حمودة ميهوب بنشاط هذه النقابة وحزمها وشجاعتها في مجابهة ظلم المعمرين وتهديد كل من عامل (والي) المكان ورئيس الشرطة الفرنسية اللذان زجا بعدد من العمال في غياهب السجون.
هذا ونوهت جريدة (الصواب) في العدد الصادر يوم 29 أوت 1924 بنشاط هذه النقابة وتفاني أعضائها في خدمة رفاقهم فقالت (لقد تنبه عمال ماطر بما أوتوا من الذكاء وصفاء القريحة إلى تأسيس نقابة كانت الوحيدة في هذا الباب فأفادتهم فوائد جمة من جراء التضامن وضم الخناصر على تأييد المصلحة المشتركة كما كان لها التأثير والنفع الاعم في الرجوع الى سنن الإسلام ومبادئه الفاضلة وتختم هذه الجريدة مقالها بما يلي: إذن فالسعي الى إيجاد النقابات وتأليفها على أمتن الأسس له منفعة مزدوجة وفائدة أكمل وأشمل فعلى التونسيين أن يتبنوا هذه الأراء ويعلموا بها.
وكانت هذه الجريدة قد سبق لها أن قالت في عددها الصادر يوم 21 جوان 1924 (نرجو من بقية العمال في مختلف أنحاء المملكة أن ينسجوا على هذا المنوال ويقتدوا بإخوانهم في ماطر حتى تحفظ حقوقهم وتصان مجهوداتهم من عبث العابثين.
وفي يوم 7 سبتمبر 1924 تم الاتفاق بين العملة وشركة الرصيف الأجنبية على انهاء الإضراب بعد أن تحصل العمال على بعض المطالب مما جعل عمال مصانع جهة بنزرت ورصيفها ينسجون على منوالهم ويعلنون الإضراب يوم 11 سبتمبر وحصلت اصطدامات واشتباكات دامية بين العمال التونسيين العزل من كل سلاح وبين القوات الاستعمارية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة سقط فيها العديد من الجرحى واستشهد فيها الشهيدان: محمد الكومي ومبروك بن محمد الشاهد وهما من أول رواد شهداء الكفاح الاجتماعي الوطني نتيجة ما أبداه السفاح الاستعماري (كمبانة) مدير عام الشرطة الفرنسية من حقد وتعسف وطيش وسوء تدبير وكره للعنصر الوطني.
وقد تفتقت قريحة الشاعر التونسي الشهير سعيد أبو بكر بقصيدة عصماء صور فيها هذه الملحمة الوطنية تصويرا رائعا ونظرا لأهميتها التاريخية نقتطف منها الأبيات التالية:
وقد مزقت أجسامهم ببنادق
أعدت لهم من دون ذنب ولا وزر
وقد جندلوا فوق البسيطة بعضهم
جريح وبعض قد أصابه بالقصر
وآخر مغلول مغلول اليدين مصيره
الى السجن مرفوعا بسلسلة الجر
يصيحون ولكن ليس يجدي صياحهم
ويستنجدون القوم والقلب في صخر
وما ان هدأت هذه الموجة من الإعتصامات حتى كأن رائد الحركة النقابية الأولى بالعالم العربي الدكتور محمد علي الحامي يبذر البذرة النقابية الأولى بهذه الربوع بعيدة كل البعد عن مختلف الأيديولوجيات الأجنبية.
ومثلما كان لعملة ميناء العاصمة فضل الزيادة في بعث أول حركة تعاونية اقتصادية وطنية. كان لهم أيضا فضل الزيادة في بعث أول حركة نقابية وطنية رغما عن تحجير العمل النقابي في بلادنا وعدم السماح به الا بعد صدور الأمر العلي المؤرخ في 1 نوفمبر 1932.
وبسرعة لحقت بها عدة نقابات بجهة بنزرت وتم تأسيس اتحاد جهوي للسهر على شؤون هذه النقابات وتحقيق جدواها بإشراف محمد الخميري ثم الطاهر بن سالم.
