إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تقديم كتاب العالم والزعيم ، المؤسسة الدينية في تونس سنوات الاحتضار : (1/2) .. هل يمكن بناء دولة ومستقبل من دون ذاكرة ولا تاريخ ؟

 

بقلم: نوفل سلامة(*)

خيرت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وعلى غير عادتها أن تخصص حيزا من نشاطها الفكري لتقديم الإصدارات الجديدة وتؤثث لقاء ثقافيا لمناقشة منجز فكري جديد وهو اختيار مستحسن ومحمود خاصة إذا كان المنتج الفكري له راهنيته ونحن نعيش زمن التحولات وزمن المراجعات وزمن البحث عن طريق جديد لبناء جديد وتأسيس مختلف عما تحقق وشيّد.

فكان لقاء يوم السبت 27 ماي الجاري مع الكتاب الجديد للدكتور احميدة النيفر  " العالم والزعيم المؤسسة الدينية في تونس : سنوات الاحتضار " وهو كتاب له قيمة مضاعفة نظرا لكونه من ناحية يؤرخ لشخصية دينية هي شخصية الشيخ الزيتوني البشير النيفر ( 1889 / 1974 ) التي كان لها وزنها في مرحلة من تاريخ تونس ولعبت أدوارا مهمة في كل النقاش الفكري الذي شهده الفضاء العام في مرحلة الاستعمار وفترة ما بعد الاستقلال حول قضايا ساخنة ومفصلية أثرت بقوة  في تغيير وجه البلاد وتحديد الملامح الكبرى لصورتها بعد خروج المحتل الفرنسي والشروع في بناء الدولة الوطنية وناحيته الأخرى كونه يقدم شهادة من رجل عايش المرحلة وكان حاضرا في كل المحطات الهامة التي شكلت المشهد في فترة ما قبل وما بعد نهاية الحقبة الكولونيالية من خلال وثائق وجدها الدكتور احميدة النيفر في بيت العائلة وهي عبارة على مذكرات جده الشيخ البشير النيفر وبعض ما كتبه من مخطوطات لم تنشر ومراسلات مختلفة مع قادة سياسيين وخاصة رسائل كانت بينه وبين الزعيم الحبيب بورقيبة حول عديد القضايا التي كانت مطروحة في بداية الاستقلال وكان الجدل قائما والخلاف حولها على أشده بين تيار محافظ تمثله المؤسسة الزيتونية وشيوخها ونخبة تونسية جديدة حاملة لثقافة عصرية وقيم جديدة قادمة من وراء البحار بعد أن تلقت تعليمها هناك تريد تشكيل وعي جديد ونظام حياة مختلف عما عرفته البيئة التونسية خلال فترة الاستعمار فمن هذه الناحية فإن الوثائق التي أخرجها احميدة النيفر للنور وتركها جده البشير بعد وفاته تكتسي أهمية بالغة لكونها تعيدنا إلى تلك الأيام الخوالي وتضعنا في مرحلة الستينات والسبعينات وجزء من خمسينات القرن الماضي أمام مشهد متوتر فكريا حتى نفهم ماذا حصل في تونس إثر تعرض الزيتونيين إلى محنة عاصفة وجدوا فيها أنفسهم في مواجهة مباشرة مع زعيم وطني قد تسلم الحكم والسلطة لتوه وهو متحمس لبناء دولة من دون كل القديم وكل ما هو مرتبط به وهو يعمل على تجاوز النخبة الزيتونية لبناء مستقبل ونظام جديد من دونهم كانت الغلبة في هذه المواجهة  للزعيم وهزيمة العالم وكانت فيه الكلمة الأخيرة للنخبة العصرية التي تريد تحديث البلاد والمجتمع على النمط الغربي وحصل فيه تراجع للنخبة المحافظة التقليدية التي كانت الزيتونة تمثلها وقاومت من أجل الحفاظ على المجتمع التونسي وصورته القديمة لكنها لم تنجح لعدة اعتبارات منها الإجابة التي قدمها الكتاب وهي أن الزيتونة كمؤسسة لم تكن مستعدة لهذه المواجهة مع الزعيم ولم يتوفر لها ما يلزم من مقومات القوة وخاصة قوة الخطاب والفكرة والتصور للتفوق على الطرح الجديد الذي تتبناه الدولة الجديدة وأقنعت به الناس أو هكذا سوغت دولة الاستقلال لانتصارها.

