منذ أيّام وبمجهود أنيق سارٌّ استطاع الباحث الدكتور فتحي القاسمي أن يُخرج كتاب عبد العزيز الثعالبي الموسوم بـ(تونس الشهيدة) إلى السّاحة الثّقافيّة في طبعة جديدة( تونس2023)، عن دار المنارة للنشر والتوزيع وبتعاون مع المؤسّسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتّوثيق، وصدّره بكلام الزّعيم الحبيب بورقيبة:"..لقد أخفيتُ الكتاب تحت غطائي. وطالعته خلسة وأنا متأثّر شديد التّأثر. فاطّلعتُ على ما ورد فيه من أرقام، وما تضمّنه من معلومات عن الضّحايا والفقر. وشعرتُ بما جرّهُ لنا الاستعمار من ذلّ وهوان. وكنتُ أبكي"([1]).
وابتدأ الدّكتور فتحي القاسمي القول بمقدّمة نفيسة حوت وصفًا دقيقا وتحليلا نفّاذا إلى مضامين الكتاب والأسباب الدّافعة إلى تأليفه والأخرى الواسعة الحافّة بصاحبه، وتطرّق إلى أعماق السّياق التّاريخي الذي عاش فيه الثّعالبي، قال:"كان صدور كتاب" تونس الشهيدة" مع مطلع سنة 1920 بعاصمة "الجنّ والملائكة ومدينة الأنوار"، مغامرة كبرى خاضها الزّيتوني الثّائر عبد العزيز الثّعالبي (1876- 1944)، وتحديًّا غير مسبوق لفرنسا الاستعماريّة الجاثمة على أقطار المغرب العربي، ولم يكن هذا الاختراق نزوة عابرة ولا خاطرة اشتهى الثّعالبي تحقيقها، وإنّما كانت تلك الرّحلة محفوفة بالمخاطروعملا إراديا وجماعيا أفرزه تنامي الوعي السياسي لدى النخبة التونسية". وأشار الباحث إلى قدرة الثّعالبي المذهلة على صياغة الكتاب صياغة متينة في شكل بيان كشف به وعي النّخبة التونسية بحقوقها وإصرارها على الدّفاع عن قضيتها. وجادل ادّعاءات الاستعمار الفرنسي وحججه التّافهة، مبنية على تواريخ وأرقام وإحصائيّات. ولقد استطاع الثّائر الثّعالبي بكتابه أن يفضح الاستعمار ويكشف مكر الإدارة الفرنسية وكان ذلك في باريس.
طُبعَ الكتاب باللّغة الفرنسية في باريس تحت عنوان: (La Tunisie martyre)
سحب الثعالبي ألفي نسخة ووزّعها بمساعدة رفاقه أبرزهم المحامي أحمد السّقا(1891-1987) الذي نقل الكتاب من العربية إلى الفرنسية، وكان التوزيع على رموز السياسيين الفرنسيين أعضاء البرلمان الفرنسي ورابطة حقوق الإنسان وأعضاء الحزب الاشتراكي الفرنسي ورجال الفكر والثقافة، قصد إطلاع الفرنسيين النّافذين في المشهدين: السياسي/الحقوقي والفكري/ الثقافي على حقائق التّمويه الاستعماري الفرنسي وممارساته البشعة تجاه الشعب التونسي، فغاية فرنسا استنزاف ثروات البلاد وإذلال المواطنين، بينما ظاهر خطابات الجهاز الرّسمي الاستعماري الفرنسي بدا ديموقراطيا وإنسانيا، والحال أنّه منزوع من الإنسانية والديموقراطية، ولم يكتف الثعالبي بنشر الكتاب في فرنسا بل إنّه أرسل مائة نسخة إلى تونس. وأشار الباحث إلى أنّ المرحوم المؤرخ حمّادي السّاحلي قام بتعريب النّص الفرنسي بعد أن استحال الحصول على النسخة الأصلية العربية. وتكفّلت دار الغرب الإسلامي بطبع الكتاب طبعتين الأولى سنة 1984 و الثّانية سنة 1988. وهذه الطبعة هي الثّالثة (تونس 2023).
انقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور الأساسية، وهي في حقيقة الأمر المسائل الجوهرية التي كشفها الثّعالبي للرأي العام بأصنافه الثلاثة العالمي والفرنسي والتونسي، وإنّ مثل هذا التّبويب والتّدقيق يدلّ على دراية الرّجل بقضيّة وطنه وفهمه العميق الذي استخرج به غوامض الاستعمار الفرنسي من مخابئها،ولقد جاءت حججه باتا أربكت المستعمر وأتته من جبهة الرّأي العام التي لم يحسب لها حساب ، فكانت مضامين الكتاب بمثابة الضياء الذي يجلو ظلام الكذّابين، فلم تجد فرنسا ملجأ ولا تأويلاً تلوذ به من صدمة الحقّ، أمّا المسائل فهي:
1)المسألة الأولى وعنونها الباحث بِــــ: الانتصار للشخصية التونسية وإبراز معالمها وخصائصها ومقوّماتها:تبدّى ذلك في الاعتزاز بتونس، اعتزازٌ تجمّلت به سطور الكتاب( تونس الشهيدة)، برز في حلل كلامية، وأشكال بيانية زاهية تتوقّد وطنية، وتلتهب حميّة، باقة مختلفة من الافتخار بالوطن الحبيب، فالشخصية التونسية كما قدّمها الثعالبي للفرنسيين والأوروبيين، تبدو قويّة ثائرة متجذّرة في هويتها لا يستطيع أيّ وافد أن يذيبها أو يُخمد روحها، وتعيش في وطن غنيّ بثرواته وخيراته وبموقعه الجغرافي المتميّز يقول الثّعالبي:(إنّ الشعب التونسي الذي قضى عليه مصيره بأن يكون ضحية للأطماع الاستعمارية نتيجة لموقع بلده الجغرافي الذي هو ملتقى حقيقي للطرق بالبحر الأبيض المتوسط، استطاع بفضل حيوته أن يتغلب على تلك الغزوات التي أرادها ألاّ تدوم إلاّ فترة صغيرة معيّنة فاستوعب العناصر التي لها صلة متينة به وحافظ بشدّة على أهمّ خاصياته المميّزة والثابتة)، وتعتبر هذه المسألة فكرة مركزية في الكتاب وهي في تقديرنا نقطة القوّة لمواجهة أكاذيب فرنسا ومحاولة صدّ أطماعها، وذلك بتعريفها بتركيبة الشخصية التونسية، هذه الشخصية التي استفادت من التعدّد الحضاري الذي مرّ على البلاد، واستغنت من الروافد الثقافية، وكوّنت لنفسها رصيدا معرفيا وبطوليّا، ولقد بيّن الثعالبي في كتابه أنّ التونسيين اتّصفوا برفض التّمييز بين الأجناس والأعراق، وتميّزوا بصفتين متواشجتين (التّسامح والكرم)، ولقد استطاع الثعالبي أن يجعل الحقائق سراجا وهّاجا في وجه تعصّب وجشع الفرنسيين، فذكّر فرنسا والأوروبيين بأنّ الشعب التونسي تعايش مع الوافدين على بلاده، فقد احتضنت تونس مختلف المذاهب والديانات والنّحل والأعراق دون أن يمارس الشعب أيّ تمييّز طائفي أو صراع ديني.
2) المسألة الثّانية وعنونها الباحث بــ: تعرية الاستعمار الفرنسي عموما ونظام الحماية خصوصا: وَ"في كتاب( تونس الشهيدة) بدا لنا الثعالبي شديد الوعي بما خلّفه الاستعمار في بلدان المغرب والمشرق العربيين من تدمير للهوية وسلب للسيادة وتآمر على الأجيال المتعاقبة وكان يعلن أنّ المقاومة المسلحة على أرضه للاستعمار غير مطروحة لعدم تكافؤ القوى ولذلك تهيّأ جيّدا لمجادلة المستعمر على أرضه.. لقد تعاملت فرنسا مع التونسيين تعاملا قائما على الاستعلاء والتكبّر والتجبّر ومارست ضدّ المجتمع التونسي وطلائعه سياسة المراقبة والمعاقبة.. أبقت فرنسا منذ معاهدة باردو وإلى سنة 1956 على امتيازات الباي وعائلته فكان طيّعا ومُمضيا على ما يقرّره الكاتب العام للحكومة والمقيم العام الفرنسي".
3) المسألة الثّالثة:تحديد ملامح تونس الغد في ظلّ الحرية والسيادة والانطلاق: ظهر ذلك واضحا فقد "قدّم الثعالبي في كتاب(تونس الشهيدة) خارطة طريق تونس الغد ولم تكن المطالب التي ختم بها الكتاب إلاّ ترجمة لعمل جماعي جبّار شاركت في صياغته وبلورته النخبة التونسية بمختلف أطيافها".