وكانت هذه الحركة النقابية الوطنية الناشئة كانها في سباق مع الزمن حيث انتشرت في فترة وجيزة بعديد المؤسسات بالعاصمة شملت عمال شركة السكك الحديدية والتزام وسوق الحبوب ومعامل الدقيق وقمرق الدخان ونسيج الحرير والبرانسية والشواشية.. الخ
اهتز (دوريل) كاتب عام اتحاد النقابات الفرنسية (C.G.T) بتونس من سرعة انتشار الحركة النقابية الوطنية التي تم تأسيسها في فترة وجيزة جدا تراوحت بين غرة أكتوبر 1924 ومستهل شهر ديسمبر من نفس السنة وعمت قطاعات عديدة هامة ومتنوعة بالعاصمة وبنزرت وماطر، وصفاقس وقفصة والمتلوي.
بقلم: البشير الشريف
إن ملحمة الكفاح الوطني التونسي عبر مختلف دروب النضال الطويلة مليئة بالبطولات النادرة والتضحيات الجسام والانتفاضات الشعبية الرائعة ضد أبشع استعمار لاتيني جائر حتى لا تكاد تخلو مدينة أو قرية سهل أو جبل شمالا أو جنوبا من تسجيل مظهر أو أكثر من مظاهر البطولة والفداء.
وفي الأيام الأخيرة الماضية حلت بنا الذكرى الخامسة والتسعين لوفاة باعث الحركة النقابية الأولى في الوطن العربي خالد الذكر المرحوم محمد علي الحامي وقد سعدنا في الأيام الأخيرة بإعادة الاعتبار من جدي لإحياء ذكرى وفاة هذا البطل الصنديد من طرف منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل وتحول الأخ المناضل نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد واعضاده في المكتب التنفيذي إلى مدينة الحامة مسقط رأس المرحوم محمد علي الحامي لإحياء هذه الذكرى وبذلك يتم إحياء هذه الحلقة المفقودة في تاريخ أبطال حركتنا النقابية ونتمنى أن تتواصل سنويا.
وكان الشهيد فرحات حشاد أول من أعاد الاعتبار للمرحوم محمد علي الحامي لما كان يرفع في مقدمة مظاهرة الشغالين يوم غرة ماي كل عام صورة ضخمة لمحمد علي الحامي بيد أنها مع الأسف فقدت في السنوات اللاحقة.
عاد المرحوم محمد علي الحامي خلال شهر مارس 1924 بعد غربة طويلة من البلاد الألمانية متوجا بأكاليل الغار حيث أحرز على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد السياسي من جامعة برلين.
وكان محمد علي الحامي المولود يوم 15 أكتوبر 1890 بحامة قابس قد حفظ ما تيسر من القرآن الكريم ولم يتمكن من الالتحاق باحدى المارس الابتدائية نتيجة ما كانت عليه أسرته من فقر وخصاصة وحرمان، ولما انتقل إلى العاصمة ليعمل مثل اقرانه بالسوق المركزية كحمال لمشتريات بعض العائلات الاوروبية مما ىمكنه من تعلم بعض مفردات اللغة الفرنسية ولما تعرف على قنصل النمسا اعجب بيقظته وجديته وحزمه، وأصبح هو الذي يتولى قضاء شؤونه من السوق المركزية، وساعده على تعلم سياقة السيارات وتمكن بمساعدة القنصل من الاحراز على شهادة سياقة السيارات في 26 فيفري 1908.
وأمام تدهور الاوضاع بدولة الخلافة العثمانية وتفاقمها نتيجة الحروب التي شنت ضدها من قبل بعض الدول الأوروبية المتحالفة اغتنمت إيطاليا الفرصة وشنت هجومنا مباغة بالقصف المدفعي من الأسطول المدفعي على مدينة طرابلس يوم 29/9/1911 وتم انزال الجيوش يوم 5/10/1911 وكانت ردود الفعل لدى الليبيين وشعوب الدول المجاورة تونس والجزائر ومصر قوية حيث بدأت قوات المتطوعين من المجاهدين تتوالى على طرابلس لصد هذا الهجوم الغادر وكانت ردود الفعل التونسية سريعة وتمثلت في معركة الزلاج يوم 7 نوفمبر 1911 ثم حوادث الترام يوم الجمعة 9 فيفري من السنة الموالية 1912، وبسرعة تكونت اللجان الشعبية في مختلف انحاء المملكة لجمع التبرعات المادية والمؤونة وتجنيد المتطوعين، وكانت القوافل المحملة بالاعانات تعبر الحدود الشرقية نحو طرابلس يوميا، وكان المشرف على هذه العمليات بكاملها المرحوم المناضل علي باش حانبة زعيم حركة الشباب التونسي.