كتاب العالم والزعيم إضافة إلى كونه حديث ذكريات شخصية زيتونية من عائلة النيفر التي قدمت في حوالي القرن الثامن عشر من المشرق وتحديدا من العراق واستقرت في جهات عدة من التراب التونسي في صفاقس وتوزر إلى أن استقر بها المقام الأخير بالحاضرة تونس العاصمة ليكون للعائلة تاريخ جديد مع حضورها الفاعل في تأثيث المشهد العام بالبلاد مع عائلات أخرى شكلت الحاضنة الدينية والمرجعية والشرعية للدولة والمجتمع ويقدم للقارئ التونسي وحتى العربي علما من إعلام الزيتونة حاول أن يكون مؤثرا وأن يلعب دورا في مرحلة دقيقة من تاريخ تونس المعاصرة والدولة تستعد لفك ارتباطها مع الهيمنة الدينية وقطع الصلة مع المشروعية الدينية ومع المرجعية الإسلامية والانطلاق نحن المستقبل وبناء مشروع الدولة الوطنية كما تراه النخبة الجدية والدخول في حداثة عصرها من دون تبعية للدين ومن دون حاجة الى مؤسسة دينية ولا إلي تعليم زيتوني ولا إلى علماء دين .. إضافة الى كل ذلك فالكتاب يؤرخ لمحنة جيل كامل من الزيتونيين ومحنة مؤسسة علمية عريقة من أقدم الجامعات الإسلامية في العالم وهي تعيش أيامها الأخيرة قبل الإجهاز عليها على يد الزعيم الذي لطالما استعان بها ووظفها في مرحلة المقاومة الوطنية والتصدي للمستعمر الأجنبي واليوم وبعد الاستقلال يقرر هذا الزعيم أنه لم يعد في حاجة إليها بل لعله يستبطن القناعة بأنها تمثل عبئا معطلا لا بد من التخلص منه في عملية التأسيس للمشروع الجديد  ولا بد من تجاوزها وتهميشها .

الكتاب يؤرخ لأيام الزيتونة الأخيرة وهي على فراش الموت البطيء ويعيد للذاكرة الوطنية قيمتها ودورها من خلال إعادة نشر مذكرات الشيخ البشير النيفر والمراسلات التي كانت بينه وبين الزعيم لإبراز الدور المغبوط الذي لعبه عديد شيوخ الزيتونة للدفاع عن مؤسستهم ومن ورائه الدفاع على صورة مجتمع وعلى ملامح شخصية تونسية في طريقها إلى التغيير والتبديل .

الكتاب يطرح في العمق قضية علاقة الديني بالسياسي وإشكالية الحاجة إلى الدين لبناء نهضة وتقدم وحداثة وقضية هل يمكن أن نقود حركة إصلاحية في المجتمع من دون مؤسسة الزيتونة ومن دون الرجوع إلى الثوابت الدينية ؟ وهل يمكن أن نبنى مجتمعا متوازنا من دون علاقة هادئة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي ؟ وهل يمكن أن يوجد مستقبل بتجاوز الزيتونة وبعد بتر عماد الدين وهدمه ..الكتاب يطرح مشكلا كبيرا لا يزال إلى اليوم مطروحا ولعله عاد بقوة ونحن في هذا المسار الجديد من إعادة كتابة التاريخ وإعادة تأثيث الذاكرة الجماعية يقول : هل يمكن أن نبني مستقبلا أفضل ودائم من دون أن تكون لدينا ذاكرة حية ؟ هل يمكن أن نؤسس مستقبلا ونبني جديدا من دون عملية استحضار متواصلة للذاكرة ومراجعة نقدية ودائمة لهذا الماضي الذي لا يمكن اقصاؤه أو التبرؤ منه .. هل يمكن القفز في التاريخ من دون الاستحضار الدائم لذاكرة الشعب تمتد على  3000 سنة من الحضارة والثقافة من أجل الوصول إلى عناصر القوة التفوق .                                                                       وللمقال صلة