ويعتقد الباحث الدكتور فتحي القاسمي أنّ الكتاب حقّق أهدافه لأنّه امتزج بالرّوح الجماعية وهي تمام المقصد وتحقّق المطلب ونصرة على الأعداء وإفحام لمن لا عفّة ولا أمان له،يقول: (إنّنا نعتقد أنّ هذا الكتاب حقّق أهدافه القريبة والبعيدة بفضل الرّوح الجماعية، ومنذ السّطر الأول من الكتاب إلى آخر لفظة فيه لا نجد إلاّ نون الجماعة التي التزم بها الثعالبي، وهذا ما أربك رهطا من السياسيين في تونس وفرنسا، فردّوا عليه بكتاب تمّ طبعه في وقت قياسي في باريس(1920)، وكان يحمل عنوان: (La Tunisie sans les francais)وكانوا يتوهمون أن تونس بلا فرنسا ستكون هباءتذروه الرّياح".
ومبلغ العلم أنّ كتاب ( تونس الشهيدة) محتفظ براهنيته، محيط بحقائق الاستعمار الفرنسي، منتبه إلى الأطماع، وحوى الحكمة وفصل الخطاب حول الشخصية التونسية، صوّرها فصّلها وأحصى خصالها، وضرب الأمثال من التّاريخ حجّة على صلابتها في وجه المتربّصين صُنّاعُ الأسواءِ وكهنة الاستكبار، أرباب الاستعمار الفظيع والخلق الشنيع، وكلّ ما جاء في هذا الكتاب منبت حقّ، يألفه العاقل الحقوقيّ العدلُ ويستنكفه الواهم الحقود، من يتقوّتُ بقسمة ضيزى، ولا يعرف سلاما ولا انسجاما ولا وئاما. فأنّى لصاحب الحقّ أن يكرّ راجعا، ونحسبُ أحذق النّاس من فهم الكتاب وأدرك مقتضياته، وانصرف إليه واستغرق فيه، لأنّ (تونس الشهيدة) دستور في النّضال والوطنية وكونية في الصّمود والتّسامح والإنسانية واعتزاز بالهوية.
1- الثعالبي (عبد العزيز)، تونس الشهيدة، المؤسسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتّوثيق، تونس 2023، ص5، "كلام الزّعيم الحبيب بورقيبة عن كتاب (خمسة رجال وفرنسا)،ج.لاكوتور".
بقلم: الأستاذ الباحث صلاح بوزيّان
منذ أيّام وبمجهود أنيق سارٌّ استطاع الباحث الدكتور فتحي القاسمي أن يُخرج كتاب عبد العزيز الثعالبي الموسوم بـ(تونس الشهيدة) إلى السّاحة الثّقافيّة في طبعة جديدة( تونس2023)، عن دار المنارة للنشر والتوزيع وبتعاون مع المؤسّسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتّوثيق، وصدّره بكلام الزّعيم الحبيب بورقيبة:"..لقد أخفيتُ الكتاب تحت غطائي. وطالعته خلسة وأنا متأثّر شديد التّأثر. فاطّلعتُ على ما ورد فيه من أرقام، وما تضمّنه من معلومات عن الضّحايا والفقر. وشعرتُ بما جرّهُ لنا الاستعمار من ذلّ وهوان. وكنتُ أبكي"([1]).
وابتدأ الدّكتور فتحي القاسمي القول بمقدّمة نفيسة حوت وصفًا دقيقا وتحليلا نفّاذا إلى مضامين الكتاب والأسباب الدّافعة إلى تأليفه والأخرى الواسعة الحافّة بصاحبه، وتطرّق إلى أعماق السّياق التّاريخي الذي عاش فيه الثّعالبي، قال:"كان صدور كتاب" تونس الشهيدة" مع مطلع سنة 1920 بعاصمة "الجنّ والملائكة ومدينة الأنوار"، مغامرة كبرى خاضها الزّيتوني الثّائر عبد العزيز الثّعالبي (1876- 1944)، وتحديًّا غير مسبوق لفرنسا الاستعماريّة الجاثمة على أقطار المغرب العربي، ولم يكن هذا الاختراق نزوة عابرة ولا خاطرة اشتهى الثّعالبي تحقيقها، وإنّما كانت تلك الرّحلة محفوفة بالمخاطروعملا إراديا وجماعيا أفرزه تنامي الوعي السياسي لدى النخبة التونسية". وأشار الباحث إلى قدرة الثّعالبي المذهلة على صياغة الكتاب صياغة متينة في شكل بيان كشف به وعي النّخبة التونسية بحقوقها وإصرارها على الدّفاع عن قضيتها. وجادل ادّعاءات الاستعمار الفرنسي وحججه التّافهة، مبنية على تواريخ وأرقام وإحصائيّات. ولقد استطاع الثّائر الثّعالبي بكتابه أن يفضح الاستعمار ويكشف مكر الإدارة الفرنسية وكان ذلك في باريس.