في تلك الاثناء كانت البلاد التونسية تعج بجالية إيطالية تتظاهر بكل وقاحة بفرحتها وابتهاجها بالاحتلال الإيطالي لطرابلس مما ضاعف من كراهية العشب التونسي لتلك الجالية واشتداد التوتر معها.
وفي هذا الظرف العصيب حل عدد من القادة الأتراك بتونس في طريقهم إلى طرابلس ويقول المرحوم محمد الصالح المهيدي في هذا الصدد (كان القادة الاتراك يتسربون إلى تونس عن طريق الجزائر وفرنسا وينزل أكثرهم بمحل سكنى المرحوم محمد الحجام (والد المرحوم يحيى التركي الرسام المشهور) بقرطاج وهناك ينزعون قبعاتهم وفي محل شغله بنهج مصطفى مبارك يقيمهم على الزي الليبي ويلبسهم الشاشية والعراقية البيضاء من تحتها ويتدرثون الحرام، ومن تونس ينتقلون إلى جربة ثم يبحرون إلى زوارة كان من هؤلاء القادة الأتراك القائد التركي الشهير أنور باشا وبحث عن سائق لسيارته لتنقله إلى ليبيا، وتعرف على محمد علي الحامي الذي كان يتحرق شوقا للمشاركة في الجهاد مع أشقائه الليبيين ضد الغزو الايطالي الشنيع، وهناك تعرف على العديد من القادة العرب الذين كان من ضمنهم الزعيم العربي الشهير أمير البيان شكيب ارسلان بوصفه مفتشا لجمعية الهلال العثماني للمساهمة في الدفاع عن حوزة اخوانه هناك فكان يحث الهمم ويؤمن المؤن ويضمد الجراح.
ولما اشتدت هجومات القوات الأوروبية المتحالفة على تركيا التي اصبحت مهددة بالاحتلال الأجنبي وبدأ جيشها في التراجع والتقهقر وعاد يدافع بعد أن يهاجم. قررت تركيا التخلي عن ليبيا وتركها ومصيرها لوحدها، وعاد الجيش التركي للدفاع عن بلاده، وصاحب محمد علي الحامي أنور باشا إلى عاصمة الخلافة العثمانية سنة 1914 حيث تمكن بمساعدة القائد أنور باشا من زيادة التمكن من اللغة الألمانية ومن الانتماء إلى الجيش العثماني، الذي نال فيه بعض الرتب العسكرية، وفي ألمانيا ساعده أنور باشا مع بعض المسؤولين الألمان على الالتحاق ببعض الجامعات التي تخرج منها بشهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد السياسي خلال شهر فيفري سنة 1924.
وفي الشهر الموالي مارس عاد محمد علي الحامي إلى تونس بعد أن قضى ببلاد الغربة أكثر من عقد من الزمن جاب خلاله كلا من طرابلس وعاصمة الخلافة العثمانية وبرلين عاصمة ألمانيا وباريس عاصمة فرنسا.
إحياء ذكرى وفاة المرحوم محمد علي الحامي باعث الحركة النقابية في الوطن العربي (2/6)
بقلم: البشير الشريف
عاد محمد علي الحامي إلى ارض الوطن وعمره (30) سنة وسرعان ما اطلع على حالة المجتمع التونسي السيئة التي يسودها البؤس والخصاصة والحرمان والمرض والجهل.
وكان يشاهد بكل مرارة وهو في طريقه إلى مسقط رأسه بلدة الحامة الجموع الغفيرة على طوال الطريق من مواطنيه البدو وهم متوجهون نحو المدن للاحتماء بها عسى أن يظفروا بلقمة عيش تقيهم مرارة الجوع والحرمان.