تقديم كتاب العالم والزعيم ، المؤسسة الدينية في تونس سنوات الاحتضار : (1/2)  .. هل يمكن بناء دولة ومستقبل من دون ذاكرة ولا تاريخ ؟

 

بقلم: نوفل سلامة(*)

خيرت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وعلى غير عادتها أن تخصص حيزا من نشاطها الفكري لتقديم الإصدارات الجديدة وتؤثث لقاء ثقافيا لمناقشة منجز فكري جديد وهو اختيار مستحسن ومحمود خاصة إذا كان المنتج الفكري له راهنيته ونحن نعيش زمن التحولات وزمن المراجعات وزمن البحث عن طريق جديد لبناء جديد وتأسيس مختلف عما تحقق وشيّد.

فكان لقاء يوم السبت 27 ماي الجاري مع الكتاب الجديد للدكتور احميدة النيفر  " العالم والزعيم المؤسسة الدينية في تونس : سنوات الاحتضار " وهو كتاب له قيمة مضاعفة نظرا لكونه من ناحية يؤرخ لشخصية دينية هي شخصية الشيخ الزيتوني البشير النيفر ( 1889 / 1974 ) التي كان لها وزنها في مرحلة من تاريخ تونس ولعبت أدوارا مهمة في كل النقاش الفكري الذي شهده الفضاء العام في مرحلة الاستعمار وفترة ما بعد الاستقلال حول قضايا ساخنة ومفصلية أثرت بقوة  في تغيير وجه البلاد وتحديد الملامح الكبرى لصورتها بعد خروج المحتل الفرنسي والشروع في بناء الدولة الوطنية وناحيته الأخرى كونه يقدم شهادة من رجل عايش المرحلة وكان حاضرا في كل المحطات الهامة التي شكلت المشهد في فترة ما قبل وما بعد نهاية الحقبة الكولونيالية من خلال وثائق وجدها الدكتور احميدة النيفر في بيت العائلة وهي عبارة على مذكرات جده الشيخ البشير النيفر وبعض ما كتبه من مخطوطات لم تنشر ومراسلات مختلفة مع قادة سياسيين وخاصة رسائل كانت بينه وبين الزعيم الحبيب بورقيبة حول عديد القضايا التي كانت مطروحة في بداية الاستقلال وكان الجدل قائما والخلاف حولها على أشده بين تيار محافظ تمثله المؤسسة الزيتونية وشيوخها ونخبة تونسية جديدة حاملة لثقافة عصرية وقيم جديدة قادمة من وراء البحار بعد أن تلقت تعليمها هناك تريد تشكيل وعي جديد ونظام حياة مختلف عما عرفته البيئة التونسية خلال فترة الاستعمار فمن هذه الناحية فإن الوثائق التي أخرجها احميدة النيفر للنور وتركها جده البشير بعد وفاته تكتسي أهمية بالغة لكونها تعيدنا إلى تلك الأيام الخوالي وتضعنا في مرحلة الستينات والسبعينات وجزء من خمسينات القرن الماضي أمام مشهد متوتر فكريا حتى نفهم ماذا حصل في تونس إثر تعرض الزيتونيين إلى محنة عاصفة وجدوا فيها أنفسهم في مواجهة مباشرة مع زعيم وطني قد تسلم الحكم والسلطة لتوه وهو متحمس لبناء دولة من دون كل القديم وكل ما هو مرتبط به وهو يعمل على تجاوز النخبة الزيتونية لبناء مستقبل ونظام جديد من دونهم كانت الغلبة في هذه المواجهة  للزعيم وهزيمة العالم وكانت فيه الكلمة الأخيرة للنخبة العصرية التي تريد تحديث البلاد والمجتمع على النمط الغربي وحصل فيه تراجع للنخبة المحافظة التقليدية التي كانت الزيتونة تمثلها وقاومت من أجل الحفاظ على المجتمع التونسي وصورته القديمة لكنها لم تنجح لعدة اعتبارات منها الإجابة التي قدمها الكتاب وهي أن الزيتونة كمؤسسة لم تكن مستعدة لهذه المواجهة مع الزعيم ولم يتوفر لها ما يلزم من مقومات القوة وخاصة قوة الخطاب والفكرة والتصور للتفوق على الطرح الجديد الذي تتبناه الدولة الجديدة وأقنعت به الناس أو هكذا سوغت دولة الاستقلال لانتصارها.