طُبعَ الكتاب باللّغة الفرنسية في باريس تحت عنوان: (La Tunisie martyre)
سحب الثعالبي ألفي نسخة ووزّعها بمساعدة رفاقه أبرزهم المحامي أحمد السّقا(1891-1987) الذي نقل الكتاب من العربية إلى الفرنسية، وكان التوزيع على رموز السياسيين الفرنسيين أعضاء البرلمان الفرنسي ورابطة حقوق الإنسان وأعضاء الحزب الاشتراكي الفرنسي ورجال الفكر والثقافة، قصد إطلاع الفرنسيين النّافذين في المشهدين: السياسي/الحقوقي والفكري/ الثقافي على حقائق التّمويه الاستعماري الفرنسي وممارساته البشعة تجاه الشعب التونسي، فغاية فرنسا استنزاف ثروات البلاد وإذلال المواطنين، بينما ظاهر خطابات الجهاز الرّسمي الاستعماري الفرنسي بدا ديموقراطيا وإنسانيا، والحال أنّه منزوع من الإنسانية والديموقراطية، ولم يكتف الثعالبي بنشر الكتاب في فرنسا بل إنّه أرسل مائة نسخة إلى تونس. وأشار الباحث إلى أنّ المرحوم المؤرخ حمّادي السّاحلي قام بتعريب النّص الفرنسي بعد أن استحال الحصول على النسخة الأصلية العربية. وتكفّلت دار الغرب الإسلامي بطبع الكتاب طبعتين الأولى سنة 1984 و الثّانية سنة 1988. وهذه الطبعة هي الثّالثة (تونس 2023).
انقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور الأساسية، وهي في حقيقة الأمر المسائل الجوهرية التي كشفها الثّعالبي للرأي العام بأصنافه الثلاثة العالمي والفرنسي والتونسي، وإنّ مثل هذا التّبويب والتّدقيق يدلّ على دراية الرّجل بقضيّة وطنه وفهمه العميق الذي استخرج به غوامض الاستعمار الفرنسي من مخابئها،ولقد جاءت حججه باتا أربكت المستعمر وأتته من جبهة الرّأي العام التي لم يحسب لها حساب ، فكانت مضامين الكتاب بمثابة الضياء الذي يجلو ظلام الكذّابين، فلم تجد فرنسا ملجأ ولا تأويلاً تلوذ به من صدمة الحقّ، أمّا المسائل فهي:
1)المسألة الأولى وعنونها الباحث بِــــ: الانتصار للشخصية التونسية وإبراز معالمها وخصائصها ومقوّماتها:تبدّى ذلك في الاعتزاز بتونس، اعتزازٌ تجمّلت به سطور الكتاب( تونس الشهيدة)، برز في حلل كلامية، وأشكال بيانية زاهية تتوقّد وطنية، وتلتهب حميّة، باقة مختلفة من الافتخار بالوطن الحبيب، فالشخصية التونسية كما قدّمها الثعالبي للفرنسيين والأوروبيين، تبدو قويّة ثائرة متجذّرة في هويتها لا يستطيع أيّ وافد أن يذيبها أو يُخمد روحها، وتعيش في وطن غنيّ بثرواته وخيراته وبموقعه الجغرافي المتميّز يقول الثّعالبي:(إنّ الشعب التونسي الذي قضى عليه مصيره بأن يكون ضحية للأطماع الاستعمارية نتيجة لموقع بلده الجغرافي الذي هو ملتقى حقيقي للطرق بالبحر الأبيض المتوسط، استطاع بفضل حيوته أن يتغلب على تلك الغزوات التي أرادها ألاّ تدوم إلاّ فترة صغيرة معيّنة فاستوعب العناصر التي لها صلة متينة به وحافظ بشدّة على أهمّ خاصياته المميّزة والثابتة)، وتعتبر هذه المسألة فكرة مركزية في الكتاب وهي في تقديرنا نقطة القوّة لمواجهة أكاذيب فرنسا ومحاولة صدّ أطماعها، وذلك بتعريفها بتركيبة الشخصية التونسية، هذه الشخصية التي استفادت من التعدّد الحضاري الذي مرّ على البلاد، واستغنت من الروافد الثقافية، وكوّنت لنفسها رصيدا معرفيا وبطوليّا، ولقد بيّن الثعالبي في كتابه أنّ التونسيين اتّصفوا برفض التّمييز بين الأجناس والأعراق، وتميّزوا بصفتين متواشجتين (التّسامح والكرم)، ولقد استطاع الثعالبي أن يجعل الحقائق سراجا وهّاجا في وجه تعصّب وجشع الفرنسيين، فذكّر فرنسا والأوروبيين بأنّ الشعب التونسي تعايش مع الوافدين على بلاده، فقد احتضنت تونس مختلف المذاهب والديانات والنّحل والأعراق دون أن يمارس الشعب أيّ تمييّز طائفي أو صراع ديني.