وبعد أن تعمق في دراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك مع ما كانت عليه الأوضاع السياسية من صراعات بين الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أجل المزاحمة على النفوذ فكر في البداية في بعث شركة تعاونية زراعية وصناعية وتجارية ومالية في أهم المدن التونسية يمكن جمعها في مرحلة ثانية في اتحاد يجمع شملها، ونظرا لصعوبة تحقيق هذا المشروع عارضه رفاقه ويقول المصلح الاجتماعي المرحوم الطاهر الحداد في كتابه المرجع (العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية) فلاحظنا له أنه ربما كان يقرر بذلك حلما من أحلام الفلاسفة بالنسبة إلى الوسط الذي نحن فيه، وربما كان غيابه خمس عشرة سنة حجبه عن تقدير الوضع السائد في البلاد فظن أن الأمة انتقلت فيه إلى تأسيس ما يقرر مرة واحدة، ولما احتك بطبقات مختلفة من المجتمع وزار بعض جمعيات العاصمة فأخذت افكاره تعتدل في تقدير حقيقة الحالة وآل الأمر في النهاية إلى بعث مشروع اقتصادي واجتماعي لفائدة العمال ضحايا استغلال الشركات الاستعمارية لهم وأطلق عليه اسم (جمعية التعاون الاقتصادي التونسي) ساعده في ذلك ثلة نيرة من الشبان الوطنيين المتحمسين وهم الطاهر الحداد والعربي مامي والطاهر بوتورية والطاهر صفر مدير المدرسة العرفانية التابعة للجمعية الخيرية الاسلامية والحبيب جاء وحده معلم اللغة الفرنسية بنفس المدرسة.
وبعد اجتماعات مكثفة واستشارات متعددة لدراسة الوضع الاجتماعي المتردي تمكنوا من اعداد مسودة القانون الاساسي واطلاع أهل العلم والاختصاص عليه لابداء آرائهم فيه خلال اجتماع عام بفرع الجمعية الخيرية الاسلامية بنهج الحجامين ثم التأم فيما بعد الاجتماع التأسيسي بمكتبة الخلدونية يوم 29 جوان 1924 غصت قاعة الاجتماع والممر المؤدي إليها بجماهير الوطنيين المتحمسين لانجاح المشروع وترأس الجلسة الشيخ الطيب من مصطفى وعضوية كل من المؤرخ الأستاذ عثمان الكعاك والشاعر محمود بورقيبة وتناول الكلمة في هذه الجلسة كل من الطاهر الحداد والطاهر صفر حيث أطنب كل منهما في بيان فوائد المشروع.
اما صاحب الفكرة ومبتكر المشروع وعالم الاقتصاد محمد علي الحامي فقد أطنب هو الآخر في الحديث عن فوائده اقتصاديا واجتماعيا ووطنيا، ثم تحدث عن تجواله وطوافه ببلاد المشرق العربي وأوروبا من طرابلس الغرب وتركيا إلى ألمانيا وفرنسا وتعرفه على العديد من زعماء العرب الذين يناضلون لتحرير أوطانهم والنهوض بها مما شجعه على الانكباب على طلب العلم والكرع من حياضه في عاصمة الخلافة العثمانية وقيل إنه ربما تعلم اللغة العربية عن المناضل الصادق المبعد المرحوم فضيلة العلامة الشيخ صالح الشريف وهو جد الفنان المرحوم الدكتور صالح المهدي الذي شيخا بجامع الزيتونة المعمور وكان ضمن كوكبة نيرة من المهاجرين التونسيين امثال العلامة الشيخ الخضر بن الحسين شيخ الأزهر فيما بعد ومحمد باش حانبة واسماعيل الصفايحي، ولم يترك محمد علي الحامي لحظة من إقامته بتركيا تذهب سدى وإثر نهاية الحرب الكونية الأولى، انتقل إلى برلين عاصمة ألمانيا التي مكث بها من سنة 1918 إلى سنة 1924 وكان طيلة اقامته بألمانيا يتساءل مع نفسه عن الطريقة المثلى التي يمكن أن يكون بها حركة اقتصادية في وطنه وكان قد تحول إلى باريس عاصمة فرنسا من 6 إلى 20 مارس 1923 لزيارة احد اقاربه بلقاسم الشافعي لمساعدته على قضاء بعض شؤونه.