كتاب العالم والزعيم إضافة إلى كونه حديث ذكريات شخصية زيتونية من عائلة النيفر التي قدمت في حوالي القرن الثامن عشر من المشرق وتحديدا من العراق واستقرت في جهات عدة من التراب التونسي في صفاقس وتوزر إلى أن استقر بها المقام الأخير بالحاضرة تونس العاصمة ليكون للعائلة تاريخ جديد مع حضورها الفاعل في تأثيث المشهد العام بالبلاد مع عائلات أخرى شكلت الحاضنة الدينية والمرجعية والشرعية للدولة والمجتمع ويقدم للقارئ التونسي وحتى العربي علما من إعلام الزيتونة حاول أن يكون مؤثرا وأن يلعب دورا في مرحلة دقيقة من تاريخ تونس المعاصرة والدولة تستعد لفك ارتباطها مع الهيمنة الدينية وقطع الصلة مع المشروعية الدينية ومع المرجعية الإسلامية والانطلاق نحن المستقبل وبناء مشروع الدولة الوطنية كما تراه النخبة الجدية والدخول في حداثة عصرها من دون تبعية للدين ومن دون حاجة الى مؤسسة دينية ولا إلي تعليم زيتوني ولا إلى علماء دين .. إضافة الى كل ذلك فالكتاب يؤرخ لمحنة جيل كامل من الزيتونيين ومحنة مؤسسة علمية عريقة من أقدم الجامعات الإسلامية في العالم وهي تعيش أيامها الأخيرة قبل الإجهاز عليها على يد الزعيم الذي لطالما استعان بها ووظفها في مرحلة المقاومة الوطنية والتصدي للمستعمر الأجنبي واليوم وبعد الاستقلال يقرر هذا الزعيم أنه لم يعد في حاجة إليها بل لعله يستبطن القناعة بأنها تمثل عبئا معطلا لا بد من التخلص منه في عملية التأسيس للمشروع الجديد  ولا بد من تجاوزها وتهميشها .

الكتاب يؤرخ لأيام الزيتونة الأخيرة وهي على فراش الموت البطيء ويعيد للذاكرة الوطنية قيمتها ودورها من خلال إعادة نشر مذكرات الشيخ البشير النيفر والمراسلات التي كانت بينه وبين الزعيم لإبراز الدور المغبوط الذي لعبه عديد شيوخ الزيتونة للدفاع عن مؤسستهم ومن ورائه الدفاع على صورة مجتمع وعلى ملامح شخصية تونسية في طريقها إلى التغيير والتبديل .

الكتاب يطرح في العمق قضية علاقة الديني بالسياسي وإشكالية الحاجة إلى الدين لبناء نهضة وتقدم وحداثة وقضية هل يمكن أن نقود حركة إصلاحية في المجتمع من دون مؤسسة الزيتونة ومن دون الرجوع إلى الثوابت الدينية ؟ وهل يمكن أن نبنى مجتمعا متوازنا من دون علاقة هادئة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي ؟ وهل يمكن أن يوجد مستقبل بتجاوز الزيتونة وبعد بتر عماد الدين وهدمه ..الكتاب يطرح مشكلا كبيرا لا يزال إلى اليوم مطروحا ولعله عاد بقوة ونحن في هذا المسار الجديد من إعادة كتابة التاريخ وإعادة تأثيث الذاكرة الجماعية يقول : هل يمكن أن نبني مستقبلا أفضل ودائم من دون أن تكون لدينا ذاكرة حية ؟ هل يمكن أن نؤسس مستقبلا ونبني جديدا من دون عملية استحضار متواصلة للذاكرة ومراجعة نقدية ودائمة لهذا الماضي الذي لا يمكن اقصاؤه أو التبرؤ منه .. هل يمكن القفز في التاريخ من دون الاستحضار الدائم لذاكرة الشعب تمتد على  3000 سنة من الحضارة والثقافة من أجل الوصول إلى عناصر القوة التفوق .                                                                       وللمقال صلة