2) المسألة الثّانية وعنونها الباحث بــ: تعرية الاستعمار الفرنسي عموما ونظام الحماية خصوصا: وَ"في كتاب( تونس الشهيدة) بدا لنا الثعالبي شديد الوعي بما خلّفه الاستعمار في بلدان المغرب والمشرق العربيين من تدمير للهوية وسلب للسيادة وتآمر على الأجيال المتعاقبة وكان يعلن أنّ المقاومة المسلحة على أرضه للاستعمار غير مطروحة لعدم تكافؤ القوى ولذلك تهيّأ جيّدا لمجادلة المستعمر على أرضه.. لقد تعاملت فرنسا مع التونسيين تعاملا قائما على الاستعلاء والتكبّر والتجبّر ومارست ضدّ المجتمع التونسي وطلائعه سياسة المراقبة والمعاقبة.. أبقت فرنسا منذ معاهدة باردو وإلى سنة 1956 على امتيازات الباي وعائلته فكان طيّعا ومُمضيا على ما يقرّره الكاتب العام للحكومة والمقيم العام الفرنسي".
3) المسألة الثّالثة:تحديد ملامح تونس الغد في ظلّ الحرية والسيادة والانطلاق: ظهر ذلك واضحا فقد "قدّم الثعالبي في كتاب(تونس الشهيدة) خارطة طريق تونس الغد ولم تكن المطالب التي ختم بها الكتاب إلاّ ترجمة لعمل جماعي جبّار شاركت في صياغته وبلورته النخبة التونسية بمختلف أطيافها".
ويعتقد الباحث الدكتور فتحي القاسمي أنّ الكتاب حقّق أهدافه لأنّه امتزج بالرّوح الجماعية وهي تمام المقصد وتحقّق المطلب ونصرة على الأعداء وإفحام لمن لا عفّة ولا أمان له،يقول: (إنّنا نعتقد أنّ هذا الكتاب حقّق أهدافه القريبة والبعيدة بفضل الرّوح الجماعية، ومنذ السّطر الأول من الكتاب إلى آخر لفظة فيه لا نجد إلاّ نون الجماعة التي التزم بها الثعالبي، وهذا ما أربك رهطا من السياسيين في تونس وفرنسا، فردّوا عليه بكتاب تمّ طبعه في وقت قياسي في باريس(1920)، وكان يحمل عنوان: (La Tunisie sans les francais)وكانوا يتوهمون أن تونس بلا فرنسا ستكون هباءتذروه الرّياح".
ومبلغ العلم أنّ كتاب ( تونس الشهيدة) محتفظ براهنيته، محيط بحقائق الاستعمار الفرنسي، منتبه إلى الأطماع، وحوى الحكمة وفصل الخطاب حول الشخصية التونسية، صوّرها فصّلها وأحصى خصالها، وضرب الأمثال من التّاريخ حجّة على صلابتها في وجه المتربّصين صُنّاعُ الأسواءِ وكهنة الاستكبار، أرباب الاستعمار الفظيع والخلق الشنيع، وكلّ ما جاء في هذا الكتاب منبت حقّ، يألفه العاقل الحقوقيّ العدلُ ويستنكفه الواهم الحقود، من يتقوّتُ بقسمة ضيزى، ولا يعرف سلاما ولا انسجاما ولا وئاما. فأنّى لصاحب الحقّ أن يكرّ راجعا، ونحسبُ أحذق النّاس من فهم الكتاب وأدرك مقتضياته، وانصرف إليه واستغرق فيه، لأنّ (تونس الشهيدة) دستور في النّضال والوطنية وكونية في الصّمود والتّسامح والإنسانية واعتزاز بالهوية.
1- الثعالبي (عبد العزيز)، تونس الشهيدة، المؤسسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتّوثيق، تونس 2023، ص5، "كلام الزّعيم الحبيب بورقيبة عن كتاب (خمسة رجال وفرنسا)،ج.لاكوتور".