ولما عاد إلى تونس خلال شهر ماس 1924 بعد غربة امتدت أكثر من عقد من الزمن، احدث رجة وأية رجة في المجتمع التونسي بما كان يتحلى به من حيوية ونشاط وأفكار تقدمية وعزم راسخ على النهوض ببلاده مما كانت تتخبط فيه من بؤس وخصاصة وحرمان ومرض وجهل.
وسرعان ما التفت حوله ثلة من الشبان الوطنيين ينتمون إلى مختلف فئات المجتمع، وبعد أن عرض عليهم أفكاره وبرامجه تجاوبوا معه بكل حماس واستقر الراي على بعث (جمعية التعاون الاقتصادي التونسي) وهي أشبه بما يسمى بتعاضية الاستهلاك لتحمي الطبقة الشغيلة التونسية من استغلال رؤوس الأموال الأجانب الفاحش لها، وفي الآن نفسه على رفع مستوى مقدرتهم الشرائية وحياتهم الاجتماعية، ولمزيد توعية العمال بفوائد هذا المشروع كتب عالم الاقتصاد الطيب الحداد مقالا بجريدة (الصواب) يوم 6 جوان 1924 عالج فيه موضوع شركات التعاون الاقتصادي وما ينجر عنها من فوائد على المجتمع والفرد باعتباره شريكا يستفيد من الأرباح السنوية وحريفا لايقتني حاجياته ومواده الغذائية الا من نفس الشركة ليستفيد من زهادة الثمن وانخفاض الأسعار خاصة بالنسبة للفقراء وضعاف الحال.
إحياء ذكرى وفاة المرحوم محمد علي الحامي باعث الحركة النقابية في الوطن العربي (3/6)
بقلم: البشير الشريف
وبعد اجتماعات متعددة لتحضير مستودة القانون الأساسي للجمعية تم انتخاب هيئة تأسيسية للمشروع برئاسة محمد علي الحامي لتتولى تركيز المشروع حسب أسسه القانونية وفي نفس الوقت تشرع في عقد الاجتماعات بالعمال لمزيد توعيتهم بفوائد المشروع وأهدافه وسرعان ما آمنوا بجدواه وتحمسوا لإنجاحه في مختلف القطاعات وخاصة عمال رصيف الحاضرة الذين سرعان ما تغلغل في نفوسهم الوعي الاقتصادي والاجتماعي وبعبارة أشمل الوطني بما بثه فيهم محمد علي من شجاعة وثبات وايمان بالمستقبل الأفضل وبذلك سجل التاريخ الوطني لمحمد علي في تلك الفترة الصعبة والدقيقة صفحات المجد والخلود الأولى من تاريخه النضالي الوطني الناصع. بيد أن الأوضاع الاجتماعية في البلاد سرعان ما تدهورت وآلت إلى الغضب العمالي الشديد وأصبح الانفجار وشيكا لما اجتاحت البلاد موجة من الإضرابات والأحداث الاجتماعية خاصة بميناء العاصمة اهتز لها الكيان الاستعماري البغيض أيما اهتزاز وأقضت مضاجع أقطابه الذين صاروا وكأنما أصابهم مس من الجنون أفقدهم رشدهم وأعمى بصائرهم وانطلقت صحافتهم تندر بالثبور وعظائم الأمور وتمطر العمال التونسيين بماضي سهامها لما شاهدته هذه المرة من دقة في التنظيم واجماع الكلمة وفي تجاوب الشعب معهم خاصة بعد استنجادهم بمحمد علي الذي سارع بتلبية النداء وكون لجنة ترأسها بنفسه تضيم الدكتور احمد بن ميلاد واحمد توفيق المدني عضو اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري والمختار العياري عضو الحزب الشيوعي وهو جد الصحفي المذيع عادل يوسف وبعض العملة ممن لهم معرفة بالشؤون الاجتماعية واشعاع بين زملائهم لجمع التبرعات المادية لعائلات العمال المضربين حتى يتمكنوا من مواصلة الاضراب وتم انتخاب البشير بودمغة يساعده البشير الفالح للاشراف على تسيير حركة الاضراب.
وبعد كر وفر تواصل الإضراب وفي الاثناء أتصل العمال بمختلف الدوائر الاستعمارية من السفارة الفرنسية الى إدارة الأمن... الخ علهم يجدون من يساعدهم على حل مشاكلهم ولما وجدوا كل الأبواب موصدة أمامهم التجأوا في آخر الأمر يوم 3 ديسمبر 1924 الى الباي محمد الحبيب بقصره بضاحية قرطاج لرفع شكواهم إليه عله يساعدهم على حل مشاكلهم بيد أنه لم يحاول حتى استقبالهم والتعرف على مشاكلهم وخرج اليهم عوضا عن الباي وزيره الأكبر مصطفى دنقزلي ليسألهم عن سبب مجيئهم لمقابلة الباي، وبعد نقاش حاد أجابهم حسبما جاء في كتاب (العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية) لطاهر الحداد صفحة 72 (ان الحضرة العلية تقول لكل إنها متأثرة من هذه الحادثة وقد بلغها التشويش الذي أوقعتموه بباب الجديد مع الورقلية وبالقلالين. وتريدكم الرجوع الآن الى الشغل وستضع يدها في النازلة وبعد مناقشات بين العمال والوزير قال له محمود الخياري رئيس الوفد: يا حضرة الوزير اننا لم نات الى الباب ليكون عضدا للشركات الاستعمارية في جبرنا على الخدمة وقد دخلنا كل مكاتب الحكومة تقريبا.. ولكن لم نلق منهم معاضدة حقيقية فإنهم ما استطاعوا ان يجبرونا على العدوة الى الشغل فان قوانين العالم اليوم قررت حرية الشغل مثلما قررت حرية الاعتصام لمن يريد ذلك وليس قصدنا ان يضع الباي يده وانما أتينا إليه بصفته الممثل الأعلى لحكومة البلاد.. الخ ورجع اللاجئون للحضرة العلية مستائين أشد الاستياء مما سمعوا وبقي الوزير واقفا مكانه وكان شديد الغضب مما سمعه.
واهتمت الصحافة الوطنية على اختلاف اتجاهاتها بهذه الحالة وكان قد سبق لبعضها ان دعت العمال الى رص صفوفهم وتوحيد كلمتهم والإسراع ببعث النقابات تأسيا بما وقع في قلعة المعمرين الأجانب والاسرائليين مدينة ماطر لما أسس العمال في مستهل عام 1924 أول نقابة وطنية كانت تعمل في البداية بطريقة سرية ولما نما عددها واشتد ساعدها أصبحت تعمل بصفة علنية، ولم تكثف بالقيام بواجبها النقابي في الدفاع عن منظوريها بل نراها تولي عناية فائقة للنهوض بهم اجتماعيا واخلاقيا فكانت تعمل على الحد من تفشي شرب الخمر وتعاطي لعب الميسر وقد نوه ممثل الحزب الحر الدستوري بماطر المناضل الصادق حمودة ميهوب بنشاط هذه النقابة وحزمها وشجاعتها في مجابهة ظلم المعمرين وتهديد كل من عامل (والي) المكان ورئيس الشرطة الفرنسية اللذان زجا بعدد من العمال في غياهب السجون.
هذا ونوهت جريدة (الصواب) في العدد الصادر يوم 29 أوت 1924 بنشاط هذه النقابة وتفاني أعضائها في خدمة رفاقهم فقالت (لقد تنبه عمال ماطر بما أوتوا من الذكاء وصفاء القريحة إلى تأسيس نقابة كانت الوحيدة في هذا الباب فأفادتهم فوائد جمة من جراء التضامن وضم الخناصر على تأييد المصلحة المشتركة كما كان لها التأثير والنفع الاعم في الرجوع الى سنن الإسلام ومبادئه الفاضلة وتختم هذه الجريدة مقالها بما يلي: إذن فالسعي الى إيجاد النقابات وتأليفها على أمتن الأسس له منفعة مزدوجة وفائدة أكمل وأشمل فعلى التونسيين أن يتبنوا هذه الأراء ويعلموا بها.
وكانت هذه الجريدة قد سبق لها أن قالت في عددها الصادر يوم 21 جوان 1924 (نرجو من بقية العمال في مختلف أنحاء المملكة أن ينسجوا على هذا المنوال ويقتدوا بإخوانهم في ماطر حتى تحفظ حقوقهم وتصان مجهوداتهم من عبث العابثين.
وفي يوم 7 سبتمبر 1924 تم الاتفاق بين العملة وشركة الرصيف الأجنبية على انهاء الإضراب بعد أن تحصل العمال على بعض المطالب مما جعل عمال مصانع جهة بنزرت ورصيفها ينسجون على منوالهم ويعلنون الإضراب يوم 11 سبتمبر وحصلت اصطدامات واشتباكات دامية بين العمال التونسيين العزل من كل سلاح وبين القوات الاستعمارية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة سقط فيها العديد من الجرحى واستشهد فيها الشهيدان: محمد الكومي ومبروك بن محمد الشاهد وهما من أول رواد شهداء الكفاح الاجتماعي الوطني نتيجة ما أبداه السفاح الاستعماري (كمبانة) مدير عام الشرطة الفرنسية من حقد وتعسف وطيش وسوء تدبير وكره للعنصر الوطني.
وقد تفتقت قريحة الشاعر التونسي الشهير سعيد أبو بكر بقصيدة عصماء صور فيها هذه الملحمة الوطنية تصويرا رائعا ونظرا لأهميتها التاريخية نقتطف منها الأبيات التالية:
وقد مزقت أجسامهم ببنادق
أعدت لهم من دون ذنب ولا وزر
وقد جندلوا فوق البسيطة بعضهم
جريح وبعض قد أصابه بالقصر
وآخر مغلول مغلول اليدين مصيره
الى السجن مرفوعا بسلسلة الجر
يصيحون ولكن ليس يجدي صياحهم
ويستنجدون القوم والقلب في صخر
وما ان هدأت هذه الموجة من الإعتصامات حتى كأن رائد الحركة النقابية الأولى بالعالم العربي الدكتور محمد علي الحامي يبذر البذرة النقابية الأولى بهذه الربوع بعيدة كل البعد عن مختلف الأيديولوجيات الأجنبية.
ومثلما كان لعملة ميناء العاصمة فضل الزيادة في بعث أول حركة تعاونية اقتصادية وطنية. كان لهم أيضا فضل الزيادة في بعث أول حركة نقابية وطنية رغما عن تحجير العمل النقابي في بلادنا وعدم السماح به الا بعد صدور الأمر العلي المؤرخ في 1 نوفمبر 1932.
وبسرعة لحقت بها عدة نقابات بجهة بنزرت وتم تأسيس اتحاد جهوي للسهر على شؤون هذه النقابات وتحقيق جدواها بإشراف محمد الخميري ثم الطاهر بن سالم.
وكانت هذه الحركة النقابية الوطنية الناشئة كانها في سباق مع الزمن حيث انتشرت في فترة وجيزة بعديد المؤسسات بالعاصمة شملت عمال شركة السكك الحديدية والتزام وسوق الحبوب ومعامل الدقيق وقمرق الدخان ونسيج الحرير والبرانسية والشواشية.. الخ
اهتز (دوريل) كاتب عام اتحاد النقابات الفرنسية (C.G.T) بتونس من سرعة انتشار الحركة النقابية الوطنية التي تم تأسيسها في فترة وجيزة جدا تراوحت بين غرة أكتوبر 1924 ومستهل شهر ديسمبر من نفس السنة وعمت قطاعات عديدة هامة ومتنوعة بالعاصمة وبنزرت وماطر، وصفاقس وقفصة والمتلوي.